وليس في هذا شيء من الغرابة، فإن تقدم الحضارة الإنسانية لم يرق العقل وحده، ولا الذوق وحده، وإنما رقى الغرائز أيضا، وعلمها فنونا من القسوة ما كانت لتخطر لمحمد بن عبد الملك الزيات وأضرابه على بال، وللفرنسيين تعبير يصور هذا الترف في القسوة، وهذا الافتنان في الانتقام، فهم يقولون فيمن يصب على الناس عذابا هادئا، ولكنه متصل منته إلى أبشع الغايات، إنه ينضج من يعذبه على نار هادئة، ونحن والحمد لله بارعون كل البراعة في الإنضاج على النار الهادئة، نجد في هذا لذة آثمة خبيثة توشك أن تكون مسخا لما كان الإنسان يظن أنه يمتاز به من ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وصفاء الذوق، ودقة الطبع.
وأي شيء أبغض وأبشع وأشد في النفوس نكرا من أن تصب على خصمك هذا العذاب الهين اللين الرقيق، الذي لا يكاد يرى ولا تكاد آثاره تحس، ولكنه يتصل ويمضي مع الدقائق والساعات، ومع الأيام والليالي، ومع الأسابيع والأشهر والأعوام، حتى يبلغ ببطئه هذا الفظيع أضعاف ما كان يبلغه محمد بن عبد الملك الزيات بعذابه المنكر السريع.
وأبشع من هذا كله، وأشد من هذا كله نكرا أن يصطبغ هذا العذاب الهادئ المتصل البطيء بصبغة من العدل أو مما اتفقنا على أن نسميه عدلا، فلا يجوز إنكاره، ولا يباح نقده، ولا يصح أن يلام فيه الذين يقترفونه؛ لأنهم ينفذون القانون، وينفذونه في دقة حازمة صارمة، وهم يحمدون لذلك ولا يلامون فيه، وكيف يلام الناس حين ينفذون القانون؟ وكيف يعاب الناس حين ينشرون هذا العدل الذي يصنعونه صناعة، ويتكلفونه تكلفا، ويناقضون به طبائع الأشياء، ويناقضون به هذه القوانين العليا التي لم يضعها برلمان، ولم يشرعها ملك ولا حاكم، وإنما ركبت في نفوس الناس تركيبا، وجعلت جزءا من فطرتهم.
وما أشد حاجة الناس إلى أن يفرغوا لأنفسهم بين حين وحين، ويتدبروا أعمالهم وأقوالهم بين وقت ووقت، ويضعوا أنفسهم حين يضعون ضحاياهم، ويسألون أنفسهم أيصبرون لما يصبون على الناس من هذا العذاب الهادئ البطيء المتصل لو أن غيرهم صبه عليهم في هدوء وبطء واتصال، هذا الموظف في وزارة المعارف الذي أراد أن يلحق طفلا من أطفاله بروضة من رياض الوزارة؛ لينشأ مع أخويه فلم تكتف الوزارة بأن ردت طفله الجديد، ولكنها ألحقت به في البيت أخويه اللذين أقاما في الروضة عامين أو أكثر من عامين، ثم حولتهما بعد ذلك إلى روضة خيالية قد أنشئت في عقول الموظفين في وزارة المعارف، ولم تر الشمس إلا بعد وقت غير قصير، وقد ذهب هذا الموظف بأطفاله إلى روضتهم الجديدة البعيدة فلم يجد شيئا، ثم ذهب بهم فلم يجد شيئا، ثم فتش واستقصى، وسأل القاصي والداني، وسأل مكتب البريد فلم يجد شيئا، ثم ذهب بعد ذلك فوجد دارا مهدمة ليس فيها مرفق، ولا أداة من أدوات التعليم والتربية واللعب، ليس فيها طعام يؤكل، ولا ماء يشرب، فعاد بأطفاله إلى داره كئيبا محزونا كاسف البال، وكان قد شكا للوزير فلم يسمع الوزير له أو لم يعلم الوزير بأنه قد شكا إليه.
وقد جعل كل ما أصبح رأى أطفاله يبكون؛ لأن سيارة الوزارة التي كانت تحملهم إلى الروضة في الأعوام الماضية تمر بهم مصبحة ممسية فلا تغدو بهم على الروضة، ولا تروح بهم منها، وإنما تمر بهم ساخرة منهم مزدرية لهم، تحمل أترابهم فرحين مرحين، يبتسمون للصبح المشرق الذي يسوقهم إلى المدرسة، ويبتسمون للنهار المبصر الذي يردهم إلى دورهم، وهؤلاء الأطفال البائسون يرون سيارتهم، ويرون أترابهم دون أن يستطيعوا ركوب السيارة أو مشاركة الأتراب في ابتسامات الغدو أو ابتسامات الرواح.
رأى هذا الموظف أطفاله على هذه الحال، وذاق هذا الموظف مع أطفاله مرارة الحرمان، وقسوة هذا العذاب، وقد أراد سوء حظه وسوء حظهم أن يكون هؤلاء الأطفال اليتامى قد فقدوا أمهم كما كان هو مترملا قد فقد زوجه، وكان هذا الموظف يجد في تربية أطفاله وتنشئتهم من العزاء عن فقد زوجه، وكان معتقدا أنه يرضي نفس امرأته كلما نجح في العناية بأطفاله وفي تربيتهم؛ لأنه يؤدي لهم ما كانت خليقة أن تؤديه لو أتيح لها البقاء. فلما أوذي الأطفال في تعليمهم وفي لعبهم، ولما أوذي الأب في تربية أطفاله وتنشئتهم، ولما رأى الأب دموع أطفاله مع الصبح، ودموع أطفاله مع المساء، وضجر أطفاله أثناء النهار لم يستطع على ذلك صبرا، ولم يملك نفسه، فشكا في الصحف لعل الوزير يقرأ شكاته فيمسه بشيء من الإنصاف، ويمس أطفاله بشيء من العطف، ويرد إليهم وإليه حقهم من العدل الذي كلف أن يشيعه بين الناس.
شكا، ولكن الوزير لم ينصفه، ولم يعطف على أطفاله، ولم يرد إليهم ولا إليه قليلا من العدل ولا كثير، لم يفكر في الأب الأرمل، ولا في الأم الميتة، ولا في الأطفال الصغار اليتامى، وإنما فكر في الموظف الذي نقد الوزارة في الصحف، ورأى أن هذا النقد إثم في ذات الحكومة، وأن القانون المالي يعاقب عليه.
يا للعقول الواسعة، يا للقلوب الرحيمة، يا للطباع المهذبة، يا للأذواق المصفاة. أما الأبوة البائسة، وأما الطفولة التعسة فلا يحفل بها الوزراء، ولا يلتفتون إليها، ولا يقفون عندها؛ لأنهم إن فعلوا ذلك كانوا رحماء، والرحمة خور في الطبيعة كما كان يقول محمد بن عبد الملك الزيات.
وأما أن يلفت موظف وزارة المعارف إلى واجبها، ويدلها على خطئها، ويدعوها إلى إصلاح هذا الخطأ، فهذا هو الإثم كل الإثم، والإجرام كل الإجرام، وهو التقصير في ذات القانون، وهو الخروج على النظام، والسكوت على هذا كله ضعف أي ضعف، والعقاب على هذا كله عدل أي عدل وحزم أي حزم. ألا بعدا للعدالة والحزم إن كانت غايتها إهدار أبوة الآباء وبنوة الأبناء، وتضييع ما للناس على الدولة من حق، وإلغاء ما على الدولة للناس من واجبات.
أساء الموظف إذن إلى الدولة في رأي الوزير فيجب أن يعاقب، فأما إساءة الوزير إلى الأمة في أشخاص هؤلاء الأطفال الصغار، فيجب أن تذهب هدرا، كذلك يريد العدل المصنوع. وقد حقق مع هذا الموظف فألقيت عليه أسئلة صريحة أجاب عليها إجابة صريحة، وكان من الممكن أن يقرأ الوزير، وأن يقدر أبوة هذا الأب البائس، وبنوة هؤلاء الأبناء البائسين، ولكن الوزير لم يقدر أبوة ولا بنوة، وإنما قدر أن الحكومة قد أسيء إليها، فيجب أن تنتقم من المسيء، فأصدر أمره بنقل هذا الموظف إلى الصعيد الأعلى، هناك حيث لا توجد رياض الأطفال، وحيث لا يجد هؤلاء الأطفال الذين نشئوا في القاهرة ما يلائم حياتهم الهانئة المتواضعة، ولو أن لهؤلاء الأطفال أما ترعاهم لسافر أبوهم إلى الصعيد الأعلى جادا كادا ملتمسا له ولهم أسباب الرزق، ولكن الأطفال يتامى لا يعولهم إلا أبوهم، ولا يستطيع أن يعولهم في الصعيد الأعلى، فطلب الموظف إلى الوزير أن يعفيه من هذا النقل؛ ليرعى أطفاله، ويقوم منهم مقام الأب والأم جميعا.
অজানা পৃষ্ঠা