وهنا نقر الباب طارق نقرة خفيفة، ثم دفعه في أناة وأقبل، وأخذ يدنو بخطى ثقيلة حتى اقترب من المائدة، فألقى عليها غلافا مليئا بأوراق، ثم جلس ونظر إلي نظرة يشيع منها اليأس، وابتسم ابتسامة خفيفة ينبعث منها القنوط وخيبة الرجاء، فسألته: ماذا دهاك؟ فأجاب: انظر! وأشار بإصبعه إلى الحزمة الملقاة قائلا: لقد رفض الناشر أن يتعهد طبع الكتاب، وهكذا ضاع مجهود أعوام ثلاثة أدراج الرياح! فسألته: وماذا قال الناشر؟ فأجاب: زعم لي أن الكتاب جيد لا بأس بمادته، ولكنه لا يتوقع له سوقا نافقة؛ لأن العبرة عند القارئين بالكاتب لا بالكتاب، ألست ترى في ذلك يا أخي عبثا أي عبث؟
قلت: هون على نفسك الأمر ولا تحزن، فكتابك هذا برتقالة رخيصة، وكم في الأشياء ما هو جيد ورخيص! وإن ذلك ليذكرني بيوم أشقيت فيه نفسي بتحرير مقالة جيدة ممتازة، وحملتها فخورا إلى صاحب الصحيفة الأسبوعية، وجلست أمامه أرقب كلمة التقدير تنحدر بين شفتيه، فما راعني إلا أن أراه ينفذ مسرعا إلى آخر المقالة يقرأ الإمضاء، فالمقالات عند سادتنا أولئك تقرأ من أذيالها لا من رءوسها! ثم مط شفتيه مطا فهمت معناه، ودفعها بين أوراقه حيث استقرت إلى الأبد، وها أنا ذا أتبين اليوم أن مقالتي - ككتابك - برتقالة رخيصة؛ فخير لنا وأقوم أن نكون تفاحا معطوبا من أن نكون برتقالا جيدا لذيذا.
ألا ما أكثر بين الناس هذا البرتقال الرخيص! فإن شئت حدثتك عن رجل يكيل له أولو الأمر المدح والثناء؛ ولكن كما يمدح الآكلون البرتقال؛ يستمرئونه ولا يدفعون له إلا ثمنا قليلا، وإن شئت حدثتك عن رجل أراد الزواج، فوجدت فيه المخطوبة ما تشتهي من خلق قوي ورأي مستقيم، ولكنها نظرت فإذا هو في سوق السلع بضاعة بخسة مزجاة، فهزت كتفيها ومطت شفتيها، وقالت مغضبة: ردوه! إنه برتقالة رخيصة تمتدح ولا تشترى، وإن شئت حدثتك وحدثتك.
فمتى؟ متى يا رباه يعرف الفاكهاني لهذه البرتقالة المسكينة قدرها؟
ذات المليمين
لست أدري متى وكيف تسللت هذه القطعة من ذات المليمين إلى نقودي؛ ولكن الذي أدريه في يقين هو أنها عمرت هنالك شهرا كاملا، تنتقل معي حيث أنتقل وتسير حيث أسير، تحاول جاهدة أن تجد سبيلها إلى الإنفاق، وأنا أغالب طبيعة البشر فأعاونها في ذلك، فما أجد لها السبيل؛ ولعلك تدري شيئا من هذا الصراع الدائم القائم بين المال وصاحبه، هذا يشد المال إلى جيوبه شدا لا يريد له أن يشهد النور، والمال يبتغي لنفسه أن يتنفس الهواء الحر الطليق، فيجري دافقا سيالا بين أصابع المتعاملين؛ تارة تحسه أيد ناعمة لكنها تستخف به وتزدريه، وطورا تظفر به أيد خشنة لكنها تتقبله قبولا حسنا وتكرم له المثوى، وإن ذلك لمن عجب الحياة الذي لا ينقضي؛ فإن طاب لك المأوى ألفيت به الشوك والحسك مما يستذل النفوس ويؤجج الصدور، وإن التمست لنفسك العزة وجدت مأواك خشنا غليظا، ومهما يكن من أمر، فقد ألحفت هذه القطعة تنشد لنفسها الفكاك، وغالبت نفسي وعاونتها على الإنفاق؛ ولكن كان لها القدر بالمرصاد.
فها أنا ذا عند دار السينما أضرب بمنكبي مع الضاربين، لعلي أجد السبيل إلى شباك التذاكر، وقد ضربت حوله زحمة الناس نطاقا يخنق الأنفاس، وأين من هؤلاء القوم من يواتيه حظه السعيد فيبلغ عتبة الشباك؟ إن عيون المتزاحمين لتكاد تفتك به من حسدها له على توفيقه فتكا؛ وحان الحين وكنت أنا المرموق بهاتيك العيون الفواتك، ووقفت أمام الشباك أملأ عارضته بمرفقي؛ ولكني أسرعت الحركة والكلام لتطمئن نفوس المنتظرين الناظرين فلا يحقدوا، وضربت يدي في جيبي وأخرجتها فقذفت بما أخرجت لبائعة التذاكر، فإذا بها ذات المليمين تتحرك على رخامة الشباك في رعونة الإيقاع.
وجلست في مقهى مع طائفة من الأصدقاء، لا تزال بيني وبينهم حواجز الكلفة قائمة، يحاول كل منا أن يستر من نفسه الفقر والجهل والضعة، ليظهر الثراء والعلم ورفعة المكانة بين الناس. وجاء الخادم يتقاضانا ثمن ما شربنا، فتسابقت الأيدي مخلصة إلى الجيوب - يا ليتها تدرك أصحاب المسغبة بعشر معشار هذا الوفاء لأصحاب اليسار! - فهذا موقف من المواقف النادرة التي ينعم فيها من يثبت للآخرين غناه، وأخرجت كل يد ما فيها على المنضدة في سرعة متلهفة؛ فقذف واحد بريال قوي العضلات، صداح الرنين، ونشر آخر جنيها من الورق بين إصبعيه، وقذفت على المنضدة بما حملت يدي مع القاذفين، فإذا بنصف ريال يأخذ مكانة لا بأس بها بين القذائف؛ ولكن دارت إلى جانبه ذات المليمين فحطت من قدره وقيمته، وشاء الحظ العاثر أن تتعثر هذه القطعة المنكودة في دورانها حتى هوت إلى الأرض في رنين ضئيل فانحنى أحد الأصدقاء إليها وردها إلي، فأخذتها والجبين يتندى من الخجل، فليس يشرف المرء في مثل هذه المواقف أن يضم جيبه شيئا من ذوات الملاليم!
وكنت أجالس فئة من رفاقي، وأرادت المصادفة أن يدور بيننا حديث أخذ يشتد فيه الجدال ويشتد حتى اضطرم واشتعل، فجاء زميل يجمع منا قدرا من المال نحسن به على خادم طاحت يد المنون بزوجه، وعجزت دراهمه أن تقلقل الجثة من سريرها إلى القبر، فجاءنا يطلب الإحسان - والموت يقسو على الفقير كما تقسو عليه الحياة، فلا هو إن عاش حي بين الأحياء، ولا هو إن مات واجد سبيلا ميسورة إلى مراقد الموتى! - ودار الزميل الكريم يلقف من الأصابع ما امتدت به، ومددت إصبعي ذاهلا مشتغلا بما أنا فيه من الجدل وقد كدت أنتصر، وإذا بالزميل يبتسم لي قائلا: لا بأس فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وضحك الحاضرون جميعا، ونظرت فإذا بذات المليمين بين إصبعيه فجذبتها في حركة عصبية سريعة، وفمي يتمتم ألفاظ الأسف، وأخرجت ضعف ما أحسن به الآخرون لأعوض هذه السقطة؛ فمن أمثال هذه السقطات ترتسم شخصية الرجل في أذهان الناس!
حقا إن العرق دساس، ومن تجري في عروقه دماء النذالة والضعة هيهات أن يخفي عن الناس طويته، فالنفس لا بد يوما مفضوحة بسلوكها، ولو حاولت أن تسدل على مكنونها ألف ستار وستار؛ فهذه القطعة ذات المليمين - فيما يظهر - قد استغلت شبهها بذات القرشين استغلالا دنيئا خسيسا، وأشهد الله أني من إجرامها بريء! فقد عن لي يوما أن أسلك نفسي في زمرة الوجهاء ولست منهم في عير ولا نفير؛ فركبت الترام في الدرجة الأولى وجاء الكمساري يجبي من الراكبين الأجور، وكنت منه في أقصى المقصورة، فمددت له يدي بذات قرشين، وأراد أحد الراكبين أن يعينني على ما قصرت عنه ذراعي، فأخذ مني قطعة النقد ليعطيها للعامل، ورأيته ينظر إلى القطعة في يده ثم إلي؛ ولكن أدبه قد شاء له ألا يتدخل في أمر لا يعنيه، وناولها إلى بائع التذاكر، فنظر إليها الرجل وقال: ما هذا؟ فقلت: خذ قرشا وهات قرشا، فقال: عشنا ورأينا ذات المليمين تلد من جوفها القروش! فأدخلت يدي إلى نقودي في رعشة الخجل، وأصلحت الخطأ، وقدمت للرجل المعذرة بالابتسام والكلام، وأردت أن أثبت للجالسين براءتي - ووجاهتي - فأحسنت بذات المليمين إلى فقير قفز إلى سلم العربة يطلب الإحسان، وانتهى بذلك تاريخ مؤلم طويل. •••
অজানা পৃষ্ঠা