كلا، ولم نخلق شيئا واحدا جديدا في الفلسفة، وإني أعيذك مرة ثالثة أن تخدع بما يزعمه لك «تلاميذ» الفلسفة عن أنفسهم، فأقسم لك بالله غير حانث أنني ضحكت وقهقهت حتى استلقيت في مقعدي حين قرأت ذات يوم لأستاذ جليل تعلم الفلسفة ويعلمها، يقول في مجرى كلامه: «نحن الفلاسفة ...»! وقل مثل هذا في الفن وما شئت من نواحي الفكر.
أعود فأقول إن الإنسان حي بمقدار ما هو مبدع خلاق، والأمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع؛ ثم أعود فأزعم أننا لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن.
لماذا لا نخلق ولا نبتكر؟ هذا هو السؤال.
والجواب عندي هو أننا لا نخلق ولا نبتكر؛ لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق لا يكون إلا بعد سيادة وعزة وطموح؛ وسأشرح لك هذا الرأي في المقال التالي.
لماذا لا نخلق (2)
زعمت لك في المقال السابق أننا لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، وأعذتها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم، حين أعذتك بالله من خديعة الشيطان التي قد توهمك بشبه بين العالم وطالب العلم، بين الأديب وشارح الأفكار، بين الفيلسوف وقارئ الفلسفة، أو بين الفنان ومن يتحدث في الفن وينقده؛ وزعمت لك أن الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض بين الرجل يخلق ما يقوله خلقا من العدم أو ما يشبه العدم، وبينه يفهم ما خلقه سواه ويعيه، بل يطبقه ويستخدمه أحسن استخدام وتطبيق؛ فربما رأيت طلابنا في المدارس يتعلمون الطبيعة والكيمياء، والرياضة والأدب، ورأيت الناس في شوارعنا وبيوتنا يستخدمون السيارة والمسرة والبرق والمذياع، ربما رأيت ذلك كله فصحت لنفسك في إعجاب: أما والله إن منا لعلماء ومعلمين ومتعلمين، أين الفرق - إذن - بيننا وبين بلاد الغرب التي سارت بذكرها الركبان؟ فأنا أعلم سرعة الوقوع في مثل هذا الخطأ؛ مثال ذلك أني كنت أتحدث إلى طبيب مصري قدير نابه على شاطئ البحر من مدينة «برايتن» في إنجلترا.
قال الطبيب الصديق: جئت إلى هذه البلاد «إنجلترا» يحدوني الأمل أني لا شك واجد عند أساطين الطب ما يستثير مني العجب والإعجاب، فإذا بالأساطين لا يكادون يسمعونني في الطب جديدا؛ أفنحن بعد ذلك مصدقون لما يذيعه المعجبون بهذه البلاد وأصحابها؟
فقلت له: لا تخلط يا صديقي بين الإبداع والتقليد، وحذار أن تمزج بين الابتكار والتكرار؛ فهؤلاء الناس هم الذين خلقوا لك الطب خلقا بعد بحث ودراسة وتمحيص، ثم دونوا علمهم في كتاب ثم أرسلوا لك الكتاب وأنت في القاهرة المعزية ناعم البال، فنشطت كما ينشط «الشطار» وحفظت الكتاب عن ظهر قلب من الغلاف إلى الغلاف، فإذا ما جئت اليوم ها هنا وسمعت صاحب الكتاب ومبدع ما فيه يتحدث إليك بما يرن في أذنيك رنين المعهود والمألوف، فلا يخدعنك ذلك عن الحقيقة الساطعة ، وهي أن من بحث ودرس ومحص ثم دون نتائج بحثه ودرسه وتمحيصه هو الطبيب العالم؛ أما أنت فتلميذ «شاطر» حفظ ووعى وطبق ما حفظ وما وعى.
فلو فرضنا أن جماعة من الجن تآمرت على ثمار المدنية كلها فمحتها محوا بين عشية وضحاها، واستيقظ الناس ذات يوم ليروا أن بلادهم قد خلت من سياراتها وطياراتها وعلومها وآدابها وتصاويرها وتماثيلها، بل لو فرضنا أن جماعة الجن المتآمرة قد أحكمت تدبير المؤامرة فعمدت إلى محو كل أثر لهذه الأشياء من أذهان عارفيها، لو فرضنا ذلك لتوقعنا لإنجلترا أو فرنسا - مثلا - أن تنتج السيارة والطيارة من جديد، وأن تخلق علومها وتنشئ آدابها من جديد، وأن ترسم تصاويرها وتنحت تماثيلها من جديد، لأن هذه الأشياء كلها كانت من خلقها وإبداعها، وليس أيسر على الخالق من أن يعيد خلقه سيرته الأولى؛ أما نحن الذين لم نخلق من هذا كله شيئا، فسيكتب علينا بعد مؤامرة الجن أن ننتظر في خلاء حتى يفرغ أولئك الخالقون من خلقهم وإنتاجهم، فننقل بعض ما خلقوا وما أنتجوا؛ ثم سرعان ما يأخذنا الغرور فنصيح لأنفسنا هاتفين: الآن قد استوى الماء والخشبة! لقد زال ما بيننا وبين الغرب من فروق! لكن الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض، بين الابتكار والتكرار؛ هم في الغرب يخلقون، وقصارى جهدنا أن ننقل عنهم بعض ما خلقوا؛ فلماذا لا نخلق ولا نبتكر؟ هذا هو السؤال الذي ألقيته في ختام المقال السابق ورددت عليه في إيجاز بما أراه جوابا صوابا، وهو أننا لا نخلق ولا نبتكر لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق إنما يحتاج إلى سيادة وعزة وطموح، وقد وعدتك أن أفصل القول في هذا الرأي بعض التفصيل.
والرأي عندي هو أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، وعبيد في فلسفتنا الاجتماعية، وعبيد في بطانتنا الثقافية.
অজানা পৃষ্ঠা