ثم شاء الله لي الهداية بعد حين لم يطل، فما هي إلا دقائق معدودات حتى تناولت كتابا كان ملقى أمامي؛ ودسست فيه إصبعي، فإذا بمقال منشور، كاتبه «إمرسن»، وعنوانه «شكسبير، أو الشاعر»، فوجدته يقول ما ملخصه:
يتميز عظماء الرجال بسعة آفاقهم وامتدادها أكثر مما يتميزون بالأصالة والابتكار؛ فإذا اشترطت للنبوغ أصالة قوامها أن ينسج النابغ ديباجته مما يستخرج من أمعائه كما تفعل العناكب، وأن ينشيء لبنائه اللبنات إنشاء من طين يخلقه من جوفه خلقا، فلن تجد بين النابغين الفحول عظيما واحدا جديرا منك بهذا اللقب، إن أنبغ العباقرة هو أكثرهم دينا لغيره من الناس، إن العبقري لا يستيقظ ذات صباح مشرق جميل فيقول: «أنا اليوم مليء بالحياة، سآخذ سمتي نحو البحر لأخلق من العدم قارة جديدة، إني اليوم سأربع الدائرة، وسأجد للإنسان طعاما جديدا ...» كلا، بل إنه ليجد نفسه في خضم يضطرب من حوله بالأفكار والحوادث، فيندفع في تياره مع سائر معاصريه ؛ إنه يقف ليشخص ببصره حيث تشخص أبصار الناس جميعا، ويتجه إلى حيث تشير أيديهم؛ إنى لأكاد أجزم بأن أعظم مراتب النبوغ لا ترتكز على الأصالة قطعا، بل عظمة النبوغ في أن يكون الرجل مستقبلا للآثار من حوله وحسب. إن شكسبير في حقيقة أمره مدين لغيره في كل جوانب نبوغه، وقد كان قادرا على استخدام كل شيء وقعت عليه يداه؛ فأنت تعلم كم استعار إذا قرأت هذا البحث المجهد الذي قام به «مالون» في تحليل رواية «هنري السادس»، إذ قال: «إن مجموع أسطرها 6043، من هذه الأسطر 1771 كتبها بنصها أسلاف لشكسبير، و2373 كتبها بلغته، ولكنها من أفكار السابقين، ولا يخلص له سوى 1899 سطرا.»
إن لشوسر أثرا عميقا في الأدب الإنجليزي القديم بأسره، كما أثر - في العصر الحديث - في «بوب» و«دريدن» وغيرهما من الكتاب الإنجليز؛ فيا لها من تربة خصبة أطعمت كل هؤلاء الآكلين، ولكن شوسر هذا كان «مستعيرا» عظيما، فقد كان يأخذ عن غيره كل أدبه، حتى إن بعض إنتاجه ليس يزيد عن الترجمة الصريحة.
إن شوسر يسطو على غيره، ولكنه يعتذر عن ذلك بقوله إن ما يأخذه لا قيمة له حيث يجده، ولكن له أعظم القيمة حيث يضعه من جديد؛ ولقد باتت قاعدة في الأدب أن الأديب إذا برهن مرة على أنه قادر على الكتابة المبتكرة فله الحق بعد ذلك أن يسطو ما يشاء على إنتاج الآخرين؛ ذلك لأن الفكر ملك لكل من يستطيع أن يستخدمه استخداما حسنا، وأن يضعه وضعا ملائما. إن الفكر المستعار يظل بغيضا حتى تعرف ماذا تصنع به، وعندئذ يكون ملكا لك.
تلك خلاصة موجزة أشد إيجاز لما قرأت لأمرسن في ذلك المقال؛ ولكن ما لي ولنقاد الأدب في هذا، وها هم أولاء علماء النفس يجمعون على أن الخيال المبتكر ليس لمبتكره فيه إلا فضل التأليف بين عناصر موجودة فعلا. إن قوة الخيال هي أن تجمع أشتاتا متفرقات مما حولك، فتنفخ فيها من روحك فإذا هي خلق جديد! إن قوة الخيال هي أن تربط العلاقة بين شيئين أو مجموعة من الأشياء لم يسبقك إلى ربطها على هذا النحو إنسان؛ فقد كان «بنيامين فرانكلن» ذا خيال بديع حين أدرك الرابطة بين البرق والكهرباء، ولم يكن - بالطبع - خالقا للبرق ولا للكهرباء؛ وكان «جيمس وات» ذا خيال مبتكر حين كشف عن الصلة بين البخار في وعاء الشاي وبينه إذا وضع في قاطرة تنساب على قضبانها فتربط أطراف العالمين؛ وكان شكسبير ذا خيال مبدع حين تناول قبضة من أشتات التجارب التي يشهدها مضطربة في الدنيا من حوله، ويشهدها معه الناس جميعا، فربط بين أجزائها، فإذا هي ملوك تحكم وقواد تغزو وخدم تطيع؛ ثم اهبط من سماء العلم والأدب إلى عالم الأعمال من حولك، فهذا تاجر عرف كيف يكسب المال ألوفا، وذلك زارع عرف كيف يستدر الأرض ذهبا نضارا؛ فبم امتاز الزارع والتاجر حين تقلبا في أعطاف النعيم، والناس من حولهم ينظرون نظرة ملؤها الحسرات لهذه الدنيا تفلت من أيديهم جرداء جدباء؟ قد امتازا بقوة الخيال الذي يربط بين شتي الحقائق التي يدركها كل إنسان!
نعم إن الدنيا لا تفسح صدرها إلا لذوي الخيال الخلاق، ولكن حذار يا صاحبي أن تظن بهذه القوة أنها ضرب من إدارة القدر أو سر من أسرار الروح يعز عنك بلوغه، إنك إن ظننت هذا فقد ظلمت نفسك، وكتبت لها الحرمان، إن عناصر الخيال تحت يدك وطوع أمرك، فمرها إن شئت تكن لك خلقا جديدا! ولست أعني بتلك العناصر إلا تجاربك التي أخذت في تحصيلها مذ كنت إنسانا واعيا؛ فحرك هذه التجارب في نفسك، وحاول أن تربط بين أجزائها ربطا جديدا، فتصبها في قالب جديد؛ اتخذ من تجاربك ما يتخذ النحات من قطعة الرخام، والكاتب من الألفاظ، والطاهي من مواد الطعام، والبناء من عناصر البناء. إنك إن فعلت فأنت ذو خيال مبدع مبتكر.
كأني بقارئي لا يزال يائسا من نفسه، ظانا بها العقم فلا تلد، والجمود فلا تخلق! فإن كنت كذلك فاحمل قلمك الآن قبل أن تمضي في القراءة وابسط أمامك قطعة من ورق، أو - إن أردت - فاستخدم هامش هذه الصحيفة، وارسم حيوانا لم تقع على مثله عيناك ولم تسمع بوصفه أذناك؛ امض فيما أشير عليك به الآن، وأنا زعيم لك بقدرة خيالك على تصوير هذا الخلق الجديد، ولا يوئسنك أن يخرج رسمك قبيحا خاليا من الفن، لأنه خلق جديد على كل حال، ينهض أمام عينيك برهانا على أن لديك ما زعمته لك من قوة الخيال؛ ولعلك إن رعيتها بالغ بها أمدا بعيدا؛ قد تنظر إلى رسمك فتقول: ولكني لم أخلق شيئا فهذا الجناح رأيته في الطائر، وذلك السنام شهدته على جمل، وذلك الخرطوم وجدته في الفيل، وهذا الذنب عرفته في قطتي، ولم يكن لي من الخلق سوى أن جمعت الجناح إلى السنام إلى الخرطوم إلى الذنب؛ قد تقول هذا، ولكن ما ظنك يا صاحبي إن أنبأتك أن «شكسبير» أو «فيكتور هيجو» أو «المتنبي» لم يكن له في إنتاجه سوى أن ألف بين جناح وسنام؟ تلك هي قوة الخيال؛ فلا عيب في أن تجمع بين أجزاء عرفتها، وإنما العيب أن تترك الأجزاء منثورة فلا تصل بينها برباط.
فاحفظ إذن هذا الدرس الأول في قوة الخيال، وهو أن في مقدورك أن تصوغ تجاربك التي حصلتها أثناء الحياة بحيث تبدع منها خيالا هو في مجموعه جديد لم يسبقك إليه إنسان؛ وعلى قدر ما حصلت من التجارب، وعلى قدر جهدك في استغلال هذا المحصول تكون منزلتك بين أصحاب الخيال؛ فلئن شاقك أن تكون بين قومك شكسبير زمانهم، فاجمع ما ظفر به من تجربة، ثم حرك أجزاءه في نفسك حركة عنيفة حتى تتبعثر وتنتثر، ثم ألف بين جوهرة من هنا وجوهرة من هنالك، يكن لك من خيالك عقد فريد مبتكر! نعم إن بعض الأذهان مغلق لا خيال له، ولكنك لست واحدا من هؤلاء، فحسبك دليلا على قدرتك العقلية أنك احتملت قراءة هذا القدر من هذا المقال؛ وما دمت ذا خيال مبدع فهات دلوك أدل به في الدلاء، لعله يخرج إليك بكثير أو قليل من الماء، فها هو ذا العالم مليء بمشكلاته التي تتطلب كل ضرب من ضروب الخيال لحلها، فانظر كم في مصر من مشكلات الاقتصاد والاجتماع! إن العناصر المطلوبة لعلاجها موجودة كلها، كن من ذلك على يقين؛ عناصر العلاج موزعة بين الناس جميعا، ولكن ما أقل من يستخدم معرفته من الناس! ما أقل من يعمل خياله، فيجمع بين منثور الحقائق، ليصل إلى حكم جديد مفيد! فهل يستحيل أن تكون أيها القارئ واحدا من هؤلاء القليل؟ كلا، فانسج لنا مما عرفت ديباجة فكرية جديدة لعلها تقوم معوجا أو تصلح سقيما؛ ولا تخش أن يقول قائل عنها إنها ديباجة يمكن للنقد أن يرد لحمتها وسداها إلى أربابها.
ولكن حذار أن تكون في خيالك حالما، فحدد خيالك بالحقائق الواقعة، وإلا طار مجهودك أدراج الرياح؛ فاحلم في خيالك ما شئت، على أن تكون هذه الأحلام ممكنة الوقوع، فليس من الحكمة أن تطير بخيالك في الهواء، وعلى هذه الأرض ما يحتاج ألف خيال.
كم قرأت من القصص؟ وكم شهدت وسمعت من ألوان الوسائل التي تدر ربحا هنا وشهرة هناك؟ ألم يتردد في نفسك شيء من الندم حين قرأت القصة الجميلة أن لم تكن كاتبها؟ ألم تحس ظلا خفيا من الحسرة حين رأيت فلانا يكسب المال بفكرة ابتكرها، وفلانا يظفر بالصيت البعيد لرأي خلقه وابتدعه؟ فقد أردت اليوم أن أدلك على أن تلك الفكرة وهذا الرأي وما إليهما، ضروب من الخيال، نسجه أصحابه من عناصر تحت الأبصار والأسماع؛ وفي وسعك وفي وسعي أن ننسج منها على منوال جديد مبتكر، لو أخذنا أنفسنا منذ الآن بالتدريب والمران؛ وأؤكد لك يا صاحبي أنك واجد في إعمال الخيال لخلق جديد متعة قل أن صادفت لها ضريبا في ألوان المتاع، مهما يكن هذا الوليد الذي تخلقه بخيالك؛ قصة، أو قصيدة، أو تمثالا، أو زخرفا، أو فكرة جديدة في الصناعة إن كنت صانعا، وفي التجارة إن كنت تاجرا؛ إن كنت من رفقاء المحابر والأقلام، فحاول الكتابة تكن كاتبا بعد فشل قليل أو كثير، ما دمت قد مرنت على تصنيف أجزاء تجاربك - بما لك من قوة الخيال - في ثوب جديد؛ وإن كنت من أرباب العمل فقلب النظر في زحمة الناس، في القطار والحديقة والطريق، وسائل نفسك مرتكزا على تجاربك: ماذا يريد هؤلاء الناس فلا يجدونه؟ فقد تستعين بخيالك على ربط حقيقتين أو طائفة من الحقائق، فيهبط عليك الثراء من حيث لا تحتسب.
অজানা পৃষ্ঠা