ثورة في خزانة الكتب
شاءت لي المصادفة البصيرة - والمصادفة قد لا تكون عمياء - أن أقرأ في ليلة واحدة فكرتين في كتابين مختلفين، لا علاقة لإحداهما بالأخرى؛ ولكنهما - على ما بينهما من تفاوت بعيد - تعانقتا في ذهني، واتحدتا فتكون منهما ازدواج عجيب؛ أما الأولى فهي أن آباءنا من المصريين الأقدمين كانوا ينسبون للأسماء المنقوشة على التماثيل والتوابيت قوى سحرية عجيبة، تكاد تدنيها من الأحياء؛ فهم لم ينقشوا أسماء موتاهم على تلك الأصنام الحجرية للزخرفة والزركشة والزينة، بل ليكون لها في جوف القبور قدرة أن تصيح للروح فتهتدي بصياحها إلى الجسد الراقد لتسري فيه الحياة من جديد؛ وأما الفكرة الثانية فكانت تعليقا لكاتب حديث على رأي فيلسوف قديم في أرستقراطية العقل وحلولها محل أرستقراطية المال؛ إذ أراد أن يلقي بزمام الأمر في الدولة إلى من تثبت لهم الكفاءة العقلية وألا يخلي بين الأدنين في قدرتهم الفكرية وبين مناصب الدولة العليا؛ فليس أشد عبثا في هذه الحياة من أن يحرص الإنسان ما وسعه الحرص على أن يختار أحسن الحذائين لإصلاح حذائه، وأن ينتقي أحسن السائسين لتدريب جياده؛ ثم لا يعبأ بمن يتولى إصلاح دولته!
فرغت من القراءة فأعدت الكتابين إلى خزانة كتبي، وليس فيها سوى بضع مئات قليلة منها، تتفاوت أقدارها العلمية، من كتب في المطالعة والهجاء إلى مجلدات في الفلسفة والعلوم، رصت في رفوف الخزانة الثلاثة رصا يقع بين الفوضى والنظام؛ أعدت الكتابين وأويت إلى مخدعي، فسرعان ما استغرقني نعاس دافئ جميل، ما كان أحلاه بعد يوم مليء بالعمل والعناء، وسبحت في عالم الرؤى فماذا رأيت؟
رأيتني حاكما في دولة أصرف أمور شعبها، لعلها أن تكون أعجب ما شهدت الأرض من دول، ولعله أن يكون أعجب ما ظهر على وجه الدهر من شعوب! أما دولتي فمداها بناء ضخم ذو طبقات ثلاث، لم ألبث أن أتبين فيه خزانة الكتب ضخمت في عالم الأحلام، ثم ضخمت حتى أصبحت هذا البناء الفخم الجميل؛ وأما رعيتي فكانت بضع مئات قليلة من أمساخ لا تطمئن لها العين، ما كدت أباشر شئونها حتى أدركت أنها كتبي قد أصابها في أضغاث الأحلام هذا المسخ والتشويه؛ فقد رأيتها كائنات حية ليست كالتي عهدت من كائنات، يتألف واحدها من لسان غليظ طويل في فم ضخم بشع، ولكل منها جناحان بعضها يستطيع بهما الطيران وبعضها لا يستطيع، وأحسب أن اللسان قد غلظ فيها وطال؛ لأنها لم تصطنع من أول الدهر سوى بضاعة الكلام، فتطور عضو الكلام وضمرت سائر الأعضاء؛ وأعجب ما فيها أن خواطرها مكتوبة في عقد من أوراق الشجر يتدلى من عنقها، بحيث تستطيع العين رؤيتها، وهي حين تتكلم تهز من صدرها تلك الخواطر المكتوبة هزا تتحول به من الكتابة إلى الصياح.
نظرت إلى دولتي وقلبت الرأي في رعيتي، فشاع في نفسي الأسف والأسى لسوء حالها، وكاد يقعدني اليأس عن محاولة إصلاحها فقد خيل إلي أن فوضاها فوق كل إصلاح؛ كانت دولتي مقسمة ثلاث طبقات؛ علياها تسكن الطابق الأعلى، ودنياها الأدنى، وأوساطها في الوسيط؛ وقد راعني ذات يوم أن أرى أن أطيب ما تنتج البلاد من خيرات ينصرف إلى الفئة العالية وهي لا تعمل، وأما الحثالة فإلى الفئة التي تكدح وتشقى، وهي التي سفلت في بناء الدولة حتى استقرت في قاعها؛ فقلت لنفسي: لا حييت بعد اليوم في الدولة حاكما إذا أنا أغمضت العين على هذه النقائص والعيوب، ولن تذهب ثقافتي عبثا، فسأهتدي بآراء المصلحين جميعا، من مضى منهم ومن حضر؛ لأستأصل من جسم شعبي كل داء دفين.
وآثرت قبل البدء في الإصلاح أن أخالط رعيتي عن كثب وأحادثهم، لعلي أعلم كيف علا من علا، وسفل من سفل، فإن في ذلك لبداية وهداية؛ فصعدت لتوي إلى الطابق الأعلى، فإذا فئة من شعبي تتقلب في ألوان النعيم، أسدلت من دونها الستر لتتقي مر النسيم ولفحة الضوء، أجنحتها من المخمل وأوراقها المتدلية من الحرير، وقد خط عليها ما خط بماء الذهب؛ فأخذت أسأل هؤلاء واحدا بعد واحد: ما صنع حتى جاز له أن يصعد هذا المرتقى؟ فأجاب أولهم: إن جواز صعوده هو أن اسمه المطبوع على صدره له رنين قوي إذا نطق به، وهو مكتوب بالخط الضخم العريض؛ فعجبت له كيف يمكن أن يكون رنين الأسماء وضخامة الحروف من أسباب العلا! لكنه أجاب بأن تقاليد الدولة منذ عهد بعيد قد أباحت لمن يعلو صوته على سائر الأصوات أن يتسع صيته، فيأخذ من أمته مكانا عاليا ممتازا، ولا عبرة بما في صياحه هذا من خطأ أو صواب، ثم سألني: ألست ترى - يا صاحب الجلالة - ما بين الصوت والصيت من علاقة في اللفظ؟ وأضاف قائلا: إن علاقة اللفظ عند الفلاسفة دليل على روابط المعنى. فسألت آخر، فأجاب بأن جواز صعوده هو أن جناحيه وما يتدلى على صدره من أوراق صنعت كلها من مادة جيدة مصقولة؛ فعجبت له كيف تكون نعومة الملمس جوازا للصعود! فقال: إن تقاليد الدولة منذ أقدم العصور تعنى بظواهر الأشياء دون بواطنها؛ لأن فيلسوفا قديما علمهم أن الإنسان لا يدرك من الأشياء غير الظواهر، وأما حقائق الأشياء فعلمها عند علام الغيوب. وسألت ثالثا، فقال: إنه مطبوع في بلاد الإنجليز؛ فعجبت له كيف يمكن أن يكون مكان الطباعة بذي شأن، ما دامت الأحرف هي الأحرف والكلام هو الكلام! فأجاب بأن تقاليد الدولة من أقدم عصورها تقضي أن يكون لذلك اعتبار عند قسمة الأقدار. وسألت رابعا، فقال: إنه ينتمي في نسبه إلى كاتب مشهور معروف؛ فعجبت كيف يمكن أن تكون النسبة وحدها كفيلا له بالصعود! فأجاب بأن تقاليد الدولة منذ فجر تاريخها قد جرت بأن يكون لأصحاب الأنساب في الدولة أكبر الأنصاب. وسألت خامسا وسادسا وسابعا.
هبطت السلم مسرعا لا ألوي على شيء، وأنا أوشك أن أصيح: كلا، لن يكون لمثل هذا العبث وجود في دولتي بعد اليوم. إن شيخا في الطابق الأسفل قيل إن به مسا من جنون، قد جاءني منذ أيام يقص علي قصة الإصلاح الذي يريده لأمتي، فأعرضت عنه وتوليت؛ وما كان ينبغي أن أفعل، فما يدريني؟ لعله يهدي، فما يفصل الجنون عن النبوغ إلا حاجز رقيق؛ وقصدت إلى الشيخ حانقا مغضبا، فوجدته يروح ويغدو ولا يكاد يستقر به المكان، فناديته: ادن مني أيها الشيخ وأعد على سمعي ما قصصته بالأمس. فقال: أردت لأمتك الإصلاح - يا صاحب الجلالة - فما أعرتني أذنا مصغية ولا قلبا واعيا، والأمر هين لا عناء فيه، أريد أن تسود في الدولة أرستقراطية العقل مكان أرستقراطية المال وغير المال من الأعراض التي لا تمت إلى طبيعة الإنسان في شيء؛ فهذا الفرد وهذا وذاك ممن تنطوي صدورهم على تفكير ناضج سليم، وتتألف خواطرهم التي نقشت على صدورهم من فلسفة وعلم رصين، لهم من الدولة المكان الأعلى؛ وهذا الفرد وهذا وذاك ممن تغلب عليهم العاطفة فينطقون بآيات من الشعر والنثر، لهم من الدولة المكان الأوسط؛ لأن العاطفة عندي في منزلة دون العقل الخالص، ثم احشر في الطابق الأسفل من رعيتك أصحاب العقول الفارغة والصدور الخاوية، مهما يكن حظهم من ضخامة عنوان وجمال أوراق. فلم أجد في فعل ما أشار به الشيخ شيئا من العسر، إذا استثنيت بعض نظرات ملتهبة حداد رمقني بها أفراد الطبقة الممتازة حين أنزلتهم من الدولة أسفل سافلين.
وانتبذت بعد هذا الانقلاب مكانا أستريح وأزهو؛ ولكني لم أكد آخذ من الراحة نصيبا، حتى سمعت في أرجاء الدولة ضجة وصياحا؛ فهذا صوت شيء يتحطم، وتلك صرخة إنسان يتألم؛ فسرت في جسمي قشعريرة الخوف، وأرهفت الأذن فإذا بي أتبين كلمات تنبئ بثورة الشعب، فجمدت في مكاني لا أريم حتى هدأت العاصفة، ثم طفت بأسفل الطوابق أول الأمر؛ فإذا بأصحاب الفكر وأرباب الأدب ممن أصابتهم الرفعة في الانقلاب الذي قمت به في تنظيم الدولة، قد أعيدوا إلى دركهم الأول، بعد أن تكسرت منهم أجنحة وقطعت ألسنة وتمزقت أوراق.
فجلست محزونا واعتمدت رأسي على كفي، وتمتمت في يأس: لم يأت بعد أوان الإصلاح لأمتي، فلا بد أن تنقضي قرون أخرى يعلو فيها أصحاب الظاهر البراق ويسفل أصحاب الحق المبين؛ واستيقظت فإذا موعد العمل قد حان، فارتديت ثيابي مسروعا وهرولت إلى العمل مسرعا لأرد عن نفسي عادية الأذى.
خطيب هايد بارك
অজানা পৃষ্ঠা