58

وحقيقة الرأي الذي يدل عليه شعره، فيما نعتقد أنه كان شاعرا يجمع بين البلاغة والسهولة، ويرتقي في الصناعة الشعرية مرتقى لا يعلو عليه شاعر من أبناء عصره، وهم على الإجمال فطريون في هذه الصناعة، لهم مزايا الفطرة وعيوبها في آن، ولا سيما العيوب التي لها اتصال بكل صناعة من الصناعات.

ومن مزايا الفطرة الصدق والبساطة وقرب الأداء، ومن عيوبها النقص والسذاجة وقلة الإتقان. ومن رأينا أن شعراء الجاهلية وشعراء القرن الأول للإسلام كانوا جميعا أوفر الشعراء حظا من مزايا الفطرة وعيوبها على السواء؛ فهم أصحاب معنى مستقيم ولغة قوية وشعور لا بهرج فيه ولا التواء، وهم إلى جانب هذا مبتدئون متعثرون في صوغ الشعر، لم يصلوا بالقصيدة ولا بالأغنية إلى مبلغ الإتقان ووحدة المدلول، ولعلهم لم يبلغوا في ضرب من الشعر مبلغه من الإتقان غير الرجز؛ لأنه مفكك بطبيعته، لا يحتاج إلى تنسيق وانسجام.

وما زال الإتقان الصناعي يزداد، والشعور الفطري ينقص حتى تناهيا زيادة ونقصا في أواخر عهد العباسيين، فأصبح الإفراط في الصناعة بهرجا، والإفراط في ضعف الشعور الفطري تكلفا واصطناعا، وتلاقى هذا وذاك في الغثاثة المزيفة التي لا هي صناعة جيدة ولا فطرة جيدة، ولكنها مسخ للصناعة والفطرة لا خير فيه.

فالشعراء العباسيون - مثلا - أجود صناعة من الشعراء الأمويين والمخضرمين، وأنأى منهم عن استقامة الفطرة وبساطة التعبير، ولا استثناء لأحد من الأمويين والمخضرمين والجاهليين في ضعف الصنعة، الذي يأخذ كل منهم بنصيب منه حتى شعراء المعلقات.

وشأن جميل في هذا شأن غيره من أبناء عصره وسابقيه: يأتي بالكلام السهل البسيط؛ لأن معناه سهل بسيط، ولأنه يملك القدرة الفنية التي يعمد بها إلى المعاني المركبة فتسلس له، فإذا هي مجلوة في ثوب من البساطة يخدع السامع حتى ليحسبه خلوا من كل تركيب.

وقلما تجاوز الأبيات في القصيدة الواحدة، واعتمد الإطالة إلا تعثر والتفت بمن يتحدث عنه بين الخطاب والغياب وضمير المفرد وضمير الجمع في نفس واحد، كما قال:

فإن تبيني بلا جرم ولا ترة

وتولعي بي ظلما أي إيلاع

فقد يرى الله أني قد أحبكم

حبا أقام جواه بين أضلاعي

অজানা পৃষ্ঠা