وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: حدثت أن مدنيًا كان يصلي مذ طلعت الشمس إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه رجل يتغنى، وهما في مسجد رسول الله ﷺ، فإذا برجل من الشرط قد قبض على الرجل فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله ﷺ! فأخذه؛ فانفتل المدني من صلاته، فلم يزل يطلب إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك؟ قال: لا، ولكني إخالك رحمتني، قال: إذًا فلا رحمني الله. قال: فأحسبك عرفت قرابةً بيننا. قال: إذًا قطعها الله، قال: فليد تقدمت مني إليك، قال: والله ولا عرفتك قبلها. قال: فأخبرني. قال: سمعتك تغنيت آنفًا فأقمت واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك.
قال: والصوت الذي ينسب إلى واوات معبد شعر الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهر الشيباني وهو:
هريرة ودّعها وإن لام لائمٌ ... غداة غدٍ أم أنت للبين واجم
لقد كان في حولٍ ثواء ثويته ... تقضّى لباناتٌ ويسأم سائم
ويروى أن معبدًا بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن؛ فقال: لقد غنيت بخمسة أصوات هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصوات قال المبرد: أحدها، للأعشى يعاتب يزيد بن مسهر الشيباني: هريرة ودعها وإن لام لائم. فأنشد البيتين. والثاني: قوله يعاتبه:
ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعًا أيها الرّجل
غيداء فرعاء مصقولٌ عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
والثالث، للشماخ بن ضرار بن مرة بن غطفان يقوله لعرابة بن أوس:
رأيت عرابة الأوسي ينمى ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
والرابع، لعمر بن أبي ربيعة:
ودّع أمامة قبل أن تترحّلا ... واسأل فإنّ قليله أن تسألا
أمكث لعمرك ساعةً فتأنّها ... فعسى الذي بخلت به أن يبذلا
لسنا نبالي حين ندرك حاجةً ... إن بات أو ظلّ المطيّ معقّلا
قال أبو العباس: والشعر الخامس لا أعرف قائله. قلت: وهو لعروة بن أذينة الليثي:
غرابٌ وظبيٌ أعصب القرن نادبًا ... ببين وصردان العشيّ تصيح
لعمري لئن شطّت بعثمة دارها ... لقد كنت من خوف الفراق أليح
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان المرى: أحص المخنثين، فوقعت فوق الحاء نقطة فأخذهم وخصاهم وفيهم الدلال؛ فبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقد قام إلى الصلاة فقال: أوقد خصي الدلال؟ إنا لله! لقد كان يحسن أن يغني:
لمن طللٌ بذات الجي ... ش أمسى دارسًا خلقا
ثم دخل في الصلاة؛ فلما فرغ من قراءة أم الكتاب قال: السلام عليكم، وكان يحسن خفيف هذا الشعر ولا يحسن ثقيله.
من طرف ابن أبي عتيق
ولابن أبي عتيق عجائب ظريفة، أذكر لك منها ما يصلح ويملح؛ منها أنه سمع وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرمًا غير أنّنا ... كلانا من الثوب المطارف لابس
فقال: أبنا يلعب ابن أبي ربيعة؟ فأي محرم بقي؟ فركب بغلته متوجهًا إلى مكة، ودخل أنصاب الحرم، وقيل له: أحرم! قال: إن ذا الحاجة لا يحرم. فلقي ابن أبي ربيعة؛ فقال: أما زعمت أنك لم تركب محرمًا قط؟ قال: بلى! قال: فما قولك: كلانا من الثوب ... البيت؟ فقال له: إني أخبرك؛ خرجت بعلة المسجد، وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا، فصرنا إلى بعض الشعاب، فأخذتنا السماء، فأمرت بمطرفي فسترنا الغلمان لئلا يروا بها بلة فيقولوا لها: هلا استترت بسقائف المسجد؟ فقال له ابن أبي عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة؟ وابن أبي عتيق الذي سمع قول ابن أبي ربيعة:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحبّ القتول أخت الرّباب
قلت وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما فقدت برد الشراب
أزهقت أُمّ نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي، ما لقاتلي من متاب
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمسٍ كواعبٍ أتراب
1 / 20