وقد قال خالد بن صفوان: يسعط أحدكم أخاه بمثل الخردل، ويقرعه بمثل الجندل، ويفرغ عليه بمثل المرجل، ويقول: إنما كنت أمزح.
وقال محمود الوراق:
تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يذكر
ويقول كنت ممازحًا ومداعبًا ... هيهات نارك في الحشا تتسعّر
أوما علمت وكان جهلك غالبًا ... أنّ المزاح هو السباب الأصغر
وقال ابن الرومي:
حبذا حشمة الصديق إذا ما ... حجزت بينه وبين العقوق
حين لا حبّا انبساطٌ يؤدي ... هـ إلى ترك واجبات الحقوق
أين منجاتنا إذا ما لقينا ... من مسيغ الشجا شجىً في الحلوق
من حسنوا المزاح
وإلا فقد قالوا: لا بأس في المزاح بغير ريبة.
وكان يقال: المزاح من أخلاق ذوي الدماثة.
روي أن علي بن أبي طالب ﵁ قال: من كانت فيه دعاة فقد برىء من الكبر. وقد قيل: الممازح يقرب من ذي الحاجة إليه، ويمكن من الدالة عليه. وما زال الأشراف يمزحون ويسمحون بما لم يغض من دياناتهم، ولا يقدح من مروءاتهم، وقد قال النبي ﷺ: بعثت بالحنيفية السمحة. وقال ﵊: إني لأمزح ولا أقول إلا حقًا.
من مزاح النبي ﷺ
فمن مزاحه ﷺ ما روى أنس بن مالك قال: كان لنا أخ يكنى أبا عمير. وكان له نغر يلعب به. فدخل رسول الله ﷺ فرآه حزينًا فقال: مال له؟ قالوا: مات نغره، فكان إذا رآه بعد ذلك قال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ وكان رجل من أشجع يقال له زاهر بن حرام لا يزال يأتي النبي ﷺ بالهدية من البادية والطرفة، وكان رسول الله ﷺ يقول: إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه. فبينما هو في بعض أسواق المدينة إذ أتاه النبي ﷺ من ورائه فاحتضنه وقال: من يشتري مني هذا العبد؟ فالتفت الرجل فإذا هو برسول الله ﷺ. فقبل يده وقال: تجدني كاسدًا يا رسول الله. فقال: لا، لكنك عند الله ربيح.
وأتت إليه ﷺ امرأة فذكرت زوجها بشيء. فقال: زوجك الذي في عينه بياض. قال: فمضت فجعلت تتأمل زوجها فقال: ما لك؟ قالت: قال لي النبي ﷺ: إن في عينك بياضًا. فقال: بياض عيني أكثر من سوادها.
سماع النبي ﷺ للمزاح
وأما سماعه ﷺ لذلك فقد روي: أن صهيبًا دخل عليه وعينه وجعة وبين يديه تمر، فأقبل صهيب يأكل؛ فقال: أتأكل التمر وعينك وجعة؟ فقال: إنما آكل بحذاء العين الصحيحة، فتبسم ﷺ.
وذكروا أن أعرابيًا أتاه فألفاه مغمومًا ممتقع اللون؛ فقيل له: لا تكلمه وهو على هذه الحالة، فقال: لا أدعه أو يضحك. ثم جثا بين يديه فقال: يا رسول الله؛ بأبي أنت وأمي! إن الدجال يخرج وقد هلك الناس جوعًا فيأتيهم بالثريد، فترى أن آكل من ثريده حتى إذا تضلعت كذبته؟ فضحك ﷺ وقال: يغنيك الله بما يغني به المؤمنين حينئذ.
وقالت أم سلمة: خرج أبو بكر ﵁ في تجارة إلى البصرة، قبل وفاة النبي ﷺ، ومعه سويبط بن حرملة وكان قد شهد بدرًا ونعيمان، وكان سويبط على الزاد، وكان نعيمان مزاحًا، فقال له نعيمان: أطعمني، فقال: حتى يجيء أبو بكر، فقال: أما لأغيظنك، فمروا بقوم فقال نعيمان: أتشترون مني عبدًا؟ فقالوا: نعم! فقال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم: إنه حر، فإذا قال هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي. فقالوا: بل نشتريه. قال: فاشتروه مني بعشر قلائص، ثم أخذوه فوضعوا في عنقه حبلًا، فقال سويبط: إني حر ولست بعبد وهذا يستهزىء بكم. فقالوا له: قد خبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر فأخبروه الخبر، فاتبع القوم فرد عليهم القلائص وأخذ منهم سويبطًا. ولما قدموا على النبي ﷺ فأخبروه الخبر، ضحك ﷺ وأصحابه حوله.
1 / 14