(٢) فرأيت أنه من الواجب أن نطلب العلة، أى علة هى، التى بسببها على عجب جميعهم ببقراط لا يقرؤن كتبه، أو إن قرؤها لا يفهمون ما يقرؤنه، أو إن فهموه لا يتدربون فى معرفته، حتى يثبت ويتقرر علمه فى أنفسهم. وأنا أجد أن جميع الأشياء التى يحسنها الناس ويصلون إلى صواب معرفتها إنما يكون ظفرهم بها بالإرادة والقوة، وأنه من عدم أحد هذين فحسب، ذلك يقصر ضرورة عن بلوغ غرضه. فقد نرى الصريعين يبعدون من غرضهم إما لأن طبيعة أبدانهم غير متهيئة للصراع، وإما لقلة عنايتهم بالتدرب فى غرضهم. فأما من كانت طبيعته مستعدة وكان تدربه لا يذم منه شىء، فليس يمنع من أن يصير على رأسه أكثر الأكلة التى يستحقها الغالبون فى المناضلة. أفترى هؤلاء الاطباء إنما عدموا التدرب فى هذه الصناعة لبعدهم من هذين جميعا، إذ لم يكن فيهم من القوة والإرادة مقدار يعتد به، أو إنه كان فيهم أحدهما وعدموا الآخر.
والقول بأنه ليس أحد يكون فيه من قوة النفس مقدار كاف فى قبول هذه الصناعة، على ما جعلها الله عليه من الرحمة، لا أظنه قولا صحيحا، إذ كان العالم فى وقتنا هذا وفى ذلك الوقت على حال واحدة ونظام الأوقات ودور الشمس غير متغيرة، ولم يحدث فى كوكب آخر من الكواكب المتحيرة أو الثابتة حادث غيره. وجب بسبب سوء التدبير الذى يتدبر به أهل زماننا وظنهم أن الغنى أشرف من الفضيلة، ألا يوجد فيهم أحد على حذاقة فيذياس فى الصناعة، أو على حذاقة أباللوس فى التصوير، أو على حذاقة بقراط فى الطب، على أن فضل ما نستفيده فى بقائنا بعد القدماء من الصناعات التى وضعوها بتداولنا إياها زمانا كثيرا فضل ليس باليسير. وذلك أنه قد يسهل علينا أن نعلم فى سنين يسيرة ما وضعه بقراط فى زمان كثير، ونستخرج فى باقى عمرنا معرفة ما كان بقى عليه من الصناعة، إلا أنه ليس يمكن المتعلم، إذ هو وضع أن الغنى أشرف من الفضيلة وأن الصناعات لم توضع لمنفعة الناس لكن لاكتساب الأموال، أن يبلغ إلى غايتها، لأنه قد يستغنى قوم آخر كثير غيرنا من قبل أن نبلغ نحن غايتها. فليس يمكن إذا أحدا أن يتدرب فى هذه الصناعة إذ كانت بهذه الحال من العظم والشرف مع طلب الغنى، لكن قد يضطر متى مال إلى أحدهما ميلا أكثر أن يستخف بالآخر.
পৃষ্ঠা ১৮