ولكن لا نفنى الزمان ولا نمسخه بالنظر فى هذا بل نعود الى حديثنا فيما يتلو هذا، وهو ان ننظر ما الاسباب التى منها تتولد الحرارات الخارجة عن الطبيعة وكيف ينبغى لنا ان نداويها. مع ان هؤلاء السوفسطائيين ليس يصبرون لمن سألهم فى هذا وطلب اليهم فيه ولا يحتملونه كلهم، بل متى وقعت عليهم الحجة او مضهم الجواب فلم يقدروا على محيص اقبلوا على الشتيمة والمراء. ولا تقل ان الواحد فالواحد منهم على هذا وان المنافقين كلهم من سوفسطائيى الاطباء يفهمون. فانى اعلم انى ان قصصت عليك ما عرض لى مرارا كثيرة شتى ظن بى من لا علم له بما جرت به عادة الاطباء فى هذا الدهر وفساد نيتهم كثيرا انى اقول قولا لا يقبل منى ولا اصدق فيه. وهو ان رجلا من اشراف اهل رومية حم فوقع بين الاطباء مناظرة فى حماه ما الذى ينبغى ان تسمى. بل لم يقولوا ما الذى ينبغى ان نسميها او نلقبها او ندعوها، فانهم لو قالوا ذلك لكانوا ينبهون لو كان فيهم حس على ان بحثهم ونظرهم انما هو فى الاسم واللقب لا فى تفسير الشىء الذى يقع عليه الاسم. ولكنهم باجمعهم السائل منهم والمسئول حذقوا ادلة التسمية وجعل بعضهم يسئل اى حمى هذه وجميعهم يجيب بانها شطر الغب. فان هذا الاسم اليوم اعنى شطر الغب قد كثر فى مدينة رومية حتى صار الاطباء يسمون به جميع الحميات خلا حمى الغب وحمى الربع فانهم يخرجونهما عن هذا الاسم. فلما قصدنى انا قوم معهم فضل عناية بالامر بالمسئلة عن ذلك وهم قوم قد عرفونى وخبروا ما عندى وعلموا انى انما اعتنى بنفس الصناعة واضرب عن الاسماء وما يجرى فيها من تعنت السوفسطائيين فلا التفت اليها ولا اعنى بها كما يفعل غيرى من سائر الاطباء جعلت اجيب كل واحد منهم بما ينبغى ان يجاب به. فلما سألنى واحد من الجماعة ممن كان حاضرا لجواباتى يسمع ما اقول: فما اسم هذه الحمى اجبته هو ايضا بان قلت: اما اسم الحمى فينبغى ان تسئل عنه هؤلاء واشرت اليهم واريته اياهم وقلت له: ان هؤلاء هم احذق بالبحث عن مثل هذا، ولكن ههنا ما هو انفع من هذا وهو ان تسئلنى عن هذه الحال التى هذا المريض عليها ما الذى يكون منها والى ماذا تئول به، فقال لى فى جواب ذلك: لعمرى انى الى هذا احوج وانما دعانى الى ان سألتك عن الاسم ما قد جرت به العادة الغالبة. ولم يكن فى اولئك الاطباء احد قضى فيما سيعرض للمريض بآخر نفضته وذلك لانهم كانوا يقولون ان هذا من فعل المتكهنين لا من فعل الاطباء. فاقبلت انا على ذلك الرجل فوصفت له اسماء الحميات وذكرت له من كلام ابقراط اشياء كثيرة تعلم الناس كيف يصلون الى سابق العلم بما سيحدث من امور المرضى ومدحت فى كلامى قوما من الاطباء غير ابقراط قد نظروا فى امر الحميات وتكلموا فيها بكلام شاف. وجعلت اسئل كل واحد ممن بالحضرة من الاطباء واطلب اليه ان يقضى ويحكم فى امر ذلك المريض بما يصح عنده من امره. وذلك ان المريض كان فى حد يظن به من يراه انه مشرف على العطب، فكانوا جميعا عن الجواب فى ذلك ابعد عن ان يسمع له صوت من الحجارة. وجعلوا يقولون انما ينبغى لنا اولا ان نتفق على هذه الحمى هل هى بالحقيقة شطر الغب حرصا منهم على ان يخرجوا الكلام الى الهذيان الذى لا منفعة فيه. ولكنا نحن لم نؤاتهم الى ذلك فقلت للمخاطب لى دع هؤلاء يبحثون عن هذا الذى يريدون البحث فيه واسمع منى انا ما اقوله فى امر هذا المريض، اقول انه بعد يوم واحد يعرق عرقا كثيرا وتقلع عنه الحمى اقلاعا لا معاودة له.
ومن شأن الاطباء فى سائر المدن الاخر ان يستحيوا على حال ممن هو اعلم منهم ولا يباهتوه، واما فى مدينة رومية فالاطباء من القحة وقلة الحياء امر عجيب، من ذلك انهم لا يدعونى انا ان انعم عند المريض الذى اجتمع معهم عنده نعمة واحدة فضلا عن ان اقول شيئا بل يبادرونى الى الكلام ويسدون فمى حتى كأنهم يحيطونه بكلامهم الذى هو هذيان لا معنى له. فتجدهم مرارا كثيرة يقولون ان المريض على خطر عظيم وفى شدة شديدة. ولكنا نحن لسنا متكهنين ولا باصحاب زجر ولا ممن يحكم بأحكام النجوم وانما تعلمنا ان نداوى المريض لا ان نتكهن على ما سيكون من امره، فان جاءنا انسان قد تقدم فنظر فى هذا الباب سمعنا منه ما يقول. ومرارا تجدهم لا يقتصرون على هذا من القول لكن يستعملون المكابرة ويتضاحكون بقلة حيائهم ممن يقول ان عنده من ذلك علما، وفى اوقات اخر ينكرون ان احدا من الاطباء ذكر فى كتاب شيئا من سابق العلم بما سيكون من امر المريض. واذ كانت هذه حالهم فما الذى يمكن الانسان ان يفعل اذا ابتلى بجماعة منهم وهم على هذا من النذالة والضعة، وهو رجل قد نشأ فى الحياء وتعوده؟ ايقول انه ينبغى له ان يلتمس عند جميع المرضى ان يتبين من من الاطباء ذكر هذا الباب فى كتبه وانه ليس يمكن الطبيب ان يداوى مداواة جيدة دون ان يتقدم فيعلم بسابق العلم ما سيحدث من امر المريض، ام يقول انه ينبغى ان يمسك ويتغافل عن هذا كله ويقتصر على ان يذكر ما سيكون فى آخر الامر ويمضى فى سبيله من غير ان يحتج عن نفسه بشىء فى ان قوله ما يقول ليس هو من طريق التلمس بل من قبل علامات ودلائل يجدها فى بدن المريض فيستدل بها على ما سيكون بطريق سابق العلم؟
اما انا فأقول ان هذين امران ايهما فعله الانسان لم تحمد عاقبته، وان اخذت فى تحديد سوء العواقب المحدودة فى هذه الابواب طال بذلك كلامى. واذا كان الامر كذلك فالانفع فيما احسب ان اقول فى ذلك قولا ينقطع به الشك والحيرة، وهو ان من كان يريد ان يكون ذا يسار وجدة او ذا مقدرة وعزة فى مدينته فينبغى له ان يؤثر تعاطى تلك الامور كلها. فاما من كان محبا للحق مؤثرا له وكان قد اقنعه قول فلاطن حيث يقول «ان الحق مقدم عند الله على جميع الخيرات ومقدم عند الناس ايضا على جميعها» فينبغى له ان يقرأ سائر كتبى ويقرأ كتابى هذا خاصة الذى قصدت فيه لأبين ان العناية بامر الاسماء والالقاب والحرص عليها..... ليسا هما شيئا واحدا بعينه وانما لم يمكن ان نعبر على معانى الاشياء ونشرحها بالقول دون ان نضع لها اسماء والقابا تعرف بها. ومن اراد ان يجرى امره هذا المجرى فينبغى له اولا ان يعود نفسه متى تكلم ان يستثنى فى قوله ان هذا يسمى او يلقب او يدعى كذا وكذا. وبعد هذا ينبغى — ان كان لا علم له بما جرت به عادة القدماء فى ذلك او كان عالما به الا انه هو يريد ان يستعمل الاسماء والالقاب على غير ما استعملها القدماء — ان يستثنى فى قوله ان هذا يسمى او يلقب بكذا وكذا، ولا يفعل كما قد جرت عادة اهل هذا العصر بأن يقولوا ان هذه الحمى هى شطر غب.
পৃষ্ঠা ১০