كان من أهم الأسس التي اعتمد عليها جابر بن حيان في فهمه للطبيعة، أساس اللغة وتحليلها؛ فعن طريق معرفتنا بالحروف والكلمات وما لها من طبائع وخصائص، نعرف طبائع الأشياء وخصائصها، ولم تكن هذه الفكرة وليدة جابر، بل إن لها لجذورا قديمة تضرب في أعماق الماضي حتى تصل إلى عصور السحر والكهانة؛ حيث لم تكن الكلمات والحروف رموزا اصطلح عليها اتفاقا، بل كان لها مشاركة في طبيعة الأشياء التي يرمز إليها بها، وعن طريق الاسم تستطيع أن تفعل بالمسمى ما شئت مستعينا بوسائل معينة.
فلئن كنا اليوم قد فرغنا تماما من مشكلة اللغة: أهي مجرد رموز متفق عليها اصطلاحا، أم هي ذات طبيعة تشارك بها طبيعة الأشياء، فلم يكن الأمر كذلك فيما مضى، بل كان للموضوع وجهتان من النظر، سجلهما أفلاطون في محاورة «أقراطيلوس» بصفة خاصة، كما تعرض لهما في محاورات أخرى، مثل ثيتاتوس وطيماوس، وعلى الرغم من أن جابر بن حيان قد نسق الموضوع تنسيقا فريدا خاصا به، من وجهة النظر التي أخذ بها في أمر اللغة ودلالتها على الأشياء، إلا أننا لا نشك في أن التراث الفلسفي اليوناني قد كان معروفا يؤثر في الفكر الإسلامي بطريق مباشر حينا وغير مباشر حينا آخر.
وفيما يلي موجز لمحاورة أقراطيلوس، التي عرفها العرب منقولة بترجمة حنين بن إسحاق عن الصورة المشروحة التي تناولها بها جالينوس، وللفارابي في كتابه عن فلسفة أفلاطون تعليق على محاورة أقراطيلوس هذه؛ إذ يقول إن أفلاطون قد: «فحص ... هل تلك الصناعة هي صناعة علم اللسان، وهل إذا أحاط الإنسان بالأسماء الدالة على المعاني على حسب دلالتها عند جمهور تلك الأمة التي لها ذلك اللسان ... يكون قد أحاط علما بجواهر الأشياء، وحصل له بها ذلك العلم المطلوب؛ إذ كان أهل هذه الصناعة يظنون بأنفسهم ذلك، فبين أنه لا تعطي هذه الصناعة ذلك العلم أصلا ... وهذا في كتابه المعروف بأقراطلس.»
4
وموضوع محاورة أقراطيلوس (أو أقراطلس) هو نشأة اللغة: هل الأسماء دالة على مسمياتها «بطبيعتها» وبحكم خصائص نابعة من الرمز اللغوي نفسه تجعله ملائما للشيء المرموز إليه به، أم أنها تكتسب قوتها الدلالية بحكم «الاتفاق» الذي يصطلح عليه الناس في عملية التفاهم؟ فإن كانت الأولى، كان لا مندوحة لنا عن اسم معين للشيء المعين، وإن كانت الثانية كان أمر الاختيار متروكا لنا، وكان الأمر جزافا.
يأخذ أقراطيلوس بوجهة النظر الأولى، ويأخذ هيرموجنيس - في المحاورة - بوجهة النظر الثانية، فيقول أقراطيلوس بأنه ما لم نطلق على الشيء اسمه الصحيح الطبيعي الوحيد، فنحن بمثابة من لا يسميه إطلاقا، حتى لو اتفق الناس جميعا على اسم يختارونه له ويطلقونه عليه، فيرد هيرموجنيس بأن أي اسم يتفق أصحاب اللغة على إطلاقه على شيء ما كان اسما له، وليس في طبائع الأشياء ما يحتم اسما دون اسم سواه؛ ويسأل سقراط عن رأيه في هذا النزاع، فيقول إنه ليس خبيرا باللغة واستعمالها الصحيح، ولو أدلى في الأمر برأي فسيكون رأيا مستمدا من البداهة الفطرية.
والحق أن هذا الاختلاف في وجهة النظر إلى اللغة، إن هو إلا وجه من عدة وجوه لاختلاف أكبر وأوسع، يقابل فيه بين «الطبيعة» من ناحية و«الأوضاع الاجتماعية» من ناحية أخرى، وهو اختلاف شمل عصر «بركليس» في يونان القديمة شمولا لم يكد يترك مسألة إلا أدخلها في هذه المقابلة: أيستند الإنسان في حياته الأخلاقية والسياسية والفكرية إلى فطرة الطبع، فتحكمه قوانين الطبيعة كما تحكم كل شيء، أم يستند إلى تقاليد المجتمع وأوضاعه كائنة ما كانت؟
على أن الهدف الرئيسي للمحاورة ليس هو نشأة اللغة، بل هو المهمة التي تؤديها؛ فلو كانت اللغة تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل لوجب أن تلتزم قواعد وأصولا، مع أننا لو أخذنا بوجهة النظر القائلة إن اسم الشيء هو ما يصطلح الاتفاق عليه جزافا، لأدى بنا ذلك إلى موقف تسلب فيه اللغة من أصولها وقواعدها الثابتة، مما لا يتفق مع حقيقتها كما هي قائمة فعلا.
لقد بدأ هيرموجنيس عرض رأيه - في المحاورة - في شيء من الإسراف، فبالغ في قوله إن اللغة جزاف واعتساف، قائلا إنه لو أراد هو أن يطلق اسما على شيء ما، أصبح هذا الاسم اسما للشيء عنده هو، حتى لو خالف به كل المتحدثين باللغة؛ فلو أطلق اسم «حصان» على ما قد اتفق بقية الناس على تسميته «إنسانا» لأصبحت كلمة «حصان» هي الاسم الصحيح في لغته هو الخاصة، كما أن اسم «إنسان» هو الاسم الصحيح للكائن نفسه عند سائر الناس.
وهنا تنشأ مسألة شائكة، وهي: الاسم جزء من جملة، والجملة من الجمل تكون إما صادقة وإما كاذبة؛ فهي صادقة إذا حكت عن واقع حقيقي، وكاذبة إذا كانت على خلاف ذلك، لكننا إذا قلنا عن الجملة الواحدة أو عن الفكر المؤلف من عدة جمل إنه إما صادق وإما كاذب، فكذلك ينبغي أن تكون الحال بالنسبة إلى كل جزء من أجزاء الجملة؛ فكل جزء من أجزاء جملة صادقة لا بد أن يكون بدوره صادقا، فكيف يكون الصدق أو الكذب بالنسبة إلى الكلمة الواحدة إلا إذا افترضنا بأن هنالك من الكلمات ما هو صحيح بطبيعته وما هو مغلوط بطبيعته؟ وإن سقراط ليدلي في هذا الموضع من المحاورة برأي سديد؛ إذ يقول: إن اللغة نشاط «اجتماعي» فهي في أساسها أداة للتفاهم بين عدة أفراد في مجتمع واحد؛ فلو أطلقت أنا وحدي اسما على شيء ما، ثم زعمت أنه الاسم الصحيح بالنسبة لي، على الرغم من اختلافه عما قد تواضع الناس عليه في تسمية ذلك الشيء، لما أدت اللغة عندئذ مهمتها الاجتماعية؛ وبهذا جاز لنا أن نقول عن اسم ما إنه باطل حين نقصد بالبطلان أنه يعوق عملية التفاهم.
অজানা পৃষ্ঠা