جابر بن حيان
جابر بن حيان
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
كنت أحاضر طلابي في الجامعة ذات يوم، وكان موضوع المحاضرة متصلا بمناهج البحث العلمي، وكانت المادة التي أعرضها في المحاضرة مستمدة من علماء الغرب وفلاسفته؛ ذلك لأن العلوم الطبيعية حديثة النشأة، لم تكد تولد قبل عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، ولم نذكر العلوم الرياضية؛ لأنها أقدم نشأة وأسبق تطورا من العلوم الطبيعية، وأما قبل ذلك فقد كانت مختلطة بأصول فلسفية، معتمدة في أغلب الأحيان على تأمل نظري أكثر مما تعتمد على مشاهدة متعقبة وتجريب دقيق صارم. ولما كانت الحضارة الإنسانية منذ النهضة الأوروبية قد اتخذت الغرب - أوروبا وحدها أولا، ثم أوروبا وأمريكا معا بعد ذلك - مقرا لها في طريقها الطويل الذي أخذت تنتقل خلاله من موطن إلى موطن، فقد بات الغرب - إبان الثلاثة القرون الأخيرة - هو مركز العلم، فلا مندوحة لمن يريد التحدث عن أصول العلم وفلسفته ومنهجه، عن الرجوع إليه ليستقي منه مادة حديثة.
غير أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها، حتى سألني طالب، وكانت في سؤاله رنة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علم يرجع إليه ويستفاد من مناهجه؟ ... وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة بعدت به عما كان عليه في العصور الوسطى - في الشرق وفي الغرب على السواء - وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكم إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغير، وتغير معه اللون الغالب كله. أقول إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعدت مسافة الخلف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان لنقدره قدره أولا، ولنزداد به فهما لما هو كائن ثانيا، وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحا علينا بأن ينهض منا من يؤديه.
وصحت مني العزيمة منذ ذلك الحين أن ألبي رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرة إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيء طريق السير موصول الحلقات مرتبط المراحل؛ وبدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان.
لكني ما كدت أبدأ العمل حتى أخذت الصعاب تزداد أمام عيني ازديادا سد علي الطريق مرارا، فكم من مرة وهنت العزيمة يأسا، وكم من مرة ملأت نفسي بالعزيمة من جديد؛ وأصعب تلك الصعاب هو أن ليس بين أيدينا هنا إلا عدد قليل من مؤلفات ابن حيان التي يعدونها بالمئات، وأما بقيتها فهي لا تزال في صورها المخطوطة مبعثرة في مكتبات أوروبا؛ ولو أراد الباحث أن يوفي موضوعه حق البحث الصحيح، لالتزم أن يطلع على النصوص الأولية جميعا قبل أن يخط من بحثه سطرا واحدا؛ فما بالك وابن حيان يحذر قارئه في مواضع كثيرة من رسائله ألا يهم أحد بدراسته إلا إذا جمع مؤلفاته كلها، حتى لتراه يتهكم أحيانا على من يكتفي ببضعة من كتبه ليستدل منها مذهبه كاملا؛ فالجزء - كما يقول - لا يسوغ الحكم على الكل، وأحسب أن لو بعث ابن حيان اليوم ليلقي نظرة على كتابي هذا عنه، لألقاه مزورا مغضبا؛ لأنها دراسة لم توف الشرط الجوهري في بحث علمي، واستغنت بالقليل عن الكثير.
لكن شفيعنا عند ابن حيان لو ألقى إلينا بهذا اللوم، هو: أولا - أنه هو نفسه كثيرا جدا ما أنبأنا في رسائله أن طريقته في التأليف هي أن يعيد في كل كتاب ما قد أورده في سائر كتبه، ولكنها إعادة بصورة جديدة، فكأنما الكتب يوضح بعضها بعضا، ولا يضيف بعضها إلى بعض؛ فإذا كنا قد اكتفينا بما بين أيدينا من مؤلفاته - ومنها ما يقال عنه إنه أهم كتبه جميعا، وهو كتاب الخواص الكبير - فلم يفتنا شيء من مذهبه، وإن فاتتنا ألوان أخرى من التعبير كان يمكن لهذا المذهب نفسه أن يصور بها؛ وثانيا - لو أننا انتظرنا لا نكتب عنه إلا بعد أن تتكامل لنا مؤلفاته كلها، فالأرجح جدا أن يظل مهملا أمدا طويلا من الزمن، لا نعرف عنه إلا اسمه، فينهض من طلابنا من يسأل: لماذا لم تحدثونا عن علمائنا العرب بمثل ما تتحدثون به عن علماء الغرب؟
অজানা পৃষ্ঠা