أما التفكير الاستنباطي الذي هو رياضي في طبيعته، فيعتمد على مفاهيم ذهنية يتسق بعضها مع بعض، بغض النظر عن مطابقتها أو عدم مطابقتها لواقع قائم في العالم الخارجي؛ وهو ضرب من التفكير لا مندوحة عنه في كل بحث علمي حتى لا يتقيد الباحث بحدود ما يقع له في خبرته الحسية المباشرة؛ إذ ترى الباحث في تفكيره الاستنباطي العقلي الخالص، يدير في ذهنه الأمر من كافة وجوهه، فيربط فكرة بفكرة ويستخرج فكرة من فكرة وهكذا، حتى إذا ما اهتدى بفضل هذه العمليات العقلية الداخلية إلى نتيجة يراها نافعة لو طبقت، فعندئذ يخرج إلى العالم الطبيعي الخارجي ليختبر صدق هذه النتيجة اختبارا يعتمد على الواقع المحسوس؛ فإذا تبين صدقها أصبحت قانونا علميا أو نظرية علمية تستخدم في الجانب التطبيقي من حياة الإنسان العملية.
وكان التفكير الاستنباطي الصرف هو المنهج الوحيد الذي يعتد به في العصور القديمة والوسيطة؛ لأن التفكير عندئذ كان كله قائما على أسس يفرضها العقل لنفسه فرضا، أو على أسس يوحي بها إلى الإنسان إيحاء، وما عليه في كلتا الحالتين سوى أن يستنبط النتائج من تلك الفروض المسلم بصدقها ؛ حتى جاءت النهضة الأوروبية وجاء معها العلم الطبيعي فعندئذ أحس رجال المنهج الفكري بضرورة إضافة منطق جديد يضاف إلى المنطق الأرسطي الاستنباطي الذي كان قد رسم ليسد حاجة التفكير في عصره والعصر الذي تلاه؛ أحس رجال المنهج الفكري إبان النهضة الأوروبية (القرن 16-17) بالحاجة الملحة إلى منهج استقرائي جديد يصلح لمعالجة الظواهر الطبيعية على أساس المشاهدة وإجراء التجارب.
ثم اندمج المنهجان آخر الأمر في منهج واحد وجد أن لا مناص من اصطناعه في كل بحث علمي منتج، فلا بد من ملاحظة خارجية أولا، لنستوحيها فروضا نفرضها، ثم لا بد في الوقت نفسه من طريق الاستنباط ننهجه داخل عقولنا لنولد من تلك الفروض التي فرضناها نتائج ننتفع بها في دنيا العمل والتطبيق.
أفليس من حق عالمنا العربي جابر بن حيان علينا، أن نسجل له بالفخر والإعجاب منهجا فكريا رسمه لنفسه في القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي، وهو منهج لو كتب بلغة عصرنا ولو فصل القول فيه قليلا، لجاء وكأنه من نتاج العصر الحديث؛ ذلك لأنه منهج اعتمد على الاستنباط والاستقراء معا اعتمادا واعيا صريحا، فاقرأ - مثلا - هذه الجملة الواحدة تجيء عرضا في حديثه ليصف بها منهجه: «... قد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب.»
31
فها هنا قد أجمل صاحبنا كل ما نريده نحن من الباحث العلمي في كلمات قلائل رتبت أدق ما يكون الترتيب؛ فعمل باليد أولا، وإعمال للعقل فيما قد حصلته اليد ثانيا، حتى تنتهي منه إلى نظرية مفروضة، ثم امتحان تطبيقي ثالثا للفرض العقلي الذي فرضناه.
على أن الأمر عنده لا يقتصر على مثل هذه العبارات المقتضبة الموجزة المركزة يصف بها منهجه؛ بل إنه يفيض الكلام في ذلك إفاضة كافية في مواضع كثيرة من كتبه.
فانظر إليه - مثلا - وهو يوضح لك كيف يمكن للعالم أن يبدأ بالتعريف العقلي لمفهوم ما، ثم يستنبط من هذا التعريف ما يريده من التفصيلات الخاصة بالعلم الذي يتعلق به ذلك المفهوم المعرف، فيقول على سبيل المثال: إننا إذا ما بدأنا بتعريف «الإيقاع» بأنه تأليف عددي، استطعنا أن نستخرج من هذا التعريف سلسلة من النتائج التي يلزم بعضها عن بعض، والتي تضع لنا أسس العلم الموسيقي؛ فالنتيجة الأولى لهذا التعريف هي أنه ما دام الإيقاع هو تأليف عددي فإنه لا بد أن يكون تأليفا من حركة وسكون في مجال النطق والسمع؛ ومن تأليف المتحرك والساكن تنتج نتيجة هي: أن أوزان الألفاظ تكون كذا وكذا؛ أما في مجال الموسيقى، فمن تعريفنا للإيقاع بأنه تأليف عددي، ينتج أن هذا التأليف إما أن يكون فردا في العدد أو زوجا؛ والزوج والفرد يأتلفان معا على أربع صور: زوج زوج، أو فرد فرد، أو زوج فرد، أو فرد زوج، والعدد الفرد يكون مثل الواحد وأخواته، والزوج مثل الاثنين وأخواتها، ويتولد عن ذلك أربع طرائق في الموسيقى، وهي التي يسمونها بالأسماء الآتية: ثقيل الأول، وثاني الثقيل، والرمل، والهزج؛ ثم إنهم ولدوا كل واحد من هذه خفيفا، فصارت ثمانية، وهي: خفيف ثقيل الأول، وخفيف ثقيل الثاني، وخفيف الرمل، وخفيف الهزج، ثم جعل لكل واحد من هذه نسبة في الأصابع، فكان خلف هذه في الأصابع، كخلف تلك في الحلق واللسان والشفتين؛ إذ إنه قد يحدث من هذه الطرائق بالأصابع ساكن ومتحرك، كما حدث لنا في الحروف ساكن ومتحرك، وبهذا تصبح لكل طريقة من طرائق الموسيقى الأربع، أربع صور، وربما فرقوا بينها بنقرة يسيرة فصارت ثمانية، أي أن مجموع الصور كلها يكون عندئذ ثمانية في أربعة، أعني أنه يكون اثنتين وثلاثين طريقة ... وهكذا - كما يقول جابر نفسه في نهاية تحليله السابق - ينتج هذا كله من تعريفنا للإيقاع بأنه تأليف عددي.
32
إلى هذا الحد البعيد يمكن للمنهج الاستنباطي وحده أن يزودنا بحقائق العلوم، على شرط أن نبدأ بتعريفات سديدة خصبة؛ ولهذا ترى جابرا يعني أكبر العناية بتعريف العلوم - وسنبسط القول في ذلك في الفصل التالي - اعتقادا منه أن التوفيق في تعريف أي علم شئت، يضمن لنا إلى حد بعيد توفيقا في الحقائق التي نحصل عليها من ذلك العلم؛ فلا غرابة بعد هذا أن نراه يختص «حدود» العلوم (أي تعريفاتها) بكتاب مستقل، يقول عنه «يا ليت شعري كيف يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كتبنا؛ فاذا قرأته يا أخي، فلا تجعل قراءتك له مثل قراءة سائر الكتب، بل ينبغي أن يكون قراءتك للكتب مرة في الشهر، وأما الحدود فينبغي أن ينظر فيه كل ساعة؛ وأن إعطاء الحد أعظم ما في الباب.»
অজানা পৃষ্ঠা