وثالثها:
أن القضية الجزائرية فوق أهميتها الذاتية القصوى هي قبل كل شيء قضية مستقبلنا نحن ومستقبل العرب في كل مكان خلال الأعوام القادمة، وهي قضية صعبة بالغة التعقيد يكتنفها ألف ظرف وظرف، ويتدخل في توجيهها ألف عامل وموجه والإحاطة بها في حاجة - وأقولها بصراحة - إلى دراسات سياسية عميقة شاملة؛ دراسات لا أعتقد أنها ستحدث؛ فليس لدينا لها متخصصون، بل تكاد معظم قضايانا الأساسية تخلو من أعمال المتخصصين ودراستهم، ومسائلنا وقضايانا الهامة تتم دائما هكذا بنفس السرعة واللهوجة والاتكال. أحيانا يصبح أقصى ما يمكن عمله مقال خاطف سريع كهذا المقال وكغيره.
الجزائر أضخم بكثير
لقد تعودنا دائما أن نبدأ الحديث عن الجزائر بالحديث عن قادتها وعن أزماتهم، حتى تكاد الجزائر تصبح في نظرنا أعضاء المكتب السياسي أو أعضاء الحكومة المؤقتة، ولكن الجزائر ليست هكذا في الواقع. إنها أكبر وأغنى وأكثر بلادنا العربية فتوة وحماسة وشبابا. لقد كانت الجزائر في ظني هي سفوح الجبال الجرداء، إلا من الغابات، تلك التي كان يعسكر فيها جيش التحرير ويتحرك، والتي لمحت بارقة منها في رحلتي الأولى مع هذا الجيش، ولكني هذه المرة حيث دخلت الجزائر المستقلة وبطريقة قانونية، ومن بابها الأمامي الواسع، ذهلت؛ فقد هبطت الطائرة قادمة من تونس في مطار ضخم فاخر يعتبر مطار القاهرة «الدولي» الحالي شيئا لا يقارن به، ومن المطار قطعت بنا السيارة المسافة إلى مدينة الجزائر وأنا مذهول لا أكاد أصدق نفسي. لقد كنت كغيري أعتقد أنها ليست سوى بلد آخر من البلاد التي امتص الاستعمار خيراتها وتركها فقرا وأكواخا، فإذا بي أجد طرقا وأبنية ومنشآت بالغة الروعة والضخامة، أعظم بكثير مما تراه في إيطاليا أو النمسا أو سويسرا أو حتى فرنسا نفسها. والمدينة - مدينة الجزائر - تجمع بين كل جمال الإسكندرية وشاعريتها وجدية القاهرة وغناها وكأنما المدينتان أدمجتا معا، والميناء أكبر بكثير من ميناء الإسكندرية تكاد أرصفته وأوناشه تعادل أربعة أضعاف مثيلاتها في الإسكندرية؛ مدينة حديثة إلى أقصى حد، غنية إلى درجة أن مستوى المعيشة فيها أعلى منه في فرنسا. وليست المدينة فقط، الريف الجزائري نفسه. إن مساحة الأرض المزروعة كروما ليست بأقل من خمسة ملايين فدان، ومليوني فدان من القمح، والزراعة كلها، من ألفها إلى يائها تتم آليا ودون استعمال اليد البشرية أو الجهد الحيواني.
وثروة الجزائر المعدنية والبترولية تصل أرقامها إلى حد لا يصدقه العقل، والجزائر كقطر شاسعة الأطراف، مساحتها أربعة أمثال مساحة فرنسا، وفي هذه المساحة الهائلة لا يقطن سوى ما يقرب من تسعة ملايين نسمة، ثمانية منهم على الأقل من العرب والتسع الباقي هو الذي يملك كل هذه الحضارة الضخمة. كل شيء للفرنسيين ولليهود ولا شيء للعرب، إلا أحياء كالقصبة يحشرون فيها كالسردين وينامون كل أسرة في غرفة، ويتقاضى فيها العربي المسلم خمس الأجر الذي يتقاضاه الفرنسي عن العمل الواحد.
دكتاتورية الحضارة
ولكن فرنسا لم تكن تكتفي بهذا، كان هدفها من يوم أن وضعت أقدامها في الجزائر ألا تفرنس فقط أرضها، ولكن أيضا أن تفرنس الإنسان الجزائري نفسه وتجتث منه كل ما يربطه بأهم ثلاثة مكونات من مكوناته: ماضيه ولغته ودينه؛ ولهذا فأنت تحس كلما أوغلت في البلاد وتجولت وتفحصت الحياة فيها أن هناك ما هو أكثر من دكتاتورية الجيش الفرنسي أو الاستعمار الفرنسي. إنها دكتاتورية الحضارة الفرنسية تلك التي تحكم الجزائر، دكتاتورية بكل معنى الكلمة، إلى درجة تجد القرى فيا حافلة بالكنائس ذات الأجراس ولا تلمح في بلاد المسلمين مئذنة جامع واحد، إلى درجة أن الجزائريين الذين يعرفون اللغة العربية قراءة وكتابة لا بد أن يكونوا قد تعلموها في كتاتيب تحفيظ القرآن القليلة أو خارج الجزائر، إلى درجة أني كنت أرى الشعارات تكتب على الجدران باللغة العربية وبالحروف اللاتينية، فيكتبون الشعار المشهور: «الله يرحم الشهداء» هكذا
Allah Yerham Elshouhada .
ولقد كانت الطريقة الوحيدة للرد على هذه الدكتاتورية الحضارية الفرنسية الأوروبية التي تعتبر امتدادا فرنسيا للحرب الإسبانية في الأندلس ضد العرب، وتخطى بالعدوان عبر البحر المتوسط كي تشترك فرنسا وإسبانيا في حرب صليبية ضد عرب الشمال الأفريقي. كان الرد على هذا كله أن تقوم ثورة شعبية عربية إسلامية في بلاد المغرب العربي كلها كي تدفع بهذه الدكتاتورية الأوربية الصليبية مرة أخرى عبر البحر إلى حيث جاءت، ولأن الأمور لم تكن في الشمال الأفريقي تجري كلها كما ينبغي فلقد قامت الثورة في تونس والجزائر ومراكش كما كان يجب أن تقوم، ولكن الظروف واختلاف طبيعة القيادات جعلت تونس تكتفي من الغنيمة بالحكم، وجعلت مراكش تكتفي من الثورة بالحديث عن الثورة. وهكذا أصبح على اليد الجزائرية وحدها أن تقوم بما كان يجب أن تقوم به الأيدي مجتمعة. ومن هنا ولأجل هذا تنبع خطورة الثورة الجزائرية؛ الرد الشعبي العربي الإسلامي المسلح على العدوان الأوروبي الصليبي المسلح.
ومن هنا أيضا يمكننا أن ندرك لماذا نشأت المنظمة السرية الإرهابية، ولماذا وجدت لها مرتعا خصبا في إسبانيا، ولماذا كان مركزها الأساسي في وهران حيث المستوطنون الإسبان الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية. ولماذا وهذا هو المهم يشعر هؤلاء المستوطنون وتشعر أوروبا بشكل عام بمرارة الهزيمة في الجزائر. إنها من نفس طعم المرارة التي لا تزال نحسها كعرب حين ندرس التاريخ ونستعيد ما حدث في الأندلس.
অজানা পৃষ্ঠা