كلمة
نحن في حاجة إلى كمادات!
السندباد منسي
أهم قرار
عنتر وجولييت
خواطر
في انتظار الانفجار
فنانة جديدة
وقفات سريعة أول الطريق
عمل كبير
قهر الإيمان
الرجل الذي حسدته
يوميات
سرير واحد يتنازعه 3000 إنسان
عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
مرة أخرى، عبد الوهاب والأوبريت
ليلة وراء الكاميرا
البلد، بلدنا كبر
الدعاية العملية
أيام في التليفزيون
جوائز الدولة
أنا أزاول السياسة كصحفي
قابلت سارتر في «الكافتريا»
الطبيبة التي قالت إن دراسة الطب لم تفقدها أنوثتها!
عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
بداية ونهاية مرة أخرى!
ولك مني أطيب التمنيات
لماذا نتركهم ينتظرون
3 كتب
أنخدع أنفسنا؟
الحامية وإيفان جيب والوشم الأخير
درس من سبندر
العجوز والصحراء
الشعر والبوتاجاز
الجزائر في خطر
مرحبا بزافاتيني، ولكن ...
ليس بمستوى المعيشة وحده
فيلم الخرطوم
دكتور زيفاجو
سيد درويش
واحد من مطربي العشرين مليون كادح
أمريكي يتساءل: هل عندنا حرية؟
إلى أين أيها السادة؟!
لغز صلاح جاهين
من شرفة المجلس
القنبلة الثالثة
ذرة إنسانية يا ناس
سستر أكتورا
صديقي العائد
نغمة اليوم في العراق
جربت فيه كل المذاهب
نغمة العام
البلد الذي يحكمه البروفيسيرات
المشكلة النظرية في بولندا
لا تناقض بين الخبز والحرية
التطورات الأخيرة في الجزائر ليست مفاجأة
هل انتهى الصراع في الجزائر
بن بيلا لم يحصل على 99٪
شكرا للتعبئة
في سطور
ليس اتهاما للأطباء
اللعبة القادمة
حظ الشرقية السيئ
حين كشف الدكتور أنور المفتي على القرية
كلمة
نحن في حاجة إلى كمادات!
السندباد منسي
أهم قرار
عنتر وجولييت
خواطر
في انتظار الانفجار
فنانة جديدة
وقفات سريعة أول الطريق
عمل كبير
قهر الإيمان
الرجل الذي حسدته
يوميات
سرير واحد يتنازعه 3000 إنسان
عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
مرة أخرى، عبد الوهاب والأوبريت
ليلة وراء الكاميرا
البلد، بلدنا كبر
الدعاية العملية
أيام في التليفزيون
جوائز الدولة
أنا أزاول السياسة كصحفي
قابلت سارتر في «الكافتريا»
الطبيبة التي قالت إن دراسة الطب لم تفقدها أنوثتها!
عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
بداية ونهاية مرة أخرى!
ولك مني أطيب التمنيات
لماذا نتركهم ينتظرون
3 كتب
أنخدع أنفسنا؟
الحامية وإيفان جيب والوشم الأخير
درس من سبندر
العجوز والصحراء
الشعر والبوتاجاز
الجزائر في خطر
مرحبا بزافاتيني، ولكن ...
ليس بمستوى المعيشة وحده
فيلم الخرطوم
دكتور زيفاجو
سيد درويش
واحد من مطربي العشرين مليون كادح
أمريكي يتساءل: هل عندنا حرية؟
إلى أين أيها السادة؟!
لغز صلاح جاهين
من شرفة المجلس
القنبلة الثالثة
ذرة إنسانية يا ناس
سستر أكتورا
صديقي العائد
نغمة اليوم في العراق
جربت فيه كل المذاهب
نغمة العام
البلد الذي يحكمه البروفيسيرات
المشكلة النظرية في بولندا
لا تناقض بين الخبز والحرية
التطورات الأخيرة في الجزائر ليست مفاجأة
هل انتهى الصراع في الجزائر
بن بيلا لم يحصل على 99٪
شكرا للتعبئة
في سطور
ليس اتهاما للأطباء
اللعبة القادمة
حظ الشرقية السيئ
حين كشف الدكتور أنور المفتي على القرية
جبرتي الستينات
جبرتي الستينات
تأليف
يوسف إدريس
كلمة
لم أكن في نيتي أن أفعل هذا، ولكن الأصدقاء والقراء تكاتفوا علي، وأرغموني إرغاما أن أصدر هذه اليوميات في كتاب قائلين - على سبيل الحجة: إن كل مجد الجبرتي أنه كتب يومياته عن أواخر حكم المماليك والحملة الفرنسية وما تلاها، وما كان يؤرخ لها أو يطمع أن يذكره التاريخ. كل ما في الأمر أنه كان صادقا مع انفعاله بالموقف اليومي وبالتالي المصيري لما يحدث في مصر. وقد كنت أنت - يقصدون أنا - كذلك ملتصقا بيوم شعبك أقصى الالتصاق منذ كتبت، رانيا إلى ثورة وأنواع كريمة من الحياة وضعت ثلاثة أرباع طاقتك الكتابية في يومياتها خلال الستينيات.
فكيف تترك هذا، «لدشت»، الصحف ومجلداتها؟! إنه ماض حدث في الستينيات ولكنه واقع يحدث حتى اليوم. فلماذا لا تجعل منها كتاب يوميات؟
وها أنا ذا بناء على رغبتهم أفعل.
وهذه المرة مؤمن تماما بما أفعل.
فليقرأها القارئ.
وليترك نفسه على سجيتها وهو يقرؤها ويستقبلها؛ فأنا لم أفندها حسب المواضيع وإنما حسب الوحي وتاريخ نشرها، كما تركت نفسي أنا على سجيتها وأنا أكتبها وأرسلها.
وليس لي أي مطمع في ذكر تاريخي أو أدبي.
حتى لو كانت قد استغرقت ثلاثة أرباع طاقتي أو عمري.
د. يوسف إدريس
نحن في حاجة إلى كمادات!
المناخ الفني والأدبي عامر بالتفاهات والأعمال المسلوقة والقيم المهدرة والزعيق والمدعين، وفي مثل ذلك الجو يموت الفن الحقيقي. وتتكفل مئات الدبابير بقتل النحل النادر المنتج. أما من شجاع واحد يقول كلمة الحق في هذه الضجة المحمومة؟
الحركة الفنية والأدبية تمر بفترة عصيبة لم تشهد لها بلادنا مثيلا في تاريخها. إنها في حالة حمى، درجة الحرارة مرتفعة لا من جودة الأعمال الفنية والأدبية، وإنما من شدة الزحام وعلو الضجة واختلاط الحابل بالنابل واندحار القيم. أي مخبر صحفي باستطاعته بين يوم وليلة أن يكون فنانا وكاتبا، ويقدم أعمالا للسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون. أي إنسان قرأ كتابا عن الإخراج باستطاعته أن يخرج أعمالا، فنية، يحتار في تقييمها النقاد. أي إنسان يفك الخط باستطاعته أن يؤلف أغنية تقبلها الإذاعة وتصبح من مختاراتها. أي مجموعة مقالات باستطاعتها أن تصبح كتابا محترما يناقشه النقاد في البرنامج الثاني وأعمدة النقد. أي بطل حلقات باستطاعته أن يؤلف قصصا ويضع نفسه على قدم المساواة مع شابلن. أي عازف باستطاعته أن يؤلف موسيقى تعزفها فرقة القاهرة السيمفونية. أي صاحب نجمة أو زوجها باستطاعته أن يكون ممثلا ونجما. وأي ممثل باستطاعته أن يكون مخرجا ومنتجا وأي قارئ لمقال عن الاشتراكية باستطاعته أن يكون كاتبا اشتراكيا. وأي كاتب يوميات باستطاعته أن يؤلف للمسرح والسينما والإذاعة. وأي عائد من الخارج باستطاعته أن يكون عبقريا ودكتورا في الإخراج. وأي إنسان باستطاعته أن يكون أي شيء في أربع وعشرين ساعة وربما أقل.
وأنا لا اعتراض لي على هذا كله ولا أطالب أبدا بإيقافه؛ فمن حق أي إنسان أن يعتقد أنه يصلح لأي عمل وأن يزاول هذا العمل بالطريقة التي تحلو له، بل نحن في حاجة إلى آلاف من الممثلين يجربون أنفسهم في الكتابة، وآلاف من الكتاب يجربون أنفسهم في التمثيل، وآلاف من نجوم الكرة يلعبون في البلاتوهات، وآلاف من مقدمي البرامج يصبحون مخرجين، وآلاف من الباعة الجائلين يحترفون الغناء ، وآلاف من راقصات الكباريهات يصبحن منتجات، وآلاف من المنتجين يزاولون الاقتباس والتأليف، كل هذا جائز بل وواجب؛ فمن حق أي مواطن أن يعتقد أنه فنان، وأن يفنن وأن يحاول أن يجد لفنه جمهورا.
أما الشيء الذي أعترض عليه حقيقة؛ الظاهرة التي جعلت من هذه الفوضى حمى ووصلت بوجداننا الفني إلى حد الهلوسة والتخريف، فهو موقف النقاد من هذا كله، أو بالأصح موقف الحركة النقدية؛ فالحركة النقدية في كل بلاد العالم تقف موقف الغرابيل والمناخل من الإنتاج والمنتجين. وهو موقف حيوي وخطير؛ فلولا الغرابيل والمناخل في المطاحن لأكل الناس الخبز مختلطا بالطوب والزلط والداتورة، ولأصيب الناس بالتسمم وعاش آخرون في حالة غيبوبة. إنها ظاهرة صحية هذه الكثرة من الإنتاج، هذه الرغبة في الفضفضة؛ فلقد عاش مجتمعنا أحقابا طويلة يكبت ويتقوقع على مشاكله وأمراضه وأوجاعه، وما يحدث الآن إن هو إلا محاولات لطرد هذه الأمراض والأورام إلى الخارج تمهيدا للتخلص منها وللتحرر من قبضتها ولتطهير جوف المجتمع. هي إذن ليست ظاهرة فنية ولكنها ظاهرة اجتماعية صحية، ولكن الكارثة الكبرى أنها تحدث على حساب فننا وأدبنا وقيمنا الثقافية، وقد نشفى بفضلها اجتماعيا لكي نمرض فنيا وثقافيا مرضا لا يقل خطورة عن المرض الاجتماعي؛ إذ إن هذه الإفرازات الاجتماعية التي تخرج متنكرة على هيئة «فن»، يعود المجتمع ويبتلعها بحكم حاجته إلى استهلاك الفن. وكأن المريض يعود لابتلاع طفحه المرضي.
لهذا كان لا بد للحركة النقدية أن تنشط نشاطا حادا متزايدا كي تلعب دور الرقابة الصحية الفنية، كي تميز الفن من اللافن، كي تغربل وتدقق وتشيد بالجيد وتحيل النفاية إلى أماكن حرق القمامة.
ولكن الحركة النقدية هي الأخرى وكأنما أصيبت بالعدوى؛ فقد امتد ادعاء التأليف إلى ادعاء النقد حتى أصبحنا كلنا نؤلف وننقد ونتعصب ونتظاهر ونصرخ ونتشنج وندوس القيم الفنية بأرجل الحاقدين أو أرجل المجاملين والمطيباتية، وكله عند العرب صابون، كله «شرب»، ولا مانع أن يصبح الشرب إسهالا وكوليرا ووباء يطيح بكل شيء، ماذا يهم ما دمت سأجامل بنقدي صديقا أو سأهاجم عدوا أو شخصا ثقيل الدم؟ وهل أنا كاتب قصة لأحرص على القصة أو كاتب مسرح لأفكر في مستقبل المسرح، أو مسئول عن صناعة السينما أو الإذاعة أو التليفزيون لأحرص على مستقبل هذه الأدوات؟
والنتيجة أننا حققنا نظرية الكم في العبقرية، فأصبح عندنا ألف كاتب عبقري، وألف مخرج عبقري، ممثل عبقري، وألف ناقد عبقري، ومليون كاتب، مخرج، ممثل، ناقد، صحفي، إذاعي، تليفزيوني، سينمائي، عبقري.
أيها السادة، إننا في حالة حمى شديدة وصلت إلى المراكز العليا في عقولنا الفنية ولم يسلم منها حتى كبار النقاد، ولم نعد نستطيع في حالة الهلوسة تلك أن نميز الخبيث من الطيب أو نقول كلمة الحق. وإذا كانت هذه الحمى مصحوبة بتضخم في حركتنا الفنية والأدبية فهو تضخم كالأورام السرطانية بلا هدف، ولا يمكن أن يكون شيئا نافعا لجسد أمتنا، بالعكس إنه ينخر في وجدان شعبنا ويمتص رحيقه، كل ما نطلبه الآن أن نضع فوق رءوسنا جميعا كمادات من الثلج البارد، كميات هائلة من الثلج، ثلج الحقيقة والصدق، ثلج الضمير، تخفض من هذا الغليان وتوقف التخريب كي نعود نرى قيمنا الفنية المهدرة، كي نعود نحس بالمسئولية، كي نندفع في إزجاء آيات إشادة أو حب الهجوم دون وازع أو خجل من النفس. إننا في حاجة إلى رجل عاقل واحد في وسط هذا المولد كله. أو إلى مجموعة من الرجال العاقلين تعيد حركتنا الفنية والأدبية إلى صوابها. فلا يغرنا الضجة الفنية الشديدة من حولنا فإنها ضجة بائعين جائلين، وكلاكسات نفاق، وخناقات كخناقات السوق سببها دائما الخلاف حول السعر والمصلحة. أما التقدم الحقيقي فلا وجود له بالمرة، في المسرح نحن لا زلنا نحيا على الثورة المسرحية الأولى التي حدثت في أعقاب العدوان، وفي السينما نحن لا زلنا في عصر حسن الإمام، وفي التليفزيون لا زلنا عند تمثيليات الإذاعة، وفي الإذاعة لا زلنا عند حواديت الشاطر حسن، وفي التمثيل لا زلنا عند مدرسة زكي طليمات، وفي الإخراج المسرحي لم نقم إلا ببضع تحسينات تكنيكية ولكنا بعد لم نصل إلى أسلوب خاص بنا. وبشكل عام نحن قد تركنا جانبا مرحلة الخلق الفني وانتبهنا جيدا لمرحلة المتاجرة في الفن، أما النقد الفني فإني أترك النقاد لضمائرهم.
إني أعرف تماما أن كلمتي هذه ستثير ثائرة المستفيدين الكثيرين من هذه الفوضى المحمومة، ولكني أعرف أيضا أنها ستكون بردا وسلاما على قلوب الفنانين الحقيقيين الحريصين على إنقاذ الفن من حمى الفن، وإنقاذ النقد من هلوسة النقد، وإعادة الوعي إلى ضميرنا الثقافي الغائب؛ إذ الوضع جد خطير؛ ففي مثل ذلك المناخ الموبوء المحموم لا يمكن أن يظهر عمل فني حقيقي، أو إن ظهر فإنه حتما سيضيع في ضجة الكلاكسات والأبواق والصراخ والعويل القائمة الآن على قدم وساق.
السندباد منسي
إنه ليس في حاجة لكلمة عابرة، إن مغامراته في حاجة لكتاب. إن اسمه يسبقه الآن عدد كبير من الدرجات العلمية وشهادات الدكتوراه، ولكنك لو جلست تسمعه لتوارت مغامرات السندباد البحري والبري والجوي أيضا. لقد كان طالبا في كلية الآداب بالإسكندرية وعرف أن هناك رحلة إلى إنجلترا نظمها المعهد البريطاني بتسعة وعشرين جنيها لمدة ثلاثة أسابيع، وقبل الامتحان بشهر اشتغل في شركة الغزل كعامل لوزن القطن ليدبر المبلغ. ولم يستطع فظل يبحث حتى وجد «واسطة» لقبطان الباخرة الذي عهد إليه بعمل على السفينة في مقابل أجرة سفره، ووصل إلى هناك. وفي خلال الأسابيع الثلاثة استطاع إتقان الإنجليزية إلى درجة أن قيدته جامعة ليفربول بين طلبة الماجستير، وقبل أن تنتهي المدة كان قد وجد عملا «كجنايني» عند أحد ثراة مدينة ليفربول، وجنايني بعد الصبح وطالبا بعد الظهر، ثم كعامل في مصنع السكر الوحيد هناك. استطاع أن يحيا بين العمال الإنجليز ويصاحبهم ويدرس أدق تفاصيل حياتهم ولغتهم ومشاكلهم، ولكنه فصل من الجامعة لاكتشاف أنه يعمل، فقابل المدير وأقنعه بأن يعيده إلى أن ينال الماجستير، ونالها، ونال الدكتوراه ثم انتقل إلى لندن ووجد أن الدكتوراه في الأدب العربي سهلة جدا ولا تحتاج إلا لمعلومات قليلة فأخذها بالمرة، ورشح نفسه في اتحاد الجامعة وأصبح السكرتير، وأقام مناظرات عرفته بعدد كبير جدا من شخصيات المجتمع الإنجليزي، وتحدى مرة ويشارد كروسمان عضو حزب العمال البارز واتهمه بمناصرة إسرائيل على العرب، وصادق إديث سمر سكيل وبربارة كاسل الكاتبة والنائبة العمالية الذائعة الصيت، وهاجم إيدن في وجهه في أثناء العدوان واتهمه بالخيانة علنا وأمام الطلبة من أعضاء حزب المحافظين، وصادق الكاتب المسرحي بيكيت، وعشق التأليف المسرحي فكتب رواية متواضعة جدا وجعل بيكيت يسهر أسبوعا بأكمله يسمعها منه، وتعرف إلى ابنة عم ملكة بريطانيا الأميرة ألكسندرا حتى دعته في حفلة عيد ميلادها. وفي الحفلة التي لم يحضرها سوى أعضاء الأسرة المالكة البريطانية وجد الملكة إليزابيث الأم واقفة فتقدم منها وطلب مراقصتها فقبلت ورقصت عدة مرات معه. وخرجت الصحف البريطانية تتحدث في اليوم التالي عن «الأمير الباكستاني» الذي كان المدعو الوحيد الغريب في حفلة عيد الميلاد. وكان مارا من أمام قصر سان جيمس مرة فوجد أضواء القصر متلألئة والعربات الفخمة تقف وينزل منها مدعوون تبدو عليهم سيماء الوقار والخطورة، فقال لنفسه: وإيه يعني؟ ودخل القصر ووجد الحاضرين يقفون طابورا طويلا ليسلموا على الملكة فانضم إلى الطابور، وحين اقترب منها همس له سكرتير الملكة الخاص ألا يبدأ الملكة بالحديث وأن يكتفي فقط بردود مؤدبة على كلماتها، ولكنه حين وصل إليها بدأها بالحديث وسألها عن صحتها وكيف قضت الليلة في القطار إذ كانت قادمة من اسكتلندا خصيصا لحضور هذه الحفلة المقامة لأعضاء الوفود البرلمانية. ويقول الدكتور منسي صاحب هذه المغامرات: ويبدو أن الملكة وجدت في أسئلتي راحة عظمى إذ كانت طوال الوقت تحيي رؤساء الوفود تحية رسمية مقتضبة وعلى فمها ابتسامة رسمية. وما كدت أبدؤها بذلك الحديث العادي حتى انطلقت تتكلم معي. وسألتها عن ولي العهد الصغير وكيف صحته وهل هو شقي مثل بقية الأطفال؟ وانطلقت تحكي قصص شقاوته، وتروي لي كيف استطاعت أن تنام في القطار رغم الضجة. ثم سألتها خلسة عن الحفلة وكم من المجاملات عليها أن تتحملها؟ واستمر بيننا الحديث أكثر من ربع ساعة. كل هذا والطابور الطويل واقف ينتظرني أن أنتهي ويتململ. وجاء السكرتير الخاص ولكزني طالبا مني أن أفسح الطريق لغيري ولكني لم أبال به فقد كان الحديث شائقا وكانت الملكة منطلقة. وحينئذ وجدت شخصا يضع يده على كتفي على هيئة خبطة مفاجئة، والتفت وإذا به زوج الملكة الذي جرني بعيدا وهو يسألني عن أحوالي ومن أي البلاد أنا. وأنا الآخر أسأله عن أحواله وأقترح عليه أن يعمل نجما تليفزيونيا (إذ كنت قد رأيت له برنامجا تليفزيونيا تحدث فيه عن العلم وكان موفقا جدا) فيما لو حدث وأعفوه من منصبه كزوج للملكة. وجعلني الربع الساعة الذي قضيته أتحدث مع الملكة والربع الآخر الذي قضيته أتحدث مع الأمير زوجها محط أنظار جميع رؤساء الوفود وكبار رجال الأعمال واللوردات الحاضرين، فأخذوا يتسابقون في التعرف إلي ودعوني إلى منازلهم وحفلاتهم. ولو كان في نبتي أن أنصب عليهم لاستطعت هذا بسهولة وأصبحت بين يوم وليلة نجما من نجوم المجتمع الإنجليزي.
ولا تنتهي قصص الدكتور منسي عن مغامراته مع العائلات المالكة، ونجوم المجتمع البريطاني وغير البريطاني، تلك التي أتاحت له أن يكون صديقا شخصيا لمعظم الوزراء البريطانيين والكتاب الإنجليز: بيكيت وبنتر ووسكر وجون آسبورن، ومشاهير الممثلين فهو صديق شخصي للورنس أوليفييه وأورسون ويلز، والمؤرخين من أمثال أرنولد توينبي، هذا عدا ماكميلان وهيوم وويلسون وبيفان. وليس النجوم فقط فقد اشتغل لمدة خمسة أعوام مع العمال والشعب الإنجليزي واخترق المجتمع طولا وعرضا وعرف كل خباياه ومشاكله.
ولقد قضيت ليلة حافلة أستمع فيها لمغامرات الدكتور منسي، وكان الشك كثيرا ما يتسرب إلى نفسي وأحاول السخرية من مغامراته ولكن - وهذا هو الغريب - كان ثمة صديق سوداني لا أشك لحظة واحدة في صدقة قد عاصر الدكتور منسي في مغامراته ورآها رأي العين، وكان يؤكد لي أن كل حرف يقوله صحيح وأنه لا يبالغ أبدا.
أتعرفون السر في هذا النجاح الساحق الذي لاقاه الدكتور منسي في إنجلترا؟ السر بسيط جدا، لقد أتقن الحديث بالإنجليزية وعلى الطريقة الإنجليزية إلى درجة مذهلة، وكان هذا وحده جواز مروره.
أهم قرار
لا أعرف لماذا ترتبط الوحدة وأعيادها في نفسي بدمشق. إنك كلما زرتها أحسست أنك في قلب عربي نابض موحد. ولقد أتاحت لي الظروف أن أزور دمشق في أعوام 54، 56، 58، وكنت كلما ذهبت إلى هناك أجد نفسي وكأني فجأة قد أصبحت في قاعة كبرى ينعقد فيها مؤتمر عربي دائم لمناقشة شئون العرب وقضاياهم ويبحث عن حلول عاجلة لها، كنت أجد في دمشق مكافحين عربا من كل مكان، من العراق أيام نوري السعيد، ومن لبنان، من الأردن، من بيروت واليمن وإمارات الخليج، ومن المهجر ومن كل مكان، وأجدهم في حالة جدل متحمس مستمر، حتى في أثناء الفراغ يحيلون جلسات القهاوي والغوطات إلى لجان تتفرع عن المؤتمر الكبير، تدرس فيه القضايا على صعيد البحث الهادئ ولا ترتبط بجدول مكتوب.
ولم يحدث مرة أن شهدت في دمشق أمرا من أمور العرب يناقش على أساس محلي، أو إقليمي. وكان يدهشني ويسعدني معا تلك الإحاطة التامة من رجال دمشق وشبابها بكل ما يحدث في أي قطر من أقطار العالم العربي فلا أعجب أبدا حين أجد القاهرة التي خلفتها، أمامي في دمشق. وفيها أيضا بيروت ومشاكل بيروت، وبغداد وكل ما يجري في بغداد، ولا أعجب حين أجد الطالب اليمني متوهج الحماس يناقش مع مدرس مصري أوضاع الأقلية والأغلبية في لبنان. لا أعجب؛ فكل من يطأ أرض دمشق يتكفل مؤتمرها الكبير الدائب بأن يخلع عنه أثوابه الخارجية المصنوعة التي جاء بها، ويصبح عربيا كما ولد وعاش، مسئولا عن قومه العرب كما لا بد أن يكون الابن البار.
لهذا، فالحقيقة أن قيام الجمهورية العربية المتحدة، وإعلان الوحدة، لم يكن بالنسبة لدمشق سوى إقرار أمر واقع عاشته المدينة ولا تزال تحياه وترعاه، وتذود عنه.
ولهذا أيضا لا أستغرب أن يسافر جمال عبد الناصر في كل عيد من أعياد الوحدة إلى دمشق؛ إذ هو لا يفعل هذا كرئيس جمهورية، ولا يجامل دمشق بالتهنئة والزيارة. إن ذهابه إليها اشتراك واجب في المؤتمر الدمشقي الكبير. وحين يهتف أهل دمشق: بدنا كلمة من جمال. إنما هم في الحقيقة يريدون بيانا، يريدونه أن يناقش حجج أعدائهم أعداء العروبة، يريدون أن يعرفوا منه خطة الغد، يريدون حسابا عن المكاسب والخسائر إذا كانت هناك خسائر.
ولقد تعودنا أنه ما تكاد تنقضي بضعة أيام، أو حتى ساعات، على حضور جمال عبد الناصر لذلك المؤتمر إلا ويكون ثمة قرار قد تمخض عنه المؤتمر، واتخذ. ولقد كان القرار هذه المرة واضحا وصريحا، وجاء في وقته، إنه بعد ذبح لومومبا لم يبق ثمة مجال للمساومة والحياد وأنصاف الحلول. لقد ذبح لومومبا في الجبهة الأفريقية، والذي ذبحه هو عميد الاستعمار تشومبي.
ولقد قام العرب قومة رجل واحد ومعهم الشعوب الحرة من كل مكان يصبون غضبهم على تشومبي. وقد اتضح أن العملاء لا يقلون خطرا على الحرية من الاستعمار نفسه. هذه الثورة على العملاء في أفريقيا كان لا بد أن تنتقل وتصبح ثورة على العملاء في الشرق العربي. والوضوح الذي رأينا به حقيقة تشومبي وقذارة دوره كان لا بد أن يجعلنا نفيق ونبدأ نتبين حقيقة العملاء هنا مهما تنكروا واستخفوا.
إن خطورة هذا المؤتمر الدمشقي الكبير أنه ربط بين كفاح العرب وكفاح أفريقيا، وبين أمريكا في الكونغو وأمريكا في الوطن العربي، وبين يد الاستعمار ووسائله المجرمة هناك ويده ووسائله هنا، وبين تشومبي وكازافوبو وموبوتو وبين زملائهم وأشباههم عندنا. خطورته أنه أدرك أن لومومبا مرحلة وبداية مرحلة، واستشهاده رمز وكذلك ناقوس خطر، وبطولته أنه ضحى بنفسه وكان يعرف أنه يضحي بنفسه ليصرخ فينا قائلا: يا من لا زلتم تؤمنون بعدالة الاستعمار وتفاهة أعوانه، يا من لا زلتم تتوسمون الخير في الأمم المتحدة وأمريكا، يا من تثقون بالغرب وفرنسا، ها أنا ذا أموت، ها أنا ذا أمام أعينكم يطلق علي الاستعمار رصاصه وبخناجره يذبحني لكي أنقذكم من نفس المصير. إن الكلمة التي لم أستطع أن أقولها بلساني ها أنا ذا أقولها بدمي. ليست هناك طريقة لمواجهة الأعداء إلا معاداتهم، والنصر لا يأتي إلا بحربهم، فإذا تهاونا متنا.
إن خطورة هذا المؤتمر الدمشقي الكبير أنه قد انعقد ليتخذ قرارا واحدا؛ أهم قرار، أن يكون موقفنا من المعركة الوطنية واحدا في كل مكان وزمان - أن ننصر لومومبا أنى وجد لومومبا، وأن نعادي كازافوبو بأي اسم يوجد به كازافوبو. لقد كنا نستنكر بشدة هذه الشتائم التي يكيلها الاستعمار وأعوانه للومومبا لا لشيء إلا لأن لومومبا كان يدافع عن استقلال بلاده وشعبه ويهاجم الاستعمار عدوه، فلماذا نقف موقفا مختلفا من الهجوم الذي يشن على قيادتنا الوطنية هنا، لقد كان للومومبا أخطاؤه، ولا أحد معصوم من الخطأ، ولكنا بعد درس لومومبا لا بد أن نؤمن أن الهجوم على أي وطني لا يمكن أن يكون إلا بوحي وبخطة من الاستعمار. وإذا كان لقيادتنا أخطاء فمبجرد أن يعددها الاستعمار ويذيعها لا بد أن نراها فضائل.
بل حتى الوقوف على «الحياد» في هذه المذبحة القائمة بيننا وبين الاستعمار جريمة، إن فرنسا لا تقف على الحياد مع أمريكا، وعميلها في برازافيل الكونغو الفرنسي يناصر تشومبي. إن الاستعمار لا يحايد بعضه، إنه ينصر بعضه، ويتآمر جماعة، ويوزع الأدوار ويذبح ويقتل بلا أي ذرة رحمة. فإذا كان بعضنا يريد أن يقف موقف المتفرج من المعركة فموقفه لا يخدم إلا الاستعمار، ولا يمكن أن نعامله إلا كما نعامل الاستعمار. لقد ظللنا نئن ونصبر لمئات السنين حتى جاء وقتنا هذا الذي بدأت فيه شوكتنا تقوى وتضعف فيه شوكة الأعداء، ولا يمكن أن نسمح لخلافاتنا او حزازاتنا أو مشاكلنا الصغيرة أن تحول بيننا وبين النصر في معركتنا الكبيرة. ولا يمكن أن نتذكر الأخطاء ونختلف حول الأسماء والأشخاص وننسى العدو، وننسى المعركة؛ فالعدو ينسى خلافاته ويتذكر المعركة دائما، ويحاربنا تحت رئاسة أيزنهاور وتحت رئاسة كنيدي وبديجول وغير ديجول، وبقيادة إيدن وحين ذهب إيدن؛ إذ كل ما يهمه أن يهزمنا، لا بد إذن أن يصبح كل ما يهمنا أن نهزمه؛ فنحن نحارب للوطن، والوطن باق وكلنا ذاهبون، والنصر، استقلالنا وكرامتنا وحريتنا أكبر وأضخم من أن يسجلها التاريخ لشخص أو لأشخاص، إن التاريخ مضبطة الشعوب.
عنتر وجولييت
أوقعني كتاب فننانا الكبير يحيى حقي في حيرة شديدة؛ فلقد أغلقت الكتاب بعد قراءته وظللت في حالة تفكير مستمر أتساءل عن دور الكاتب وماهية القصة والحد الفاصل بين الفن والحياة والقبح والجمال. إن يحيى حقي ليس كاتبا سهلا يقول لك حقائق سهلة بوجهة نظر محددة ويريحك. لقد شقيت وأنا أقرؤه بمقدار ما سعدت، ودخت بمقدار ما اهتديت، وحاولت أن أبحث بين السطور عن يده البيضاء الصغيرة تهديني، وكلما أوشكت أن أمسك بها أجده قد أشاح عني في حركة ماكرة، وابتسامة أب طيب يريد أن يعلم أولاده الحياة، ويقول: أتحب الخلاص بهذه السهولة؟ جرب وذق وتعلم وقاس. وإذا أردت الخلاص فلا تنشده عندي، أوجده بنفسك، وعلى نفسك اعتمد.
إيه أيها الفنان الغامض الابتسامة، ماذا فينا يعجبك، وماذا فينا تخرج له لسانك المؤدب، وماذا في حياتنا يثيرك ويجعلك تستعمل هذه الطاقة الخارقة من الدهاء الفني لكي تخفيه، ولكي تسخر فتحس بسخريتك لا تضحك فتعقبها بدمعة حزينة سريعة تجعلنا ندمع، وتقلب فرحنا مأتما؟ أي مكان تحت الشمس تختار، وحين تغوص لماذا تغوص، وما الحكمة التي تستخرجها وتضعها بعيدا لنا، في جزيرة نائية، لكيلا يظفر بها إلا الجسور؟ حيرتني يا رجل.
أأنت عالم فن أم فنان عالم؟ هل هدفك أن تخلق جمالا لا تجده، أم أنت قاضي حياة تنقد، وتصدر حكما لا تعلنه وتبقيه لآخر جلسة قد تنتهي أعمارنا قبل نهايتها؟ بينما أنت ماض في تأمل المتقاضين تراقب الدنيا بأكثر من عين، ولك أكثر من فؤاد، وللحزن عندك رنة فرح، وللأفراح عندك مرارة الأحزان، والحياة سرك، كالمقطف المقلوب يتشقلب تحته الناس، ويولدون، وأحيانا ترتفع صرخة: فلان مات، صرخة واحدة فقط؛ إذ البلياتشو يخرج بعدها ليطلق ضحكة، ضحكة واحدة فقط، يعود بعدها كل ما في السرك إلى ما كان عليه؟!
يحيى حقي هنا لا يريد أن يحكي لنا. هو يحكي عنا. ويتأملنا، وكل أملي ألا يكون يتأملنا من خلف منظار ما؛ فهو نفسه يصف - بروعة - شعور من يضع النظارات، فيقول: «ستبدو لك الأشياء كأنما انتزعت من عالمها واقتلعت من جذورها وفقدت عصارتها، وأصبحت مصاصا تشاهده كزائر متحف للنماذج المصنوعة تقليدا مكبرا أو مصغرا لما خلق الله.»
إني خائف أن يكون الأمر كذلك، خائف أن يكون يحيى حقي قد بدأ يرانا على ما نحن عليه، على حقيقتنا؛ فحتى لو كانت لنظرته كل صلابة الحقيقة ونفاذها، فالإنسان لم يبتكر الفن إلا ليقيم الحقيقة الثانية، إلا ليضع البعد الآخر للواقع؛ إذ لو كان للواقع بعده الواحد المحدود الذي نراه لما احتمله الناس ولاستعذبوا الموت من زمن. فإذا كان الواقع هو الحقيقة الموجودة رغم أنف الإنسان، فالفن هو الحقيقة التي يوجدها الإنسان بنفسه ليصبح بها أقوى من الحقيقة الموجودة برغمه!
يا فناننا الكبير، إني لفرط حبي لك والإعجاب بك، أختلف هذه المرة معك.
خواطر
كلما سمعت صوت الشاعر أحمد خميس يذيع في التليفزيون إعلانات «أومو» ويقول أومو، ينظف أسرع، أزداد إدراكا لخطورة الأزمة التي يمر بها الشعر عندنا. الشاعر أيام زمان كان مفخرة القوم والقبيلة، لا يكاد ينطق الشعر حتى تقيم عشيرته الأفراح والاحتفالات، ويأتي الناس ليقدموا لها التهاني، وربما لهذا كان الشاعر يجيد أكثر وأكثر؛ فقد كان يحس أنه لا يعبر عن نفسه فقط، وإنما يعبر عن قومه وتراث قومه وانتصاراته.
لا بد أننا تطورنا تطورا كبيرا، حتى أصبح الشاعر عندنا يعبر عن محاسن أومو، ويفعل هذا وهو محسود؛ فلا بد أن شعراء كثيرين يتمنون أن يصبحوا في مكانة أحمد خميس، ويحسب ما ينطقون به باعتبار الدقيقة بجنيه أو أكثر. لا بد أننا تطورنا حتى أصبحت حاجتنا للشعر، مساء الخير أيها التطور، مساء الخير أيها المنظف أسرع.
في انتظار الانفجار
قبيل الظهر وقفت مع أكثر من مائة مواطن أمام إحدى القهاوي البلدية نسخط على الأصوات المضغوطة الصادرة عن جهاز الراديو المصنوع قبل الحرب، ونتساءل كما يفعل الصائمون ساعة المغرب في رمضان: ترى هل انفجر الديناميت؟
كان بعضهم يؤكد أنه انفجر ويقسم أنه سمعه بأذنيه، والغالبية تحدق في ساعاتها وتصر على أن الانفجار لم يتم بعد، ونحاول كلنا أن نظفر بالحقيقة من الراديو فنجده آخر ما يصلح لإخبارنا بالحقيقة؛ فصاحب القهوة، احتفالا منه بالمناسبة، قد فتحه على آخره فبدا صوته كأصوات «الهتيفة» في المظاهرات حين تنبح وتتحشرج ولا يعود يميز بين كلماتها شيء على الإطلاق.
ورغم ما اعترانا من سخط، فلم نكن نستطيع أن نغادر أمكنتنا ونذهب إلى قهوة أخرى ذات راديو سليم البنية والصوت، مخافة أن تفوتنا اللحظة الحاسمة. كانت قوى أكبر منا ومن إرادتنا تسمر أقدامنا في الأرض وتسمر آذاننا على الميكروفون وتهيب بنا أن ننتظر ونترقب ونصمت ويسكت بعضنا بعضا حتى يحدث ذلك الحدث الذي أجبرنا على نبذ مشاغلنا و«مشاويرنا» والوقوف في انتظاره. وطالت الوقفة، وفرغت من تأمل كل من حولي من المترقبين، الجمع الواقف متنافر الزي متنافر السحنات. جرسون القهوة، كلما دوى صوت غير عادي في الراديو وقف في مكانه ثابتا ينصت رغم كل ما يحمله من طلبات، بائع الذرة المشوية الذي كف عن النداء على ذراه، العمال المنهكون في التهام سندويتشات الجبنة القديمة والطعمية بلا شتائم أو هزار، الجميع قد جذبهم جاذب خفي لعله الرابط الوحيد بينهم أيضا. أحاول أن أسمع وأتفرج وأتأمل ولا أستطيع أن أمنع آلاف الخواطر أن تدور في رأسي. أجل، ما أشد حاجتنا إلى ذلك الصوت المرتقب. فليحاول أي منا أن يتصور مستقبلنا وماذا يكون عليه لو لم يكن هناك سد عال يكهرب البلاد ويصنعها؟ إن حاضرنا مزدحم مختنق. امش في أي حارة وعد ما فيها من دكاكين وتصور كيف يتناحر عشرات بقاليها الصغار وجزاريها ومكوجيتها من أجل الحصول على اللقمة. وأكثر من هذا أجيال لا تعد ولا تحصى نشأت بعد الحرب وترعرعت وتعلمت وتخرجت بتعليم كامل وبنصف تعليم وربعه وبلا تعليم. سواعد الأبناء الذين كانوا بالأمس أطفالا اشتدت وامتلأت وأصبحت تطلب العمل، ولا عمل. إلى أين يذهب كل هؤلاء وكيف يأكلون وهم لا يعملون؟ وحتى من يعملون كأنهم لا يعملون، مأساة أبشع ما فيها أننا نحياها حقيقة ونعانيها، أزمة لا مخرج منها إلا بالمصانع، مصانع كثيرة لا بد أن تفتح أفواهها لتبتلع كل هذه السواعد.
آلاف الخواطر تدور برأسي، وآلاف الرؤى تتجاذبني وعيني لا تغادر الحشد الواقف معي يتابع الحدث الهائل الضخم الدائر في أسوان والراديو العيي ينقله إليه عبر الأثير، في كل وجه تعبير ظاهر أو خفي، وكل يد مشغولة بطعام تافه أو بعمل أتفه، وفي كل صدر أزمة؛ أزمة تخنق تعابير الوجه وتشل الأيدي وتكاد تشق الثياب وتنفجر. ظللنا واقفين نتسمع ونسخط فكل ما يدور في الراديو كلام، كلام كثير، مجرد كلام أحاله الجهاز القديم إلى جعجعة متشابهة متصلة لا تسمن ولا تغني من جوع. •••
وفجأة، هكذا فجأة دوى انفجار، انفجار طغى على الجعجعة المتصلة وأسكتها؛ انفجار واضح وصريح ولا خلاف عليه وقف له الجالسون في القهوة، وتطاول له الواقفون وأرهفوا الأسماع، بالضبط؛ إنه الانفجار الذي طال ترقبنا له، الانفجار الذي متنا وحيينا ونحن نعاني في سبيله ونصبر ونقاوم ونستشهد ونغفر ونصهين، الانفجار الذي تحملنا من أجله وقلنا: كله يهون. ها هو ذا حقيقة واقعة يهتز لها صندوق الراديو القديم وجدران المقهى المتداعي وتدق لوقعه طبول الآذان.
وثانية واحدة استغرقها السكون.
وفجأة أيضا دوى انفجار آخر؛ ضجة عظمى تصاعدت من داخل القهوة وخارجها والواقفين والجالسين. صيحات فرح هستيرية، وهتافات، وكلمات من وحي اللحظة لا معنى لها تطايرت، وألف مبروك ملأ أزيزها المكان.
وإذا كان الانفجار الأول قد تلاشى من الراديو بعد وقت وانتهى فالانفجار الثاني كان بداية انفجار. القهوة التي كان حديثها طاولة وكوتشينة ويا عم سيبك ونكات فاضيين، أصابتها حمى، أقفلت الطاولات، وفقدت الفرجة على الكومي والبصرة أهميتها، ونبتت على المناضد عشرات المصانع، وأصبحت رقاب الشيش مداخن، ودخانها ألذ، والحديث اليائس المتثائب عن الفلس أصبح حديثا جادا مصرا عن الشغل، وضرورة الشغل، لقمة العيش وحتمية اللقمة. الديناميت الذي فجر الأرض ليبنيها سدا في أسوان فجر الأزمات الرابضة في الصدور ليحيلها إلى معاقل أمل وإرادة. ليحيل الاستسلام إلى إقدام، والغد إلى واقع، واليوم الجاثم على الصدور إلى مضغة للغد؛ مضغة لا بد أن تستحيل إلى غد. وفي الإمكان تشكيلها بأيدينا.
انفجار عم الناس وكأن إنقاذهم كان لا يمكن أن يتم إلا بمعجزة، وكان السد هو المعجزة، وكأي معجزة كان مشكوكا في قيامها وحدوثها، ولا يعرف أحد على وجه الدقة ما حدث، ولكن الديناميت حين انفجر فزلزل الأرض وأرعد السماء، لكأنه صنع الظواهر الكونية التي تصاحب ظهور المعجزة، وقدم الدليل الملموس على إمكان تحقيقها.
تركت القهوة والانفجار لا يزال يكبر باسمه وبحياته. حياة ذلك الرجل الذي كظم آمالنا في صدره وظلت لا تهدأ حتى أملى وجودنا على التاريخ وأملاها، بالأمس أمم واقعنا بتأميم القناة واليوم ها هو ذا يؤمم أحلامنا ببناء السد.
لم يبق إلا أن يؤمم أمانينا.
فنانة جديدة
حين رأيتها ترقص على المسرح خيل إلي أنها لا يمكن أن تكون كائنا حيا مثلنا من دم ولحم وأمعاء، كانت كأنها جنية لها نفس القدرة الخارقة التي نتصورها عن الجنيات. قدرتها على التحكم في جسدها وكيانها. اسمها كاليريا فيدتشفيا نجمة من نجوم فرقة باليه ليننجراد. كانت تمثل دور الساحرة في باليه «زهرة الصخر» وكان إتقانها للتعبير بجسدها كاملا إلى درجة يكاد الإنسان يفقد معها الإحساس بجسدها أو بوجودها فلا يشعر إلا بالمعنى أو العاطفة التي تعبر عنها.
ولم أستطع أن أمنع نفسي بعد انتهاء الباليه، وقابلتها، كنت أريد أن أعرف منها تفاصيل تلك الرحلة الشاقة التي تخلصت فيها من ذاتها، التي صنعت فيها من جسدها، من أذرعها وسيقانها وأناملها، ذلك الجهاز الرائع في حساسيته الذي يشع العواطف التي يريدها بإرادته وينقلها مجسدة معزوفة خالصة إلى الناس، فينسون أنفسهم ويحيونها، وتفرحهم وتشقيهم بمجرد أن تحس هي بالشقاء أو بالفرحة. وما أكبر الفارق بين الصورتين، كاليريا التي خطفت وعيي على المسرح كانت وراء الكواليس إنسانة دقيقة رقيقة ذات ابتسامة مؤدبة خجولة؛ إنسانة احمر وجهها حين سألتها عن نفسها، وتلعثمت حين طلبت منها «كما جرت عادة الأحاديث الصحفية مع النجوم» أن تذكر لي ما تحبه وما تكرهه، ورأيها في الملاية اللف، والواقع أني بعد ثوان كنت أنا الذي أتعثر من خجلي. كنت أمام راهبة فن لم تأت إلى القاهرة «لتتفرج» على المصريين أو أهرامهم وحريمهم، فنانة جاءت كما قالت لي كرسول صداقة بين شعبين و«لتقدم في تواضع بعض الإنتاج الفني السوفييتي لجماهير الشعب العربي.» تتحدث وهي تدخل ساقيها في جوربين من الصوف الرخيص لتحفظ حرارة عضلاتها استعدادا للرقصات القادمة، وأحاول أن أشيد بموهبتها وعبقريتها فتخجل كأنها أهينت، وتكاد تغضب وتقول: هذه مجاملة أشكرك عليها فلا عبقرية ولا شيء، مجرد تمرين. لي عشرون عاما وأنا أتمرن لمدة لا تقل عن سبع ساعات في اليوم الواحد. وأسألها لماذا اختارت الباليه، وهل والدها هو الذي أدخلها؟ فتقول ببساطة إن أباها عامل مصنع، وإنها دخلت المسابقة التي تقام للأطفال لاختيار من يصلحون لمدارس الباليه، وكل عبقريتها أن الاختيار وقع عليها. - والفن يا آنسة كاليريا ما رأيك فيه؟ - دراسة وإصرار وتمرين. - والوحي والإلهام؟ - ليس هناك إلا الإرادة. - والمودة؟ - أنا أفضل أن أغير أفكاري الخاطئة وأجدد وأبتكر في ثقافتي. - هل وقعت في الحب؟ - كان حبي للباليه دائما أقوى. - وهدفك في الحياة؟ - أن أجيد رقص الباليه. - ألم تجيديه بعد؟ - طبعا أنا لا أزال مبتدئة!
والمشكلة أنها كانت تعني ما تقول.
أليست كاليربا نموذجا لفنانة جديدة من عالم جديد!
وقفات سريعة أول الطريق
بدأت أومن بأننا وضعنا أقدامنا على أول الطريق الحقيقي لاستعادة فلسطين حين تم عقد الندوة العالمية في القاهرة، بدأت أحس أننا «نتحرك» تجاه الهدف؛ فالمهم هو الحركة الدائمة تجاه الهدف. المهم ليس هو الحق، فكم من حقوق ضائعة في هذا العالم وميتة، المهم هو السعي لاستعادته، هو الحركة تجاهه.
كل ما في الأمر أني أعتقد أن القيام بهذا العمل الضخم، عقد الندوة كان يجب أن تسبقه عملية تحضير ضخمة لعقدها، وذلك بالانقضاض على الأوكار الصهيونية في قلب أوروبا وأمريكا. إننا نرتكب خطأ ضخما حين نفقد الأمل تماما في أوروبا الغربية وأمريكا؛ ففي هذه البلاد التي تحكمها البورجوازية والرجعية يوجد أناس ومنظمات لا بد من كسبها لقضية فلسطين؛ لأنها ربما انحازت للصهيونية بدافع غياب الطرف الآخر؛ العرب، وغياب حججهم ومنطقهم، ثم إنه لا يكفي أن نحظى بالتأييد الرسمي للدول الاشتراكية وكثير من دول آسيا وأفريقيا للقضية؛ فلا بد من الوصول إلى الجماهير في تلك الدول وإقناعها بوجهة نظرنا.
لا يكفي لاستعادة فلسطين أن تكون قضية فلسطين قضية عربية، وإنما لا بد أن تصبح القضية قضية إنسانية عالمية بالدرجة الأولى. والندوة العالمية المنعقدة في القاهرة هي بداية الطريق، أروع بداية.
عمل كبير
من أروع الأعمال المسرحية التي شاهدتها على المسرح المصري مسرحية «بلدتنا» لثورنتون وايلدر، ولا أعني روعتها من ناحية التأليف وإنما من ناحية الإخراج والتمثيل. لقد أحسست أن جيلا جديدا قد نشأ حقيقة في المسرح، وأن جهود حمدي غيث لم تذهب سدى، وأن المسرح القومي أصبح لأبطاله الكبار منافسون خطرون في تلك الأجيال الجديدة الصاعدة.
لقد فوجئت بأن سمير العصفوري الذي أخرج المسرحية تخرج هذا العام فقط أو أواخر العام الماضي في معهد التمثيل؛ فقد كان عسيرا علي أن أصدق أن شابا صغيرا كهذا يستطيع أن يفهم التجديد في المسرح بهذه الأصالة، وأن يضمن اللوحات التي قدمها في الفصول الثلاثة ذلك الشعر الخفي الموحي، وذلك الارتباط التام بين حلقات الحياة؛ الميلاد والزواج والموت. إني أهنئ المسرح العالمي للتليفزيون والمسرح عامة بسمير العصفوري. كل ما أرجوه له ألا تفسده الحياة الفنية النتنة، والإغراءات والقيم الصغيرة. نفس الرجاء أسوقه إلى بطلة المسرحية الدقيقة الموهوبة ناهد رشاد، ومهندس الديكور ومترجمة الرواية التي أعفتنا من كثير من حذلقات المترجمين. العجيب أيضا في هذه المسرحية أني أرى لعمر الحريري أول دور أقتنع به؛ فأدواره التي يقبلها دائما متشنجة وعصبية لا تتيح لقدرته الأصلية الانطلاق. هنا كان كما أراد المؤلف تماما، كالنسمة، كالمادة الكونية الرقيقة الخالدة، كالفنان، المادة التي تراقب وتحصي وتسجل ثم تبتسم في سخرية قائلة إلى اللقاء.
قهر الإيمان
قال لي الشاعر الأمريكي الكبير «لويل» الذي يزور جمهوريتنا هذه الأيام: إنه أرسل خطابا للشاعر السوفييتي الشاب «إيفتشنكو» يدعوه فيه إلى زيارة ثانية للولايات المتحدة. ولا أعتقد أن هذه الزيارة ستتم؛ فالحركة الثقافية في الاتحاد السوفييتي لا تتبع المقاييس والاختيارات الغربية، وهم يعجبون هناك للشهرة التي هبطت على إيفتشنكو في حين أنه ليس أحسن الشباب الذين يقولون الشعر هناك، ولكن دور الصحف والنشر في العالم الغربي لها طريقتها الجهنمية في خلق الشهرة وإذاعتها، وقد التقطت هذه الدور إيفتشنكو وسلطت عليه الأضواء، وكأنما لتغيظ الاتحاد السوفييتي، تماما مثلما فعلت مع باسترناك؛ فللأسف لم أقرأ «دكتور جيفاجو» إلا منذ ستة أشهر؛ ذلك أني أكره قراءة أي عمل تثار حوله الزوابع، خاصة في نفس الوقت الذي تثار فيه الزوابع؛ لأن للزوابع دائما تأثيرا صناعيا كبيرا على القارئ. مع اعترافي بأن في الرواية مواقف شعرية بالغة العمق والروعة، إلا أن نفسي اشمأزت من موقف بطل الرواية وعطف الكاتب الشديد على هذا الموقف؛ موقف المحتقر للثورة وللشعب. الناظر للقيم الجديدة والتغييرات التي تطرأ على المجتمع بعقلية مثقف صغير. والمثقف الصغير أبشع من البورجوازي الصغير في فهمه الضيق للحياة وللأحياء. ورغم هذا فإن الرواية كان لا بد أن تنشر والموقف الذي اتخذته دور النشر في الاتحاد السوفييتي منها موقف خاطئ لا يقل ضيقا عن موقف بطل الرواية نفسه. إن الثورة الحقيقة يجب أن تتسع حتى للأصوات المعارضة ولو من أجل أن تتبين صحة موقفها، أما المصادرة والحجر فهي مواقف الخائفين، والخائفون لا يمكن أن يكونوا ثوارا؛ فالثورة، أي ثورة، ومهما كان لونها، أو عقيدتها في حاجة إلى شجاعة كبيرة، وليس لمواجهة ما يؤيدها من الأفكار فقط وإنما لمواجهة ما يعارضها، بل بالذات لمواجهة ما يعارضها، كثير من حملة الأفكار المعارضة ليسوا عملاء ولكنهم مؤمنون، والمؤمنون لا يواجههم إلا مؤمنون؛ لأن الإيمان لا يقهره إلا إيمان أقوى وأشمل.
الرجل الذي حسدته
وبمناسبة الاتحاد السوفييتي لا تزال صورة ضيعة تولستوي وبيته اللذين زرناهما في القرية المسماة «بالمروج البيضاء» عالقة بذهني. الضيعة التي كان يأتيها تولستوي من موسكو راكبا العربة لمسافة مائتي كيلو متر، أو أحيانا الدراجة، ومن يدري ربما سائرا على قدميه أحيانا أخرى. الاصطبلات، و«سراية» تولستوي والغرفة التي كتب فيها «أنا كارنينا» والأخرى التي بدأ فيها الملحمة الكبرى «الحرب والسلام»، ومكتبة تولستوي التي تضم كتبا عربية وهندية وفارسية وبحوثا كثيرة عن الإسلام، بل لاحظت فيها وجود كتاب ضخم عن ملح الطعام. و«روبه» الذي يشبه القفطان، والعصا والكرسي والحجرة التي كان يستضيف فيها وينام تشيكوف وجوركي وطبيبه الخاص وسكرتيره في أواخر أيام حياته؛ العجوز الذي بلغ الثمانين ولا يزال حيا، والرجل ذا الذقن السوداء المتعصب إلى حد الجنون لتولستوي والذي يعمل كدليل لبيته وحديقته، والذي رفض بإباء وشمم أن تقوم إيلينا استفانوفا بترجمة كلامه إلى العربية لنا فتولى الحديث بإنجليزية ألمانية روسية كان كثيرا ما يرتج عليه أثناءها فتسارع لينا بإنقاذه. أما أروع ما شاهدته في «أبعادية» تولستوي فهو قبر تولستوي؛ ذلك أنهم دفنوه حسب وصيته. ولقد أوصى ذلك الرجل الفنان، القديس المتواضع إلى حد الصلف والغرور، الجاد إلى حد الهزل، الواقعي إلى حد الخيال، الحالم إلى حد اليقظة، الذي عشق الأرض وأحبها إلى درجة أن يرفض احتكارها لنفسه واعتبرها كالسعادة جديرة بالتوزيع على كل الناس؛ أوصى أن يدفن في الأرض كما ندفن أمواتنا في مصر وما أروعها من لحظة تلك التي وقفنا فيها لثوان قليلة خاشعين أمام قبر تولستوي وهو عبارة عن متنزه صغير لا يتعدى بضعة أمتار محاط بسور قصير جدا من الزهور ويملؤه العشب الأخضر، وفي وسط العشب، يبرز القبر متميزا ببضعة سنتيمترات في الارتفاع، بينما الغابة الكبيرة بأشجار الحور تحتضنه، والطيور كالموسيقى غير المنظورة تغرد، وخضرة الورق وخضرة العشب وشعاعات ضوء القمر الأصفر والسكون التام، ولا شيء غير هذا. إني لم أحسد في حياتي رجلا على رقدته مثلما حسدت تولستوي، وما تمنيت في حياتي أن أمتلك قطعة أرض خاصة لي إلا أن أمتلك الأمتار المخضرة بالعشب التي لا يتميز فيها الإنسان إلا ببضعة سنتيمترات قليلة.
أطرف شيء أن المرشد المتحمس أخبرنا أن الألمان في أثناء احتلالهم لتلك البقعة من روسيا، قاموا بعدما نهبوا القصر بدفن بعض العساكر الألمان مع تولستوي في هذه الأمتار القليلة، وجاء الفلاحون الروس يحتجون على هذا العمل، فقال لهم القائد الألماني: يكفي تولستيكم فخرا أنه أصبح مدفونا جنبا إلى جنب مع عساكر ألمان.
يوميات
السبت
بابتسامة لطيفة مؤدبة أبلغني الأستاذ أحمد حمروش أنه - بصفته مدير المسرح القومي - يأسف أشد الأسف لأن ظروف الفرقة لن تمكنها من تقديم مسرحيتي «اللحظة الحرجة» في الموسم القادم. أما أنا فقد ضحكت بصوت عال مرتفع؛ ذلك أن موقف الفرقة من هذه المسرحية موقف لا يستحق إلا الضحك بصوت عال مرتفع؛ فقد أصدرتها في كتاب عام 1957، وعرض الكتاب على لجنة القراءة فانقسمت اللجنة على نفسها، وأيد نصف الأعضاء تقديمها بشدة، وعارض النصف الآخر تقديمها بشدة أيضا، وأخيرا حلا للإشكال قررت اللجنة أن أجتمع باثنين من أعضائها، واحد من الحزب المؤيد وآخر من الحزب المعارض، للاتفاق على إجراء بعض التعديلات وقبلت الفرقة حينئذ تمثيلها، ثم عادت ورفضتها، ثم عادت وقبلتها وأبرمت معي عقدا ينص على تمثيلها في الموسم القادم. وفي أوائل هذا الصيف أعلنت الفرقة أنها ستقدم المسرحية ضمن برنامج الموسم القادم. وها نحن ذا، ولم يصل الصيف إلى منتصفه يعود الأستاذ حمروش ويبلغني أن الفرقة تأسف، إلخ. إلخ. ولم أشأ مجادلته في الموضوع فأنا أعرف أن المجادلة لا فائدة منها إذ إن المسرحية فيها عيب خطير؛ إذ إن فيها رأيا معينا في إحدى قضايانا العامة. ويبدو أن الفرقة حريصة على أن تنتقي رواياتها بحيث تخلو من أي رأي، أو إذا احتاج الأمر لرأي معين فمن المستحسن أن نستورد هذا الرأي من كاتب غربي، أما الكتاب العرب فمحرم عليهم إبداء الرأي أو مناقشة أي قضية من خلال أية وجهة نظر خاصة. حبذا لو كان شوقي قد قال:
أحرام على بلابله «الرأي»
حلال للطير من كل جنس؟
الاثنين
في رأي الأستاذ يوسف السباعي أن اليوميات تنقسم قسمين: يوميات دمها ثقيل وهي التي تتحدث عن السياسة، ويوميات دمها خفيف وهي التي تتحدث في أي أمر آخر من أمور المجتمع والدنيا. ويبدو أننا في هذه الآونة محتاجون لشيء كثير من ثقل الدم. ويبدو أن على الأستاذ يوسف السباعي بالذات أن يقوم بالجزء الأكبر من تلك المهمة الشاقة ؛ ففرنسا ديجول قد حددت موعدا لتفجير قنبلة ذرية في صحراء أفريقيا الكبرى. والظاهر أن الاستعمار لا يزال يلجا إلى أسلوبه الماكر الخبيث في شغلنا بجبهة ما ليضرب في جبهة أخرى.
ومنذ بضعة أسابيع وهجوم الفرنسيين يشتد على جيش التحرير في جبال أوراس وما حولها بطريقة الهدف منها إبادة وحداته إبادة تامة، وإنهاء الحرب التحريرية في الجزائر. وتفجير قنبلة ذرية يصلح كوسيلة فعالة جدا في مساندة الهجوم الذي تشنه القوات الفرنسية من الشمال.
ليس هذا فقط، بل تفجير مثل تلك القنبلة، وفي أفريقيا بالذات، ممكن - في رأي فرنسا - أن يفلح في استعادة هيبتها التي فقدتها في أفريقيا والشرق العربي وحرب السويس. من أجل هذا فحاجة فرنسا إلى هذا الإرهاب الذري أصبحت مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها.
وديجول يعلم تماما أنه لو اجتمعت إرادة دول أفريقيا المستقلة وشبه المستقلة. وساندها الرأي العام العالمي فلن يستطيع تفجير القنبلة. وديجول يعلم أيضا أن الدولة الوحيدة القادرة على تكتيل دول أفريقيا وإثارة الرأي العام العالمي، هي الجمهورية العربية المتحدة. ومن أجل هذا فلا بد من شغل الجمهورية العربية المتحدة وصرف أنظارها عن فرنسا وتجربتها الذرية. وفي عمليات الاستدراج لا تجد فرنسا خيرا من حليفتها إسرائيل تصلح لتستعملها كمخلب قط في تلك العملية القذرة - فليتحرك إذن موسى ديان ويكهرب الجو بتصريحاته الوقحة، ولنتحرك نحن للرد عليه وإيقافه عند حده، ولتنتهز فرنسا الفرصة وتفجر القنبلة.
يجب ألا ننسى في خضم هذه المعركة القائمة بيننا وبين إسرائيل عدوتنا اللدودة فرنسا، ومحاولتها المجرمة للفتك بحرب التحرير الجزائرية، وتلويث جو أفريقيا الطاهرة بإشعاعاتها الذرية. لماذا لا يعقد مؤتمر التضامن الآسيوي الأفريقي اجتماعا عاجلا لبحث المشكلة؟ لماذا لا ندعو إلى مؤتمر سريع للدول الأفريقية ليمنع انفجار القنبلة؟ لماذا لا تتصل جمعيات أدبائنا العرب ونقابات أطبائنا ومحامينا وصحفيينا واتحادات عمالنا بالنقابات والهيئات الممثلة في بقية دول آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا والعالم كله لإيقاف هذه الحثالة الاستعمارية الفرنسية عند حدها؟
إذا كانت مسألة تفجير القنبلة واستعادة الهيبة بالنسبة لفرنسا مسألة حياة أو موت. أليس من الواجب أن نعتبرها نحن أيضا مسألة حياتنا أو موتنا؟
سرير واحد يتنازعه 3000 إنسان
كل خبر أقرؤه عن تأميم مرفق من مرافق الحياة العامة أفرح له وأحس أنه مكسب جديد للشعب، إلا الخبر الذي راج في الآونة الأخيرة حول تأميم الطب! شكرا للدكتور نور الدين طراف على أنه نفاه؛ فالحقيقة التي لا شك فيها أن مشكلة العلاج في بلادنا كانت أنه مؤمم فعلا، أو على الأقل معظمه؛ إذ إن وزارة الصحة هي التي تقوم، أو المفروض أنها هي التي تقوم، بعلاج الغالبية العظمى من أبناء شعبنا علاجا مجانيا في مستشفياتها.
وجميل جدا، وواجب، هذا الاهتمام الكبير بقضية المرض والعلاج في هذه الأيام، ولكن ما لا شك فيه أيضا أن هناك شبه اتفاق أن وزارة الصحة في ماضيها أو حاضرها لم تقم بهذه المهمة الملقاة على عاتقها لا خير قيام ولا حتى أقله، لا لتقصير في همة وزرائها وأطبائها، ولا لإهمال ممرضيها وحكيماتها، وإنما لسبب أبسط من هذا كله وأخطر؛ لسبب أنها أقل الوزارات ميزانية في بلد يتمتع بنسبة مروعة من المرضى والأمراض. والمشكلة أيضا أنه برغم ازدياد ميزانية كل الوزارات والمصالح إلى درجة تضاعفت معها فعلا ميزانية وزارة التربية والتعليم فقفز المخصص لها من 23 مليون جنيه قبل 1952 إلى 46 مليون جنيه في الوقت الحالي، وبينما تضاعفت الميزانية العامة للدولة ثلاث مرات أو أكثر، فميزانية وزارة الصحة تكاد لا تتغير؛ فهي لا تزال، كما كانت قبل الثورة، حوالي 10 ملايين جنيه. وفي ظل ميزانية كهذه ليس غريبا إذن أن يكون لدينا طبيب لكل 2600 نسمة، بينما في بلد كسيلان مثلا هناك طبيب لكل ألف نسمة، والمأساة أدهى وأمر بالنسبة للعلاج الداخلي في المستشفيات؛ إذ مجموع الأسرة في مستشفيات وزارة الصحة حوالي 16 ألف سرير نصفها تقريبا موزع على المجموعات الصحية حيث لا يوجد أطباء متخصصون بينما الباقي وقدره على وجه التحديد 7900 سرير هي الأسرة العامة فعلا، الكائنة في مستشفيات لديها الحد الأدنى من المعدات والإخصائيين؛ أي بمعدل سرير واحد لكل 3250 نسمة. تصوروا في شعب تبلغ نسبة المرضى فيه 90٪ من هؤلاء ال 3250 مواطنا مرضى، أي بمعدل سرير واحد يتنازع الرقود عليه 2900 مريض!
وضع ليس غريبا معه أن نسمع عن مستشفيات بلا أطباء، ومناطق بأكملها بلا مستشفيات، ودفعات بأكملها من الأطباء بلا وظائف لأن الميزانية لا تسمح بالتعيين. مشكلة المرض عندنا أيها السادة هي مشكلة الفقر، وأوله فقر وزارة الصحة، وحلها الوحيد أن نبني مستشفيات، ونخرج عددا أكبر من الأطباء، ونتيح لهم مجال العمل، وندير المؤسسات العلاجية بعقلية ثورتنا؛ بعقلية شعبية لا مركزية وليس بقوانين ولوائح صدرت أيام الاحتلال البريطاني وربما العثماني. وليس الحل أبدا أن نؤمم العلاج؛ فعلاجنا أعرج. فلنعالج العلاج الأعرج أولا ولنفعل به بعد هذا ما نشاء.
عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
منذ عام أو أكثر، وحين قامت الضجة حول الأوبريت وتعالت الصيحات تنادي بوجوب أن تتجه موسيقانا إليها وصرح عبد الوهاب أكثر من مرة بأنه بسبيله إلى إعداد أوبريت، وأكد تصريحاته بطريقة جعلت وزارة الثقافة تبادر وتتفق معه، كتبت أقول إن عبد الوهاب لن يلحن مهر العروسة ولا غيرها، وإن كل تصريحاته واتفاقاته ما هي إلا حركة ذكاء بارعة هدفها «سرقة» هذه المظاهرة المنادية بالأوبريت، تماما كما كان بعضنا، ونحن طلبة في الجامعة يصنع، حينما يلمح مظاهرة معادية مقبلة من بعيد، فيطلب من زملائه أن يرفعوه على أكتافهم، لينضم إلى المظاهرة ويبدأ يهتف بنفس شعاراتها حتى يطمئن القائمين عليها، ولكنه شيئا فشيئا يبدأ يحرف المظاهرة وشعاراتها إلى ما يريد وينجح في النهاية و«يسرق» المظاهرة. عبد الوهاب أيضا، كلما كان يفاجأ بالمظاهرات المطالبة بالأوبريت لم يكن أبدا يقف ضدها، بالعكس كان يتبناها، ويبدأ في عقد سلسلة من الاجتماعات، وينشر في الجرائد تصريحات وأحاديث وأخبارا تؤكد أنه فعلا يلحن، وأنه في طريقه إلى الانتهاء منها، ويظل متحمسا، طالما الحماس للمظاهرة قائما، ويظل يردد الأحاديث والتصريحات حتى يهبط الحماس وينسى الناس، فينسى هو الآخر، وتنتهي المظاهرة النهاية التي يريدها لها عبد الوهاب.
تذكرت كل هذا وأنا أشاهد أوبريت «يوم القيامة»، إنها أوبريت جيدة وألحانها لا بأس بها، ولكنها أبدا ليست ما نريد. ولقد قدمتها وزارة الثقافة مضطرة، وأنفقت عليها مضطرة بعد أن خذلها عبد الوهاب ولم يحقق وعده الذي كان قد قطعه على نفسه.
وعبد الوهاب قطع هذا الوعد وهو يعرف تماما أنه لو يوفيه وأنه ليس ملحن أوبريت، وأن حياته وثقافته الموسيقية وقالب الغناء العاطفي المفرد الذي تزعمه وحدد إقامته داخله لا يمكن أبدا أن ينفرج بين يوم وليلة عن موسيقار يلحن الأوبريت. وهو يتزعم المظاهرات، ويجزل الوعود، ويزاول حركات الذكاء هذه، فقط ليضيع الوقت ويشتت الحماس ويصرف الأنظار عن الأوبريت، كنوع من أنواع الدفاع عن النفس الفنية. لقد تسلم عبد الوهاب حركتنا الموسيقية من سيد درويش وهي حافلة بكل ألوان التعبير الموسيقي، ولكن، ربما لأنه أساسا مغني ومطرب، وربما لحلاوة صوته وإعجازه، فقد آثر الأغنية العاطفية على غيرها وأخذ يعمل بروعة لتطويرها على حساب كل الألوان الأخرى، حتى نجح في هذا إلى أبعد حدود النجاح ويؤسفني أن أضيف إلى أضر حدود النجاح أيضا؛ فقد سادت الأغنية العاطفية على ما عداها، وماتت الأوبريت ومؤلفوها وملحنوها. وازدهار لون على حساب غيره من الألوان يؤدي إلى انحراف، ونحن حقيقة في عصر الانحراف المريض نحو الأغنية العاطفية، بل نحو نوع واحد من الأغاني العاطفية؛ ذلك النوع الذي يخاطب كل ما فينا من ضعف ومراهقة وإحساس بالوحدة ليثير فينا الضعف والمراهقة والإحساس بالوحدة. ولقد ظل هذا اللون سائدا إلى أن بدأ يدور في حلقة مفرغة، ويلجئ اصحابه إلى الاقتباس والتقليد وافتعال التجديد؛ ذلك لأن الطريق الطبيعي لتطور الأغنية وتنفسها هو المسرح الغنائي حيث الأغاني في الأوبرا والأوبريت تخاطبنا كجماعة، ونسمعها كجماعة، وترسم ملامحنا وتعبر عنا كشعب، ومن خلالها فقط نستطيع أن نجد التعبير المتطور الناضج عن أنفسنا وحياتنا بكل رحابتها واتساعها.
ولكي ندرك خطورة ما آلت إليه أوضاعنا الموسيقية، يكفي أن نستمع إلى واحد أو واحدة أو أكثر من تلاميذ هذه المدرسة العاطفية في الغناء، لنرى إلى أي حد مخجل يخنث هذا من صوته ، وتزيد تلك من حرارة تأوهاتها، لكي يستطيع وتستطيع أن تعبر عن الحب، أي حب هذا؟ إنه قطعا ليس حبنا؛ فالرجال عندنا لا يحبون بهذه الطريقة المائعة المخنثة، ولا المحبات عندنا يتأوهن مثل هذه التأوهات ومع هذا فنحن نضطر مكرهين إلى الاستماع؛ فالموسيقى غذاء، ونحن جوعى، جوعى إلى ألحان قوية تعبر عن قوتنا، وموسيقى؛ موسيقانا المحرمة علينا، النابعة منا، المعبرة عنا، الأصلية العريقة بمثل أصالتنا وعراقتنا، نحاول عبثا أن نعثر عليها في هذه الألحان العربية المتهافتة، وخلال الأصوات التي تختبئ وراء التخنث والميكروفونات.
ونحن في حاجة عظمى إلى المسرح الغنائي، إلى الأوبريت. وأقولها صريحة لهؤلاء الذين ينتظرون في حسن نية وطيبة أن يفرغ عبد الوهاب من تلحين أوبريتته الأولى، أقول لهم عبثا ما تفعلون ولا تطلبوا من عبد الوهاب المستحيل؛ فهو أولا ليست ملحن أوبرا أو جماعات، وهو ثانيا لا يمكن أن ينحي نفسه بيده عن العرش الجالس عليه. لندعه في لونه العاطفي الذي امتاز فيه وبرع، ولنعهد بالتلحين إذا كنا جادين لموسيقار، إذا فرضنا جدلا أنه ليس له شهرة عبد الوهاب ونبوغه؛ فيكفي أنه سيوجد اللون، وسيبدأ ومن خلال البداية نستطيع أن ننهض ونعرف أخطاءنا ونسير؛ إذ لا بد أن نسير ولا يمكن أبدا أن نقف جميعا، ثلاثين مليونا وأكثر من الرجال والنساء والأطفال والثوار، نردد التأوهات.
مرة أخرى، عبد الوهاب والأوبريت
الصديق أحمد حمروش من أكثر الناس محافظة على شعور الآخرين، وأعتقد أنه لهذا السبب وحده، وليس لأية أسباب أخرى كتب يستنكر ما قلته عن الموسيقار محمد عبد الوهاب والأوبريت، واصفا طريقتي بأنها تشبه طعن الخناجر والسكاكين، معتقدا أنها نوع من مهاجمة الفنانين المشهورين طلبا للشهرة ربما، مؤكدا أن عبد الوهاب غير مسئول أو مقصر إلى آخر ما ورد في يومياته.
ورغم علمي أن الصديق أحمد حمروش قليل الأخطاء، فإني أعتقد أنه - في حماسه للدفاع عن عبد الوهاب - قد تورط في عدد منها؛ فهو قد أخطأ مثلا حين تصور أني «هاجمت» عبد الوهاب. إن الهجوم لا يكون إلا بتحامل على شخص بلا سبب واضح. فرق كبير بين هذا وبين نقد شخص ما ولأسباب حقيقية وواقعة، خاصة إذا كان هذا الشخص فنانا كبيرا كعبد الوهاب له أثر بالغ الخطورة في موسيقانا وتطورها، ومن هذه الزاوية تحدثت عن عبد الوهاب إذ إن شخصه لم يكن في اعتباري مطلقا وأنا أكتب، لقد قلت ما قلت وأنا أبدي وجهة نظر في المسرح الغنائي بماضيه وحاضره ومستقبله، وإن كنت قد تعرضت لعبد الوهاب فلأن عبد الوهاب هو الذي عرض نفسه وأخذ على عاتقه مهمة تلحين أوبريت لهذا المسرح.
ولو كان عبد الوهاب قد لحنها لكنت أول المصفقين له والمهللين، ولكن عبد الوهاب لم يقم بهذه المهمة ولم تكن هذه أول مرة تتعالى فيها الأصوات مطالبة بالأوبريت ويأخذ عبد الوهاب على عاتقه مهمة تقديمها، ولا يقدمها، وما على الصديق حمروش وكل من يهمه الأمر إلا أن يراجع الصحف خلال ربع القرن الماضي ليجد أنه في كل مرة قامت ثورة فنية تطالب بالأوبريت كان عبد الوهاب على رأس المؤيدين لها المتطوعين بتقديمها، وتكون النتيجة أن تسكت الأصوات ولا تلبث أن تهدأ الضجة وتموت، أليس لي الحق بعد هذا أن أتصور الوضع على أن عبد الوهاب غير جاد في وعده هذه المرة. أيعد تصوري حينئذ طعنا في عبد الوهاب وانتقاصا من شأنه؟ إن الطعن في عبد الوهاب يكون بنقد نوع الموسيقى والألحان التي يقدمها فعلا، أما أن نقول إن عبد الوهاب ليس ملحن أوبريت فليس طعنا فيه أبدا إلا إذا كان عدم الكتابة للمسرح يعد طعنا في نجيب محفوظ، وعدم التأليف للسينما يعد طعنا في توفيق الحكيم. إنه ليس طعنا ولا انتقاصا لسبب بسيط، أنه حقيقة واقعة؛ إذ الحقيقة أن عبد الوهاب قد لحن مئات الأغاني والمواقف العاطفية ولكنه لم يلحن أوبريت واحدة، إذا كانت المطالبة بأن يعهد لموسيقار آخر كأحمد صدقي أو عبد الوهاب نويرة أو غيرهما من الموسيقيين بمهمة تلحين الأوبريت، فلسبب بسيط أيضا لأنهما لحنا أوبريتات فعلا، وقدمت على المسرح وشاهدها الناس.
أنا مع الصديق أحمد حمروش في أن ذكر هذه الحقائق قد يضايق الموسيقار الكبير وقد يؤذي شعوره، ولكن أحدا لم يرغم عبد الوهاب، هو الذي تطوع للمهمة وقبلها، فإذا كان في محاسبته جرح لشعوره فماذا كان يريد صديقنا حمروش من المتحمسين الغيورين على مسرحنا الغنائي أن يفعلوا؟ أيصمتون هم الآخرون مراعاة لشعور عبد الوهاب أم يتكلمون، وإذا تكلموا، ماذا كان عليهم أن يقولوا غير ما قلت؟ إني من قلبي أحس بالأسى، وأتمنى أن أسمع وأشهد أوبريتات من تلحين عبد الوهاب، بل ربما هذه الأماني هي التي دفعتني وتدفعني لقول ما قلت، وهي التي دفعتني أيضا لأن أسأل نفسي وأستقصي كما أوصاني الصديق حمروش، فأقابل الدكتور علي الراعي مدير مؤسسة دعم المسرح، والأستاذ عبد الرحمن الخميسي مؤلف أوبريت مهر العروسة وأسألهما. ويدخل السؤال في دائرة مفرغة. الدكتور علي يقول إن عبد الوهاب يعتذر في الاجتماعات بأن نص الأوبريت لم يصله، والخميسي يقول لقد انتهيت من فصلين وسلمت عبد الوهاب الفصل الأول كله ولكنه لم يلحن إلا ثلاث أغنيات منه في مدى عام ونصف، وإنه ظل يتردد على عبد الوهاب أكثر من ستة أشهر ليتفق معه على الأغنيات والمواقف، وكان عبد الوهاب كثيرا ما يعتذر إليه بتوعكه أحيانا وبمشغولياته الكثيرة أحيانا أخرى، ثم يبادر الخميسي ويستدرك قائلا: ولكني أنا المسئول. عبد الوهاب غير مسئول مطلقا. وأنا المسئول، ولا يتفق كلامه الثاني مع كلامه الأول، والنتيجة دائرة مفرغة يمكن أن تظل إذا دخلناها عاما وعامين وعشرة أعوام في انتظار أن ينتهي عبد الوهاب من تلحينه لمهر العروسة.
وفي العام الماضي كتبت أقول إني راهنت، وإني سأكون أسعد الناس بأن أخسر لو لحن عبد الوهاب الأوبريت، وما زلت عند كلمتي. ولا مانع أبدا ان نظل جميعا نتعلق بهذا الأمل والرجاء، ولكن، أجل ولكن الكارثة الخطيرة أن نظل واقفين لا نتحرك أمام هذا الأمل، الكارثة أن نظل بلا أوبريت إذا لم يلحنها عبد الوهاب. إن عبد الوهاب نفسه لا يمكن أن يقبل وضعا كهذا، ولا بد أنه يرى معي ومع الكثيرين أن تعطى الفرصة لآخرين بجواره. وإني لفرط ثقتي في غيرته على موسيقانا ومسرحنا الغنائي لمتأكد أنه سيكون أول المرحبين بمسابقة عامة حرة ترصد لها جائزة ضخمة تعادل جوائز الدولة التقديرية - أو حتى أكثر - يتقدم إليها كل من شاء، وتكون محدودة بموعد وشروط. وإني لعلى يقين من أن مسابقة كهذه لا بد ستكشف عن مواهب كامنة، سواء في موسيقيينا الشبان المعروفين أو غير المعروفين، فإذا كان مجرد برنامج للهواة قد كشف لنا عن موسيقار كأبو بكر خيرت، فمن باب أولى أن تتيح هذه المسابقة فرصة أوسع لعدد أكبر.
ليلة وراء الكاميرا
خلال الساعات التي قضيتها أتابع ما يدور خلال الكاميرا، أتيح لي أن أقع على حقيقة المجهود الشاق الذي يتكبده العاملون في الحقل السينمائي. في أول الليل قال لي المصور عبده نصر إن الدقيقة من دقائق عرض الفيلم قد تستغرق ثماني ساعات وأكثر من المجهود والبروفات والاستعداد. وحسبت أنه يبالغ، ولكن اتضح لي أنه يتواضع، فقد استغرقت الدقيقة ليلتها أكثر من عشر ساعات، اللقطة التي حضرتها لن تستغرق أكثر من ثوان، ومع هذا، ومن أجلها، كان لا بد من تصريح من وزارة الأوقاف، وتأليف لجنة من ثلاثة موظفين، واستعدادات استغرقت يوما بأكمله قبل التصوير، ويوم التصوير بدأ العمل في الثالثة بعد الظهر وجاء عمال الكهرباء والإضاءة وظلوا في تركيبات وتوصيلات إلى الساعة السادسة.
ومن السادسة إلى التاسعة كانت مرحلة التجارب، ومن التاسعة بدأت التجارب الحية على الممثلين، كان على فاتن حمامة ورشدي أباظة (وأبو دومة وزوجته وابنه) أن يقطعوا عشرة أمتار بعدها يدقون الباب ويدخلون، وأكثر من عشرين مرة قطعوا المسافة، من اليمين مرة ومن اليسار مرة وبالكاميرا منحرفة وبها معتدلة، وكل مرة يرتفع صوت صلاح أبو سيف «ستوب» ثم يلوح بيده قائلا: مرة ثانية، ويعود الموكب يتجمع ليتحرك من جديد، بينما أعضاء اللجنة يقولون: يا مسهل يا رب. والبرد قد استبد بكتف أحدهم فأوقفها، برد يتزايد في ليلة شتاء، لولا الأضواء لتجمد ظلامها ثلجا أسود، ومع هذا، فكان ذلك المكان النائي من شمال القاهرة قد ازدحم فجأة بأناس لا ندري كيف جاءوا في مثل تلك الساعة إلى ذلك المكان ولا من أين جاءوا، عيونهم تبرق في ضوء الكاشفات وتتابع ما يدور بشغف لا يقل عن شغفهم بمتابعة فيلم، مع أن المشهد واحد، واللقطة واحدة، وكذلك الدقة، دقة على مدفن الخديوي توفيق، الرجل الذي لا يذكر له التاريخ إلا عملا واحدا لا يحسد عليه أنه سهل للإنجليز مهمة احتلالنا، مئات الرجال والنساء والأطفال واقفون ينظرون خلال أسوار المدفن، ويتابعون فاتن ورشدي أباظة، وفراشات القاهرة وجرادها وكأنما انتهزت الفرصة وعقدت مؤتمرا عاما في نفس البقعة واتخذت قرارا واحدا؛ مهاجمة فاتن حمامة، وفاتن تستغيث برشدي، ورشدي مشغول بترديد الجملة التي عليه أن يقولها، يرددها كل بروفة، وخلال الخمسين بروفة: انت تعرفه يا عم إسماعين؟ كالتلميذ الذي قصر في أداء واجبه، يرددها بلسانه وعينه على المصور عبده نصر الممتطي عربة الكاميرا التي تسير كالقطار على قضبان، والتي يروح بها ويغدو، مقتربا من المشهد مبتعدا عنه، مسددا الكاميرا إلى الهدف، ثائرا حين تجيء «الشوت» مثل طلعات صالح سليم كلما اقترب من الجون «آوت».
أتعرفون من كان أسعد الناس في تلك الليلة الحافلة الحاشدة؟ كان خفير المنطقة النظامي. لقد ظللت أتتبعه وهو يذرع المكان جيئة وذهابا بمعطفه الأصفر الواسع وحذائه الضخم الفاغر فاه وبندقيته المعلقة في كتفه المسددة إلى الفضاء الأثيري وكأنما تبغي إصابة القمر الروسي في مداره، ظللت أتتبع سيره المضطرب بالفرحة وكأنه صاحب هذا المولد كله، باعتباره أنه يدور في دركه وهو المسئول عن المحافظة عليه وعلى الأمن فيه، فرحة ممزوجة بدهشة وكأنما هو غير مصدق أنه بعد آلاف الليالي من الوحدة قد جاءت عليه ليلة احتشد له فيها نجوم البلد وأصبحوا من رعاياه، وأنه محط الأسماع والأنظار، ترى أية مفاجأة كان سيتلقاها لو عرف أن أحدا غيري لم يحس بوجوده، ولا حتى استرعت بندقيته المغمدة في الفضاء انتباهه.
البلد، بلدنا كبر
البلد، بلدنا، كبر وامتد، وحتى مشاكله أصبحت مشاكل الدول الكبرى.
اليوم وأنا أتجول في شوارع القاهرة لم أستطع أن أتمالك نفسي، البلد كبر، وقوي، واحتل مكانه تحت الشمس.
البذور نمت، وترعرعت، وأصبحت أزهارا تخطف ألوانها الأبصار، ألوان الأعلام المنثورة في الشوارع، أعلام دول عدم الانحياز، ما أكثرها من أعلام وألوان وأشكال.
البلد كبر، في عالم كبير، وحفل بدول مستقلة، أخيرا وجدت الكيان، وتبلور الكيان بين علم ها هو الآن يأخذ مكانه بين غيره من الأعلام في مهرجان القاهرة الحافل، في اجتماعات لم يشهد لها العالم مثيلا، في لقاء تقف له أوروبا وأمريكا فاغرة الفاه.
كانت حجج الدول الاستعمارية في تأجيل منح الاستقلال أن الشعوب «البدائية» لن تستطيع حكم نفسها بنفسها، مثلما قالوا ذات يوم إن مصر لن تستطيع إدارة القناة، فإذا بهذه الشعوب لا تدبر أمرها داخليا فقط، وإنما وعلى المستوى العالمي تبدأ في تنظيم الأمور فوق الكرة الأرضية نفسها، وتقيم أشكالا من التعاون الدولي والشعبي لم تدر بخلد الغرب المستعمر وحلمت بها أوروبا وأمريكا. كانوا يظنون أنهم إن منحوا هذه الدول استقلالها وجلوا عنها؛ فآجلا أو عاجلا وبحكم الأمر الواقع ستجد هذه الدول نفسها مضطرة، في عالم ضخم تحكمه القوى الضخمة والإمكانيات الضخمة، إلى اللجوء إلى مستعمريها السابقين، فإذا من بين هذه الدول نفسها تتبع نظرية عدم الانحياز، وتبدأ هذه الدول نفسها في الكشف عن طاقاتها الخلاقة في التفكير والتنظيم. إذا بهذه الدول المستضعفة نفسها تخلق أشكالا للتعاون الدولي أقوى بكثير من كل أشكال التنظيمات الاستعمارية الكبرى، ومؤتمرات بلجراد والقاهرة أقوى بكثير من مؤتمرات مونتريه وعصبة الأمم، والعلاقات التي تنشأ بين دولها أقوى وأشد فاعلية وإنسانية من علاقات كانت تقوم بين دول الاستعمار أساسها الاتفاق على الشر والغدر وتقسيم الغنائم. وإذا بالعالم الذي كان يبدو ضيقا جدا منذ بضع سنوات بحيث لا تجد فيه أي دولة ظفرت بالاستقلال متنفسا أو مكانا للوجود، إذا به اليوم، إذا بعدم الانحياز يجعل منه اليوم عالما أكثر رحابة واتساعا وأعظم إنسانية، عالما تستطيع أي دولة صغرى فيه أن تبني علاقتها بأي دولة كبرى على أساس الاختيار والندية والاحترام الكامل المتبادل.
وقد تكون هناك عشرات العوامل التي أدت إلى خلق هذا الاتجاه الذي ساهم في إنقاذ السلام العالمي من ناحية، ومن ناحية أخرى أوجد للدول النامية مخرجا لأزمة وجودها سيتحول حتما إلى شكل جديد رائع من أشكال التعاون والتكتف الدوليين. قد تكون هناك عشرات العوامل، ولكن أهمها بلا أدنى شك هو نجاح ثورة 23 يوليو في فرض هذا الهدف على مستعمريها وعلى العالم أجمع، نجاحا لم يأت إلا بعد كفاح رهيب مرير وحرب ومقاومة وعدوان. نجاحا وإن كان أحرز لمصر استقلالها التام الكامل وحريتها إلا أنه في الوقت نفسه أحرز لكل الدول النامية والشعوب المغلوبة على أمرها طريقا ممهدا، ومثلا، ونموذجا يحتذى بحيث إن الثورة التي خطت لمصر وللعرب تاريخهم الحديث غيرت في ميزان القوى العالمية أيضا، وغيرت من تاريخ العالم، وخطت لغالبية دوله طريقها المشرق الجديد.
لقد شهدنا في بحر الشهور القليلة الماضية اجتماعات خطيرة متوالية تعقد في القاهرة والإسكندرية؛ اجتماع قمة أفريقي واجتماع قمة عربي واجتماع قمة للدول غير المنحازة، وليس صدفة أن تحدث هذه الاجتماعات كلها في مصر. وقد تتفاوت قدرتنا كمواطنين في إدراك مغزى هذه الأحداث الكبرى، بل قد لا يرى فيها البعض أي صلة أو تأثير على حياتنا اليومية ومشاكلنا هنا؛ ذلك أن هذا البعض لا يرى إلا الصورة الداخلية لثورتنا وقيادتنا، ولكن ثورتنا لها صورتها الخارجية ولها دورها العالمي الذي تحتم عليها طبيعتها أن تلعبه.
لقد قامت ثورة 23 يوليو لتكافح الظلم السياسي والقهر الاجتماعي في مصر، وكان أن تكتفي بانتصارها داخليا على قوى الشر والطغيان عجزا أي عجز؛ فما دام الشر والطغيان موجودين في العالم وعلى مقربة منها فباستطاعته أن يعود للانقضاض علينا في أي وقت «وقد حدث فعلا وعاد» ولهذا فإن نجاح ثورتنا الحقيقي لا يأتي إلا بالتعاون والتكاتف مع كل ثورات العالم وأحراره للقضاء على الشر والطغيان في العالم أجمع، وهو بالضبط ما تفعله ثورتنا اليوم. لا يكفي للانتصار على اللص أن تخرجه من بيتك إلى الشارع وإنما عليك أن تتعقبه إلى باب السجن، ونحن إن لم نتعقب الاستعمار والصهيونية إلى باب سجنهما الأبدي فلن يحل السلام، ولن نحس بالأمن الكامل والاستعمار غاد رائح في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا نفسها. إننا بهذه المؤتمرات والاجتماعات نتتبعه ونضيق عليه الخناق ونحقق ثورة 23 يوليو الكاملة، وذلك بالعمل لانتصارها أفريقيا وآسيويا وعربيا وغير منحاز وعالميا؛ فهي ثورة بدأت بانتصارنا كشعب، ولن تتم إلا بانتصار كل الشعوب وتعاوننا وتكاتفنا مع كل هذه الشعوب لكي تنتصر. والانتصارات ولله الحمد تتوالى، وبلدنا يكبر بهذه الانتصارات، في خضم المعركة التي يخوضها ويكبر ويقوى وتسير في شوارعه مثلما تسير اليوم، فتجدها قد ازدانت برايات النصر، وكل علم لدولة غير منحازة راية انتصار، والرايات كالأزهار كثيرة متعددة الألوان بريقها يخطف الأبصار؛ فهي أزهار البذور التي غرستها ثورتنا مع غيرها في أرض العالم الجدبة، والتي تتفتح اليوم وتشرق وتؤكد أننا غدا سنجني الثمار.
الدعاية العملية
كنت قد كتبت عن الموقف الذي يجب أن نتخذه تجاه الشخصيات التي تعادينا أو تشركها الدعاية الصهيونية في نشاطها الآثم. وقد طالبت بألا نكتفي بالموقف السلبي من هذه الشخصيات، لا نكتفي بمخاصمتها والدعوة إلى «رميها في الجحيم والمحرقة» كما يرى الكاتب الذي تعرض لي على صفحات الجمهورية، ففي رأيي أن هذه الدعاوى الجوفاء كلام نظري لا جدوى منه، وضربت مثلا بكاسترو الذي كان باستطاعته، ومن حقه، أن يرمي بالصحفيين الأمريكيين إلى جهنم والمحرقة حين ذهبوا إليه في كوبا، ولكنه بدلا من هذا، قضى معهم أربعا وعشرين ساعة متواصلة يحاول إقناعهم بعدالة قضية كوبا وموقفها. ودافعي للمطالبة بهذا أن الذي يستفيد من موقفنا السلبي، ولا أقول العدائي، هو إسرائيل؛ فهي لا تريد منا أكثر من هذا الموقف لتظل تكسب الأصدقاء والعاطفين. طالبت بدلا من مناداة هذا الكاتب أو ذاك بوجوب منع بعض الشخصيات من دخول بلادنا باعتبار أنها قامت بأعمال تخدم وجهة النظر الصهيونية، طالبت بالعكس، بأن نصر على دعوتها إلى بلادنا، وننتهز فرصة وجودها بيننا ونناقشها ونشرح لها وجهة نظرنا ، ونجعلها تزوم خيام اللاجئين ونكشف لها كل الحقائق التي تخفيها الدعاية الصهيونية وتزورها طالبت بدلا من المخاصمة والمنع أن نناقش ونقنع، وبدلا من أن يطالب كاتب ما بمخاصمة هؤلاء الناس وحرقهم، أن يشترك في دعوتهم ويناقشهم، بدلا من الكلمات المتحمسة الجوفاء التي يقولها لمواطنينا بالعربية - وكأنهم ناقصو إيمان وحماس - يستعمل كل حججه ومنطقه وحماسه لإقناع تلك الشخصيات وكسبها إلى جانب قضيتنا. إن الكاتب الذي رد علي يعترف بأن الدعاية الإسرائيلية بدأت في الآونة الأخيرة تتبع طرقا بالغة الذكاء لكسب الأنصار والأصدقاء، هذه الدعاية التي تدافع عن قضية مزعومة خاسرة، فلماذا يريد لنا سيادته ونحن ندافع عن قضية عدل وحق أن نتبع أساليب لا أقول في منتهى الغباء، ولكنها أساليب تخدم إسرائيل مباشرة وتزيد من عدد أصدقائها والعاطفين عليها؟ إذ تصوروا أنه في الوقت الذي يقول الكاتب إن إسرائيل تضع «فيتامينات» الدعاية في البرتقالة البريئة؛ أي تبذل أقصى المستحيل لشرح وجهة نظرها. يريد منا الكاتب أن: نرمي إلى المحرقة بالفنانين والممثلين الذين تخدعهم الدعاية الصهيونية. أتطمع إسرائيل في أكثر من هذا لتقتبسه وتنشره على العالم أجمع لتستشهد به على نظريتها الكاذبة القائلة إننا ننوي أن نفعل باليهود نفس ما فعله هتلر ونرميهم إلى الأفران والمحارق؟ ثم كيف نربط قضية مقدسة، كقضية العرب وفلسطين، بقضية دنسة مجرمة كقضايا النازي وهتلر ومعسكرات اعتقاله وأفرانه وغازاته؟ كيف نسمح لأنفسنا أو لأحد منا أن يظهرنا أمام العالم بمظهر المدافعين عن إجرام هتلر وعصابة الحزب النازي فقط لأن هتلر هذا كان يعادي اليهود؟ نحن كما قلنا مرارا لا نعادي جنسا بعينه، نحن نعادي الصهيونية وإسرائيل ونعاديهما لأسباب محددة واضحة، فكيف نربط أنفسنا بقضية عنصرية ونتورط في الدفاع عن مجرمي حرب في حين أن أحدا لم يضر القضية العربية بمثل ما فعل هتلر وعصابته؟ فهو بجرائمه أعطاهم الوسيلة لتمثيل دور الشهداء والمضطهدين. إننا في هذه الحالة أيضا لا نفعل إلا ما تريده منا الصهيونية وإسرائيل بالضبط؛ فهم يلعبون بورقة الاضطهاد، ونحن - أقصد آراء السيد الكاتب - تقدم لهم الدليل، وما هو بدليل؛ فهو ليس إلا تفسير فرد واحد مخطئ للقضية العربية الفلسطينية.
أجل، إني مع الكاتب في أن القضية هي مصير شعب بأسره هو الشعب العربي كله وليس الشعب العربي في فلسطين وحده، ولكني لست معه أبدا في أن الحل هو أن نربط أنفسنا بهتلر وإيخمان ونطالب بحرق اليهود والمضللين بالدعاية الصهيونية إذ نحن بذلك لا نحرق إلا عدالة قضيتنا، ونحن في هذه الحالة نؤجل رد حقوقنا المغتصبة.
هذا الموقف السلبي، هذه الأحكام التي نكتفي بإطلاقها والمطالبات بالحرق التي لا ننفذها، هذه كلها لا تقدمنا شبرا واحدا من الحل. إننا نحن الذين سنحل بأيدينا قضيتنا، هذا صحيح، ولكنا لنفعل هذا يجب أن نفعله بمساعدة وتعضيد وفهم الرأي العام لنا، والرأي العام العالمي لا يفهم بالعقوبات والتهديد بالذبح وبالحرق، إنه يفهم بالإقناع ويبذل أقصى الجهود لكسب الأصدقاء والمؤيدين، وحتى لكسب الذين تورطوا في عداوتنا.
أيام في التليفزيون
أتيح لي في أثناء الفترة التي قضيتها أتردد على استوديوهات التليفزيون لإعداد الأفلام التي أخذناها لثورة الجزائر وجيش تحريرها الوطني، أن أراقب عن قرب تجربة جديدة على حياتنا تماما، وعميقة الدلالة في الوقت نفسه.
التجربة هي الخطوة الجريئة التي أقدم عليها الدكتور عبد القادر حاتم حين عهد لأول مرة إلى مجموعة ضخمة من الشباب بخلق وإنشاء وتسيير وإدارة أكبر وأحدث مؤسسة من نوعها في شرقنا الأوسط. شباب يزدحم بهم الأسانسير صاعدين هابطين منتشرين في أرجاء المبنى الهائل، شبان وبنات في العشرين وأقل وأكثر يديرون الاستوديوهات ويخرجون وينفذون ويكتبون الاسكريبتات ويبدو الصديق سعد لبيب رغم شبابه الواضح عجوزا بينهم أو كالعجوز. مئات منهم جديدة، كالعملة الخارجة لتوها من ماكينة السك، طلعت وفتحي إبراهيم وسلوى حجازي وحمدي قنديل وأماني ناشد وهند أبو السعود ويحيى التكلي وميلاد بسادة وأحمد لطفي وعادل صادق وممدوح زاهر وزينب حياتي وهندام وكوثر هايل وأسماء العاصي وأم كلثوم وسهام الديب وأمال مكاوي وعبد الرحمن هندام وفتحية وبهيجة وفايزة، ومئات مجرد رؤية وجوهها الغضة وسماع أصواتها الحادة المليئة بالحماس يزيح عن النفس كآبتها ويفرح القلب.
وقد كنت أحسب أن الجيل من المذيعين الذين نراهم على الشاشة هم الزهور الصغيرة لأشجار ضخمة متقدمة تعمل لا بد وراء الستار، فإذا بالكل زهور في عمر الزهور، وتفتح الزهور، وإذا بعم رجب المصور يبدو لي رغم أعوامه الخمسين وكأنه في عمر نوح، حتى الفنيون في الصوت والضوء والمونتاج والكهرباء كلهم جدد حديثون وكأنهم لا يزالون طلبة في الكليات.
وكنت أظن أيضا أن الحداثة في السن لا بد يقابلها نقص في الخبرة والكفاءة، ولكن الأيام التي قضيتها في التليفزيون أثبتت لي العكس؛ فهؤلاء الشبان والشابات يعرفون عملهم حق المعرفة ويبذلون أضعافا مضاعفة من الجهد كي يتقنوا أداءه. وأسوأ ما في التليفزيون من نقص هو في تمثيلياته وأسوأ ما في التمثيليات هي نصوصها وتأليفها. والسوء هنا يأتي من الخارج إذ يقوم به المؤلفون الكبار، في السن طبعا، من خارج التليفزيون. ولو أتقن كل منهم كتابة تمثيلية مثلما يكدح أي كاميران أو منفذ برنامج شاب لارتفع مستوى التمثيليات بلا جدال.
تجربة بصراحة أذهلتني واستغرقتني تماما وأنا ألاحظ بدقة كيف تختلف المعاملة بين أفراد هذا التيم عنها في أي مؤسسة حكومية قائمة. إنهم يتعاملون بصراحة وبساطة وبراءة ولا يضيعون الوقت في شكليات تافهة، ويتفاهمون بسرعة ويعملون بإخلاص وكأنما للذة العمل وحده، وما سمعت أبدا كلمة عن الكادر والعلاوات.
الحقيقة أحس بالضيق الشديد، فاللغة في يدي جامدة عجوز بالغة القدم غير قادرة أبدا على التعبير عن إحساس، ولا على تجسيد الصور الحية المليئة بالحياة لتلك المجموعة البشرية الجديدة وهي تتحرك باستمرار في انسياب متحرر نابض، وكأن أفرادها كائنات موديل 62. قمم شعبنا النامية وقد أفرزتها آخر مراحل تطوره مزودة بقدرة غريبة على التفاهم والتعامل والسيطرة على آلات تجتاز هي الأخرى أرقى مراحل التطور. انسجام كامل بين الآلة الجديدة المتطورة والإنسان الجديد المتطور. تطابق لا يمكنك معه أبدا أن تتصور العكس فما كان بالاستطاعة خلق مؤسسة إلكترونية كهذه بغير أن يعمل فيها الجيل الإلكتروني؛ إذ ترى ماذا كان يحدث لا قدر الله لو تولى موظفو الحكومة الذين تزخر بهم دواوينها تشغيل وإدارة التليفزيون؟
سألت حسن حلمي المراقب العام: ألا يحدث من هؤلاء الشبان والفتيات أخطاء؟ أليس لهم عيوب؟
وقال: العيوب موجودة والأخطاء موجودة، ولكنها عيوب وأخطاء من نوع آخر، عيوب المتحمس للعمل حين يخطئ بحسن نية.
سألته: ألا يوجد تنافس؟ قال: ولكنه تنافس على الإجادة والإتقان. خطوة جريئة ولكنها أثبتت نجاحا ساحقا. كم أتمنى لو فتح التليفزيون أبوابه لجماهير الشعب، وبالذات لهواة التقليل من شأن الشباب كي يروا بأعينهم المعجزة، المعجزة التي تحققها مجموعة من الشباب، في عملها، في دقتها، في سرعتها وحسها وحتى في عيوبها وأخطائها. تكون مظاهرة مستمرة ماضية طوال الأربع والعشرين ساعة تثبت بصمت أبلغ من أي كلام أحقية أجيالنا الجديدة في تولي زمام الأمور في كل مكان.
جوائز الدولة
جلسة طويلة مع كمال الطويل والموضوع واحد متشعب عريض، بدأه الفنان اللاذع أحمد رجب بكلمته في المصور عن جوائز الدولة. وقبلها بليال كنت في جلسات طويلة مماثلة مع إخوان من المهندسين والعلماء والأطباء، والحديث أيضا عن جوائز الدولة للعلوم والفنون والآداب. واعذروني إذا كنت قد بدأت أعتقد أن جوائز الدولة هذه خرافة من الخرافات، لا بسبب الدولة فالدولة والثورة أدت ما عليها ورصدت مئات الألوف من الجنيهات كي توزع على نوابغ المنتخبين في كل قطاع من قطاعات حياتنا. الخرافة قد تكون في اللجان التي تتحكم في توزيع الجوائز والعقليات التي تتحكم في قرارات اللجان، ولكن المشكلة الحقيقية ليست أيضا في اللجان أو عقلية أعضائها وقرارتهم، ولا حتى في جوائز الدولة أصلا، المشكلة أعمق وأخطر وأهم.
فالمفروض أن الثورة يقوم بها جيل وطليعة جيل تقود الشعب بأكمله لسحق الأوضاع والنظم وأنواع الحكم التي تغل الشعب وتحبس قدرته على التفتح والإنتاج. هذا الجيل مهمته لا تنتهي بنجاح الثورة، ولا تتم إلا بإقامة أوضاع جديدة أكثر ثورية ورحابة وتطورا؛ لهذا فالجيل الذي يمهد للثورة هو وحده القادر على تنفيذها، وإذا نفذها فهو وحده القادر على خلق نظمها وبنائها الثوري الجديد. العقل لا يتصور حينئذ أن يقوم جيل ما بالثورة وينتهي دوره ليتسلمها منه جيل آخر لم يعمل لها ولا آمن بها ولا خطر بباله احتمال قيامها.
ولكن هذا على وجه التقريب ما حدث؛ فالثورة حين قامت لم تبدأ بتحطيم جهاز الحكم السابق وتنشئ لنفسها جهازا ثوريا من خلقها وصنعها، عناصره منتقاة من الجيل الذي صنع الثورة وطليعته.
كان أمامها معارك أهم وأخطر عليها أن تواجهها، وهكذا استعانت الثورة بجهاز الحكم نفسه بعد أن غيرت اتجاهه وقيادته ليعمل مع الشعب بعد أن كان يقف ضده، وجهاز الحكم ليس فقط جهاز الحكومة، هو أيضا ركائز الحكم ومفكروه ودعاته وخبراؤه، هذا الجهاز كان مكونا من عناصر بالبداهة لا تمت إلى الثورة بصلة، لا آمنت بها ولا عملت من أجلها ولا تنبهت لها إلا بعد أن أصبحت حقيقة ملموسة واقعة، حينئذ فقط آمنت بها إيمانا كل مداه محاولة تملقها لعل وعسى ينجحون في كسب رضاها وإبقائهم في مراكزهم.
ولقد اضطرت الثورة لهذا وأصبح الوضع في غاية الغرابة؛ فقد أصبحت تلك الركائز السابقة دعامات أساسية من دعامات حياتنا بعد الثورة، هي التي تملك بيدها كل المفاتيح، هي التي «تفكر» للثورة، هي التي تقترح ومن أفرادها تتكون اللجان، وبعقليتها تختار الموظفين وترسل البعثات وتصعد وتهوى بمن تشاء.
وهكذا حين اندفع جيل هذه الثورة الحقيقي، الجيل الذي تخرج من كوبري عباس ودبر للثورة سرا وعلنا، وأصدر جرائد ومنشورات، ووقف يقاوم مشاريع الاستعمار ويبشر بالتغيير الشامل القادم، ويمهد ليوم 23 يوليو المجيد. حين اندفع هذا الجيل بعد نجاح الثورة يلتف حولها ويحميها ويدافع بالدم والروح عنها، وبكل طاقته ينتج في كافة المجالات والميادين إذا به يفاجأ بعد حين بأنه لا يملك مصيره، وأن مصيره في يد أناس لا ينتجون، عقيمين يحقدون على المنتجين ويعملون ما في وسعهم لفرملة إنتاجهم وخنقه وقتله، ولو استطاعوا لقتلوهم هم الآخرين في عملية دفاع عن الذات الأنانية دفاع دنيء. يستعدون فيه للتضحية بالصالح العام كله من أجل صالح كل منهم الواحد الخاص.
وهكذا تكون الوضع، الجيل الثائر المنتج في كل مجال يقف له بالمرصاد أناس من مخلفات النظام البائد وركائزه. يستعملون كما استعمل الرأسماليون الإمكانيات الضخمة التي توفرها لهم دولة الثورة، لا لكي يثروا ويضاعفوا الأرباح كما يفعل الرأسماليون قبل أن تلزمهم الثورة الحد، ولكن هو - في رأيي - أسوأ وأبشع. إنهم يستعملون هذه الإمكانيات في عرقلة جهود المئات والآلاف ومئات الآلاف من الجيل الذي ثار لينتج ويغمر بلادنا بطاقاته وإنتاجه.
والنتيجة؟ خطيرة للغاية، فبعضهم يكف عن الإنتاج أصلا، وبعضهم يتحول إلى الملق والرياء وينبذ آراءه وشخصيته ليسمحوا له بالمرور، والجيل متحمل صامد؛ فالثورة ثورته وهو لا يستطيع إلا أن يثور على هذا الوضع إذ ربما مس هذا ثورتنا، النتيجة عرقلة وتكسير وتحطيم. في كل مجال تجده. أعرف بضعة مهندسين شبان طالبوا بأن يعملوا وتتاح لهم فرصة الإنتاج فغضب عليهم مدير معهد بحوث البناء ونقلهم من المعهد. أعرف رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذي جاءت به الدولة ليرعى الشعر والشعراء، أعرف أنه لا يعترف بكل شعراء هذا الجيل، فكيف «يرعى» وهو أصلا لا «يعترف» بهم؟ وكيف يرعى عزيز أباظة المسرح وهو لا يعترف بكل أبناء الجيل من كتاب المسرح؟ وكيف تمنح جائزة الدولة التشجيعية في الموسيقى لملحن تردد أنه يعادي كل تطوير للموسيقى العربية.
إنها لمأساة عظمى، أن تقوم «الثورة» لتعهد لمن «يجمدون» الأوضاع التي كان من المفروض حتى بدون ثورة أن تتطور، يجمدون «التطوير» نفسه، فما بالك بالثورة، أعلى وأحد وأخطر أنواع التطوير؟!
أنا أزاول السياسة كصحفي
محمد حسنين هيكل
سريع الحركة، سريع الفهم، سريع الإجابة، ومن الثانية الأولى تجد نفسك منجذبا إلى ملامحه الدائمة التغير والانفعال، المشحونة بكم وافر من الاطلاع وحب الاستطلاع، وبالكاد تستطيع أن تسمعه وتتابع حديثه؛ فحديثه عاجل ناعم حاسم مستمر كدقات تلغراف مبطن بالقطيفة. وإذا أردت أن تتكلم أنت، يلمحك، فيقطع عليك التهيؤ وترتيب الأفكار وأي مقدمات قد تفكر فيها، ويقول: شوت؛ أي تكلم!
فالكلام عنده ليس بضاعة ولا يقاس بالأمتار، الكلام كرة ككرة الباسكت، يجب أن تحرك باستمرار، فإذا تلكأت احتسبت «فاول» وارتبكت أنت، وقد يستمر ارتباكك جزءا من الثانية ولكنك تحس فيه أن الوقت ثمين حاد يصفر صفارة طويلة يوقفها هو بابتسامة خاطفة وبكلمة منخفضة ناعمة أخرى، شوت. وبلا وعي تشوت، ويشوت، وتندمج، وتختفي الكلمات من فرط سرعتها، وتصبح مجرد تيار فكري متواصل يكون دائرة مغلقة بينك وبينه، دائرة تكهربك، وتدفعك لمجاراته ومتابعة أفكاره، وإذا بك بعد دقائق قد أصبحت مثله، سريع الحركة سريع الفهم سريع الأخذ والرد والإجابة والاستجابة.
ذلك هو محمد حسنين هيكل أصغر من تولى رئاسة تحرير الأهرام، وأخطرهم، وأكثرهم مشغولية؛ فمشغول هي الكلمة التي ترددها دائما الآنسة نوال سكرتيرته أدق وأبرع سكرتيرة في القاهرة وربما في الدنيا، تقولها حتى لنسمات الهواء إذا أرادت دخول حجرته؛ ولهذا فالهواء يفضل طريق النوافذ وآلات التكييف.
قلت له وأنا أكح من السيجار الذي عزم علي به، نتحدث بصراحة؟ - شوت. - ما رأيك في «الجمهورية»؟ - سؤال محرج في الحقيقة. ولكن أتريد رأيي؟ الجمهورية تمثل بحكم وضعها فكرة الثورة وهي تقوم بأخطر تجربة في الصحافة العربية، أنا لا أوافق من يقولون إن أرقام التوزيع مبالغ فيها. الأرقام فعلا حقيقية. والجمهورية ارتفع توزيعها في الفترة الأخيرة ستة أضعاف وربما سبعة، ولكن الأهرام لم تتأثر أبدا بهذه الزيادة الهائلة، بل الحقيقة أن توزيعها ارتفع هو الآخر. - وعيوبها؟ - لا لا لا. هذا كثير. لنفرض أني ذكرت بعض العيوب فهل تنشر جريدة نقدا لها على صفحاتها؟ - الجريدة القوية تفعل. - المشكلة ليست مشكلة عيوب، المشكلة هي الاحتفاظ بهذا العدد الوافر من القراء، إذا ظلت الجمهورية توزع هكذا، فلن يعتبر نجاحها هذا نجاحا لها فقط، ولكنه نجاح للصحافة العربية كلها. - كيف، ونجاح جريدة قد يغلق أخرى؟ - بالعكس، الجرائد كالمذاهب، كالأحزاب، كالآراء، لا تلغي بعضها بعضا، الواقع أنها تقوي بعضها الآخر، ونحن هنا لا زلنا في حاجة لجرائد ناجحة أخرى. - وأين تضع صحافتنا من صحافة العالم في رأيك؟ - صحافتنا متقدمة جدا، دعك من بريطانيا وخذ باقي أوروبا وآسيا وأفريقيا حتى اليابان، تجد جرائدنا ومجلاتنا لا تكاد تبارى. - في الماضي كانت صحافتنا حافلة بمعارك الهجوم والنقد، والآن تغيرت الحال، فماذا حدث؟ - تقصد الهجوم على الحكومة مثلا. أنا معك أن هذا غير موجود الآن؛ فزمان كان باستطاعتك أن تهاجم رئيس الوزراء لأنه يستغل نفوذه ويعطي تصاريح استيراد لابن أخته مثلا لأن هذا كان يحدث فعلا، أما الآن فدلني على رئيس الوزارة أو الوزير الذي يستغل نفوذه. في الماضي كانت الصحافة تهاجم الحكومات لأن الحكومات كانت تخون وتتهادن وتتهاون، أما اليوم فالحكومة على رأس الشعب في محاربة الاستعمار، وتجتث الفساد حتى قبل أن يصل خبره إلى الصحافة، فلماذا الهجوم عليها؟ النقد موجود والصحف حافلة بالانتقادات الموجهة للوزارات والمصالح التي يحدث فيها ما يستحق النقد. أعتقد أن تساؤلك هذا يدور في بعض الأذهان التي لم تستوعب التغير الذي حدث فينا ولنا، التي تفكر وكأننا لا نزال في عصر الأحرار الدستوريين والكتلة، لقد خلفنا وراءنا هذه المرحلة بمسافات طويلة جدا. إنهم لا يزالون يعيشون في أول القصة، بينما الأحداث تطورت والفصول توالت، فكيف يريدوننا أن نعود معهم لنحيا في البداية؟ - بمناسبة القصة ما رأيك في تجربة نشر قصص مسلسلة في الجرائد اليومية؟ - تجربة ناجحة تماما، بدليل أننا نشرنا أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. - وما رأيك في أولاد حارتنا؟! - ألم أقل إني تحمست لها، ونشرتها؟! - كأستاذ لفن التحقيقات الصحفية والسياسية، وأول من كتبها في الصحافة العربية. ترى هل جاء اختيارك هذا عن عمد، أم كانت هناك نقطة تحول؟ - محاضرة استمعت إليها وألقاها مراسل حربي كان قد حضر الحرب الأهلية الإسبانية ومر بالقاهرة، بينما كان يتحدث عن العمل الصحفي في الميدان هتفت بكل ما في نفسي: هذا ما أريد أن أكونه. - وبالضبط ماذا كنت تريد؟ - الصحافة إلى ذلك الوقت (أواخر الحرب العالمية الثانية) كانت إما أخبارا يجمعها المندوبون، وإما مقالات يكتبها كتاب، أو تعليقات على الأخبار أو الأحداث يكتبها كبار الصحفيين. بالاختصار كان الخبر هو الذي ينتقل إلى الصحفي في جريدته أو مكتبه أما أن ينتقل الصحفي إلى مكان الخبر أو الحوادث ليرى ويدرس ويجمع المعلومات ثم يكتبها في تحقيق صحفي لجريدته، فنوع من الصحافة لم يكن قد عرف بعد. وهكذا حددت منذ البداية هدفي، وبدأت كمخبر حوادث، وأول سلسلة من التحقيقات الصحفية قمت بها في أخبار اليوم كانت عن الخط وعصابته المشهورة في الصعيد، وبعدها عن وباء الكوليرا، ثم عن حرب فلسطين، ثم الحرب الأهلية في شمال اليونان، ثم كوريا عام 50، والصين والهند الصينية، وإيران وتأميم البترول وعبدان وعزل مصدق، وقامت الثورة وأنا رئيس تحرير آخر ساعة فتركت المكتب وانتقلت وراء أخبارها وتحركاتها في كل مكان. - وحققت كل أحلامك؟ - بعضها. - ألم تحلم بشيء آخر غير الصحافة؟ - أبدا. - وما هي أحلامك للمستقبل؟ - الصحافة أيضا. - أليس من المحتمل أن تعمل بالسياسة؟ - لا أريد، ابتعدت في الماضي وأعتقد أن موقفي لم يتغير. - ولكنك بما تكتبه تقوم بدور سياسي فعلا؟ - أنا أزاول السياسة كصحفي، ولكني أبدا لا أزاول الصحافة كسياسي. - وما الفارق؟ - هو الفارق بين الصحافة والسياسة، وأنا لا أستطيع أن أعمل إلا بالصحافة؛ فهي ليست بالنسبة إلي مجرد عمل، أو هواية، أو أكل عيش، إنها حياتي، إنها أنا.
قابلت سارتر في «الكافتريا»
سارتر
قاعة «الكونزرت هاوس» في فيينا. مؤتمر وناس قادمون من جميع أنحاء العالم ولجان تجتمع وتتخاصم، وحركة دائبة بأعلام جميع الدول، والشعارات الزرقاء وملابس الرجال والنساء كأنها كرنفال، والوجوه والملامح متحف حي متحرك يعرض صورا للإنسان في كل مكان من قشرة الأرض.
قرأت اسم سارتر ضمن المشتركين في المؤتمر، دخلت أتفرج، طلبت على سبيل المزاح من سكرتيرية المؤتمر أن أقابله وأعطيت اسمي باعتباري كاتبا من مصر، محاولة لم أكن جادا فيها ولم أعتقد أنها ستنجح، تركتها وظللت أدور في المدخل والقاعة وأتفرج على الوجوه والأجناس واللغات وأسمع بشغف صوت المذيعة في إذاعة المؤتمر الداخلية وهي تقول كلما بدأت الكلام: آختونج آختونج، ومعناها انتباه. صوتها قوي وعميق ويحبب الأذن في الألمانية. استغرقني التفرج ومحاولة معرفة ما يدور في المؤتمر حتى نسيت كل شيء عن سارتر والمقابلة. فوجئت بصوت المذيعة الألمانية الحلو ينطق مرة اسما خيل إلي أنه اسمي، بل تأكدت. المذيعة الإنجليزية ما لبثت أن قالت: يوسف إدريس يقابل ج. ب. سارتر في الكافيتريا.
شملني اضطراب عظيم وخفت. كنت في السادسة والعشرين بالكاد نشرت قصة أو قصتين، مالي أنا ولسارتر العملاق؟ فكرت في التراجع ولكني وجدت نفسي أبحث عن الكافيتريا، وطال بحثي ولم أتصور أبدا أن يكون مكانها تحت خشبة المسرح مباشرة، سألت الجرسون عن سارتر، أشار إلى منضدة يحتلها رجلان أحدهما ضخم أحمر الوجه فاخر الثياب جميل التقاطيع والثاني قصير، ربع، أحول، منظاره من نوع عتيق رخيص. تقدمت من المنضدة وقلبي يدق، خفضت رأسي ومددت يدي بعصبية للرجل المهيب وقلت: مسييه سارتر. حملق في الرجل بهدوء ثم أشار بابتسامة إلى الرجل القصير الجالس بجانبه وقال بالفرنسية: هذا هو. الواقع بهت وخاب أملي ولم أعتقد أبدا أن رجلا هذا شأنه لو رأيته في أي مكان آخر لخيل إلي أنه مدرس أحياء في مدرسة أهلية مصرية هو العظيم سارتر. ولكني سلمت وقدمت نفسي وقال الرجل كلاما فرنسيا كثيرا لم أفهم منه إلا أنه يقول إنه سارتر، أما الرجل الجالس معه فهو الكاتب الروسي الكبير إليا أهرونبورج. انقلب اضطرابي إلى فزع، يا لي من أحمق: أطلب مقابلة على سبيل العبث وإذا بي مرة واحدة في حضرة اثنين من عمالقة الفكر العالمي، وأجلس معهما، وألمس أيديهما وأكلمهما ويعاملانني كزميل لا يفرقه عنهما إلا فارق السن؟!
وربما الفزع هو الذي دفعني للاستهتار بالموقف كله، ودفعني لخوض مناقشات لا قبل لي بها، كنت أطمئن نفسي وأقول فليكونا عمالقة في كل شيء ولكنك أنت الآخر يا ولد تعرف أشياء لا يعرفانها، على الأقل تعرف الإنجليزية التي لا يعرفها سارتر، وتعرف العربية التي لا يعرفها أهرنبورج.
أنا مضطر لأن أتخطى أشياء كثيرة جدا دارت وكانت جديرة بالذكر لأصل إلى المناقشة، ويا لها من مناقشة يحسدني عليها أنيس منصور. أنا أناقش سارتر في الوجودية بينما يقوم إليا أهرنبورج بدور المترجم!
قلت: أنا للأسف لم أقرأ من أعمالك إلا مسرحيات الحائط، ولا مفر، والأيدي القذرة، ومجموعة قصص قصيرة.
قال بدهشة ونوع من الفرحة: قرأتها، قرأتها حقيقة، في القاهرة! بأية لغة؟!
قلت: بالعربية والإنجليزية.
قال: جميل جدا، هل تهتمون بها لديكم؟ ماذا يقولون عنها؟ وما رأيك أنت فيها؟
قلت لنفسي: حتى سارتر هو الآخر يصنع مثلنا وينتظر بشغف آراء الآخرين في أعماله.
وقلت له: أعمال رائعة كلها، أذهلتني.
قال: ماذا أعجبك فيها؟
قلت: هل تريد الحقيقة؟ أعجبتني لما فيها من فن، وليس لما فيها من رأي. إن فيها فنا مذهلا رائعا هو البطل المجهول المتواضع الذي يختفي وراء الكواليس ليترك الفلسفة والآراء تقف وحدها أمام المتفرجين وتحظى بالمجد والتصفيق.
إني لأتساءل: ماذا يسعد رجلا عظيما مثلك، أن يقرأك الناس ككاتب أم كفيلسوف؟
ضحك وقال: أعتقد أن الإنسان يسعد لمجرد أن يقرأ الناس إنتاجه، سواء أكان فنا أم فلسفة.
قلت: إذن أحيانا يكون النعيم هو رأي الآخرين.
وضحك أهرنبورج أولا، وحين ترجمها أغرق سارتر في الضحك؛ إذ إن له رأيا وجوديا مشهورا يقول إن الجحيم هو الآخرون.
وجرأني الضحك فقلت: الواقع لو كان وجود الآخرين يخلف التعاسة التي صورتها لقتلنا بعضنا البعض من زمن بعيد، لا بد هناك أشياء أخرى لم تذكرها هي التي أبقتنا أحياء في مجتمع واحد.
قال: يعجبني أن شابا غريبا مثلك يناقشني بلا حذر أو اصطلاحات فلسفية، بالتأكيد هناك أشياء لم تعرف بعد.
قلت: وقد تغير إذا عرفت نظرتنا إلى الوجود والإرادة المستقلة؟
قال: وقد تغير، ممكن. ممكن جدا.
قلت: لماذا لا نعتبر أي فلسفة إذن مجرد نظرية نتركها تتصارع مع غيرها من النظريات والاكتشافات، بلا تعصب ودون أن نحاول أن نقيم من أنفسنا محامين لهذه النظرية ومدافعين عنها؛ فالتعصب لهذه الفلسفة أو تلك ممكن أن يعوق وصولنا إلى الحقيقة.
قال: لكن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بصراع، والصراع لا يمكن أن يتم إلا بين متعصبين؛ فاعتناق النظريات والدفاع عنها يقربها من الحقيقة ولا يبعدنا عنها.
قلت: الصراع بين الوجودية والاشتراكية مثلا يقربنا من الحقيقة؟
قال: طبعا. على شرط ألا يتم الصراع في قلب الشارع. أقصد الصراع بين المفكرين الواسعي الأفق.
قلت: مجرد تساؤل قد يكون سخيفا، ولكني أرجو أن يسمح لي به أعظم كاتب اشتراكي وأعظم كاتب وجودي. الوجودية تعتبر الفرد مسئولا عن اختياره وتصرفاته ومصيره. والاشتراكية تعتبر المجتمع هو المسئول، أليس من المحتمل إذن أن تنشأ في القريب نظرية ثالثة تجمع الوجودية والاشتراكية وتملأ الفجوات وتفسر بدرجة أوضح وتحدد بدرجة أدق حركة الفرد بالنسبة لحركة المجتمع، والعلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي؟
تولى أهرنبورج الترجمة على دفعات كان يعقبها بابتسامات تخيلت أنها ابتسامات استخفاف. ودار بينهما نقاش بالفرنسية، خفيف ضاحك أول الأمر، شابه بعض الجد والتأمل في النهاية. وأخيرا قال أهرنبورج: صديقي سارتر وأنا مبتهجان لرأيك، ولكن لا تنتظر منا أن نفكر فيه جديا بإلغاء الوجودية إلغاء لسارتر، وإلغاء الاشتراكية إلغاء لي، فهل أنت قادم من القاهرة لتلغي المعارك الطويلة التي خضناها وتلغي وجودها كله بجرة قلم؟!
الحديث دار في أحد أيام يناير من سنين، لا زلت أذكره، ولازلت كلما أحسست ببرد يناير تذكرت فيينا وأدق تفاصيل ذلك اللقاء.
الطبيبة التي قالت إن دراسة الطب لم تفقدها أنوثتها!
دكتورة عفاف
جذبت انتباهي حين قرأت أنها صرحت في حفلة التخرج بقولها إن دراسة الطب لم تفقدها ذرة واحدة من أنوثتها.
دفعني حب الاستطلاع لرؤية هذه الدكتورة التي تتحدث عن الأنوثة «فحديث كهذا كان يعني أيامنا، من سبع سنين يعني جريمة.» وجدتها تعمل طبيبة امتياز في القصر العيني. قابلتها فوجدت فتاة لطيفة مؤدبة لا تمت بصلة إلى الصورة التي تخيلتها عنها. ودار الحديث بينما هي منهمكة في تركيب أجهزة نقل الدم لحالة حروق ممتدة كانت قد دخلت العنبر توا. - سألتها أن توضح لي كطبيبة، المفهوم العلمي لكلمة الأنوثة، فقالت إنها لا تستطيع؛ لأن الأنوثة موهبة طبيعية من مواهب المرأة تولد معها ولا تكتسب. أما الأنوثة المكتسبة التي نراها في الشارع والسينمات فهي بالتعبير العلمي قلة أنوثة، وبالتعبير البلدي قلة حيا لا مؤاخذة. - طيب يا دكتورة، وما رأيك في الحب؟
استمعت لرأيها ربع ساعة، وحين انتهت قلت لها: زميلتي العزيزة، مع احترامي لكل آرائك العلمية فأنت لا تعرفين شيئا عن الحب. - لمن تقرئين؟ - ليوسف السباعي وإحسان عبد القدوس. - ألم تسمعي عن أطباء يكتبون؟ - أبدا. - غريبة؟ - أيوه افتكرت. الدكتور سعيد عبده؛ ده حتى امتحني في الصحة. - طيب، غيره، ألم تسمعي عن مصطفى محمود؟ - يعجبني شكله. - شفتيه شخصيا؟ - رأيته في الصور. - حظك نار، هل تحبين أغنية نار؟ - آه، البنات بيغنوها في البيت. - بنات مين وبيت إيه؟ - زميلاتي الدكتورات في بيت الامتياز. - كتير؟ - 22. - هل تعرفين مؤلف أغنية نار؟ - آه، اللي اسمه حسين ده. - حسين مين؟ حسين الفار؟ - أظن كده. - كيف تقضين وقتك؟ - أهو. أقرأ، أنام، أتفسح. - ما رأيك في أفلامنا؟ - زفت. - والأجنبية؟ - بعضها كويس. - وفاتن حمامة؟ - ما فيهاش مرح المصريات. - ورشدي أباظة؟ - بيكتب مقالات كويسة في المصور. - ده فكري. - أنا عارفه، أهو كله أباظة. - هل تقرئين الصحف؟ - أيوه. - كلها؟ - بعضها. - كل يوم؟ - مش كتير كده. - إيه رأيك فيها؟ - مش بطالة. - مين بيعجبك من الصحفيين؟ - كلهم. - زي مين؟ - حبيب جاماتي وسلامة موسى. - إنما سلامة موسى مات الله يرحمه. - مات صحيح يا خسارة! - ما رأيك في الزواج؟ - لازم يبقى فيه توافق وحب. - وافرضي فيه حب بس، ما ينفعشي؟ - ينفع. - وافرضي فيه توافق بس؟ - لا ما ينفعشي. - اشمعنى؟ - بيقولوا كلهم كده. - وانتي مالكيش رأي خالص؟ - أيوه. - إيه؟ - إن لازم يكون فيه حب وتوافق. - ما هي مشروعاتك للمستقبل وأحلامك؟ - حاجات كتير. - زي إيه؟ تكتشفي دواء للسرطان مثلا؟ - يوه ما افتكرش. - تاخدي دكتوراه؟ - وإيه فايدة إني آخدها؟ كفاية البكالوريوس. - امال عايزة إيه؟ - في الحقيقة كل أمنيتي أني ألاقي وظيفة في وزارة الصحة بعد الامتياز حتى ولو بخمستاشر جنيه، ويا ريت في حتة قريبة من بلدنا.
وفوجئت بها تتنهد في ارتياح وتقول، الحمد لله، بقى ثمانين.
وأفقت من مهمة سؤالها التي كانت تشغلني وتمنعني حتى عن الوعي بما تقوم هي به، فوجدتها كانت مشغولة طول الوقت بضغط المريضة التي نقلوها محروقة مصدومة منهمكة في قياسه ونقل أكبر كمية من الدماء والبلازما إلى جهازها الدموي لكي يرتفع الضغط وتنجو. الضغط أصبح 80، نجت المريضة إذن.
نظرت للدكتورة عفاف عبد الواحد برهة، وغفرت لها أنها لا تعرف مؤلف أغنية «نار يا حبيبي نار».
عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
ذكرتني المقالات والتحقيقات والتعليقات التي كتبت في جرائدنا ومجلاتنا عن رواية عشيق الليدي تشاترلي بمشكلة. المشكلة هي موقفنا من الفكر والثقافة الأوروبية. إننا نلاحظ باستمرار أن معظم القضايا والمشاكل التي تثار في أوروبا وأمريكا نتلفت بعد قليل لنجد أنها أثيرت عندنا لا باعتبار أنها أخبار، ولكن باعتبارها قضايا يجب أن نحياها وننفعل بها وكأنها قضايانا ومشاكلنا، وهو اتجاه ليس موجودا فقط في مجال الثقافة، ولكنه واضح أيضا في الصناعة والهندسة والعمارة، وحتى في أدق العادات الاجتماعية والمودات. أكثر من هذا، صحافتنا نفسها - بأبوابها وتعليقاتها وكثير مما ينشر فيها - نجده مأخوذا نصا أو روحا عن جرائد الغرب ومجلاته، حتى بيوتنا نفسها وأثاثها وملابسنا. كل شيء ننقله نقل مسطرة عن أوروبا.
وأنا هنا لا أحاول أن أناقش مشكلة ضخمة كهذه في السطور القليلة. لن أحاول أن أقول كيف يمكن أن نحيي هندستنا المعمارية ونضع أثاثا يتلاءم مع جونا وبيئتنا ونحاول أن نجد لنا أرضا عربية نقف عليها في علومنا وفنوننا وصناعتنا، إني أحاول فقط أن أشير إلى المشكلة؛ إذ هي في الحقيقة مشكلة لا يمكن أن تحل إلا بوجود حركة فكرية ضخمة تدعو إلى أن نكون أنفسنا أولا ثم نتزود بالثقافة والحضارة من كل مكان، أما أن ننقل كل شيء عن الآخرين فهو طريق ممكن أن يجعلنا متحضرين، ولكنه سيسلبنا روحنا وأنفسنا وقدرتنا على أن نساهم نحن أيضا في الابتكار والاختراع وتحضير العالم.
ولا يقول قائل إننا يجب أن ننقل أولا ونقلد ثم بعد هذا نبحث عن أنفسنا؛ فالنقد والتقليد ما لم نقم بهما ونحن نعرف بالضبط ماذا نفعل وماذا نحتاج ومن نحن، ممكن أن يجعلنا نفقد القدرة على العثور على أنفسنا وتظل باستمرار مجرد حضارة مصطنعة تدور في فلك أوروبا وتتبعها. يجب أن نستعد لهذا الاستقلال «الروحي »، لا أقول نعادي الحضارة الأوربية أو نقاطعها وإنما فقط أطلب أن «نستقل» عنها نكف قليلا عن النقل والترداد ونبدأ نحاول انتزاع أفكارنا وقضايانا من مجتمعنا وواقعنا، وكمثال على هذه الأيام القليلة الماضية نفس الأيام التي كان الحديث فيه دائرا عن عشيق الليدي تشاترلي كانت توافق ذكرى حرب التحرير الجزائرية. ومع أن حرب التحرير الجزائرية مشكلة مشاكلنا إلا أننا للأسف نعرف عن ثورة كالحرب الأهلية الإسبانية أضعاف ما نعرفه عن حرب الجزائر؛ ذلك لأن كتاب أوروبا ومفكريها تحدثوا كثيرا في كتبهم وتاريخهم عن الحرب الإسبانية، ونحن نردد خلفهم هذا الحديث، مع أنه في نفس الوقت الذي حدثت فيه الحرب الأهلية في إسبانيا - تقريبا - كانت حرب إبادة غاشمة نذلة تحدث في مكان آخر من العالم، في أفريقيا، ويرتكبها الدوتشي وجيشه ضد الشعب الحبشي ويستعمل فيها أقذر الأسلحة والغازات السامة لأول مرة ولآخر مرة في تاريخ الحروب والإنسان، ولكن أحدا من مثقفي أوروبا لم يتطوع للقتال بجوار الشعب الحبشي، كلهم تطوعوا لنصرة الشعب الإسباني باعتباره شعبا أوروبيا ومشكلته مشكلة أوروبية، أما الشعب الحبشي فقد أحيلت قضيته إلى أضابير عصبة الأمم.
وقضية المجر كبرها الفكر الأوروبي وضخمها وجعل منها جريمة روسيا الكبرى، باعتبار أن روسيا الشيوعية اعتدت على الشعب المجري الأوروبي، أما حين تعتدي فرنسا الأوروبية على الشعب العربي الجزائري الأفريقي فالمسألة لا تعدو أن تكون سوء سياسة من ديجول، أو نزعة لاستعادة مجد فرنسا الغارب. إن الفكر الأوربي ضحك علينا وعلمنا ألا نكون متعصبين في نظرتنا بينما هو نفسه بطبيعته متعصب صارخ التعصب لأوروبا البيضاء. إن تعاون دول حلف الأطلنطي في حرب صليبية لمساعدة فرنسا في الجزائر لا يثير فكر أوروبا ولا ضميرها، بينما حصار برلين مثلا يقيم قيامة أفكارهم وضمائرهم. إن مشكلة قضية الجزائر أنها ليست مشكلة أوربية و«د. ه. لورنس» لم يؤلف رواية عنها ولا تطوع هيمنجواي ليحارب في صفوف ثوارها. كل ما حدث أن بعض كتاب فرنسا ومثقفيها اشمأزت ضمائرهم وراحوا يهاجمون حكومة ديجول باعتبار أنها ترتكب في حق فرنسا، وليس في حق الجزائر، جرائم كبرى حين تتصرف مع الشعب الجزائري بطريقة غير متحضرة؛ أي غير أوروبية. وقد يأبى البعض أن يصدق، ولكني أحس أننا نحن الآخرين نتناول قضية الجزائر من خلال نظارات سارتر وساجان، فلا نفعل أكثر من أن نكتب نؤيد الكتاب الفرنسيين في موقفهم من تأييد قضية الجزائر. تصوروا، نؤيد التأييد ناسين أن قضية الجزائر قضيتنا، حربنا الإسبانية والحبشية ومعركة حريتنا نحن، وإذا كانت حكوماتنا قد وقفت موقف التأييد فمفروض أن يكون موقفنا نحن كشعوب هو موقف الجنود، هو موقف الحلف الشعبي العربي من حلف الأطلنطي الصليبي. مفروض قبل أن يأتي المتطوعون الصينيون والروس ليقاتلوا بجوار الجنود العرب أن يأتي المتطوعون العرب ليقفوا بجوار إخوانهم العرب؛ فهي قضية العرب وأعداؤها أعداء العرب، والنصر فيها لا يمكن أن يأتي من هيئة أمم ولا من شرق أو غرب طالما نحن لا ننصر أنفسنا.
أجل، الجدل الكثير الذي دار حول عشيق الليدي تشاترلي جعلني أفكر في أشياء كثيرة وأحلم، أحلم بخطباء المساجد وشبابنا الثائر وقد انتشروا في بلادنا يدعون للجهاد المقدس، أحلم بمكاتب حكومة الجزائر في العواصم العربية وقد فتحت أبوابها الرسمية وأصبحت مراكز لقيد المتطوعين، أتصور حملات لجمع ملابس وعتاد وطعام ودواء للمحاربين، بكتاب وشعراء تركوا الأوراق والأقلام وأمسكوا المدافع. أحلم بأننا كلنا قد قمنا لنقضي على الاستعمار في الجزائر.
بداية ونهاية مرة أخرى!
للمرة الثانية أذهب لأشاهد بداية ونهاية. كنت أريد أن أستعيد ذلك الإحساس الطاغي الذي أحسسته وأنا أشهد وأسمع موال الإخوة الكبير الحافل بالشجن. إن بداية ونهاية قصة الإخوة؛ الإخوة في مجتمعنا. كاتبها نجيب محفوظ كان أخا كبيرا وهو يكتبها ومخرجها صلاح أبو سيف أحسها بإحساس الأخ، وكذلك عاشها عمر الشريف وفريد شوقي وسناء جميل وكمال حسين. ولأول مرة في فيلم أحس أن المخرج والممثلين قد ذابوا تماما في عمل أدبي، وللمرة الأولى أحس أن العمل الأدبي ممكن أن يكتب مرة أخرى بالإخراج والتمثيل، وبإتقان يصل إلى درجة أني في ساعة ونصف الساعة استطعت أن أعيش المشاعر التي قرأتها في ثلاث ليال. وسأظل كلما أحسست أني أفتقد رائحة بلادنا وعائلاتنا وحقيقتنا أذهب لأشاهد أو أقرأ بداية ونهاية، وربما لنفس العيب الذي أخذه البعض عليها، للذعة المأساة فيها. ما أحوجنا إلى جرعات متكررة لاذعة تفيقنا وتجعلنا نبدأ نتلمس حياتنا ونبحث فيها عن الجمال والقبح والأحلام.
إن بداية ونهاية والناس اللي تحت نقط تحول في السينما، قد ينصرف عنها بعض الجمهور وبعض النقاد، ولكن هذا هو الشأن دائما في نقاط التحول، إنها ضريبة الطفرة؛ إذ ما أسهل وأبسط وأنجح أن ننحدر وما أصعب أن نصعد.
ولك مني أطيب التمنيات
أعترف أني في حيرة بالغة من أمر صديقنا وزميلنا الأستاذ يوسف السباعي؛ فهو كشخص، من أظرف وأطيب وأنبل خلق الله، إلى درجة تخجل معها حتما أن تقول له كلمة تغضبه حتى لو كانت كلمة حق، وهذه ليست المشكلة، المشكلة أن هذا الفنان الطيب الظريف الخفيف الدم يشغل عدة وظائف بالغة الخطورة؛ إحداها سكرتيرية المجلس الأعلى للفنون والآداب، والمجلس جهاز ضخم متعدد اللجان والمهام متنوع الأدوار، ومن غير المعقول بالمرة ألا يخطئ المجلس أو تخطئ إحدى لجانه أخطاء تصيب بعض الناس بالضرر؛ ضرر لا بد أن يتحركوا معه ويرفعوا أصواتهم بالاحتجاج أو الشكوى. والكارثة أنه ما من مرة حدث هذا إلا وأخذ الأستاذ يوسف السباعي أي صوت احتجاج أو شكوى على أنه إهانة وجهت لشخصه، وثار وغضب. وهكذا في كل مرة أرى، أو يرى غيري، أن في أعمال المجلس أو قراراته أو حتى في وضع جمعية الأدباء أو نادي القصة ما يوجب الكتابة ولفت النظر، كنت في العادة أكظم نقدي وأسكت؛ فلا شيء يؤلمني قدر إغضاب صديق، خاصة إذا كان له مثل أدب يوسف السباعي ونقائه وبراءته.
والمشكلة الثانية أن طريقة يوسف السباعي هذه تنسحب أيضا على علاقاته الخاصة؛ فهو يعطي لنفسه حرية أن يتصرف كما يحلو له، ويغضب إن أنت عاملته بالمثل. كتبت له مرة خطابا في مناسبة خاصة فنشر الخطاب على صفحات الجمهورية، ولم يكتف بهذا بل كتب مقدمة قص فيها - من وجهة نظره - قصة لقائي به، وعلاقتنا وكيف زجرني أحيانا وقسا علي، أشياء ليست أعمدة الجرائد مكانها، ولا المناسبة مناسبتها، ولو كان أحد قد فعل نفس الشيء معه لهاج وماج واحتقن وجهه بالغضب. وفي الأسبوع الماضي كتبت أنقد بعض أعضاء لجنة التحكيم في جائزة الدولة، وآثر يوسف السباعي أن يرد هو فكتب مقالا في روز اليوسف استحل لنفسه فيه أن يصف ما فعلته بأنه حركة مسرحية متشنجة، وزعم أني فقدت صوابي، وأن على شخص ما أن يرد إلي صوابي، ومن سوء حظ صداقتنا أن يكون عليه هو أن يفعل ذلك، وسطور المقال محشوة بالغمز واللمز، ونهايته أعجب إذ يقول: يا يوسف، اعقل.
فبالله عليكم كيف أرد على يوسف السباعي. هل أنتهز الفرصة وأدخل معه في مهاترات شخصية وأعامله بلا كلفة وكأننا جالسان على قهوة وأقول له: عيب يا أبو حجاج. الحقيقة لا أستطيع أن أفعل؛ لأني أولا لا أحب هذه الطريقة، ولأني ثانيا ليست حرا في رفع الكلفة مع يوسف السباعي على صفحات الجرائد أو في لومه كشخص وتأنيبه؛ لأن يوسف السباعي له صفة أخرى، هي التي يخاطبها الناس حين يكتبون عنه في الجرائد، وهي وحدها التي تعنينا هنا إذ هي صفة الموظف المسئول، أما يوسف السباعي كشخص وكصديق فلا يمكن أبدا أن أفكر في عتابه أو التحدث إليه أو الهزل معه أمام جماهير القراء وعلى حساب وقتهم ونقودهم ومشاكلهم.
لهذا فأرجوك يا أستاذ يوسف، لنتفق أولا على أن تفصل فصلا تاما بين يوسف السباعي الكاتب ويوسف السباعي الشخص ويوسف السباعي الموظف المسئول؛ هذا اليوسف الأخير هو الذي أخاطبه. وهو يوسف لا يليق به أن يتحدث في أمور شخصية، ولا يليق بي، حتى لو تحدث، أن أعنفه أو أؤنبه أو أقسو عليه.
إذا اتفقنا فيمكننا أن ندخل في الموضوع وأرجو أن تعذرني إذا قلت لك إنني بعد كل هذه المقدمة الطويلة لا أجد مبررا للدخول في الموضوع بالمرة؛ فقد كنا نتناقش حول صلاحية بعض أعضاء لجنة التحكيم لجائزة القصة القصيرة، وكنا نحن في هذا، ولجنة التحكيم كانت تتخذ قرارا، أغرب وأعجب قرار اتخذته لجنة تحكيم قامت في أي بلد من بلاد العالم، قرارا باستبعاد جميع الكتب التي قدمت والتي كتبت حوار بعض قصصها بالعامية. وعلى هذا استبعدت اللجنة كتب جميع المتقدمين ما عدا ثلاثة. ولا أعرف إن كنت وأنت تكتب ردك كنت عالما بالقرار أم لم تكن تعلمه، ولكني أذكر ثناءك علي في ردك، وقولك: ولست أظن أن فوزه بالجائزة أو حرمانه منها يمكن أن يضيف أو ينقص من قدره؛ لأنه بلا جدال لم يعد في حاجة إلى أن يقوم قدره بجائزة ما؛ لأنه أثبت قدما وأكثر قدرا من أن تنقصه أو تزيده جائزة.
كنت أنت، سكرتير المجلس، تقول هذا مشكورا، وكانت اللجنة التي اخترتها بنفسك تحكم على إنتاجي وعلى إنتاج جميع من يكتبون القصة القصيرة - باستثناء ثلاثة - بأنه غير جدير بالعرض عليها أصلا، فما معنى هذا؟ وعلى أي حق أو نص استندت اللجنة في اتخاذ القرار؟ وكيف تأخذ موقفا خطيرا كهذا بغير علم المجلس وبغير علمك، أو إذا كان بعلمك فكيف تعطي هذه الشهادة في حق إنتاج كاتب رأته اللجنة التي اخترتها أنه غير جدير بالعرض عليها؟ ولمصلحة من تقف اللجنة هذا الموقف؟ ألمصلحة الأدب والفن؟ كان عليها إذن أن ترفض البيان والتبيين للجاحظ كما يقول عميد الأدب العربي، وكان عليها أن تلغي عودة الروح وقنديل أم هاشم وقصص المازني وطاهر لاشين ومحمود تيمور نفسه، وأجمل وأروع ما في تراثنا من أدب وفن، بل كان عليها أن ترفض إنتاجك أنت نفسك فلا زلت أذكر مقدمة كتابك «وراء الستار» التي أشبعت فيها وزارة المعارف آنذاك سخرية لأنها رفضت تقرير بعض إنتاجك على التلاميذ لأن الحوار فيه يدور باللغة العامية. وهل اتخاذ قرار كهذا بشأن كتب طبعت فعلا وقرئت ونفدت من السوق هو الذي سيحمي اللغة العربية ويرفع شأنها؟ وهل رفع شأن اللغة يكون بمصادرة إنتاج جيل بأكمله من الكتاب لأن في بعض صفحاته حوارا بالعامية؟ هل الوقوف موقف البطش والإرهاب والرفض من جانب اللجنة هو الذي سيخيف الكتاب ويجعلهم «يحرمون» كتابة الحوار بالعامية؟ أم نسمع ما يقال من أن المقصود ليس مصلحة اللغة ولا الأدب وإنما هو لغلق دائرة الجائزة على هذا الكاتب أو ذاك، كاتب كل مؤهلاته أنه يكتب الحوار بالفصحى؟
دبرنا يا أستاذ يوسف وأشر علينا بما نفعله. المجلس الذي أنشئ وتنفق عليه الدولة مئات الألوف من الجنيهات وربما ملايينها من أجل إنعاش الحركة الأدبية ورعاية الكتاب والفنانين، المجلس الذي كان من واجبه أن ينشط ويدفع ويجعل من القاهرة وكتابها مركز الإشعاع الثقافي والفكري والفني لآسيا وأفريقيا، هذا المجلس بدلا من أن يحتضن الكتاب والفنانين ويشجعهم ويرسلهم في بعثات للدراسة وللتبادل الثقافي ويرغب لهم الفن والأدب ها هو ذا يتحول إلى جهاز كل مهمته أن يرفض ويزجر ويطرد الكتاب والفنانين من جنات الرعاية؛ الشعراء ترفضهم لجنة الشعر وتسخر من إنتاجهم وتحيل دواوينهم - زيادة في السخرية - إلى لجنة النثر باعتبار أنها ليست شعرا، وكتاب القصة يرفض إنتاجهم جملة وتفصيلا وبأوهى حجة، وفي المسرح ها هي لجنته في الطريق إلى قطع الطريق على إنتاج الكتاب الشبان وبحجة العامية والفصحى أيضا.
والطريف في الأمر أنك بإنتاجك يا أستاذ يوسف مع المطرودين الممنوعين؛ إذ لو كان إنتاجك قد عرض لرفض بنفس الطريقة. أليس في هذا ما يدعو إلى الضحك؟ وهل المشكلة أن ترفض وتقول ممنوع؟ لو كان الأمر كذلك لكان من المستحسن أن نوفر على الدولة مئات الألوف من الجنيهات، ونلغي لجان المجلس ومكافآت أعضائه ونكتفي بساع معه ختم بكلمة ممنوع يبصم به كل إنتاج جديد. حسن جدا! لقد أديتم مهمتكم بنجاح ورفضتم جميع الإنتاج المعاصر في القصة والشعر والمسرحية، أهذا كل شيء؟ أهذه هي كل الرعاية؟ أهذا هو الهدف؟ ماذا إذن عن التأليف؟ لماذا ما دمتم غيورين إلى هذه الدرجة لا تتخذون قرارا بأن تؤلفوا أنتم؟ لا بد لكم من اتخاذ قرار كهذا؛ فإن أحدا لن يؤلف حسب مواصفاتكم أبدا، وباستطاعتكم أن تفخروا بأنكم رعيتم الحركة الأدبية إلى حد الخنق والازدراء والقتل، سلمت أيديكم وشكر الله سعيكم.
تريد الصراحة يا أستاذ يوسف، الجيل المعاصر من الكتاب والشعراء والفنانين في حالة يأس كامل، وكل ما نطلبه هو الرحمة من هذه «الرعاية» وأن يقدر لنا أن يمد أعمارنا إلى أن نرى لجانا أخرى غيورة على الأدب والفن حقا، بعقليات أخرى، بفهم آخر للحياة، ولأجمل ما في الحياة، قدرة الإنسان على الخلق والابتكار.
وإلى أن يحدث هذا لك مني ومن المطرودين والمنبوذين والمحرومين من نعيم اللجان وقراراتهم أطيب التمنيات، ولننتقل إلى موضوع يفيد الناس.
لماذا نتركهم ينتظرون
من يوم أن كتبت «هذا رأيي» عن مشكلة تخفيض الإيجار، وسيل خطابات القراء لا ينقطع، وكل خطاب منها يحمل مأساة، ويستغيث، والجميع يتلهفون على صدور القانون. وكم كنت أتمنى أن يطلع السيد وزير الشئون البلدية والقروية عليها ليلمس بنفسه إلى أي حد خانق تمسك أزمة الإيجارات المرتفعة بتلابيب عدد كبير من المواطنين، ولكني أعتقد أنه بغير حاجة إلى هذا، وربما هو أكثر منا جميعا علما بالوضع. كل ما أريد قوله بهذه المناسبة، أن هناك من يظنون أن في صدور قانون التخفيض ما قد يثبط همة بعض الملاك ويدفعهم إلى العدول عن بناء المساكن الجديدة، وهذه في رأيي حجة لا معنى لها؛ فإن ننتظر إلى أن نستنفد قدرة أصحاب المال على البناء لنساوي الإيجارات الجديدة بالقديمة فهو انتظار قد يطول، بل لا يحتمل أن يكون له آخر. فهل نترك مئات الألوف من المواطنين يختنقون من أجل أن نغري الملاك على البناء؟ ثم هل حالت قوانين التخفيض الأولى بين أصحاب النقود وبين البناء؟ بالعكس إن ما نعلمه أن بضعة قوانين أصدرت لتحد حركة استثمار النقود في بناء المساكن، ونحن يمكن أن نشجع البناء بوسائل كثيرة، بخفض أسعار الإسمنت والخشب والحديد مثلا، ببيع أراضي الحكومة للملاك بالتقسيط، بأي طريق آخر إلا طريق ترك آلاف المواطنين لقمة سائغة لأصحاب البيوت يفرضون عليهم ما شاءوا من إيجارات.
ثم إن التخفيض الذي حدث تحايل عليه أصحاب العقارات من ناحية أخرى ؛ فأصبحوا يحددون خلو رجل لا يقل عن مائة جنيه للشقة إذا خلت في عماراتهم، والقانون يتركهم بغير عقاب. هم إذن يستفيدون إذا خفضت الإيجارات ويستفيدون إذا بقيت بغير تخفيض أما الخاسر في الحالتين فهو المستأجر المسكين.
إني أرجو السيد محمد أبو نصير أن يتخذ إجراء عاجلا حاسما يوقف جشع الملاك عند حده، مجرد الجشع، أما الربح الحلال فلا اعتراض لأحد عليه.
إن مئات الآلاف من المواطنين المظلومين الذين جفت حلوقهم من الشكوى يتحرقون انتظارا لهذا الإجراء، فإلى متى ندعهم ينتظرون؟!
3 كتب
الأسبوع قضيته مع كتب ثلاثة، الغريب أنها جميعا من تأليف زملاء يعملون في الجرائد! ضحكات عابسة لمحمد عفيفي، والصوة الثالثة لوسيم خالد، وكتاب عن جاجارين للزميلين عبد الله نوار وأحمد نوار. في الكتاب الأول اكتشفت نوعا جديدا من الكتابة وفي الثاني اكتشفت كاتبا، ومن الثالث تعلمت عن الفضاء الكثير.
أنخدع أنفسنا؟
ليس صلاح سالم أول عزيز يموت.
ولا هو أول من يدهمه الفناء في شرخ الشباب.
وليس قلبه الكبير أول قلب يتوقف عن النبض وتبتلعه متاهات العدم.
لا، ولا هو أول إنسان يعز على النفس أن تتخيله حيا موفور الطاقة مشع البسمات، الكلمة الحلوة تملأ فمه والإحساس العميق بالناس وأحزانهم ومتاعبهم الصغيرة يقض مضجعه، ثم تتخيله بعد هذا جسدا ساكنا لا حراك به، وبركانا خمد.
لقد كان صلاح سالم كل هذا حقيقة، وأكثر منه.
كان بشرا مثلنا، خجولا، متواضعا، ذكيا، حاد الذكاء.
ولكنه كان يملك ما لا يملكه معظم البشر.
كان ذا إرادة؛
إرادة للخير.
كان شهما.
في شهامته تراث شعبنا العريق في إغاثة الملهوف، ونجدة الخائف، والوقوف دائما وفي كل آن مع الضعيف.
كان بطلا.
إذا خير اختار موقف البطل، وإذا هبط عرف كيف يرفع رأسه، وإذا ارتفع خفض بالتلقاء رأسه.
كان عزيز النفس.
رقيقا عذبا واثقا بالناس صافي الضحكات.
هكذا كان صلاح سالم الرجل، هكذا عاشرناه وصادقناه وأحببناه وعشنا معه تجارب أيام طويلة قصيرة مضت.
وعسير علينا أن نتصور دارنا «دار الجمهورية» تلك التي كانت بالعام الماضي حافلة به وبإسماعيل الحبروك ومحمد خالد وفضلون وقد أصبحوا في ذمة الله مرحومين.
عسير علينا أن نتصور الدار بغيره، بغير آرائه واجتماعاته وتوجيهاته والإشعاعات الخفية التي كان يبثها وجوده، بغير آلاف الخيوط الخارجة منه إلى آلاف القلوب الممتدة منها إليه، تلتقي عنده، وتحيطه، وتتحرك معه أينمار سار.
آلاف القلوب التي قضت العام الماضي كله تدعو له بالشفاء.
ليس عسيرا فقط، ولكنه مستحيل.
كيف نكتب عنه كرجل مات، وهو لا يزال في خواطرنا، في قلوبنا، في دارنا، في داره، حيا موفور الحياة.
ولكنه، رغم هذا كله، رغم المستحيل وآلام المستحيل، ألمنا الأصغر.
أجل، إن فجيعتنا في صلاح سالم الرجل - رغم كل شيء - هي الألم الأصغر.
أما الألم الأكبر.
الألم الهائل الذي يضفي على الحياة بشاعة الموت.
الألم الذي لا سبيل إلى التعبير عنه إلا بالغيظ، الغيظ المدمر الأهوج الذي يفوق في جدته وجبروته وحدة الموت.
ذلك الألم الذي لا طاقة لبشر واحد على احتماله.
فهو ألمنا كمواطنين، كشعب، كمجتمع كافح برجاله الظلم والعسف والاستعمار والهوان، ولكنه لم يملك إلا أن يسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله أمام الموت.
موت أحد ثواره.
ألمنا الأكبر هو في صلاح الثائر.
والثائر أيها الناس صنف نادر، ليس سهلا أن نجده، ومستحيل خلقه، وطينته غير طينة البشر.
إنه الكائن بين المثل العليا والناس.
إنه راهب الفكر، قديس الرأي، نبي القيمة، الواهب عمره وحياته وما هو أكثر من عمره وحياته ليحقق آمال الرجال وآماله.
الثائر لا يحيا حياتنا، ولا يفرح بمسراتنا، ولا يمرض ولا يموت؛ فهو ليس شخصا ولا جسدا له مطالب.
إنه كلمة، وموقف، ومثل.
لا اشتراكه في الثورة صدفة، ولا استمراره فيها يحدث كيفما اتفق.
إنه المحب للحياة إلى درجة الثورة على أعدائها.
الغارق في الإيمان بها إلى درجة الرغبة العظمى في تطويرها.
ليس المحطم ليس المعارض.
إنما المغير الباني المدبر الواعي بالمستقبل.
وصلاح سالم كان ثائرا من أبناء شعبنا.
ثائرا لم يكتف باعتناق المبادئ.
وإنما بكل قواه، بكل عنفوانه، وبكل عجزه كان يطبقها .
وبالأمس فقدناه؛ مات صلاح سالم.
فإذا كنا نستطيع الصبر على فقده كرجل،
فكيف نحتمل الخسارة فيه كثائر؟
ماذا أقول؟ أنصبر أنفسنا؟ أنخدعها؟
أننادي بأن تستحيل الدموع في حلوقنا إلى هتاف؟
مرارته أننا نعلم عن يقين أنه مجرد هتاف.
كلام.
ماذا أقول أنصبر أنفسنا؟ أنخدعها؟
أما أمر أن يتحول الرجل الثائر بحياته وكفاحه وتاريخه إلى كلام.
أنقول: ليظل حيا قلب الرجل.
وإلى الأبد تحيا مبادئ الثائر؟
العزاء لنا.
والحياة لك يا ثورة.
وليبق الأمل فيك أيها المستقبل.
الحامية وإيفان جيب والوشم الأخير
الاثنين
وصلنا إلى بورسعيد قبل منتصف الليل. كانت البلدة نائمة أو تكاد وليس فيها ساهر غير عمال الميناء بحثا عن لقمة العيش. كانوا يتناولون عشاءهم الرخيص وطابورهم واقف أمام البوابة الكبيرة ينتظر الإذن بالدخول. سألنا عاملا منهم فلم يعرف، سألنا آخر فاقترح علينا أن نذهب إلى مبنى النافي. حاولنا الدخول من باب النافي فإذا الباب مغلق، وعدنا إلى البوابة الكبيرة ومن الميناء ركبنا لنشا، وبعد قليل، ونحن في البحر، أشار لنا البحار إلى بناية ضخمة هائلة الحجم مشتعلة الأضواء، وقال: هذا هو مبنى النافي.
أجلنا البصر فلم نر شيئا بالمرة وكأنهم سبقونا ورحلوا. البر والبحر والمبنى والرصيف وكل شيء ساكن سكونا مريبا وسط ليل داكن السحنة أسود، تضيئه أنوار الميناء المتعددة الألوان؛ صفراء وبيضاء وزرقاء وحمراء فتزخرفه وتجعله يبدو كالسبورة السوداء المحلاة بطباشير مشع ملون، والبحر حولنا ومياه القنال تأخذ لونها من لون الليل، إذا ما اسود اسودت، وإذا ما حفل بالأضواء حفلت بالأضواء. مرة أخرى رحنا نجيل البصر فإذا بالميناء خال إلا من باخرة سوداء كالحة راسية قريبا من المبنى، صامتة هي الأخرى صمت القبور. اقترب بنا البحار من الرصيف، وغادرنا القارب إلى البر في محاولة يائسة للبحث عنهم وخوفنا يتضاعف أن يكونوا قد خادعونا ورحلوا. ولم نكد نسير بضع خطوات حتى لاحت لنا بادرة أمل، كانت ديدبانا واقفا يحمل مدفع ستن، ما إن وقع بصره علينا حتى قال بإنجليزية ممطوطة: إلى أين؟
كان شابا لم يتجاوز العشرين ، هادئا وعبيطا، وبادي الضيق بنوبة الحراسة، وكان - هذا هو المهم - أول إنجليزي تقع عليه عيوننا في كل منطقة القنال. لم أكن أزور المنطقة لأول مرة، ولكني في كل مرة كنت أرى طريق المعاهدة يزدحم على الجانبين بالعساكر والمعسكرات، عساكر حمر الوجوه، زرق العيون يروحون ويجيئون داخل الأسوار كالمعتقلين والعرق يكسوهم والنظرات المريضة تطل من عيونهم، وكل مرة تغلي مراجل الغضب في نفسي وأقول: الأرض أرضنا، وهؤلاء الملونون قد جاءوا من بلادهم البعيدة ليدنسوها ومعها كرامتنا، يتطفلون علينا وعلى خيرنا كجيش عارم من ميكروبات كاكية يفتك بنا ويصنع أزماتنا ويقتل شهداءنا، ولا حياة لنا، ولا طعام ولا بقاء ما لم نجتث الداء ونطرد الغاصبين.
لحظة البداية
لهذا، حين اقترب يوم الجلاء لم أستطع الصبر، ووجدت نفسي أترك كل شيء وأذهب لأستطيع أن أشهد تلك اللحظة التاريخية في حياة شعبنا، وحياة جيلنا بالذات؛ فلجيلنا مع الاحتلال قصة مدممة الفصول، وطالما عشت مع غيري صفحات الكبت والصراع ولا بد أيضا أن أحيا النهاية.
وأسعدني أن يشاركني الرحلة والفكرة الصديق محمود السعدني وبعد نصف ساعة كانت عربة الأومنيبوس تحتوينا ونحن في الطريق إلى الإسماعيلية لنقضي فيها اليوم والليلة قبل أن نذهب في الغد إلى بورسعيد لنشهد احتفالات الجلاء، وآلاف الأحاسيس كانت تراودني كلما وجدت نفسي أقطع طريق المعاهدة، طريق فايد والاحتلال نفس الطريق الذي كنا نقطعه ونحن طلبة، ونحن في اللجنة الوطنية، ونحن نتستر بالليل والظلام ونأتي من القاهرة نزود الكتائب بالسلاح وأدوات العلاج والإسعاف ونحن في القاهرة كنا كثيرا ما ننسى أننا محتلون، وكانت الذكرى لا تعاودني إلا حين أصبح على طريق المعاهدة وأبدأ أرى المعسكرات وعساكر الأعداء. المفاجأة الكبرى التي كانت تنتظرنا في ذلك اليوم «الاثنين 17 يونيو سنة 1956» أننا، في نفس المكان الذي اعتدنا رؤية العساكر الإنجليز فيه، رأينا هذه المرة عساكر مصريين، سمر. يا لحلاوة سمرتهم في ذلك اليوم لكأنها سمرة عسل النحل حين يقطف في الشتاء، يرتدون الكاكي أيضا ولكنهم يضحكون، ويتحدثون بالعربي، ولا يلهثون من حرارة الشمس.
وصلنا إلى الإسماعيلية، ولم يتح لنا البقاء فيها طويلا؛ إذ سمعنا هناك إشاعة تقول إن الإنجليز لن ينتظروا إلى الغد ليرحلوا، وإنهم الليلة راحلون، ولم نضيع وقتا؛ فبعد دقائق كانت عربة الأستاذ عبد الرحمن شوقي المحامي (الذي أصبح الآن مؤلفا مسرحيا وكتب رواية «نجفة بولاق») تنهب بنا طريق المعاهدة من جديد، الطريق الذي يتلوى بلا نهاية كخيط طويل من الصبر، كطول بال المصريين.
ووصلنا إلى بورسعيد وخوفنا الأكبر أن يكونوا قد ذهبوا، ولكن حمدا لله، ها هو ذا الديدبان الإنجليزي، وها هي ذي الباخرة «إيفان جيب» التي ستقل آخر فوج.
الوشم الأخير
طالت محادثاتنا مع الديدبان وكان باديا أنه لا يعرف أهمية خاصة لنوبته ولا يعرف أنها آخر نوبة حراسة لآخر ديدبان لآخر قوة من قوات الاحتلال، وسمح لنا بالاقتراب من مبنى النافي، ولم يكن في المبنى كله غير أربعة عساكر، حادثناهم، كانوا فلاحين إنجليز وأبناء فلاحين، وأحدهم عامل من مانشستر، وكل ما يعرفه أنهم ذاهبون إلى قبرص، وأنهم راحلون عن بورسعيد، وأن مصر جميلة وأهلها ظراف، وأنهم رأوا كثيرا من البلاد أثناء عملهم في الجيش، وكشف واحد منهم عن ساعده ليرينا رحلته عبر الدنيا، وإذا ساعده حافل برسومات وشم، هذا رسمه في سنغافورة، وذلك في الهند، وثالث في العراق، والرابع في مصر، وتأملت الرسومات، وخيل إلي وكأن العسكري الشاب يسجل بها انحسار الشمس عن حدود الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وظل العساكر يداعبون بعضهم البعض، ويكتبون أسماءهم على حائط الكشك، ويستعجلون اللحظة التي ترحل فيها الباخرة إلى قبرص، إلى أن ظهر الضابط، قصيرا وعصبيا ومنفعلا ومن أعماقه تطل أرستقراطية إنجليزية ابتلي بها العالم من قديم الزمان.
وانهال علينا بأسئلته: كيف دخلتم؟ ولماذا جئتم؟ وماذا تريدون؟ ومن سمح لكم؟ وكنا كلما حاولنا نقاشه ازداد استنكارا حتى وجدناه ينتفض قائلا: أتدركون أنكم ارتكبتم جريمة باقتحامكم مبنى النافي حيث تعسكر حامية بورسعيد؟
وأحسست بشيء يغلي في صدري حين نطق كلمة «الحامية»! لقد كنا محتلين إذن؟ هؤلاء العساكر السذج وهذا الضابط المتكبر كانوا حامية بورسعيد؟! معان مؤلمة أفظع ما فيها أننا كنا نسيناها، أعداؤنا فقط هم الذين لم ينسوا. كنت ذاهبا لمشاهدة رحيل آخر فوج وكأني ذاهب إلى نزهة، وكأن الأمر جزء من رحلة، وإذا بضابط متعجرف يذكرني في آخر لحظة أننا محتلون.
وحانت الساعة
ومضى العساكر بضباطهم إلى الباخرة.
الهدوء مخيم، ومبنى النافي كبير صامت مشتعل الأضواء، والسماء سوداء في لون الماء، والماء في لون السماء، والأنوار وحيدة متباعدة باردة، والبحر يردد أنشودة الموج الأزلية الحزينة، وإيفان جيب واقفة كالحوت الميت الطافي، والقبعات الحمر تروح وتجيء فوقها، والعساكر والضباط يسيرون إلى الباخرة على وقع دقات الأحذية الرتيبة التي تتلصص في سكون الليل وينتهي بها الاحتلال، ينتهي ببساطة كما لو كان جيش الاحتلال رحلة مدرسية قضت في مصر إجازة طولها ثمانون عاما، وها هم أعضاء الرحلة راجعون، والجو هادئ جميل، والباخرة تنتظر، ولا تبقى سوى مناديل بيضاء، تهفهف ليكمل المشهد وتسدل الستار.
ولكم أحسست بالمرارة.
ما هكذا تمنيت أن يكون رحيل الأعداء.
كنت أود بعمري «كما حدث في الجلاء الثاني فعلا» أن تودعهم رصاصات، وتهتف فوقهم قنابل، وينتظرهم خضم البحر، إنهم أعداؤنا، استعمرونا وأذاقونا المر، وها هم يرحلون، أعداؤنا يرحلون، بعد ثمانين عاما، ترى كيف احتملنا الثمانين؟ وأي مأساة أخرت الرحيل؟
أعداؤنا يرحلون، فلتتبعهم الهزيمة أنى يرحلون.
درس من سبندر
لدى عودتي وجدت في صندوق الخطابات مظروفا ضخما عليه طوابع اليابان وأختامها، وباستغراب فضضته فإذا فيه كتاب عنوانه «أولاد العم وقصص أخرى». ووقعت في ورطة فقد وجدت المقدمة مكتوبة باليابانية، بينما القصص بالإنجليزية، وأهم من هذا وذاك أن المؤلف هو «ستيفن سبندر»؛ الشاعر الإنجليزي الكبير الذي زار القاهرة في فبراير الماضي. قلبت صفحات الكتاب فاكتشفت أن هناك إهداء في الصفحة الأولى مكتوبا في نصف الصفحة الأسفل على عكس عادتنا هنا، وكان الإهداء موجها إلي، وإلى «ذكرى النقاش الممتع الذي دار بيننا في القاهرة».
المشكلة التي وجدتها تواجهني وتحيرني هي كيف عرف الشاعر الكبير عنوان منزلي، ولماذا يهدي إلي، بالذات كتابه، كل ما أذكره أنني قابلته في أثناء الاحتفال الذي أقيم في جامعة الأدباء لأعضاء المؤتمر التحضيري لكتاب آسيا وأفريقيا، وأن الصديق مرسي سعد الدين كان واسطة التعارف. ورغم الازدحام الهائل وكرنفال الأجناس والألوان والأزياء، والفوضى المحببة، واحتشاد الغرفة بأبناء القاهرة وبكين وسيول وكابول، وزكريا الحجاوي واكتشافاته في عالم الفولكلور، وضجة النقاش والتعارف الكثير السريع الذي يدور في أمثال تلك الاحتفالات، إلا أني دهشت لستيفن سبندر؛ فعلى عكس ما نتصوره عن الشاعر وجدته أنيقا منظما دقيقا حتى في تصفيف شعره الأبيض المهيب واختيار كلماته، حتى بدا لي وكأنه يمثل شاعرية النظام وروعة الاستتباب النفسي، ورغم الاكتظاظ فقد ظللنا أكثر من نصف ساعة نناقش الفرق بين الشاعر والقصاص حين يعبر كلاهما عن ذاته أو عن تجربة شخصية مرت به.
تذكرت هذا كله وأنا أتصفح الكتاب، ولكن المشكلة لا تزال بغير حل، كيف عرف ستفين سبندر عنواني. يئست أن أعثر على جواب، ووجدت شغفي بقراءة القصص أشد. الكتاب مطبوع في اليابان بتصريح من دور النشر البريطانية في سلسلة تضم خلاصة لأروع الأعمال التي كتبت باللغة الإنجليزية لشكسبير وشيللي وميلتون وأوسكار وايلد وكالدويل وإيليوت وجاسكل وهكسلي وبيتس وسبندر. بالكتاب ثلاث قصص من النوع الذي يطلقون عليه: القصص القصيرة الطويلة. والحقيقة روعت؛ فالقصص الجيدة من هذا النوع قليلة جدا في الآداب العالمية لا يكاد يذكر الإنسان منها غير المعطف لجوجول، وكرة الشحم لجوجول، وكرة الشحم لجي دي موباسان، والحائط لسارتر، وحياتي لتشيكوف، ورجال وفئران لشتاينبك، وباستطاعتي أن أضيف الآن: وأولاد العم لستيفن سبندر. إنه أستاذ لا يبارى في هذا المجال، وقصصه الثلاث كانت بالنسبة إلي اكتشافا.
المهم أني وأنا أقرأ فقرة من قصته الثالثة «بجوار البحيرة» تذكرت كل شيء؛ فحين كاد نقاشنا أن ينتهي أجاب على إعجابي بآرائه في القصة بقوله في تواضع جم، أنه بجوار الشعر يكتب القصة أيضا وحين أبديت دهشتي وأسفي لأني لم يتح لي أن أقرأ له قصصا، أذكر أنه سألني عن عنواني فقلته له، وكتبه في باطن علبة كبريت كانت معه. ولحظتها ابتسمت فقد ذكرتني طريقته بعشرات المرات التي كتبت فيها عناوين وأرقام تليفونات ووعودا بمكالمات ومراسلات على علب سجائر وكبريت وأوراق. واعتقدت أن مصير عنواني حتما سيكون له نفس مصير العناوين التي آخذها، ولتأكدي من هذا أهملت الموضوع ونسيته حتى قبل أن تنتهي الحفلة. لم أتذكره إلا هناك، وقد وصل إلى الكتاب فعلا، وصل إلي وقد نسيت أنا كل شيء عن سبندر والليلة والنقاش، بل لم ينتظر الرجل أن يعود إلى لندن ليرسله، أبدا، من أول بلد صادف فيها أثناء تجواله نسخة من أحد كتبه، من اليابان، سارع بإرسالها ليوفي بوعده الذي أعطاه في ازدحام وعود وتأكيدات. ووعد ممن؟ من شاعر يغتفر الناس له مقدما أن ينسى أمثال هذه الوعود الصغيرة باعتباره لا بد مشغول بما هو أهم وأعظم.
تأملت هذا كله وأحسست بالخجل، كم من صديق كتب لي ولم أرد عليه، كم من مواطن قارئ كلف نفسه العناء وأرسل، كم من مئات من الوعود الصغيرة والواجبات الصغيرة لا أبعثرها أنا وحدي ولكنا جميعا، نبعثرها في سخاء ليس له نظير.
العجوز والصحراء
أظننا جميعا نعرف قصة الأسطورة التي تقول إن سيدنا سليمان مات وهو واقف مرتكز على عصاه، ومع هذا بقيت الجن والإنس والحيوانات تعمل خوفا منه واعتقادا منها أنه لا يزال حيا. والأسطورة لا تحدد عدد السنين التي ظل العمل فيها يدور على هذا النحو، ولكنها تذكر أنه بعد مدة طويلة بدأت نملة تتساءل إن كان ما يزال حيا، وحين اشتد الجدل تطوعت أن تقوم بقرض عصاه لتثبت للجميع أنه مات، ولولا العصا لخر جثة هامدة. وبالضبط هذا ما حدث؛ فلقد ذهبت النملة وقرضت العصا وإذا بسليمان يسقط، وإذا بهؤلاء المرعوبين من وجوده يدركون أنه مات، فيكفون عن العمل الذي كان قد سخرهم للقيام به، وينتشرون في الأرض أحرارا.
تذكرت هذه الأسطورة وأنا أتابع هبوط القوات البريطانية على أرض الكويت كما نقلته بعثة التليفزيون العربي. لأول مرة أحس أن الكاميرا يمكن أن تتحول في اليد الماهرة إلى سلاح أشد فاعلية من القلم ، ومن السيف أحيانا؛ فالحقيقة أني ظللت أتأمل العساكر البريطانيين الهابطين إلى الأرض العربية، وتتداعى في نفسي آلاف المعاني، وأسترجع الذكريات. إن لهم نفس أردية الإنجليز ودباباتهم ومدافعهم، ولكن شتان، شتان بين إحساسنا بهم أيام الحرب الثانية وأيام كانوا يحتلون أرضنا وإحساسنا بهم الآن. أبدا لم يعد لهم وقع القوة القاهرة المحتلة. لأول مرة أحس بهم جنودا في جيش مرتزق لا يدافع عن إمبراطورية أو وطن أو عدالة وإنما يسفح دمه وبالأجر دفاعا عن شركات وأصحاب شركات. ما أخيبه من هدف! والعساكر أنفسهم. لقد رحت أعجب، أهذا هو الجيش الذي يدوخ الشعوب ويسجن كينياتا ويلقي الرعب في مساحات شاسعة من أراضي المستعمرات وغير المستعمرات. إنهم حفنة من الصبية، من الجيل الإنجليزي الجديد، شبان صغار يمضغون اللبان وتحس لهم بنعومة ورقة النساء. ما لهؤلاء وللصحراء وللرمال؟! جيل جديد شقي بنفسه وبالظلم الذي يدافع عنه دفاع الحق، وبالبترول الذي يموت من أجله ولا يهمه في قليل أو كثير. لقد خيل إلي أنه لو قدر لفارس عربي، على حصان حتى، أو برمح، أن يخرج عليهم من قلب الصحراء ويصرخ فيهم، مجرد صراخ، لولوا الأدبار.
اللهم إنها لشماتة؛ فلقد عشنا حتى رأينا جيش الإمبراطورية بلا إمبراطورية أو هيلمان، بلا أعلام أو إطار ضخم يحيط به، بلا شنة أو رنة أو اسم يدوي: جنود الملكة! فجنود الملكة ها هم نراهم عرايا لاهثين مذعورين، شبانا صغارا يلهون بالسلاح بلا إحساس بالسلاح، بل حتى برغبة ملحة أن يلقوه أو يبيعوه أو يقايضوا عليه بمثلجات أو بقطع لبان.
ومع هذا فهناك بلاد لا تزال تتم فيها عملية التناسخ الاستعماري، وللإنجليزي فيها مندوب سام وسفراء فوق العادة وكأن كل شيء لا يزال كما كان، والهيلمان هو الهيلمان. لقد انتهى الإنجليز أيها السادة وما ترونه ليس سوى خيال المقاتة والميت الواقف وسليمان الذي لا تسنده سوى عصاه، وحتى عصاه انقرضت وسقط، من خمس سنوات، السقطة التي لا قيامة له بعدها، والبركة في جمال عبد الناصر، والبركة في بورسعيد.
إني لفرحي لا أكاد أصدق أن هذا كله حدث، وأننا نحن الذين أسقطنا الإمبراطورية بجرة معركة واحدة، جثة لا حراك بها؛ فليست حركاتها الآن سوى حركات ميت، ليس مبعثها عودة الحياة إليها، ولكن مبعثها الشمس الساطعة اللافحة التي غربت عنها وأشرقت علينا، شمس لا تملك معها حتى وهي في ميتتها إلا أن تتململ وتتلظى.
الشعر والبوتاجاز
لثالث مرة أعيد قراءة الديوان والديوان للشاعر العربي الكبير رغم سنه الصغير صلاح عبد الصبور، والديوان مطبوع في بيروت؛ لأن القاهرة لم يعد بها دار نشر واحدة تقبل أن تجازف بنشر الشعر. وكأن الناس في بلادنا لم يعودوا في حاجة إلى هذا اللون من ألوان الفن، ولكنها للأسف الحقيقة. في الخارج يضعون دواوين الشعراء جنبا إلى جنب مع الأناجيل في كل بيت، وهنا تجد المنزل عامرا باسم الله ما شاء الله بالصالون الذي لا يستعمله أحد، وبأدوات المائدة والمطبخ الأنيقة الغالية والصواني الفضة، ولن تجد فيه كتابا واحدا عدا الكتب المدرسية التي يستخدمها الأولاد، بله ديوان شعر. الناس هنا مشغولون بالمظهر، باللهث وراء الفريجيدير والبوتاجاز والتمتع بمباهج الحياة و«الفرجة» على الأفلام وأنواع الفن التي لا تكلف صاحبها مشقة أكثر من مشقة الاستلقاء المريح و«استقبال» النكتة، وربما لهذا لا أحد يريد الشعر؛ فالشعر يثير الشجن والفكر والخيال، وهي مناطق داخلية لا يراها أحد ولهذا لا يهتم أحد بسترها أو إضاءتها. هم جميعا يهتمون بجلودهم الظاهرة يبحثون لها عن أكثر الجوارب أناقة، أما الرءوس والصدور والأعماق فما الحاجة إلى الإنفاق عليها، وعريها في مجتمعنا لا يعد عورة ولا يسخر منه أحد.
وما أكثر ما رأيت بعض هؤلاء الناس؛ اللاهثين وراء الكرفتات الأنيقة والجوارب، ما أكثر ما رأيتهم إذا ابتعدوا عن الآخرين وانفردوا بأنفسهم ومكنون إحساسهم، حزانى، واجمين، لا حول لهم ولا قوة، أعماقهم سوداء كظلام الليل لا يضيئه شعاع من نور، وأرواحهم من الداخل عاجزة عن أن ترى أو تتأمل أو تفكر. إنهم رجال كبار، وسيدات يرتدين أكثر الأزياء أناقة، ولكنهم من الداخل مراهقون وقاصرون من الداخل ، أطفال جهلة لم يتعلموا حكمة الحياة ولا أنضج نفوسهم فن أو ثقافة؛ ولهذا رغم كل المظهر العظيم والفريجيدير والبوتاجاز يظلون حزانى، حزن الأعمى في عالم يرى بالميكروسكوب والتلسكوب. ورغم الطعام الجيد والحلوى لا ينقشع ما يعشش في نفوسهم من ظلام؛ فهو ظلام لا يذهب به إلا الفكر والشعر والتثقيف.
إن الشاعر لم يوجد في المجتمع البشري عبثا. لقد أوجدته الجماعة ليكون لها قرن الاستشعار، لينمي لديها الخيال، ليقول ما يصبح به الإنسان أكثر إنسانية، ويحيل به نوازع الحيوان إلى أرقى نوازع البشر، ليصبح به الرجل أقوى من كل ما حوله، أقوى من العقبات والمشاكل، لينغم خطوات القوم، ليحدو القافلة، ليظل الركب ماضيا في روعة وانتصار.
إني أقترح على كل أولئك الملهوفين لتدبير القسط وتجميل المطابخ بأدوات حديثة، أقترح عليهم أن يغامروا مرة ويقوموا بحماقة بشرية لن تكلفهم غير قروش لا تعادل ثمن «طاسة» أو فردة جورب؛ مغامرة يشتري فيها أحدهم ديوان شعر، أو كتابا، أي كتاب، يذهب إلى المكتبة، ويتفرج وينتقي، ثم يشتري كتابا واحدا فقط وحبذا لو كان ديوان شعر. إني لواثق أنه بعد قراءته سيصبح حتى من هذه الناحية، أكثر قدرة على الكسب وعلى شراء «الطاسة» وإكمال ثمن النجفة.
وليعتبر الصديق محمد بشير مدير شركة الإعلانات والأخ عبد الحميد حمروش أن ما سبق إعلان سافر عن الشعر وكتب الشعر؛ إذ ماذا أفعل وقد وصلنا إلى حد أصبح من الواجب علينا فيه أن نعلن عن الشعر وفوائد الشعر ليقرأه الناس، حقيقة، ماذا نفعل؟!
الجزائر في خطر
كنت أريد أن أخصص هذا الحيز لعدد من المواضيع الخفيفة الجديرة حقا باليوميات، ولكن الأخبار الخطيرة الأخيرة القادمة من الجزائر دعتني إلى تغيير رأيي؛ أخبار تجعل الإنسان يعتقد كأن أعداءنا كما كانوا يفعلون دائما يشغلوننا بهجوم مفتعل من المشرق في «شتورا» واجتماع مجلس الجامعة، ليحضروا لهجوم مبيت أخطر في المغرب وفي الجزائر بالذات.
ولا زلت أذكر حين استيقظنا ونحن في الجزائر ذات صباح، والأزمة على أشدها بين الجزائر وتلمسان، فوجدنا أن قوات الولاية الرابعة التي كانت تقف على الحياد حتى ذلك الوقت، قد زحفت إلى الجزائر العاصمة في الفجر واحتلتها وأقامت المتاريس في الشوارع والمترليوزات. يومها استبشر الجميع بهذا العمل، وقالوا إنه لا بد قد تم باتفاق مع بن بيلا وأعضاء المكتب السياسي تمهيدا «لتحييد» المدينة؛ إذ كان المسئول العسكري عنها هو الكولونيل عز الدين الذي كان يعارض بن بيلا ورفاقه بشدة، وكانوا من ناحيتهم يرفضون دخول الجزائر طالما هو المسيطر فيها. كان هذا أول عمل عسكري تقوم به قوات من جيش التحرير، وكان كذلك أول تدخل للجيش في الموقف المتأزم، وكان مبعث تفاؤل الجميع أنه عمل قامت به قوات محايدة، وأن الهدف منه تهيئة جو «محايد» يوفر الأمن والأمان لأعضاء المكتب السياسي من كافة الاتجاهات كي يلتقوا ويجتمعوا ويتفقوا وتتحد قيادة جبهة التحرير مرة أخرى. وهكذا قامت مظاهرات شعبية، كل مظاهرة تحمل على رأسها جنديا من جنود الولاية الرابعة، تهتف للجيش المتدخل لحسم الموقف وتحيي احتلاله للمدينة. ورغم هذا كله فبيني وبين نفسي لم أطمئن أبدا لهذا العمل البوليسي المفاجئ، رغم إجماع الزملاء والمعلقين والمحللين على أنه لا يمكن إلا أن يكون قد تم بعلم واتفاق مع بن بيلا وبقية أعضاء المكتب السياسي، لم أطمئن لأن أحدا من الأطراف المتنازعة لم يعلن رأيه في هذا العمل. ومن ناحية أخرى كانت الأزمة في قيادة جبهة التحرير قد خلقت فراغا في الموقف وفي القيادة السياسية للشعب؛ بحيث كانت الجماهير تبحث عن مخرج من هذه الأزمة حتى ولو على حساب قيادة جبهة التحرير كلها أو بتنحيتها؛ بحيث إن بروز الجيش على صورة قوات الولاية الرابعة وأخذهم ذلك الموقف العسكري اسما، السياسي حقيقة، كفيل بإحاطة هذا العمل وإحاطة قوات الولاية الرابعة لهالة «المنقذ» الذي كان يتطلع إليه الشعب طوال الأزمة.
وهذه الحالة النفسية لجماهير الشعب الجزائري كان من المهم جدا أخذها في الاعتبار، تلك الحالة التي دفعتني لأن أكتب «للجمهورية» في رسالتي اليومية إليها من هناك، قائلا إن الوضع قد وصل إلى حد من الممكن أن ترحب فيه الجماهير بأي انقلاب عسكري يقوم داخل جيش التحرير.
ولقد ظللت مصرا على هذا الرأي، غير مطمئن أبدا لتدخل قوات الولاية الرابعة على هذه الصورة رغم إصرار الجميع، ومنهم مراسلون أجانب ومعلقون يعارضون بن بيلا على أنها إجراءات مؤقتة، وأنها كلها ستنتهي حين يحضر أعضاء المكتب السياسي ويتولون زمام السلطة، وأن المشكلة الجزائرية تعتبر على هذا الأساس قد حلت لمصلحة بين بيلا والمكتب السياسي.
ولكن، آه من هذه السلطة وزمامها حين يتذوقها شبان صغار، القليل منهم هو الذي حارب، والكثير هو الذي ركب موجة جيش التحرير الصاعدة، حين يعتقدون أنهم هم الذين جاءوا بالاستقلال وهم الذين أصبحوا حقيقة في أيديهم السلطة، يأمرون فيطاعون ويدخلون الجزائر فتحييهم الجزائر، يستطيعون أن يوجهوا ويسيطروا على أجهزة الإعلام فيها ويسمحوا أو لا يسمحوا لأعضاء الحكومة أو المكتب بالاجتماع.
يومها لا أزال أذكر المناقشة الطويلة التي دارت بين السيد علي خشبة القائم بأعمالنا في الجزائر وواحد من أخلص وأذكى وأنشط أعضاء تمثيلنا الديبلوماسي، وبيني حول هذا الوضع، وكيف استنفدنا جزءا كبيرا من المساء والليل وهو يحاول إقناعي أنه من غير المعقول أن يدور شيء كهذا بعقول قادة قوات الولاية الرابعة، وأنه من المستحيل أن يتصدى بضعة شبان مثلهم يجهلهم الشعب تماما لمسئولية الحكم فيزيحوا بن بيلا وكريم وخيضر وبوضياف ويحكموا هم.
كان الاحتمال في الحقيقة احتمالا واهيا للغاية، كنت كلما قلته لزميل أو صديق عارضني فيه بشدة ولم ير فيه أكثر من توجسات وأوهام من ناحيتي، حتى كدت أتنازل في النهاية عنه وأعتقد أني أحمل الأمور فعلا فوق ما تحتمل في جو يبلغ فيه التفاؤل أشده، والكل على يقين أن الأزمة قد انتهت، خاصة وما توقعه الجميع قد حدث، وعاد بن بيلا فعلا عودة الأبطال إلى الجزائر ومضى كل شيء على أتم ما يرام.
ولكن ها هي ذي الأنباء تطالعنا أن الاحتمال الواهي قد أصبح حقيقة واقعة وأن قيادة الولاية الرابعة قد بدأت توجه الضربات إلى المكتب السياسي بالاتفاق والتضامن مع قيادة الولاية الثالثة أكثر الولايات معارضة لبن بيلا والمكتب السياسي. ها هو الموقف يتكشف فيثبت أني كنت على حق، وأن المعركة الطاحنة التي دارت بين زعماء جبهة التحرير قد دفعت ثمنها جبهة التحرير نفسها بحيث فقدت هيبتها التنظيمية، وبحيث أصبح كل ضابط صغير من حقه أن يكون بن بيلا أو بوضياف، ومن حقه أن يقف ليعارض إدماج الولايات وتجميع قواتها في جيش وطني واحد، خاصة إذا كان قد جرب أن يحكم وأن يأمر فيطاع وأن يتذوق سحر السلطة. ولا بد أن في السلطة من السحر ما لا تستطيع النفس البشرية مقاومته؛ فما جربها أحد مرة إلا ووقع صريعا واستعد لمحاربة الدنيا كلها واستعمال أوعر الأساليب وأحطها لكي يستمر ينعم بها ويتذوقها؛ إذ هذا بالضبط ما حدث؛ فما كاد قواد الولاية الرابعة يقومون بانقلابهم العسكري الصغير ويحتلون مدينة الجزائر، ويستمر احتلالهم لها ما لا يزيد عن الشهر، حتى أصبحوا حكاما، وحتى دخلوا هم الآخرون المعركة الناشبة حول من يحكم في الجزائر خاصة والوضع في مصلحتهم. فإذا كان الخلاف بين بن بيلا وبوضياف هو خلافا على من سيتولى الحكم بعد بضعة أسابيع أو شهور، فهؤلاء الضباط يحكمون الآن فعلا، وباستطاعتهم الاتصال، إن لم يكن قد اتصلوا فعلا بباقي قواد الولايات الأخرى، وتوزيع المناصب وعمل حكومة من مجلس الولايات. ومن سخرية القدر أن مجلس الولايات هذا هو الذي احتكم إليه بن بيلا وبن خدة منذ بضعة أسابيع لفض النزاع بينهما. ومن يدري ما داموا سيحكمون، قد يبرز لهم من ينظر الوضع ويجعله قانونيا، وينادي بأن جيش التحرير هو الذي يجب أن يحكم ما دام هو الذي حرر البلاد، وربما علمهم أيضا كيف يتبنون الشعارات وينادون باشتراكية بن بيلا وعروبته وديمقراطية بوضياف وبن خدة.
وبعد.
من سوء الحظ أن هذه التطورات الخطيرة تحدث في وقت نحن مشغولون فيه بهجوم رجعي مبيت من المشرق، هجوم يتزعمه للأسف أيضا حكام سوريا البلد الذي ترعرعت العروبة الحديثة فوق أرضه، وهي تطورات تدل على أننا نواجه تحركات أيضا في المغرب العربي . وأنا لن أسبق الحوادث وأدعي أنها تطورات رجعية غربية وفرنسية بالذات، وكل ما أمامي لأقوله أن أصر على أن فرنسا وأمريكا لا تضيعان الوقت في اللهو بالجزائر، وأن الوضع الآن هناك من الميوعة والفراغ بحيث يمكن لأية قوة أن توجه أقوى الطعنات إلى الحركة الوطنية في الجزائر ومن ثم إلى الحركات الوطنية في المغرب العربي كله، المغرب ابتداء من ليبيا وبترولها إلى الجزائر وتونس ومراكش وما فيها من خيرات وثروات، وما فيها من مؤامرات وخيانات واستعدادات للاتفاق. كل ما في الأمر أن مشكلة هذه القوى الاستعمارية المتربصة كانت هي التكتيك ومخالب القطط التي تستعملها لتوجيه هذه الضربات. وكما تعلمت الحركات الوطنية من حربها للاستعمار دروسا كذلك تعلم الاستعمار. وإذا كانت الحركات الوطنية قد تعلمت أن تسلب الجيش من يد المستعمر والخائن والرجعي لتجعله خنجرا في يد الشعب، فكذلك من الممكن أن يتعلم الاستعمار أن يلعب هو الآخر لعبة الجيش، وتحت أية شعارات وطنية قد تخطر على البال.
والمسرح في الجزائر ممهد تماما للعبة الجيش.
فهل نترك له المسرح خاويا؟
إنني أطالب، كما فعلنا والجزائر تناضل الاستعمار، بحشد كل القوى الشعبية العربية، بالكتابة، بعقد الاجتماعات، بالاتصالات، بالمؤتمرات، بإيفاد الوفود، بتجنيد الشعب العربي كله، والشعب الجزائري خاصة، للوقوف في وجه مخالب القطط الاستعمارية للحيلولة بين أن تنتصر الجزائر كبلاد مستعمرة لتسقط كبلاد مستقلة.
مرحبا بزافاتيني، ولكن ...
السبت
لم يسعدني كثيرا خبر اتفاق المنتج رمسيس نجيب مع الكاتب الإيطالي زافاتيني لكتابة سيناريو لفيلم عن السد العالي، لا لشيء إلا لأن هذا الاتفاق إن هو إلا استمرار لسياسة ترقيع قربة السينما المصرية المقطوعة، تلك التي ترى أن عيوب أفلامنا سببها ضعف «صنعة» السيناريو، وضعف التكنيك السينمائي بها، في حين أن مشكلة السينما عندنا هي «الموضوع»، الموضوع كفكرة، والموضوع كعلاج وإخراج.
الموضوع لدينا هو المشكلة؛ إذ مع احترامي لكل ما قام به السينمائيون من جهود فإني أعترف أني لم أشهد موضوعا سينمائيا مصريا منذ فيلم العزيمة؛ فالسينما ليست فقط صنعة ولكنها أولا فن، والفن إحساس ، والإحساس ليس أبدا إحساسا مطلقا معلقا في الهواء ولكنه إحساس كائنات بشرية معينة تحيا في وطن معين وتعاني من مشاكل وتناقضات معينة. الفن السينمائي إذن لا يمكن أن يوجد هكذا لقيطا إذ لا بد له من نسب، لا بد للفيلم المصري لكي يكون فنا ولكي يكون حقيقيا وعالميا وممتازا أن ينبع من احتياجات وخلجات ومشاعر الشعب المصري. والأفلام التي تخرجها السينما المصرية مصيبتها الكبرى أنها ليست بعيدة فقط عن حياتنا ولكنها بعيدة أيضا عن حياة أي شعب آخر، ومعظمها لا يمكن أن يحدث أو يؤمن الإنسان بإمكانية حدوثه لأي ساكن من سكان كرتنا الأرضية. السينما عندنا «تختلق» المواضيع اختلاقا و«تصنعها» و«تحبكها» وتعتمد على حرفية الصناعة وإعطاء الممثلين أسماء وملامح حقيقية لكي يصدقها الناس فلا يصدقها أحد. هذا الاختلاق سببه أن معظم مخرجينا ومنتجينا ينظرون إلى الفن السينمائي وكأنه لعبة حاوي المهم فيها هو البراعة في أدائها، المهم أن تثير الجمهور وتربطه بلا حراك فوق الكراسي، حتى المشاكل الاجتماعية تختار أو تصطنع بحيث تدخل في قالب اللعبة والحبكة.
وعلى نفس هذه الخطوط يجري تفكير معظمهم لمحاولة الارتقاء بالصناعة؛ إذ يفهمونه على أنه ارتقاء بالتكنيك أيضا في حين أن صناعة السينما عندنا لن ترتقي ولن تتقدم إلا بتغيير «الموضوع»، إلا بطرح الصنعة والصناعة جانبا وفهم السينما على أنها فن مصري لا بد أن يفرزه فنانون مصريون؛ كتاب ومخرجون، وبالطريقة التي يختارونها هم حتى لو تعارضت مع كل مفاهيمهم الهتشكوكية والصراعية والتلفيقية، وكأن رمسيس نجيب لم يتعظ بدرس «وا إسلاماه» الذي أحضر كاتبا هوليوديا عظيما ليكتب سيناريو فكانت النتيجة أنه لا أحس الموضوع ولا تجاوب معه؛ إذ حقيقة، كيف لكاتب من هوليود أن يحس ويجسد ويعبر عن صرخة الإسلام في «وا إسلاماه»؟
وكيف لكاتب من إيطاليا، أنحني لعبقريته في مواضيعه الإيطالية لفهمه العميق الواعي للإنسان الإيطالي، أن يحس ويعبر ويجسد السد العالي، مأساتنا وبطولتنا، محاولتنا الكبرى وانتصارنا الأعظم. ليس هناك مانع طبعا أن يكتب الكتاب الأجانب عنها ولكنهم أبدا لن يصلوا إلى شعورنا الداخلي ولن يدركوا أبعاده. وأي عامل عادي ينقل التراب في السد باستطاعته أن يعبر عن هذا المشروع بالنسبة للإنسان المصري بأروع مما يستطيعه شكسبير وزافاتيني؛ فنحن في عصر لم يعد الفن فيه أكاذيب وخيالات، الفن في عصرنا أصبح هو والصدق وجهين لعملة واحدة اسمها الحياة. وحسبنا أن نرى «مذكرات مهندس» ذلك الفيلم التسجيلي القصير الصادق الذي أنتجه المخرج صلاح التهامي حتى دون الاستعانة بكاتب، لكي ندرك أن السد العالي ليس سدا صناعيا في أسوان ولكنه أولا حلم رائع يحيا داخلنا ونبنيه بصبر وطوبة طوبة.
إني مرة أخرى أضرع للقائمين على صناعة السينما عندنا أن يدركوا أن عليهم أولا أن يفهموا أن ألف باء السينما فن، وأن الفن إحساس، والإحساس لكي يكون صادقا وعميقا وعالميا لا يمكن أن يختلق أو يقتبس أو يستورد ولا بد أن ينبع من قلب مصري صادق، ليتجاوب معه شعبنا هنا ولتتجاوب معه الشعوب في كل مكان.
الأحد
لم أكن من هواة الكرة، ولكن ماذا أفعل والتليفزيون قد حبب إلي مشاهدتها ومتابعة مبارياتها. ولقد ظللت طويلا وأنا أرى الناس من حولي إما أهلاوية أو زملكاوية حائرا أتردد أيهما أختار، وكانت النتيجة أني لم أختر ناديا بعينه. كل ما في الأمر أني أتحمس للمغلوب ويصبح كل همي أن يخرج من المباراة وهو فائز أو على الأقل متعادل. ويبدو أني وحدي الذي أقف هذا الموقف؛ فطوال يومين بأكملهما وأنا أرى المظاهرات تمر من تحت بيتنا في الدقي تشمت في الزمالك وتسب - بروح غير رياضية أبدا - لاعبيه.
المهم أن حكاية الزمالك والأهلي هذه تستولي علي كلما فكرت فيها، لا للكرة ولاعبيها وإنما لفكرة الصراع نفسها؛ فلولا هذا الاختلاف الشديد في الرأي، ولولا التحزب مع هذا النادي أو ضده لما وجد هذا التعلق الساحق باللعبة، وكأن من شيم الطبيعة الإنسانية ألا تحب إلا إذا كان لها الحق أن تكره، وألا تلتقي على الحب أو الكره إلا إذا كان لها الحق أن تختلف.
ترى، لو لم يكن هناك أهلي وزمالك أكانت تحظى الكرة كلعبة بكل هذا التعلق والاهتمام؟
ليس بمستوى المعيشة وحده
في هوليود لا يوجد ممثلون من مصر، ولكن هناك أطباء مصريون أصبحوا من أشهر الأطباء في لوس أنجيلوس العاصمة الغنية لأمريكا، والتي تعتبر هوليود أحد شوارعها الطويلة التي لا يزيد ارتفاع المباني فيها عن دورين.
في حي «بيفرلي هيلز» أو تلال بيفرلي الذي يحيا فيه كبار النجوم والملكات السابقات وبينهن الملكة السابقة نازلي وابنتها، في هذا الحي الخيالي الحافل بأجمل ما يمكن أن ترى العين من فيللات وقصور، يقطن طبيب مصري اسمه الدكتور الهادي سالم في منزل كبير تحيطه غابة فيها شلالات وعصافير وحمام سباحة، ولديه سيارتان كاديلاك موديل 66 إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، والدكتور الهادي سالم جراح ومتخصص في جراحة الصدر ومحل ثقة أغلب نجوم هوليود ومخرجيها ومنتجيها، ويتقاضى في العملية الواحدة بضعة آلاف من الدولارات.
هذا الجراح الكبير ظل يلح أكثر من عامين للالتحاق كمدرس بإحدى كليات الطب لدينا، ولكن وزارة التعليم العالي آنذاك رفضت الاعتراف بشهادته واضطرته اضطرارا للهجرة والعمل في أمريكا. ورغم هذا كله فقد صرح لي ونحن جلوس في شرفة قصره المطلة على شلال الماء الصناعي بأن منتهى أمله أن يعود لمصر وأن يتاح له أن يزاول مهنته العلمية ويخدم مواطنيه في بلده؛ فإن الآلاف التي يربحها ومستوى المعيشة الفاخر الذي يحيا فيه لم يستطيعا للحظة أن ينسياه أنه لا يزال محروما من خدمة بلده ومواطنيه، ممنوعا من المشاركة في الثورة الحضارية الكبرى التي تشع من القاهرة.
عدت ليلتها إلى حجرتي في الفندق الصغير المليء باليابانيين والعجائز الأمريكيات وأنا أفكر في هذه الحقيقة الغريبة، حقيقة أنه ليس بمستوى المعيشة وحده يحيا الإنسان، وحتى ليس بكاف أن يحس المرء أنه يمت إلى شعب. إن مجرد الانتماء وحده لا يكفي. لا بد أن يحس الإنسان أنه يصنع شيئا من أجل هذا الانتماء، وهذا هو الشيء الذي يعذب آلافا ممن يتركون بلادهم ويهاجرون ويحيون في مستوى أكثر ارتفاعا وغنى. المشكلة أنهم يحسون أنهم يحيون «وحدهم» في هذا المستوى، حياة مهما كانت فالإحساس الأقوى أنها مؤقتة، وأن شيئا أقوى منهم ومن كل تفكيرهم ينتمي ويرنو إلى اللحظة التي يقوم فيها بعمل من أجل هذا الانتماء.
فيلم الخرطوم
التفكير البريطاني الإمبراطوري كاليهودي الذي أفلس، يراجع دفاتره القديمة ويحاول أن يستخرج منها أشياء يمجد بها العظمة الغاربة التي كانت لا تغرب عنها الشمس. إنهم يحاولون اليوم أن يصنعوا من أعمدة الاستعمار الكبرى، تلك التي على أكتافها امتد العدوان البريطاني بالمكر والخبث والخديعة ويجعلوا منها نماذج لأبطال خرافيين. هكذا صنعوا بلورنس، ومن ضابط أجير في المخابرات البريطانية أحالوه إلى محب متدله في الصحراء، وصاحب رسالة، وباعث للثورة العربية ومناضل من أجلها. هكذا أرادوا من فيلم لورنس أن يقولوا إن الثورة العربية ربما كالجامعة العربية، أصلها بريطاني وإن الإنجليز أصحابها، وبالتالي أصحاب الولاية عليها وعلى عروشها وملوكها من بعيد. في فيلم الخرطوم الذي رأيته بإحدى دور السينما في شيكاجو أحسست باشمئزاز لم أحس بمثله في حياتي، وأنا أرى العقول النتنة تحاول بعد أن زالت عن الإمبراطورية أنيابها، تحاول بالكهن والخبث والفن أن تخدع العالم العالمي عن حقيقتها وبواعثها؛ فالفيلم يبدأ بثورة المهدي.
والمشكلة أنهم لم يصوروا هذه الثورة على أنها ثورة وطنية سودانية مثلا اتخذت شكل الهلوسة الدينية، وأنها لا تمت إلى حقيقة رسالة الإسلام، ولكنهم صوروها على أنها ثورة إسلامية وكأنها من عمل العقيدة الإسلامية، وأن أحلام المهدي بإقامة مذبحة في الخرطوم هو لإعلاء شأن الدين. المهم أنهم صوروا غوردون باشا، في الناحية المقابلة، مسيحيا يقرأ الإنجيل ومؤمنا إلى أقصى حد بالحضارة المسيحية الغربية، إيمانا دفعه لأن يذهب وحيدا أو يكاد لإنقاذ المصريين الذين كان المهدي يهدد بذبحهم جميعا لتخويف القاهرة وإستامبول والعالم الإسلامي بأسره كي يركع له ويخضع، وهكذا «استشهد» غوردون باشا دفاعا عن مسيحيته التي أرادت أن تقف في وجه الهمجية المهدية «الإسلامية»، وأرادت أن تحمي المصريين من الذبح والتمثيل، في حين أن مذبحة الخرطوم لم تحدث إلا بغباء غوردون باشا وسخافة تصرفه. إنه المسئول الأول عن المذبحة وليس ضحيتها أبدا كما صوره لنا التاريخ الذي درسناه، والذي للأسف لا يزال يدرس؛ فهذا التاريخ قد كتبه مؤرخون بريطانيون نفس المؤرخين الذين سموا ثورة عرابي «هوجة» واعتبروا أن ما قام به الجيش البريطاني كان إنقاذا لعرش مصر وللسلطان وللمصريين وللنظام العام.
لقد أحسست بعد مشاهدتي للفيلم أننا نواجه ليس فقط أعداء عسكريين وسياسيين، ولكنا نواجه أيضا أعداء فنيين وفنانين خطرهم لا يقل عن خطر الأعداء العسكريين والسياسيين، وأن عداءهم لنا لن يهدأ أبدا ولن يقر لهم قرار، وأن السويس ليست نزوة من إيدن إنما السويس كانت التعبير المفتوح عن العنجهية الاستعمارية الإنجليزية، وأنها إذا كانت قد كشفت وهزمت فإنها أبدا لم تختف ولا تزال تظهر، ليس فقط في عدن وإمارات الخليج وإنما حتى في التاريخ وحتى في الأعمال الفنية.
المؤسف حقا أن هذا الفيلم صور معظمه في مصر، وأن قوات من الجيش المصري هي التي اعتمد عليها مخرجه في كل المعارك التي دارت في الفيلم. اللهم إذا كان هذا هو الطريق للحصول على عملة صعبة، اللهم إذا كان الثمن أن نطعن على الملأ وعلى المستوى العالمي ليس فقط أنفسنا كثورة وإنما أنفسنا كحضارة وكشعب وكمسلمين، فبئسه من ثمن، وبئس ما نفعل حين نترك عقولا لم تتخل بعد عن تفكيرها الصليبي تجاهنا، تتولى، وبمساعدة منا وترحيب؛ تاريخ حياتنا.
دكتور زيفاجو
وبمناسبة الأفلام رأيت أيضا فيلم «دكتور زيفاجو». وصحيح أن الغرب قد صنع هذه الرواية قبة مع أنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون رواية متوسطة الجودة قد تستمتع فيها بلحظات من الشعر الحقيقي، ولكنك لا تملك إلا الاشمئزاز من بطلها الأناني المنكمش على ذاته الذي لا يهمه، وسط الثورة الهائلة التي تغير بلده، إلا اختفاء الفودكا وصعوبة الحصول عليها، ولكن الفيلم جاء حتى خاليا من لحظات الشعر هذه. وقد كنت أتوقع أن تحشد هوليود كل إمكانياتها لتخرج وعلى أوسع مدى المشاهد التي تصور الثورة الروسية أبشع تصوير، ولكنها - وهذا هو الغريب - لم تفعل وكأنما مراعاة لشعور الاتحاد السوفييتي، وجاء الفيلم كله قصة إنسان منكفئ على شعوره الذاتي في اللحظات التي يتخلى فيها حتى الأنانيون والذاتيون عن أنانيتهم وذاتيتهم. ولقد قام عمر الشريف بالدور. ومع أنه قد حاول قدر طاقته أن يمثل دور «الشاعر» ولكن لا السيناريو ولا الإخراج ساعده، وكان أنجح ما في الفيلم هو التصوير.
ولكن مشكلة «دكتور زيفاجو»، في رأيي هو في هذا القرار الذي اتخذته الرقابة بمنعه. أناس كثيرون بعضهم مصريون كانوا دائمي الإلحاح علي بالسؤال: لماذا منعنا عرض دكتور زيفاجو؟ والحقيقة أني لا أعرف الأسباب التي حدت بالأستاذ عبد الرحيم سرور لاتخاذ هذا القرار، ولكن الفيلم كما رأيته لا يستحق شرف المنع من العرض عندنا؛ فقد نشرت الصحف الأمريكية الخبر وكأنه حادث كبير، وكأننا نخاف من عرض دكتور زيفاجو في حين أن الفيلم كما قلته ليس فيه شيء يستحق أن يسيء إلينا أو حتى إلى الاتحاد السوفييتي نفسه. إن خير رد على كل الذين «هولوا» من قرار منع العرض هو أن نعرض الفيلم، وإني لمتأكد أنه لن يعرض أكثر من أسبوع.
سيد درويش
والظاهر أن حديث السينما سيسرقنا؛ فلقد رأيت في الإسكندرية فيلم سيد درويش والحق أنه كان مفاجأة لي؛ فبعد سكوته الطويل جاء أحمد بدرخان ليقدم لنا قصة جيدة معروضة بأبسط وأحسن ما تعرض به قصة من هذا النوع؛ فطوال العرض لا تتملكك لحظة ملل واحدة وإنما يشدك إلى القصة والأحداث راو سينمائي كبير يعرف بالضبط ماذا يريد، ويعرف أكثر كيف يفعل. والحق أيضا أن كرم مطاوع، وهذه أول مرة أراه يمثل فيها، كان موفقا إلى أبعد حد في تقمصه لشخصية معقدة كشخصية سيد درويش. وأروع ما استطاع السيناريو أن يحققه هو قصة الحب بين سيد درويش وجليلة. تلك التي قامت بها الممثلة القديرة حقا هند رستم. كل ما آخذه على الفيلم أنه جاء كالأفلام التسجيلية إلى حد ما واكتفى بالقصة الخارجية لحياة سيد درويش، وقد كنت أطمع في فيلم يتعرض لحياة سيد درويش أن يجسد لي أزمة ذلك الفنان العظيم، الذي قام ليغير من وجه الموسيقى في عصره، ما هي التناقضات الخطيرة التي كانت تدفعه لنسيان نفسه والدنيا؟ كيف كانت أزماته وكيف كان يخلق من خلال أزماته تلك؟ لقد صور لنا الفيلم وكأن النجاح كان ينتظر سيد درويش على عتبة الباب، في حين أن قصة كفاحه من أجل أن يغني ويؤلف ويغني معه الشعب تستحق وحدها فيلما بأكمله. حقيقة كنت أحب لفيلم جيد كهذا الفيلم أن يغوص قليلا في أعماق الفنان مثلما صوره لنا من خارجه، ولا يغوص إلى نفسه فقط وإنما إلى عصره أيضا فيقدم «عصر» سيد درويش وطبيعة نماذج ذلك العصر وأفراحه وتعاسته، ويرينا كيف تفاعل سيد درويش مع عصره ليخرج لنا بتلك النتيجة المذهلة: موسيقى لا تزال إلى الآن أحدث بكثير من كثير مما نسمعه، إلى درجة أني أقترح على شركات الأسطوانات لدينا أن تطبع وبكميات ضخمة كل الأغاني المشهورة التي سمعها الناس في الفيلم، والتي لم يسمعوها؛ فالفيلم أيضا لم يتعرض لتطور سيد درويش الموسيقي، ولم يقدم لنا أحجار الزاوية في هذا التطور. أما اقتراحي الأخير فهو أن يقوم إسماعيل شبانة بصوته القوي الجميل بتسجيل هذه الأغاني كلها. إنه حينئذ يكون قد قدم للموسيقى العربية خدمة لا تنسى. وأعتقد أنه لكي يحدث هذا كله لا بد من تأميم سيد درويش، ومن شراء حق كل أغانيه من عائلته ومكافأتهم بسخاء؛ فيكفي أنهم أولاد هذا الفنان العملاق لنحلهم من أنفسنا مكانا رحبا طيبا. إنها أقل التحية نوجهها لمؤسس موسيقانا الحديثة في ذكراه بمثل ما كان فيلم سيد درويش بداية تعريف على النطاق الشعبي بهذا القائد الموسيقي الخلاق.
واحد من مطربي العشرين مليون كادح
الغناء عندنا رجولة وليس رقة صوت.
أنا جسمي مجروح وداير أعالج الناس. ***
لو كان الأمر بيدي لجعلت المحاورة التي دارت بيني وبينه شعرا شعبيا؛ فما أسهل ما تصورت تأليف الشعر وأنا أشهده يؤلف أمامي هكذا بمثل ما يفعل الحاوي في لعبة سهلة، ولكني حين انفردت بالقلم والأوراق وجدت أن الأمر ليس بالبساطة التي تصورتها. لقد اخترت محمد المحلاوي الشهير بأبي دراع لا لشيء إلا لأنه يعد في رأيي مطرب تلك الطبقات التي تبدأ من العدم والمعدمين وينتهي حدها عند عبد المطلب حيث تبدأ طبقات شعبية أخرى وعلى مستوى آخر؛ مطرب الناس الذين يكونون لنا نحن الشعب الأساس والجذور، الذين يحيون وأرجلهم مغروزة في الحفر والأرض والطين وعلى أكتافهم يحملون كتلة شعبنا الهائلة.
وأبو دراع يعي هذه الحقيقة. قال لي مقدما نفسه: أنا مطرب مشهور يا دكتور، أكثر الناس شهرة والله من عبد الحليم حافظ وفريد؛ فالناس الذين يسمعونني ويتجاوبون معي هم أصحاب الجلاليب الذي إذا سمعوا «نار يا حبيبي» أو «قول لي عملك إيه قلبي» دقوا الأرض بأقدامهم من الغيظ وطلبوا أن يسمعوا الموال، فهو وحده الذي يشجيهم ويتلوون لوقع كلماته.
ومغنو هذه الطبقات لهم مؤهلات تختلف تماما عن مغنينا الذين نسمعهم في أضواء المدينة، هناك الصوت الأصيل ليس مهما أبدا، يكفي أن يكون قويا رجاليا معبرا؛ إذ المطلوب منه أن يهز ويحرك أجسادا رجالية لا ذرة للأنوثة فيها ولا يمكن أن تستجيب إلا لصوت في مثل قوتها ورجوليتها. ثم إن المغني لا يغني فقط إنه أولا وأساسا شاعر كلمات ومؤلف نفس المقاطع التي يغنيها. والغناء ليس مدا ولا سيكا ولا اسطامبوللي بالمرة؛ إذ الموسيقى التركية الشرقية لم يصل أثرها أبدا إلى هذا القطاع الضخم فبقي سليما، يعتمد على نغم مصري قد لا يكون جميلا أو جيد السبك، ولكن ميزته الكبرى أنه مصري مائة في المائة لا يمكن أن يفرزه إلا شعبنا هذا، ولا يمكن أن يطرب له إلا الطبقات التي بقيت مصرية خالصة لم تتأثر ولم تتفاعل مع شرق أو غرب، وهو أيضا ليس مجرد نظم منغم. إن المغني هنا ليس مرفها فقط. إن عليه أن يبدو لمستمعيه على هيئة بطل حتى يؤمنوا به ويتفاعلوا معه.
ووجدت في أبو دراع كل هذه المزايا مع ظاهرة خاصة به وحده، إنه واع جدا بمسألة ذراعه المقطوع، لا ينساه للحظة، ورغم قطعه فهو يستعمله أو يستعمل وجوده الموهوم كأقوى ما يكون السلاح يهدد به، وأحيانا يتجبر ويستدر الإشفاق، وأحيانا يستدر الإعجاب حين يحكي قصة بطولة قام بها رغم هذه العاهة. وفي الجلسة الطويلة التي قضيتها معه ظل هذا الذراع كالروح الغائبة التي ينجح أبو دراع في استحضارها وإبقائها تخيم على الجلسة رهن إشارته. ولقد ظللت أتساءل عن كنه هذه الظاهرة وبالكاد وجدت تفسيرها في قصة حياة أبو دراع نفسه.
ولنستمع له يروي: كانت أمي اجوزت في بلد تانية وكنت باشتاق لها قوي، سني ست سنين، والعيال في كل حته يزفوني وأبويا ما يقوليش إلا يا بن ال ... ومرات أبويا جبارة. كنت أنفرد بنفسي في الغيط وأوعى ألاقي نفسي باغني: انتي فين يا امه، أغنيها على نغمى كنت سمعت مرة الششتاوي مطرب المحلة المشهور بيقولها، أفضل أقولها وأعيد فيها بس على شرط من غير ما حد يشوفني ولا يسمعني، لما كبرت شوية بقيت أهرب واروح لها أبص ألاقي أبويا طابب واخدني. كانت مرات أبويا تجوعني وما ترضاش تأكلني فعلمتني ازاي أسرق العيش من وراها واخبيه.
أنا اللي عند ابويا سرقت الرغيف
ومن جوعي شحت عيش عند أمي •••
أسألك يا رب حد م الدنيا يهربني
أروح لامي ألاقي جوزها يضربني
واروح لابويا ألاقي مراته تطردني
ماليش حبيب التقيه من قلبه قربني
وثلاث سنوات قضاها أبو دراع الصغير على هذه الحال، وما كاد يعرف كيف يركب القطار حتى هرب إلى القاهرة ومعه جنيهان أعطاهما لأول معلم جرائد صادفه في باب الحديد، واشتغل معه يبيع الأهرام والجهاد ويكسب 15 قرشا في اليوم، ونزهته الوحيدة كانت أن يذهب كل خميس إلى مولد شعبي يقام بجوار سيدي الأحمدي حيث تنتصب حلقات الغناء والذكر والألعاب وكل تلك المسليات الشعبية. وذات مرة تشجع ونقط فرقة المزيكة بنصف ريال ليصاحبوه في موال يغنيه. أحس يومها أن له صوتا، وأعجب الناس وعرض عليه صاحب الفرقة أن يعمل معهم نظير مبلغ لم يكن يحلم به مطلقا 30 قرشا في اليوم. طار من الفرحة وقبل وساح في البلاد يغني ويتعرف على جمهور الموال في كل مكان ، ولكنه كان يعتمد في أغانيه على تأليف الآخرين وحفظه له، إلى أن حدث مرة ودخل له مغن آخر في مبارزة أحس فيها بمعينه المنقول ينضب ولا يسعفه ويجعل الآخر يكتسحه بسهولة. حينئذ استفز أبو دراع: قلت إيه يا ولد، هم اللي بيألفوا لأرواحهم دول مش زيك؟ وروحت البيت وجيت على راجل بيعرف يقرا ويكتب ولايمته على نص ريال وقعدته قدامي وقلت له اللي يطلع من بقي اكتبه، وقعدت طول الليل أجائر وأناحر وأألف، ومن ليلتها مسكت الصنعة، ومشيت. وفي مرة كنت بغني في حارة في عابدين قام واحد افندي نقطني بجنيه، اجننت أنا وموتي لازم أعرف مين لفندي ده أبو حتى مقطوعة من مناخيره واللي نقطني بجنيه بحاله، سألت عليه ويطلع مين؟ المرحوم خليل مطران، طلعت جري عليه أبوس على إيده واطلب منه يديني كرت ليوسف وهبي عشان يخليني أغني في فيلم من أفلامه لأن محمد العربي كان أيامها بيغني في الأفلام، واداني، وطلعت في أفلام واتعرفت بقى على واسع شوية، إنما أستاذي هو الششتاوي بتاع المحلة مفيش كلام.
سألت أبو دراع عن مفهومه للفنان، فغنى:
مساكين ولاد الغرام غنوا على حالهم
طول الليالي سهر والفين على حالهم
بيغنوا للناس كلام تعديد على حالهم
ويا ريت فيه ناس تسيب الناس على حالهم
الفن يا ابو دراع؟ ما هو الفن؟
الفن أصله هبه كله علاج للناس
من شعر والله موسيقى يستسيغها الناس
وأنا جسمي مجروح وداير أعالج الناس
وسألته عن نوع المعاني التي يؤثرها شعبنا، فقال إنها التي في الأغلب تتحدث عن الظلم والحظ المايل، وضرب مثلا بموال راح ينشده:
يا طبيب يا جبار (مجبراتي) تعالى الدار جابرني (جبرني)
قام قال لي جرى إيه مواجعك إيه جابرني
أنا قلت له شوف عضاي متلوف جابرني
زادت بي النار وعلى الديار ردي
والحظ سيئ وأهو صبح طعام ردي
على نفسي ذليت من قلة حبيب ردي
وخدمت ضدي وأكل العيش جابرني
سألته متى بدأ يتجه للشعر السياسي، فقال من قبل الثورة، من أيام حظر التجول، وكمثل غنى هذا المقطع:
إزاي ح اقول فن والأفكار مقفولة؟
الناس تاكل شهد وانا مش لاقى ماء فوله
وم الساعة تسعة تلاقي مصر مقفولة
أمريكي يتساءل: هل عندنا حرية؟
تلقيت هذا الأسبوع رسالة ضخمة من أمريكا، حين فضضتها وجدت أنها من أستاذ جامعي كبير مهتم بأمور الشرق الأوسط، كنت قد قابلته هناك، وجرت بيننا مناقشات بلغت درجة الحدة في أحيان. الرسالة وجدتها تعليقا وردا على الانطباعات القليلة التي نشرتها عن الولايات المتحدة لدى عودتي، وأخفف من الواقع كثيرا حين أقول إنها «تعليق» أو «رد» فالحقيقة أنها رسالة غاضبة، تنقد بشدة ما كتبت ويلومني صاحبها لوما كثيرا باعتبار أني في رأيه قد تجنيت على الحقيقة، وتحاملت على الأوضاع هناك تحاملا متحيزا.
وكم كان بودي أن أنشر رسالة هذا المثقف الأمريكي الكبير وأضعها أمام القارئ العربي تمهيدا للرد عليها، أنشرها لا لشيء إلا لكي أثبت لهذا الأستاذ الجامعي أن لدينا حرية واسعة للنشر، وأننا لا نضيق بالنقد ولا بالهجوم، لولا أن الرسالة طويلة والحيز المخصص لي لا يسمح، ولكني سأختار فقرة من خطابه، تلك التي يعتقد أني لا أجرؤ على مجرد عرضها على الرأي العام العربي، والتي يقول فيها: لقد تظاهر الطلبة والأساتذة في الجامعة التي أعمل بها ضد «العمل الأمريكي» في فيتنام ولكني أعتقد أنه لا الطلبة عندكم ولا الأساتذة يستطيعون أن يقوموا بنفس الشيء تجاه الموقف في اليمن. وفي نيويورك هاجم عدد من الناس الرئيس جونسون، فهل يستطيع المصريون أن يهاجموا رئيس دولتهم؟
ويورد الأستاذ الأمريكي هذا التحدي في مجال نقده لما كتبته باعتبار أني صورت المجتمع الأمريكي في صورة بالغة السواد، تملقا أو إرضاء للاتجاه السائد في شرقنا العربي في الهجوم على أمريكا، وباعتبار أني لا أستطيع إلا أن أخضع لوجهة النظر المسبقة هذه فيما أكتب. ويستطرد قائلا: إني لا أزعم أن الولايات المتحدة خالية من العيوب، ولكني أقول إننا نختلف عنكم في أننا لا نخفي عيوبنا عن أنفسنا، ونناقشها بمطلق الحرية، وهذا هو الضمان الوحيد لحل كل مشاكلنا وإصلاح كل عيوبنا.
حسن إذن، هذا الأستاذ الجامعي يعتقد، مثله في هذا مثل بعض مبعوثينا والداعين منا إلى النظام البرلماني الحر، أن المقياس الوحيد لانتشار الحرية في بلد ما، هو قدرة الجماهير في هذا البلد أو الأفراد على نقد رؤساء حكوماتهم أو الأوضاع السياسية فيها. وبصرف النظر عن أن الحرية الحقيقية أو الديمقراطية الحقيقية بعيدة كل البعد عن هذا المقياس السطحي التافه لمفهوم الحرية، ولكني حتى في هذا كنت دائما أرد على كل هؤلاء الذين كانوا يناقشونني بشدة عن الأوضاع في بلدنا، محاولين إحراجي بقولهم إن المواطن منا ممنوع من قول رأيه ولا يستطيع أو يملك حق التعبير عنه، كنت أرد عليهم بقولي إن هذا غير صحيح، وإن نقد الحكومة في مصر يجري علنا.
إن كمية النقد التي نقرؤها في جرائدنا ومجلاتنا ومسرحياتنا وقصصنا للمسئولين عندنا ولكافة أوجه الحياة، لا يوجد مثلها في أية صحافة من صحف العالم وكل ما في الأمر أنها جزء من الإشاعات التي تشاع عنا في الخارج والتي تحاول تصوير الأوضاع هنا تصويرا ظالما بعيدا عن الحقيقة. وكدليل عملي أقدمه لهذا الأستاذ وللكثيرين غيره، ها أنا ذا أنشر تلك الفقرة من رسالته، أنشرها بحرية تامة كما يرى، وبلا رقابة إذ لا توجد رقابة على صحفنا.
إن الكاتب يتساءل: هل تستطيع الجماهير في مصر أن تهاجم رئيس الدولة لو أرادت؛ إذ الجماهير في الولايات المتحدة «قلعة الحرية والديمقراطية» تهاجم جونسون وسياسته؟ متخذا من هذا دليلا على أن الجماهير في مصر مقيدة الحرية، وأن الجماهير في أمريكا مطلقة الحرية.
ألف باء الحرية
إن الأستاذ الأمريكي في هذا يتجاهل ألف باء القضية، وألف باء قضية الحرية ليس هو قدرة الشخص أن يقف في هايد بارك أو واشنجطن سكوير ويهاجم الملكة أو الرئيس جونسون، ولكن المشكلة هي في فعالية الرأي حين يعبر عنه، وقدرة هذا الرأي على أن يوضع موضع التنفيذ. إن زاوية هايد بارك في لندن هي جزء من العرض السياحي الذي تهتم به بلدية لندن باعتبارها مكانا «يتفرج» فيه الناس على نماذج لحرية الرأي، ولكن، هل لعبت هايدبارك أو خطباؤها دورا ما في تغيير دفة السياسة البريطانية؟ هل أمكن لحرية القول هذه أن تتحول في يوم إلى قوة سياسية حقيقية؟ لم يحدث مطلقا فالآلة البريطانية الاستعمارية تتحرك دوما في إطار المصالح الاستعمارية البريطانية دون أن تعبأ للحظة بهبهبة خطباء هايد بارك. والحرية الأمريكية أكذوبة بدليل أنه رغم تمتع الشعب حسب نص الدستور بحقه في قول رأيه والتعبير عنه، فإن هذا الرأي والحق لا أثر لهما مطلقا على السياسة الأمريكية؛ فلو كانت الحرية في المجتمع الأمريكي حرية حقيقية لتوقفت الحرب في فيتنام؛ فأغلبية الشعب الأمريكي ضد الحرب الفيتنامية. ومع هذا، ومع الأصوات الكثيرة التي تنادي صباح مساء وتطالب بإيقاف الحرب فالحرب مستمرة، والآلة الاستعمارية الأمريكية ماضية في طريقها تضرب فيتنام الشمالية وتقذف بمئات الآلاف من الشبان الأبرياء إلى أتون الحرب دون أن تحفل قيد شعرة برأي الشعب الأمريكي.
إن مهاجمة الشعب الأمريكي لجونسون وسياسته ليست - كما يريدنا الأستاذ الأمريكي أن نعتقد - دليلا على تمتع الشعب الأمريكي بالحرية، ولكنها دليل على خطأ السياسة الأمريكية.
وإن عدم مهاجمة الشعب المصري لرئيس الدولة ولسياسته ليس سببه أبدا أن الشعب ممنوع من حقه في إبداء رأيه، ولكنه ببساطة دليل على أن الشعب المصري يوافق ويؤيد الرئيس عبد الناصر في سياسته. إن بقاء الثورة المصرية خمسة عشر عاما في الحكم ليس دليلا على أن هذه الثورة تفرض وجودها بالقوة وتسحق معارضيها، ولكنه دليل على رضاء الشعب عن هذه الثورة وتأييده المطلق لها والتفافه حولها. إن الغريب أن العقلية الغربية تتصور أن الثورة المصرية ليست إلا آراء الرئيس عبد الناصر وحده، وهي لا تستطيع أن تفهم أن عبد الناصر ليس إلا منفذا لإرادة الشعب المصري، وأن هذا الشعب ليس «خاضعا» للثورة إنما هو «صانع» لها. إن الجماهير في القاهرة ليست «ممنوعة» من التظاهر أو من إبداء الرأي ولكن لأنها بمطلق حريتها تلتف حول عبد الناصر وتؤازره، وليست مستعدة لتأييده فقط ولكنها مستعدة أن تخوض تحت قيادته معركة الحياة والموت نفسها.
لماذا لا نتظاهر في القاهرة ضد اليمن
والجماهير في القاهرة لا تتظاهر ضد الحرب في اليمن؛ لأن الحرب في اليمن ليست بالنسبة إلينا كالحرب في فيتنام بالنسبة للجماهير الأمريكية. إن الجيش المصري في اليمن ليس كالجيش الأمريكي في فيتنام؛ إذ الحقيقة عكس هذا تماما؛ فالجيش المصري في اليمن وضعه كوضع قوات الفيتكونج تماما؛ فالفيتكونج تكافح التدخل الأمريكي في فيتنام، والجيش المصري يكافح أيضا التدخل السعودي الملكي الإمامي الرجعي في اليمن، وحيث إن الولايات المتحدة هي التي تبيع الأسلحة لفيصل وتؤيده وترسل له الخبراء والمستشارين، فنحن في اليمن نكافح أيضا التدخل الأمريكي الملثم بلثام سعودي. إن أمريكا في فيتنام تناصر الرجعية وحكم الجنرالات وتعادي الشعب الفيتنامي وتسحق مدارسه ومصانعه ومنشآته، وأمريكا في اليمن أيضا تقوم بنفس الدور فتتحالف مع القوى الرجعية ضد قوى الشعب والتقدم. وصحيح أن أعباء الشعب الفيتنامي تثقل كاهل شعبنا المصري، مثلما تثقل الحرب في فيتنام كاهل الشعب الفيتنامي، ولكن كما يحتمل الشعب في شمال فيتنام ضريبة الحرية بصبر وشجاعة، فكذلك يحتمل الشعب هنا أعباءه وتضحياته بنفس الصبر والشجاعة، وفي القاهرة لا تشهد مظاهرات ضد جيشنا في اليمن تماما مثلما لا يمكن أن تشهد في فيتنام الشمالية مظاهرات ضد مشاركة الشعب هناك والحكومة لشعب فيتنام الجنوبية؛ فنحن مثلهم «ندافع» عن وجودنا ضد «تدخل» أجنبي رجعي استعماري.
إن العالم لم يغضب حين دخلت أمريكا الحرب ضد النازية، بالعكس كان يشيد بها ويؤيدها، ولكن العالم يغضب ويحتج على أمريكا حين تتدخل هذه المرة لفرض ما هو أبشع من النازية. إن الأستاذ الأمريكي يقول في رسالته إن أمريكا تدافع عن «سلام العالم» وأمنه، تدافع عن «الحرية»، أو بمعنى أوضح تدافع عن المصالح الأمريكية في فيتنام، ولكن إذا كان العالم كله، حتى نفس جماهير الشعب الأمريكي، ترى أن هذه أكذوبة؛ إذ ليست هناك أية مصالح أمريكية مهددة في فيتنام، ولم يحدث أن حاولت فيتنام الشمالية أو حاولت الصين الهجوم على أمريكا أو مصالحها بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ كانت أغلبية الشعب الأمريكي تعتقد أن ما يحدث في فيتنام ليس دفاعا عن أمريكا وإنما هو مغامرة خبيثة.
إذا كان الشعب الأمريكي نفسه يرى هذا، ورغم الديمقراطية والحرية فإن العملية قائمة ومستمرة وماضية بأقصى قوتها، أليس في هذا دليل ما بعده دليل على إفلاس الديمقراطية الأمريكية وعلى أنه حتى مفهوم الحرية الرأسمالية قد تولى الرأسماليون أنفسهم تمزيقه وسلب كل محتواه بحيث أصبح كلمة جوفاء؟
نفس هؤلاء الرأسماليين الذين حين بدأ رئيس الولايات المتحدة يحاول الخروج بالشعب من ربقة سيطرتهم، يحاول أن يكون منفذا لإرادة الشعب الأمريكي الحقيقية، يحاول أن يعيد المضمون إلى الحرية والديمقراطية قتلوه، عيني عينك، وفي عز الظهر وكأننا في غابة.
إن المقياس الوحيد للحرية في أي بلد هو: إرادة من التي تسير دفة الحكم، أهي إرادة الشعب الحقيقية أم إرادة طبقة ما أو فئة ما من الفئات؟ فواضح أن إرادة الشعب الأمريكي ليست هي الإرادة التي تحكم أمريكا، فإذا تظاهر الناس ضد هذا الحكم فليس معناه أن الإرادة الشعبية معطلة لمصلحة فئة قليلة من الناس، وإذا لم يتظاهر الناس في القاهرة ضد حكومتهم فليس معناه أن الجمهور مسلوب الحق في التظاهر ولكن معناه أن الناس تؤيد، من قلبها وبمطلق إرادتها سياسة حكومتها.
إن الحرية في أمريكا وفي غيرها من البلاد الرأسمالية بلا فاعلية، حرية للفرجة، تجدها على صفحات الجرائد وفي الميادين العامة، أما الحرية عندنا فحرية حقيقية؛ إذ تجدها منعكسة انعكاسا حقيقيا على سياسة بلادنا وأوضاعها، وحكومتنا لا تفعل أكثر من أنها تنفذ وتنظم هذه الإرادة الشعبية. وإني لأتحدى كل المعلقين السياسيين الغربيين أن يذكروا لي عملا واحدا قامت به الحكومة ضد إرادة شعبنا أو بمعنى أصح ضد إرادة غالبيته.
إلى أين أيها السادة؟!
طوال الشهور الماضية وأنا أقابل أدباء وكتابا وفانين شكواهم الوحيدة أن باب النشر موصد أمامهم، وأنهم بعد تاريخ طويل في التأليف وإصدار الكتب لا يجدون اليوم ناشرا يقبل أن يخرج لهم كتابا. أخذتها كظواهر فردية أول الأمر، ولكني شيئا فشيئا بدأت أدرك أنها ظاهرة عامة.
ولم أبدأ أوقن بخطورة الوضع إلا حين التقيت بأكثر من كاتب من الكتاب الذين لم أكن أتصور بعد كل ما بلغوه من شهرة ومكانة أن يصابوا بأزمة نشر، فإذا بهم هم الآخرون يعانون من نفس المشكلة؛ الناشرون يرفضون طبع كتبهم، وإذا تنازل أحدهم وقبل يشترط على الكاتب منهم ألا يحصل على أجر للكتاب، بل أحيانا يشترط أن يدفع المؤلف له «لا أن يأخذ» مبلغا من المال مقدما حتى يقبل إصدار كتاب له، بل الحال قد وصل إلى أنك لو تلتف حولك لوجدت كثيرا من الكتب التي كانت تصدر بانتظام قد اختفت تماما، والبعض الآخر في طريقه إلى الزوال.
ظاهرة غريبة خطيرة كان مفروضا أن تسترعي انتباه الهيئات التي أنشئت لرعاية الثقافة والتأليف، ولكنها لم تفعل. أكثر من هذا تدهش، بل تكاد تصعق، إذا علمت أن هذه الهيئات نفسها هي السبب في الأزمة الخانقة، هي التي أوقفت النشر وجعلت الكتب المؤلفة تكاد تختفي من حياتنا. أما كيف هي السبب فالمسألة بسيطة. لقد فهمت هذه الهيئات في وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والإرشاد أن الطريق إلى رعاية الثقافة والفكر وتشجيعها هو الدخول في حركة تنافس ضخمة من أجل ترجمة الكتب الثقافية المختلفة ونقلها عن اللغات الأجنبية وبيعها بقروش زهيدة، وهي من أجل هذا تتفق مع الناشرين وتغدق عليهم الأرباح وتتحمل هي فروق السعر.
وأكثر من هيئة تتنافس حول هذا الهدف؛ مشروع الألف كتاب، إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم، إدارة الثقافة بوزارة الإرشاد، سلسلة الكتب الثقافية، دار النشر القومية، سلسلة روايات عالمية، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. والله أعلم ماذا من هيئات وإدارات أيضا، كل منها ينافس الآخر في خفض سعر الكتب والنقل عن اللغات الأجنبية كيفما اتفق وفي التباهي بعدد الكتب التي تصدرها.
شيء جميل أن ننفق أموال الشعب على ترجمة الكتب وبيعها له بأسعار زهيدة، أما أن نفعل هذا بطريقة تحيل الناشرين إلى متعهدي نشر المترجمات، بطريقة تدفعهم إلى الانصراف كلية عن نشر الكتب العربية المؤلفة ، فنشر أمثال هذه الكتب يعد حماقة؛ فسعرها يصبح مرتفعا جدا بالقياس إلى أسعار الكتب التي تصدرها هذه الهيئات، والربح فيها غير مضمون لأن الناشر هنا يغامر بنقوده هو، بينما حين تكلفه هذه الهيئة أو تلك، تدفع هي له التكاليف والأرباح.
بالاختصار. النتيجة الحتمية هي الوضع الخطير الذي آلت إليه الأمور، هي انتشار الكتب المترجمة وموت حركة التأليف وقتلها ووأد الكتب المعدة للطبع في أدراج مكاتب أصحابها؛ النتيجة إغلاق أبواب القاهرة أمام المؤلف في جمهوريتنا ودفعه دفعا إلى الناشرين في بيروت حيث المجال لا يزال مفتوحا لنشر الكتب المؤلفة.
لا أعرف إذا كان المسئولون عن هذه الهيئات قد وضعوا في اعتبارهم تلك النتيجة وهم يرسمون خطتهم لإغراق السوق بالكتب المترجمة الرخيصة، أم فاتهم هذا، ولكن ما أعلمه أن الوضع الذي خلقته هذه السياسة وضع لا يمكن السكوت عليه. إن ترجمة فروع الثقافة المختلفة وجعلها في متناول القارئ العربي عمل جليل ما في ذلك شك، ولكن قتل الكتاب العربي المؤلف بهذه الطريقة عمل مشين ما في ذلك شك أيضا.
لقد ظلت القاهرة عاصمة التأليف ولا نريدها أن تتحول إلى عاصمة للترجمة. إنه لأمر محير ومخجل معا أن تصبح كل دواوين شعرنا ورواياتنا ومجموعات قصصنا وكتبنا للنقد والدراسات والأبحاث تصدر عن بيروت. ويحدث هذا في وقت تولي ثورتنا فيه الأدب والتأليف عنايتها الكبرى، وتنشئ من أجل هذا الغرض المجالس والوزارات. أتكون نتيجة المجالس والوزارات هذا التضييق على حركة التأليف؟
بربكم، قولوا لي أيها السادة: ماذا نفعل؟ ماذا يفعل كاتبنا، أي كاتب، وهو إذا حاول الظهور وجد مجالات الظهور يحكمها هذا الوضع، وإذا حاول قول الشعر وجد المجلس الأعلى للآداب، ولجنة الشعر به وسكرتيرها الأستاذ العقاد، لا يعترفون به أو بشعره؟ وإذا ألف مسرحية جاءوا له بعزيز أباظة مسئولا عن المسرح في المجلس، وعن ظهور المسرحيات في الفرقة القومية، ليلقي مسرحية باسم اللغة تارة، وباسم الأدب الرفيع تارة أخرى؟
ماذا يفعل كاتبنا؟ أي كاتب، ولجان الكتابة والأدب محرمة عليه، ومؤتمرات الكتاب حضورها قاصر على موظفي المجالس والهيئات، والجوائز واللجان والمؤتمرات، وكل شيء يتعلق بالأدب ممنوع على الأديب المنتج الحق، ممنوح بسخاء لكل من عداه؟ ماذا يفعل الكاتب، وكل هذه الهيئات التي أقيمت لتساعده وتدفعه لا تفعل إلا أن تقف في وجهه؟ ماذا يفعل كاتبنا، أي كاتب، والرعاية قد وصلت إلى حد كتابه تحول بينه وبين الظهور؟
بالله عليكم، ماذا يصنع كاتبنا؛ أي كاتب؟!
لغز صلاح جاهين
حاولت خلال الأسبوع الماضي أن أحل لغز صلاح جاهين. عشت مع أبعاده الثلاثة: الرسام والشاعر والممثل، وبرغم ما كتبه هو في صباح الخير وحاول فيه أن يبذر بذور الخلاف بين أشخاصه الثلاثة، وبرغم محاولات المقارنة وإيجاد أشكال التناقض بين شعر صلاح ورسومه، فالحقيقة أني بعد دراسة وتأمل وجدت أن مواهب صلاح المثلثة تتعقد وتتشابك بطريقة تدرك معها أنها كل واحد متماسك.
وأنت لا يمكنك أن تحل لغز صلاح إلا إذا شاهدته وهو يمثل؛ فشخصه - بكتلته الحية - بانفعالاته حين تنتقل إليك دون مانع أو وساطة، يعطيك صلاح مفتاح شخصيته وسر موهبته. إنك حين تقرأ شعره وتتأمل رسومه، تحس أن كلماته وخطوطه محملة بشحنات تعبيرية تتعدى حدود الشعر بمفرده أو الرسم بمفرده. إن شعره ليس مجرد شعر، ورسومه ليست مجرد رسوم، إنك تحس بهذه أو تلك جزءا من كل، والكل لا تحسه إلا إذا أعطاه لك صلاح بكله، وهو يعطيك إياه إذا مثل.
إن شعر صلاح لا يتكامل إلا إذا أنشده أمامك، وكأنه أدوار يكتبها لنفسه ليعتمد على نصفها في التعبير عن معانيها تعبيرا كاملا حين يمثلها. ويخيل إلي أنه لم يختر الكاريكاتير عبثا، فهو فن الرسم الكوميدي أو فن الكوميديا المرسوم، والتشبيهات الجسدية الكثيرة في شعره ليست نزعة إلى «التجسد» بقدر ما هي نزعة إلى «التمثيل»؛ فهو في شعره أيضا يعبر، وكأنه على خشبة مسرح بالجسد.
وصلاح في تمثيله ليس ممثلا فقط، ولكنه مؤلف تمثيل، وهدفه ضخم كبير كأهداف مؤلفي التمثيل الكبار. إنه يهدف إلى تمثيل عصرنا والتعبير عنه؛ إذ هو في موهبته الضخمة الشاعرة الرسامة الممثلة فنان معاصر بكل مضمون الكلمة ومعناها، أكاد - حين أستعرض عصرنا وبيئتنا - لا أجد من يضارعه لكي يعبر عن كل بساطتنا الحاضرة المعقدة وكل عقدنا البسيطة، ومرحنا الخفي وحزننا الظاهر، وظاهرنا المرح وأعماقنا الحزينة، وكل سخريتنا بعصرنا وسخرية عصرنا بنا.
وكالكبار أيضا، لا تجده يعبر عن عاطفة بعينها ويجعل من هذا هدفه. هو يعبر عن الحزن أو المرح أو الاكتئاب، إنه يستعمل العواطف والأفكار كمواد خام يمزجها ويلون بها كلماته وخطوطه ليستطيع أن يعبر بها عما هو أكبر من الحزن والتفاؤل والرقة، عن الإنسان - وبالذات - عن إنساننا المعاصر. كل ما ينقص صلاح ليكون شارلينا ونجيبنا، أن يؤمن بالموهبة الخارقة التي كان - دون أن يدري - يعد لها نفسه، بشعره ورسوماته. لقد ظللنا مدة طويلة نترقب مهدينا المنتظر في التمثيل، وحين شاهدت صلاح جاهين دمعت عيني فرحا.
من شرفة المجلس
تتبعت - كغيري من المواطنين - مناقشات مجلس الأمة خلال الأسبوع الماضي، ولا أقول إني قد أصبت ببعض خيبة الأمل؛ فقد أعجبني أن انبرى نوابنا الجدد يسطرون ردا تاريخيا على بيان السيد على صبري رئيس الوزراء. وقد كنت أشفق عليهم من الرد؛ فالبيان جامع شامل يعتبر في حد ذاته وثيقة سياسية خطيرة جديرة بأن نحتفظ بها دليلا على أننا قد دخلنا حكومة وشعبا عصر العلم، وأن «خطب العرش» قد انتهى عهدها إلى الأبد، وأننا الآن في عصر «خطب الأرقام»، خطب التقارير الدقيقة والبيانات الموجزة والنظرة الشاملة لحياتنا ومسراتنا.
ولكن الرد جاء مكملا لتلك النظرة، شاملا ما أمكنه الشمول، وإن كنت لا أزال أعتبر أن بيان الحكومة كان أكثر ثورية واشتراكية من بيان المجلس، كان أكثر اندفاعا للتعجيل بعصر الاشتراكية الكاملة بقدر ما كان رد النواب أكثر ميلا إلى الأناة وطمعا في مزيد من المكاسب لبعض أشكال الإنتاج الفردي التي لا تزال سارية في حياتنا.
وقد أعقب ذلك المناقشات، ولم أستطع أن أتصور ما حدث، وأن يقف الاشتراكي «القديم» حلمي الغندور، والاشتراكي «الثوري» علوي حافظ يتحدثان عن القطاع الخاص وكأنهما يتحدثان عن مظلوم أو يلتمسان تخفيف الحكم لمحكوم عليه. إن المسألة في رأيي ليست مفاضلة بين القطاع الخاص والقطاع العام، وليست محاولة لإثبات ضرورة وحتمية القطاع الخاص، إنما المشكلة في رأيي أن المناقشة على هذا النمط تعتبر استمرارا للمناقشات الجزئية التي حدثت في مؤتمر القوى الشعبية، تعتبر تركا للمسائل المهمة الخطيرة، أهم مسائل، وإغراق المواطنين في مناقشات فرعية جانبية ليست هي خط حياتنا الأساسي الذي نحاول دفعه إلى مرحلة الانطلاق. إن ثورتنا الاشتراكية ليست بضع مكاسب يحظى بها عدد من المواطنين مقابل بضع خسائر تحيق بعدد آخر، وللحظ وحده وللنصيب أن يحكم بمن تحيق الخسائر وعلى من تنهال المكاسب.
إن اشتراكيتنا ليست ظلما هنا وعدلا هناك؛ فنحن لسنا في مجال توزيع العدل أو الظلم، ولسنا في مجال إنصاف هذا من ذاك ولا محاولة تدعيم قطاع ضد قطاع. نحن لسنا في مجال توزيع أرباح الاشتراكية. نحن لا زلنا في مجال تحقيق الاشتراكية وتدعيمها وإرساء قواعدها بطريقة من العبث بل من السخف أن نتلفت لنرى على قدم من خطونا ومن تألم لهذا القرار أو ذاك. إننا بسبيل تطبيق ما جاء بميثاقنا القومي والمهم ليس جزيئيات هذا التطبيق، ليس سعر الذرة الصفراء، ليس حفر ترعة أو إقامة مستشفى، ليس النقص في الخدمات أو توزيع المصانع. المهم هو الخطة، المهم هو النظرية، المهم هو «لماذا» وليس «كيف».
أعتقد أننا جميعا، مواطنين وأعضاء في الاتحاد ونوابا، في حاجة إلى الارتفاع بأنظارنا إلى مستوى نرى فيه الخط العام لحياتنا ونناقش هذا الخط ونعدله ونسأل عن حكمته. نحن لا زلنا في المعركة التفكيرية والتطبيقية للاشتراكية، ويجب أن تكون هذه المعركة الكبرى وحدها هي شغلنا الشاغل. يجب أن نتعلم كيف نفكر للشعب المصري كله، وليس فقط لحاضره أو لقطاعاته وإنما لمستقبله كله. يجب أن يعتبر كل منا نفسه مسئولا عن هذا الشعب كله، مسئولا عن توفير غذائه وكسائه وعمله وأمنه وحريته جميعا إلى الآن وإلى الأبد؛ فنحن لا نمثل فئات أو قطاعات وإنما نحن نمثل شعبا، نمثل ماضيه وحاضره، ومن واجبنا أن نعرف كيف نمثل مستقبله ، كيف نناقش ونتعلم وننقد النظرية التي تصنع حاضره ومستقبله وندعمها ونطورها لنصنع من هذا الحاضر وذاك المستقبل شيئا أروع حتى مما جاء في الميثاق.
القنبلة الثالثة
لا بد لي أن أقول إني أخذت الموضوع ببساطة أكثر مما يجب، وذهبت لمشاهدة المسرحية وفي ذهني أنها محاولة ناشئة لكاتب مسرحي ناشئ عن موضوع قديم. ولكن الذي حدث في المسرحية شيء لا أستطيع تصويره. فجأة وجدت نفسي أمام عمل ناضج ولقضية إنسانية حية. بالضبط كان هذا شعوري وأنا أشاهد مسرحية «القنبلة الثالثة» للأستاذ مصطفى مشعل. إنها أول عمل يكتبه للمسرح. هذا حقيقي، ولكني أؤكد أن المسرح المصري سيرى من هذا الكاتب كل عميق وجديد. إنه من القلائل جدا الذين يعرفون كيف يكتبون للمسرح وماذا يكتبون. حين سألته لماذا كتبت هذه الرواية عن الكولونيل تيبتس الذي ألقى القنبلة الأولى فوق هيروشيما، قال - واحكموا عليه من قوله - لقد عشقت في صغري الأدب الإغريقي وقمت بترجمته لإذاعة الإسكندرية، وحين قرأت ملخصا للأستاذ ضياء الدين بيبرس نشره في الجمهورية لكتاب صدر عن تيبتس انفعلت بشخصية هذا الرجل انفعالا عميقا وقلت لنفسي: لقد كان الإغريق يقيمون الدنيا ويقعدونها إذا أخطأ أوديب وتزوج أمه وكانوا يفعلون من هذا مأساة يهتز لها الشعور، وكل جريمة ماكبث أنه طمع في الملك وقتل ملكه ليغتصب عرشه ومن هذه الجريمة صنع شكسبير تراجيديته المشهورة، فكيف لا تصلح قصة كهذه مأساة في قرننا العشرين، قصة الرجل الذي لم يتزوج أمه ولم يقتل ملكا أو بضعة أفراد فقط ولكنه قتل وشرد وشوه مائة ألف نسمة، مائة ألف إنسان من دم ولحم وأعصاب، قتلهم وحده، وبقنبلة قالوا له كن بطلا وألقها، فألقاها، وعاش بطلا لثلاثة أشهر ثم أصابه الانهيار؟ كيف لا يصلح موضوع كهذا تراجيدية حديثة؟ والحقيقة وحدها خير دليل إذ لقد ثبت أن تسعة من طاقم الطائرة التي ألقت القنبلة وكان عددهم اثني عشر قد أصيبوا بالجنون ودخلوا مصحات الأمراض العقلية. ما كاد هذا يحدث حتى وجدت نفسي أبحث وأنقب واستوردت الكتب عن كل ما يمت إلى تيبتس وحياته بصلة، وكتبت هذه المسرحية.
وجاء العمل كما قلت ناضجا مكتملا، والمسرح مليء من حولي بالمواطنين العاديين البسطاء الذين اجتذبهم موضوع كهذا؛ موضوع عن قائد الطائرة الأمريكي الذي ألقى قنبلة ذرية فوق بلد ياباني بعيد هو الآخر منذ تسعة عشر عاما مضت. اجتذبهم الموضوع بصدقه ونضجه إلى درجة دفعتهم لترك حياتهم وتسليتهم والمجيء للغوص في هذه المأساة مرة أخرى. إني لم أعجب بالمؤلف فقط، لقد أعجبني أكثر جمهورنا الطيب الرائع المستعد دائما لأن يفهم ويعي ويشارك ويتقبل.
إنها كلمة تحية حارة للمؤلف الذي اختار وكتب، وللمخرج فوزي درويش الذي أتقن، ولمحسن سرحان الذي كنت قد تصورت أن السينما قد أخذته إلى الأبد فإذا به في هذه المسرحية ممثل خشبة ممتاز، وإلى زوزو نبيل تلك الممثلة البعيدة الغور في فهمها للشخصية التي تمثلها. وأخيرا وليس آخرا للجمهور الغفير الحساس المشارك؛ جمهور شعبنا الحبيب.
ذرة إنسانية يا ناس
لامني بعض السادة القراء على موقفي من الامتناع عن نشر شكاواهم، وهم أحرار في لومهم هذا، ولكني سأقص عليهم قصة آخر شكوى نشرتها في هذا الباب؛ فمع تأكيدي وإصراري على أنها الأخيرة فقد أصر السيد صبري غالي سلامة صاحبها على الحضور إلى الجريدة لشكري أولا وثانيا لتسليمي شكوى أخرى، طويلة جدا، مفادها أنه خائف أن تقوم إدارة المهمات التي يعمل بها بالتنكيل به لأنه جرؤ واشتكى. وما كاد يمضي أسبوع حتى كان قد أرسل لي شكوى أخرى مفادها أنه للآن لم يتم في موضوعه شيء؛ وكانت الشكوى هذه المرة من سبع صفحات، وأرفق بها طلبا تقدم به إلى رئيسه يطلب إحالته إلى جهة لا أذكرها الآن لعلاجه. وما كادت تمضي بضعة أيام حتى وجدت المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب يدق لي تليفونا ويطلب مني الحضور لاستلام خطاب مسجل، وذهبت وإذا بالخطاب من تسع صفحات وإذا به من السيد صبري غالي سلامة وإذا به شكوى أخرى مرفق بها طلب آخر يتقدم سيادته إلى وزير المالية ويرجو استبدال جزء من معاشه ليتمكن من علاج نفسه، ويوصيني أن أبذل «الوساطة» لدى وزير المالية أو الخزانة لاستعجال صرف النقود، وما كدت أعود إلى البيت حتى وجدت في انتظاري خطابا مسجلا آخر منه بنفس المعنى.
والسيد صبري غالي سلامة ليس إلا قارئا واحدا من عشرات الآلاف من القراء، وإذا كان سيادته يعتقد أنه بهذه المطاردة المعذبة سيحرك ضميري فإني آسف إذ أقول له ولغيره: إن ضميري لا يتحرك إطلاقا بالمطاردات، بل لا أعتقد أن أي ضمير ممكن أن يتحرك بهذه الوسيلة، إنه من باب أولى يتحجر! وبهذه الطريقة يغلق الباب أمام الكثيرين جدا ويحيل العمل الصالح إلى عمل طالح. أيها الناس الجالسون فوق المكاتب في إدارة المهمات وفي وزارة الخزانة، أنقذوا هذا الرجل من مرضه وأنقذوني منه. أرجوكم، أستحلفكم برحمة آبائكم ومعزة أولادكم أن يتحرك ضميركم أنتم ذلك الذي يملك التصرف والنقود، وينقذ هذا الرجل الذي جاوز الخمسين من مرضه، ألا توجد لديكم ذرة إنسانية واحدة؟!
سستر أكتورا
سستر أكتورا، أول الأمر، كنت كلما سمعت الاسم ينطق هكذا أعتقد أنها دكتورة وأنهم ينادونها بلقب الأخت الدكتورة، ولكني من اليوم الثالث أدركت الحقيقة وأنها ليست دكتورة، ولكنها راهبة كبقية الراهبات الموجودات بالمستشفى، بيضاء طويلة مثل معظمهن، زرقاء العينين دسمة الوجه خفيفة الحركة إلى أقصى درجة، تستيقظ في السادسة من صباح كل يوم ولا تنام قبل منتصف الليل، واسمها يتردد بين جنبات المستشفى وردهاته، سستر أكتورا، سستر أكتورا.
أنتظر حتى تأتي سستر أكتورا من الكنيسة، والكنيسة صغيرة محندقة ملحقة بالمستشفى تتراقص فيها أضواء الشموع، هزيلة حمراء ساحرة في النهار، تلمحهن يدخلنها بعد دقات جرسها المكون من أعمدة نحاسية مجوفة مختلفة الطول تصدر كلما طرقت بالمطرقة الخشبية نغمات موسيقية خافتة، ومن الممر تلمحهن نصف راكعات على الأرض يصلين للمسيح وللعذراء وللروح القدس، صلاة خافتة ساكنة في معظمها، تجعلك تحس أنت المسلم للمسيحية بطعم آخر ومعنى.
ها هي سستر أكتورا قادمة بعد انتهاء الصلاة، ها هن جميعا ينصرفن كل إلى عملها، إلى المطبخ والمخزن والمنسج والغرفة والعنبر، يعملن بدأب وصبر وابتسامة، وكأن العمل عبادة يقابلن فيه الله. هؤلاء الألمانيات اللاتي تركن بلدهن في الشمال، أقصى الشمال، وحضرن هنا، إلى القاهرة يعبدن الله في خدمة المرضى هكذا في صمت وتضحية وإيمان، والسؤال لا بد يلح عليك. ترى أية قوى جبارة استطاعت أن ترغم كلا منهن على ترك حياة الناس - وحياة الناس في بلادها كلية - وتترهب؟ نعتقد أن وراء كل منهن قصة، ولا بد وراء سستر أكتورا بالذات هذه المتفجرة صحة وشبابا، قصة، مهما حاولت معرفتها فلن تستطيع ولكنك حتى إذا فشلت لا بد ستحترم هذه القصة وتخر مقدرا ساجدا أمام التضحية؛ فلن يضحي الإنسان لا بعام من عمره ولكن بكل عمره، بكل صباه وشبابه ونضجه من أجل مبدأ أو فكرة أو عقيدة. بالضبط هذا هو الإنسان كما يجب أن يكون الإنسان، وكما هي كائنة سستر أكتورا، وأخوات أكتورا بأرديتهن السوداء البيضاء المهيبة، وبابتساماتهن الشاحبة، وصلاتهن الصامتة، ودأبهن الكادح الطويل، سستر أكتورا، أشكرك.
صديقي العائد
الغائب الذي طالت غيبته ولكنه أخيرا عاد، كنت أتوقع أي شيء إلا أن أجده كما هو وكما كان دائما بنفس الملامح والشعر والمنطق الساحر البسيط الرزين، وهذا هو صلاح حافظ كما عرفته الآلاف من قراء روز اليوسف منذ بضع سنوات في بابه المشهور «انتصار الحياة». وصلاح ليس صديقي وزميلي في مهنة القلم فقط، ولكنه أهم من هذا زميل في مهنة المشرط، ومنذ أربعة عشر عاما كنا في كلية الطب ومعنا الزميل الكشر الغضوب محمد يسري أحمد كاتب القصة العملاق الذي أصبح الآن مفتشا لصحة القناطر الخيرية، جمعتنا معا علاقتنا المشتركة بالمرحوم الدكتور إبراهيم ناجي وجلساتنا الطويلة في إيزافتش والتافرنا، وصولات النقاش وجولاته حول الفن والشعر والحياة.
وعلاقتي بصلاح حافظ بالذات تمت عن طريق القصة؛ ففي مجلة «القصة» قرأت يوما قصة دوختني اسمها «الذبابة»، رحت أتصور كاتبها وكأنه نصف إله. وإذا بي أروع بعد بضعة أيام ونحن نجتمع لإصدار مجلة لطلبة كلية الطب أن أحد المجتمعين معنا، بل أضألهم جسدا وأرقهم عودا، هو صلاح حافظ كاتب قصة الذبابة . يومها لم أصدق عيني ولا تصورت مطلقا أن يطلع كاتب القصة التي جننت بها طالبا معي في نفس الكلية وفي الدفعة. كيف يتسنى لطالب طب مثله أن يكتب قصة بهذه الروعة؟! وكيف أصدق أن لي زميلا آخر يشاركني نفس هواية القصص؟ بل أكثر من هذا أن تكون قد وصلت به هوايته حد نشر إنتاجه في مجلة «القصة»؟
ولو كنت قد سمحت لنفسي بالتصور كيفما شئت، لما أمكن لخيالي أن يعبر الزمن وأن يتصور أن هذا الاجتماع من أجل إصدار مجلة سيحدد خط علاقة طويلة لسنين كثيرة مقبلة، بلغت إلى الآن كما قلت أكثر من أربعة عشر عاما.
واليوم ها هو ذا صلاح حافظ بدمه ولحمه وابتسامته قد عاد، ولكن المشكلة أني سأظل أعتبره غائبا إلى أن يكتب، وإلى أن يتاح لي مرة أخرى أن أقرأ أبسط أسلوب كتب في الصحافة المصرية، مع الدقة المثالية في اختيار كل لفظ، والذكاء الشديد في إيراد الحجج والأدلة، إلى درجة أني وأنا طبيب امتياز سألني أستاذنا الدكتور أحمد حافظ موسى عن ذلك الطبيب الحاذق العلامة الذي يكتب باب انتصار الحياة في روز اليوسف، وحين أخبرته أن كاتبها ليس طبيبا ولكنه طالب طب لا يزال، بل أيامها كان لا يزال في المشرحة وأمامه للتخرج ثلاث سنوات. حين قلت هذا للدكتور حافظ موسى لم يصدقني واعتبر كلامي هزلا، ولكن، هذا هو بالضبط صلاح حافظ وقدرته الخارقة على التبسيط والإقناع.
نغمة اليوم في العراق
بغداد
والطائرة تحلق بنا فوق بغداد كانت خواطر كثيرة تتدافع إلى رأسي، بغداد؛ عاصمة العز والخلافة، حاملة مجد أبي جعفر المنصور، شاهدة واقعة البرامكة، وصاحبة أقرب وأعنف تاريخ. كانت أسماء من التي طالما سمعناها بقوة وبإصرار تتردد: الكاظمية والأعظمية والكرخ، ووزارة الدفاع ومعسكر الرشيد، بغداد عاصمة العراق؛ بغداد التي ما أوسع وأرحب ما حكمت، وما أكثر ما ضيق عليها الخناق. ها أنا ذا، لأول مرة على وشك أن أراها. إن كل مدينة عظيمة لها - كالكائن الحي - شخصية وسمعة وتاريخ وترتبط في ذهن كل منا بعشرات من الخيوط المنظورة والخفية، وكالشخصية العظيمة لا بد أن تحس وأنت تتأهب للقائها بالشوق المقرون بالرهبة؛ رهبة أن يخيب الأمل.
وما كدنا نصبح في شوارع بغداد حتى كان المساء قد حل، والأضواء كثيرة في بغداد؛ فالكهرباء رخيصة، والليل والأضواء أضفيا على بغداد السحر الذي يجعلك تقع في حب المدينة من أول نظرة. وبغداد مدينة فريدة في بابها؛ فهي ليست مثل باقي المدن لها وسط تجاري مزدحم وحواف وضواح قليلة الحركة والازدحام. إنها تكاد تكون عدة مدن يكاد يكون لكل مدينة كيانها الخاص واستقلالها؛ مدن وأحياء تفصلها عن بعضها مساحات واسعة من الأرض الفضاء، حتى لنعجب لوجود هذه المئات من الأفدنة المأهولة في قلب مدينة بغداد، والعمارات قليلة، ومعظم المدينة مكون من بيوت صغيرة وفيللات؛ وضع كانت نتيجته أن اتسعت رقعة المدينة اتساعا غير معقول، وليس في بغداد ترام ولا زحام، والحركة هادئة، والناس طيبون، تحدثهم فيفيض حديثهم رقة وعذوبة، وحتى مظاهراتهم تحفل بالشعر والهتافات المنغمة والأهازيج الشعبية وكثير من الفصاحة، حتى لتعجب بعد هذا وتحتار: أتصدق ما تلمسه وتراه، أم تصدق الوجه الآخر، الوجه العابس الغاضب لهذا الشعب؟
وتحتار أكثر حينما يشبع نهمك إلى السياحة والتفرج وحب الاستطلاع، وتبدأ تدرس الأوضاع السياسية والاجتماعية في بغداد والعراق. تحتار لأنك تجد نفسك أمام أوضاع معقدة غاية التعقيد، وأمام تيارات متضاربة ومتشعبة ومتلاقية ومختلفة ومتنافرة ومتآلفة بحيث لا بد من مرور زمن طويل قبل أن تبدأ تفهم الخريطة المليئة بالعلامات والشعارات والحفائر التاريخية والرموز.
وكثير من الباحثين والمعلقين يعطون أهمية كبيرة للتقسيمات الفئوية والقومية في العراق، ويضعون خطوطا فاصلة وعميقة بين الشيعة والسنة وبين الأكراد والعرب والأشوريين والتركمان، ولكني لا أعتقد أن هذه الخطوط تذهب إلى أعمق من السطح، كل ما في الأمر أن للشعب في العراق ولمثقفيه على مر العصور سمة رئيسية وخطيرة في الوقت نفسه، هي التي تعطي للصورة هذا الشكل الحاد للتقسيمات.
جربت فيه كل المذاهب
ولقد جاء في الخاطر ونحن نزور العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكوفة ، ورجل الدين العتيد يرينا المكان الذي استشهد فيه الحسين بن علي والمحاط بسياج من الفضة، وأهل الكوفة كانوا قد استدعوا الحسين من المدينة لمناصرته ثم ما لبثوا أن انقضوا عليه وقتلوه، ولهم أكثر من أربعة عشر قرنا هجريا وهم يندمون على فعلتهم تلك ويكفرون. لحظتها أحسست وكأنما الشعب في العراق قد كتب عليه أن يصاب بلعنة المبادئ والعقائد؛ فما من عقيدة أو مبدأ إلا وقد جربها الشعب العراقي في نفسه، وإلا وجد لها من بين أبنائه أنصارا وخصوما ابتداء من الخلاف بين أهل الشيعة وأهل السنة، إلى الخلاف بين الشيوعيين والبعثيين، إلى الخلاف حتى بين القوميين العرب والوحدويين «مع أنهما يناديان معا بالوحدة». ولو كانت هذه الخلافات قد اتخذت على مر العصور طابع الصراع الفكري أو الأيديولوجي أو طابع المحاورات الخلاقة بين أنصار هذا المذهب أو ذاك لعاش عراقنا الحبيب في ظل نهضة روحية وعقائدية وفكرية منقطعة النظير، ولكن الخلاف هناك يأخذ شكل التعصب، خلاف لا يدفع إلى الأمام ولكنه يوقف كلا المعسكرين في مواجهة الآخر، ويجمد، ويدفع في النهاية إلى الاشتباك والالتحام وتنتج عنه المآسي.
والتعصب دائما ينتج من إشراك العاطفة المتدفقة مع العقل في الإيمان، أو بالأحق من طغيان العواطف المتدفقة على العقل والعاطفة تعمي والعقل يضيء، والعاطفة تضيق والعقل يفتح، والشعب في العراق حاد العواطف ملتهبها، إذا أحب أحب بجماع قلبه وإذا كره تحول إلى بركان، وإذا أيد أيد بمطلق قوته، وإذا خذل فالويل لمن يخذله. وقد كان الحل لكل تلك المتناقضات أن يقوم الشعب بثورته الوطنية ضد الاستعمار، وفي ذلك الالتحام الثوري كان لا بد أن تزول كل الاختلافات العاطفية، وأن يسقط الناس عواطفهم الصغرى في خضم العاطفة الكبرى التي تجتاحهم. وبالضبط هذا هو ما حدث في أوائل ثورة 1958، ولكن الاستعمار كان يعرف نقطة الضعف واستغلها ببراعة ووجد في عبد الكريم قاسم خير أداة ومعين، والثورات المتلاحقة منذ ذلك التاريخ إن هي إلا المحاولات تلو المحاولات للقيام بالثورة الوطنية التي يحاول الاستعمار باستمرار إجهاضها مرة وصرفها مرة أخرى.
نغمة العام
في ملعب الكشافة ببغداد شاهدت مشهدا من مشاهد التاريخ التي لا تنسى. كنا يوم 18 نوفمبر «تموز» يوم الاحتفال بالذكرى الأولى للثورة التي أنقذت العراق من الاستبداد والانحراف، وكان ملعب الكشافة «وهو أكبر استاذ في بغداد» يموج بآلاف من الطلبة والفلاحين والعمال والسيدات. وكان الرئيس عبد السلام عارف على وشك أن يلقي خطابه الجامع في تلك المناسبة التاريخية، ومنذ أن دخل المدرج ومعه السيد كمال الدين رفعت رئيس وفد التهنئة بالثورة، ونافورات الحماس قد تفجرت داخل الجماهير المحتشدة. ولقد اشتركت في مظاهرات كثيرة ورأيت مظاهرات، ولكني أشهد أن المظاهرات العراقية تتمتع بحرارة لا تبارى. إن الناس هناك تهتف - إذا هتفت - من أعمق أعماقها، من أطراف أصابعها، من داخل الأرض الواقفة عليها، هتافا ترعد له السماء، هتافا يؤدي بها إلى حالة من النشوة القصوى فتروح تهتز وتتمايل وتغني وتتشنج، هتافا يفجر الشعر على الألسنة، وبين كل حين وحين يندفع شاعر مجهول تتدفق أبياته كالحمم وتؤجج الحماس، حماسا يقطعه صاحب أهازيج، وهي نوع خاص من أنواع الكلام المنظوم تحدث فيه محاورة بين الحادي والجمهور تنتهي بهتاف منغم تهتز على وقعه الجماعة وتجأر.
ومنذ اللحظة الأولى كان واضحا أن نغمة اليوم، بل ربما نعمة العام كله في العراق، هي تلك الجملة التي تفتقت عنها بديهة الجمهور، يا عارف جيبلنا ناصر، يا عارف جيبلنا ناصر؛ أي هات لنا ناصر يا عارف، جملة ما تكاد تقال من هاتف واحد حتى تسري كالنار إلى جمهور الملعب كله ومدرجات السيدات والأطفال الواقفين بالخارج، وتعم هذا البحر الجماهيري الزاخر رقصة جماعية شاملة على وقع الكلمات: يا عارف جيبلنا ناصر، يا عارف جيبلنا ناصر.
والرئيس عبد السلام عارف رئيس شعبي بكل معنى الكلمة، بسيط إلى درجة لا تعقل كلما هتفت الجماهير وتحمست، أشار إلي السيد كمال رفعت وهو يقول بملامحه ما معناه، قولوا له، وكمال رفعت يحيي ويبتسم، والجماهير تنتابها الحمى وبشدة ترفع العصى الطويلة التي ثبتت في نهايتها الصور الفوتوغرافية الضخمة والمطبوعة للرئيسين عبد الناصر وعارف، وتزداد هياجا ونشوة وجئيرا: جيبلنا ناصر يا عارف. ألا ما أفدح المسئولية، أن يكون أمل هذه الجماهير كلها أن ترى عبد الناصر رأى العين، وأن تعلق آمالها كلها في حل خلافاتها، في إزالة متناقضاتها، في تأمين حياتها ووجودها ومستقبلها، بهذا اللقاء.
وطوال الساعات الثلاث التي استغرقها خطاب الرئيس عبد السلام عارف لم ينقطع الهتاف لحظة، ولا تعب الجمهور الواقف على قدميه، وعارف كلما مضى الوقت يسأل: كفاية؟ فيجيبه الهدير البشري بما معناه: معاك للصبح. حتى أظلمت الدنيا، والملعب والمدرج ليسا مزودين بالأضواء الكهربائية، وحتى المنصة التي يلقي منها الرئيس عارف خطابه ليس فوقها مصباح كهربائي يضيء الصفحات، وسلطت أنوار كاشفة على المنصة ليتمكن التليفزيون من نقل الصورة وبدأ البحر الجماهيري يختفي في الظلام، ولم نعد - نحن الجالسين في المدرجات - نراه، كل ما كان قد تبقى منه ذلك الهدير الذي ينبعث لدى فقرات الخطاب، وكأنما من قلب الليل أو من باطن الأرض وعليا السماء ينبعث، يذكرنا بأن الظلام أبدا لا يلغي الوجود، وأن الشعب أي شعب، مهما اختفى عن الأعين، فالعيب يكمن دائما وأبدا في العين التي لا تراه وليس فيه.
البلد الذي يحكمه البروفيسيرات
أجمل ما في بولندا ليس المنشآت والمنجزات
أجمل ما في بولدنا ليس «المنجزات» والمنشآت، فأنت إذا ذهبت لزيارة بلد - أي بلد - فسوف يجعلونك تشاهد عشرات ومئات المصانع والمعاهد والأجهزة، وسوف يمتلئ عقلك بعشرات الأرقام عن الخطة والتخطيط ومستوى الأجور والأسعار. هذه كلها أشياء تجدها في أي بلد تزوره، ولكن بولندا بالذات تستوقفك فيها ظاهرة غريبة هي أن أجمل ما فيها ليس كل هذا، وإنما شيء آخر مختلف تماما. •••
ولقد كان صعبا علي أن أكتشف ذلك؛ فقد هبطنا وارسو في الثامنة مساء. كنت قد غادرت القاهرة وقد ارتديت ملابسي الشتوية، والناس في طريقي إلى المطار ينظرون إلي باستغراب فقد كانوا جميعا لا يزالون يرتدون الملابس الصيفية. وحين هبطت في مطار وارسو كانت درجة الحرارة واحدة مئوية، ومع هذا سعدت إذ كنت قد جهزت نفسي إلى ما تحت الصفر. كان الجو باردا هذا صحيح، ولكنه ليس البرد الكئيب ثقيل الدم؛ برد منعش منشط تحس معه أنك جوعان وظمآن إلى الدف والحياة، وهو بالضبط ما حدث؛ فبعد أقل من ساعة كنا في مطعم بولندي، وكانت هناك موسيقى وأناس يتعشون ويسمرون. ولم أنتبه إلى الطعام بقدر ما رحت أحدق في الناس من حولي، في الوجوه أحاول أن أعثر على الوجه البولندي المثالي، وفي اللغة أحاول أن أعرف وقعها. واللغات لها شخصياتها المختلفة، وإذا كان الناس يعرفون اللغات ويدرسونها بكلماتها وحروفها فأنا شخصيا أفضل أن أعرف اللغة بموسيقاها الكلامية، بالحروف التي تتكرر فيها، بنهايات كلماتها، بشكل الفم وهو ينطقها، بالوقع الغريب لها حين تجد نفسك فجأة في وسط مزرعة لغوية مجهولة لك تماما، لم تر لأزهارها ولنباتها مثيلا. إن روح الطفل تستيقظ حينئذ في الإنسان، روح الشغف بالمعرفة والاكتشاف والتفاجؤ بالواقع.
بعد العشاء خرجت إلى ردهة الفندق ووقفت عند الاستقبال، وبابتسامة عذبة قالت لي فتاة رائعة الجمال، عرفت فيما بعد أنها مساعدة مديرة الفندق، وقد حسبتني بولنديا: سوهاي. وأصخت بأذني أسمع الكلمة من جديد: سوهاي. هكذا بموسيقية طبيعية جدا، رقيقة جدا، تخرج الكلمة من فم المديرة الجميلة: سوهاي. أعجبتني الكلمة إلى درجة أني طلبت منها بالإنجليزية طبعا أن تعيدها، فضحكت وأعادتها، وسألتها عن معناها فقالت إنها تعني شيئا مثل: ماذا تريد؟ أو باللغة العامية: أفندم، نعم، فيه حاجة؟
وفعلا كنت أريد شيئا، كنت أريد أن أرى وراسو، وطلبت منها خريطة للمدينة، ولم يكن لديها. أعطتني خريطة للفندق والشوارع المحيطة به. كنت منهكا وفي حاجة ماسة إلى الراحة بعد رحلة بدأت في التاسعة صباحا وانتهت في التاسعة مساء، ولكني كنت أريد أن أرى وارسو. لقد قرأت الكثير عنها وعما حل بها في أثناء الحرب العالمية الثانية، وكيف هدمها الألمان وهم يغزون بولندا، وكيف أعادوا هدمها وهم ينسحبون منها، حتى إنهم بعد الحرب وحين وجدوا أن أكثر من 90 في المائة من المدينة قد تخرب، فكروا بدلا من رفع الأنقاض وما تكلفه هذه العملية من نفقات باهظة، أن يقيموا وارسو جديدة بعيدة عن موقع القديمة.
خرجت وظللت أطوف في الشوارع وقتا طويلا. لم أجد بالطبع أنقاضا. كان واضحا أن كل ما هدمته الحرب قد أعيد بناؤه، بل تضاعفت الأبنية في وارسو عما كانت عليه قبل الحرب، ولكن المشكلة التي حيرتني أني وجدت الأبنية عريقة لا يمكن أن يكون عمرها عشرين عاما أو ربما أقل. وقد تكفل صديق بولندي بشرح هذا اللغز فقال: إن وارسو حين أعيد بناؤها، أعيد على أساس أن تكون الشوارع والمنازل صورة طبق الأصل لما كانت عليه قبل هدمها، وقد فعلوا هذا مستفيدين بأشياء كثيرة، منها في بعض الأحيان صور فوتوغرافية للشوارع القديمة. ولقد صحبنا نفس الصديق إلى ما يسمونه المدينة القديمة، هذه كانت قد خربت تماما في أثناء الحرب ولكنها أعيد بناؤها على النسق الذي كانت عليه من مئات السنين.
ولكن المشكلة كما قلت ليست في البناء والمنشآت. المشكلة في الإنسان الذي يعيد البناء ويعمر ويخلق ويبدع، وأجمل ما في بولندا هو الإنسان البولندي. والإنسان البولندي كان إلى ما قبل بضع عشرات من الأعوام إنسانا مزعوما؛ فقد كانت بولندا نفسها لا وجود لها أو على وجه الدقة ليس لها وجود دولي أو «قانوني» فقد كانت أرضها محتلة ومقسمة بين روسيا القيصرية والنمسا وألمانيا. ولقد ظل هذا الاحتلال والتمزيق طوال مرحلة طويلة من مراحل التاريخ، قبل شوبان وأيامه وبعده، وأبدا لم يقتل هذا الوضع روح المقاومة في الإنسان، لم يقتل «الوطن» أبدا في قلبه وعقله، وإنما ظل هناك حيا نابضا يلهب خيال المواطنين المبعدين الممزقين ويثير ثائرة الشعراء، وحتى يعتصر روح شوبان في غربته وتشرده بفرنسا ليخرج أعذب وأصدق ما أخرجته تلك الفترة من موسيقى في العالم أجمع. وما كادت بولندا تتوحد أخيرا وبعد الحرب العالمية الأولى، وتصبح لها حكومة بولندية واحدة، حتى كانت مشكلة دانزج «أو جدانسك كما ينطقونها هناك» التي تسببت في الغزو الهتلري لبولندا، ومن ثم قيام الحرب العالمية الثانية. وكما قلت مرة: إذا كنا قد عرفنا نحن الحرب كلمة وبضع غارات وتضحيات، فلا بد أن نعرف أن الحرب ليست هكذا أبدا بالنسبة لبلد مثل بولندا. إنها حقيقة غريبة بشعة مغورة إلى أعمق أعماق الشعب البولندي. يكفي أن نعلم أن بولندا «التي كان تعدادها لا يتجاوز العشرين مليونا» فقدت أربعة ملايين نسمة من أهلها خلال الحرب، وفقدت معظم مدنها ومنشآتها ومتاحفها وثرواتها. إن الحرب هناك كانت وكأنما «الآخرة» قد قامت على سطح الدنيا، وبالذات جهنم الآخرة.
والعجيب هو ما حدث بعد الحرب، هو أن يعود هذا الشعب الممزق المطعون الجائع إلى حد المرض ليقف، ليس مجرد وقوف ولكنه انطلاق وكأنما بجماع ما تبقى لديه من قدرة على الحياة، وليس فقط ليعيد بناء بلاده وإصلاح أرضها، وإنما أيضا ليتكاثر تكاثرا مذهلا بتعداد سكانه الآن إلى ما يربو على الثلاثين مليونا.
ومع هذا فالأمر المحير أن نجد أن مشكلة جدانسك والحدود الغربية، «تلك الأرض التي أعيد ضمها لبولندا في مؤتمر بوتسدام»، لا تزال هي النقطة الحساسة الحرجة في الموقف بين ألمانيا الغربية بالذات وبين بولندا، بل تعتبر نقطة الأزمة في الموقف في هذا الجزء من أوروبا. لقد أحسست وأنا أقرأ ترجمات لما يكتب في ألمانيا الغربية عن هذه المشكلة، وحتى فيما يكتب في الصحف والكتب البولندية، أن هناك من لا يزالون يطالبون بإعادة هذا الجزء إلى ألمانيا باعتبار أنه أرض ألمانية، بل إن الأوساط السياسية في ألمانيا الغربية «أو بعضها على الأقل»، يتهم ألمانيا الشرقية بالتفريط في هذا المطلب، وكأنما الحرب لم تقم أبدا، وكأن كل هؤلاء الذين راحوا ضحية العدوان الهتلري لم يفلحوا في حل المشكلة. ولا بد للقارئ أن يدرك أن هذه المشكلة التي نتحدث عنها هنا في سطور، هي مشكلة المشاكل في ذلك الجزء من العالم، وكأنما لكل جزء من العالم مشكلته الخاصة الملحة التي لا يمل للناس الحديث عنها.
لقد آمنت بعد الجولة الكبيرة التي قمت بها في أنحاء بولندا أن الإنسان كائن خرافي لا يمكن أبدا لأية قوة أو كارثة على سطح الأرض أن تقهره. ربما العكس هو الصحيح، إن أية كوارث تلحق بشعب من الشعوب لا تفت في عضده أبدا، إنما هي تفعل مثلما تفعل الحقن والهرمونات المنشطة، وتدفع الشعب إلى استفزاز كل ذرات المقاومة فيه بحيث لا بد في النهاية ليس فقط أن يعود إلى ما كان عليه، وإنما لأن يقفز في طريق الحياة قفزات واسعة جبارة ربما تضعه في المقدمة. وتصوروا أن بولندا الآن هي رابع دولة في العالم في صناعة البواخر، ومن العشر الدول الأولى في الصناعة في العالم، بولندا الزراعية الممزقة التي مات منها في أثناء الحرب وقتل أربعة ملايين كائن حي.
لندع السياسة
ولندع السياسة جانبا فالحديث عنها دائما لا يروق لمعظم الناس، ولنتحدث عن بولندا الإنسان. وأول ما يسترعي الانتباه في بولندا الإنسان هو المثقفون البولنديون. والثقافة في بولندا مسألة شائعة إلى الدرجة التي كانت تدفعنا للضحك في أحيان؛ فقد كان المرافق مثلا يقول لنا، غدا صباحا لديكم موعد مع البروفيسور فلان، ونتصور أننا في طريقنا إلى الجامعة، ولكنا نفاجأ في الصباح أننا في طريقنا إلى مجلس المدينة، ويتضح لنا أن رئيس مجلس المدينة هو هذا البرفيسير، ونجد أنه في نفس الوقت أستاذ الرياضة أو الميكانيكا في الجامعة، وأنه ليس معينا وإنما منتخب ومحبوب من جماهير شعب المدينة، حتى لقد أطلقت على بولندا وأنا هناك: البلد الذي يحكمه البروفيسيرات.
المثقفون في وارسو
والمثقفون البولنديون ليسوا كالمثقفين في معظم بلاد العالم، إنهم في الوقت الذي يحكمون فيه تجدهم ينقدون حكمهم هذا أشد النقد، وتجد الحكومة هناك تتقبل النقد بطريقة لم أكن أتصورها. في وارسو رأيت مسرحية لأكبر كاتب مسرحي بولندي معاصر «موروجيك» والمسرحية اسمها «تانجو»، ترجمها في أثناء العرض صديق بولندي، ولكني لم أكن في حاجة إلى الترجمة لأدرك هذه الكمية الهائلة من النقد الموجه إلى كافة أوضاع الحياة. ليس في بولندا وحدها وإنما في أوروبا كلها. والمسرح البولندي بالمناسبة جزء حي جدا وهام جدا من المسرح الأوروبي؛ فلقد نشأ المسرح هناك في نفس الفترة التي نشأ فيها المسرح في معظم بلدان أوروبا الوسطى، نشأة دينية تقليدية في القرن الخامس عشر والسادس عشر على هيئة محاورات باللاتينية بين الشخصيات الدينية المسيحية. ومع بداية عصر النهضة وبداية خروج اللغة البولندية إلى الوجود بدأت المحاورات تكتب بالبولندية، ويمثلها طلبة جامعة كراكوف القديمة «من أقدم جامعات أوروبا» حيث يقدمون مترجمات لكتاب القرن السادس عشر مثل لوكاش جورنيكي وبيوتر سيكلنسكي.
ولقد شهدت في وارسو أيضا مسرحية قديمة جدا اسمها «حياة يوسف» وهي عن القصة المعروفة لسيدنا يوسف، ولقد كانت مكتوبة كملحمة شعرية بالغة الطول، ومنذ كتابتها لم تمثل على مسرح إلى أن أعدها إعدادا خاصا الفنان المعاصر كازيمييرز ديجميك وقدمت لأول مرة على المسرح عام 1958. وأشهد أني كنت كمن يشاهد عملا فنيا معاصرا عن الإغراء والغواية. ولن أتحدث عن الإخراج؛ فالبولنديون في الإخراج قد تفوقوا إلى الدرجة التي كنت فيها ذات مرة في موسكو وشاهدت ازدحاما شديدا حول أحد المسارح، وحين سألت عرفت أنها إحدى مسرحيات برخت، ولما أدهشني الازدحام الشديد ونفاد التذاكر قالوا لي إن السر أنها لمخرج بولندي. والحقيقة أن بولندا في مجال المسرح لا تعد من الطليعة فقط بالنسبة للبلاد الاشتراكية، ولكن بالنسبة لبلاد أوروبية غربية أيضا مثل إيطاليا وفرنسا. إن المسرح هناك حقيقة أزلية واقعة. قال لي رئيس تحرير مجلة «ديالوج» وهي المجلة المسرحية الأولى في بولندا «وهناك أربع مجلات أخريات»: إننا لسنا قوما برجوازيين لدينا العربات الفارهة والفيلات المقامة في الريف نقضي فيها «الويك إند»، نحن قوم كلنا نعمل كما ترى ونكدح؛ ولهذا فحياتنا الروحية كلها مرتبطة بالمسرح. إنه «كنيستنا» الحديثة بلا وعظ أو إرشاد. والغريب أني حين سألته إن كان لديهم مسرح تجاري نفى هذا وقال: وعن المسرح التجاري وجماهيرنا قد تعودت على المسرح الحقيقي بحيث لا يمكن لأذواقها أن تقبل السخف أو التهريج؟ ليس لدينا سوى مسرح واحد يؤمه جميع الناس، مسرح قائم على «الريبوتوار» الأوروبي والإنتاج المسرحي المحلي، ورئيس تحرير «ديالوج» من ألمع الشخصيات الأدبية البولندية ولحسن الحظ يتكلم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وقد ذكر لي أنه أول من اكتشف بيكيت للبولنديين والعالم أجمع، وأنه نشر له مخطوطاته الأولى التي كان يرفضها الناشرون والمخرجون في فرنسا ولا يزال صديقه إلى الآن. والغريب أنني في نفس اليوم الذي قابلته فيه كنت آتيا من لقاء مخرج مسرحي شاب ثائر بعد أن حضرت معه إحدى «بروفات» مسرحية جيرودو «أنديين». ومع أنها كانت مجرد بروفة إلا أني فوجئت بها تحدث بالملابس والأضواء والمؤثرات الصوتية، ولم تكن البروفة جنرالا ولا الأخيرة. كانت البروفة الخامسة عشرة للرواية، ولكن المخرج أكد لي ضرورة إيجاد الممثل ومنذ التدريبات الأولى في الجو النفسي الكامل للرواية.
وبعد انتهاء «البروفة» جلس المخرج يحدثني عن طريقته في الإخراج، ويؤكد ضرورة أن يفسر المخرج النص تفسيرا شخصيا، أما رئيس تحرير «ديالوج» فقد عارض هذا على خط مستقيم، واعتبر النص المسرحي أولا عملا أدبيا لا يجب المساس به أو الإخلال.
المشكلة النظرية في بولندا
المثقفون في البلاد الاشتراكية، يكونون دائما النقطة المضيئة، وفي نفس الوقت يكونون إحدى مشاكل هذا المجتمع؛ وذلك أن المجتمع الاشتراكي لم يستطع إلى الآن أن يحل وضع المثقفين حلا جذريا، وفي أي بلد اشتراكي زرته كان هناك دائما تململ من نوع ما، تململ المسئولين من المثقفين، وتململ المثقفين من المسئولين. في بولندا الوضع مختلف بعض الشيء؛ فالمثقفون فئة ضخمة جدا من فئات المجتمع «ويكفي للدلالة على هذا أن نعرف أن كل أفراد الشعب البولندي أصبحوا ومنذ بضع سنوات يجيدون القراءة والكتابة» ولهذا فللمثقفين أيضا نفوذ ضخم بين جماهير الشعب، وربما لهذا لم أشهد مثقفا يشكو من وضعه أبدا. كل مثقف موضوع في مكانه بالضبط، ولا فضل لأحد على أحد حتى لو كان المثقف من أعضاء الحزب وزميله ليس عضوا. لم أشهد كاتبا أو فنانا موهوبا يشكو من أزمة نشر أو تقدير حتى الناشئين ففي مجلة
وهي وجه بولندا الأدبي والثقافي إلى العالم الخارجي، تجد أشعارا لشبان لا يتجاوزون العشرين مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وموروجيك الكاتب المسرحي الكبير بلغ مكانته هذه في بضع سنوات قليلة، سبع أو ثماني سنوات، ولم ينكر أحد عليه مكانته تلك، رغم أنه لم يبلغ الأربعين، ولم يطالبه أحد بأن يقف في آخر الطابور احتراما للسن وللعمر الأدبي، بل هم يحملونه كالراية الخفاقة فوق رءوسهم ويعدونه كأحد مفاخر بلادهم.
مشاكل المثقفين في بولندا إذن ليست مشاكل شخصية تتعلق بذواتهم أو أعمالهم، ولكن مشكلتهم كما استخلصتها من عشرات المناقشات والأحاديث هي الاشتراكية، أو بالأصح مشاكل الاشتراكية. وأولها مشكلة الديمقراطية، أو بمعنى أدق مشكلة الديمقراطية الاشتراكية. في منزل الصديق الكاتب ميجانوفسكي قابلت أحد الخلاصات الفكرية للمجتمع البولندي ممثلا في كاتب كبير ورئيس تحرير إحدى المجلات الكبرى، والحقيقة أنه كان مثالا للذكاء والفهم الاشتراكي العميق. وملخص ما قاله لي خلال سهرة بأكملها أن مشكلة الاشتراكية في العالم أجمع الآن هي أن تجد لنفسها، بعد أن أرست دعائم التطبيق الاقتصادي، النظام الديمقراطي الخاص بها، ليس البرلمانية الغربية الرأسمالية فهذه نظم خاصة لا يمكن أن تتكرر في البلاد الاشتراكية، ولكنها نظم ديمقراطية نابعة من صميم النظام الاشتراكي ومعدة بحيث تضمن التطبيق الديمقراطي الحقيقي؛ أي اشتراك جماهير الشعب اشتراكا فعليا في الحكم لا يحده حد من خوف أو سلبية. لقد أدت الاشتراكية دورا معجزا في النهوض باقتصاديات البلاد التي طبقت فيها، وبقي أن تؤدي مهمتها الحقيقية ألا وهي إشراك الناس في حكم أنفسهم بأنفسهم وما يعقب هذا ويسبقه من لامركزية الأجهزة الاقتصادية.
والمؤسسات العامة. إن هذه المشكلة في رأيه تضع الاشتراكية أمام اختبار من المحتم لها إن عاجلا أو آجلا أن تجتازه وإلا فقدت روحها نفسها واستحالت إلى نظام لا تقبله الجماهير.
وتلك هي بالضبط المشكلة الاشتراكية كما يراها المثقفون الاشتراكيون في كل مكان من العالم. فإذا كان قيام الثورة الاشتراكية مشكلة العالم في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، فالسمة الرئيسية لعصرنا الحاضر هي قيام الديمقراطية الاشتراكية، لا كشعار، وإنما كحقيقة واقعة.
وبالطبع ليس هذا سهلا أبدا؛ فدونه عقبات كثيرة أولها العقليات التي دأبت على التطبيق الاشتراكي في ظل نظم مركزية صارمة. إن تقبل هذه العقليات الأسلوب الديمقراطي الشعبي الاشتراكي قبولا سليما ومن تلقاء نفسها مسألة تبدو بعيدة التحقيق، فما الحل؟ وما هي الحلول البولندية للمشكلة؟
أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة والكثير غيرها في حاجة إلى لقاء آخر.
لا تناقض بين الخبز والحرية
ترددت في الآونة الأخيرة كلمة «مراكز قوة»، ولا بد لي أن أعترف أني عانيت بعض الشيء لكي أفهم المعنى الحقيقي المقصود بالكلمة، وأخيرا أدركت أنها لا بد تعني تكون مراكز قوة مناوئة لقيادتنا السياسية أو مناوئة للأهداف التي يسعى مجتمعنا لتحقيقها، بطريقة لا بد من القضاء على هذه المراكز وتصفيتها، بل لقد استطعت أن أقرن في ذهني بين كلمة الرئيس: إن جمال عبد الناصر لا يستطيع أحيانا أن يقول للشيء كن فيكون، وبين مراكز القوة هذه وتصفيتها؛ إذ أحيانا تتمتع بعض هذه المراكز بحصانات من نوع ما، أو تنمو إلى درجة أن القضاء عليها يصيب دعائم الحكم باهتزازات غير مأمونة العواقب، إلى آخر هذه التفسيرات.
ولكني في الحقيقة نظرت إلى الموضوع من زاوية أخرى. إن القضاء على مركز من مراكز القوة يلزمه دائما ضرورة التقصي الشديد ثم إحكام في التدبير ثم قبض واعتقال، ثم محاكمة وضجة وأحكام بمعنى أصح. إن القضاء على مركز من هذه المراكز يلزمه دائما «عملية جراحية» كبرى، والجسم - أي جسم - ليس مهيأ بحيث يحتمل العملية الجراحية الكبرى في أي لحظة، وأحيانا نضطر اضطرارا لتأجيل العملية حتى تنضج حالة جسم الإنسان للقيام بها، هذا التأجيل خطير في حد ذاته لأنه قد يؤدي إلى استحالة إجرائها مثلا، أو إلى تمكن هذا المركز من الجسم بحيث يستحيل استئصاله.
المشكلة إذن ليست مشكلة استئصال المركز وإنما لا بد لكي نكون علميين وثوريين أن ندرس لماذا تنشأ هذه المراكز أصلا، ولماذا تنمو وتستشري إلى الدرجة التي تتطلب إجراءات كبرى للقضاء عليها. إن هناك سببا واحدا لنشوء مراكز قوة مناوئة للقيادة ولأهدافنا، هذا السبب هو غيبة النقد والنقد الذاتي، وتمتع بعض المراكز والأشخاص والهيئات بحصانة لا تسمح بنقدها. في ظل هذا الجو المظلم تنمو مراكز القوة وتستشري بعيدا عن أعين الرأي العام ورقابته، بعيدا عن أعين القيادة والثورة. ولا يطالب الطامعون في هذه المراكز بأكثر من إلغاء النقد أو تحديده لكي يضمنوا باستمرار بقاء الجو المناسب لتضخمهم وتمكنهم من حياتنا ومقاديرنا.
من أجل هذا ارتفعت الشعارات تطالب بإطلاق حرية النقد؛ فإنها حرية لن تستخدم بالقطع ضد الثورة أو القيادة أو القيم. إنها حرية يطالب بها الشعب لاستخدامها ضد الانحرافات وهي لا تزال في المهد، حرية نقد أي إنسان وأية هيئة بحيث لا يتمتع أحد بحصانة تتيح له أن يتضخم ويستشري على حساب المبادئ والقيم. إنها ليست كلمة جوفاء لا معنى لها «الحرية». إنها كلمة محددة في ذهن الشعب تماما ولا يقصد من متطلباته كلمة يلهو بها أو يستعملها للزينة، إنما يطالب باستمرار بحقه أن يحمل سلاحا يضرب به الانحراف ويرصده قبل أن يكبر ويصبح لا بد من عملية جراحية كبرى لإزالته.
إنها حقا ثورة الشعب العامل، قواها الرئيسية العمال والفلاحون، ولكن المثقفون هم أداة جماهير الشعب العامل للنقد من ناحية ولتصوير الحياة الفكرية والثقافية والفنية لهذه الجماهير من ناحية أخرى؛ فالإنسان قبل أن يكون كائنا آكلا شاربا متناسلا، هو أولا وقبل كل شيء كائن مفكر وإلا لاستوى هو والحيوان، ولأصبح ضمان طعامه وشرابه هو نوع من ضمان غذاء الجسد وحده، وحرمانه من الثقافة والفكر هو حرمانه من الحرية؛ فالثقافة هي الحرية والتفكير. إننا نعترف أننا شعب لا نزال يكافح لكي يضمن لكل مواطن فيه لقمة العيش، ولكن أن يعمل المواطن ويأكل شيء لا يمكن أن يتعارض مع حقه في أن يقول رأيه فيما يعجبه وما لا يعجبه، حتى في نوع الطعام الذي يأكله، وحقه في أن ينقد الظروف والأحوال التي تهيئ له طعامه وشرابه وعمله، وحقه في أن يفكر في تطوير طعامه هذا وشرابه، وهذه كلها عمليات لا يمكن أن تتم إلا بالحرية وحدها؛ ولهذا كان شعار الثورة الاشتراكية في أي مكان وكل مكان هو: الخبز والحرية، ومنذ بدء الحضارة وهذا الشعار قائم لم ينطفئ، منذ أن جاء الإنجيل وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل قبل الإنجيل بكثير، منذ أرسطو وأفلاطون والفلاح المصري الفصيح والإنسان يدرك ويطالب باستمرار بالزاد لجسده وروحه معا.
أجل، لقد عبر الرئيس عبد الناصر عن مفهوم ثورتنا للحرية باعتبارها ذات شقين؛ الحرية الاجتماعية وهي حق المواطن أن يعمل، والحرية السياسية وهي حقه في اختيار من يحكمه وفي نقد الطريقة التي يحكم بها.
وإذا كان الطلبة في مظاهراتهم قد رفعوا شعار الحرية، فبالرغم من محاولات البعض لاستغلال هذا الشعار البريء فإني أعتقد أن الطلبة في تلقائيتهم إنما أرادوا أن يعبروا عن المطلب الشعبي العادل لحماية ثورته؛ حرية النقد والنقد الذاتي ضمانا لعدم تكاثر الأخطاء والانحرافات وقيام مراكز السلطة، ضمانا للثورة من العابثين والمنحرفين، ضمانا للحكم أن يكون دائما في مصلحة الشعب ومبادئه.
التطورات الأخيرة في الجزائر ليست مفاجأة
الجزائر ليس فيها صراع مذهبي، الصراع شخصي.
الفرق بين حرب الأعداء، وحرب الأصدقاء! ***
التطورات الخطيرة التي حدثت داخل الجزائر خلال الأيام القليلة الماضية لم تكن أحداثا غير متوقعة، بالعكس إن كل من أتيحت له فرصة أن يرى بعمق وضع الجزائر بعد الاستقلال لم تكن هذه الأحداث مفاجأة بالنسبة إليه، بل ولا ما قد يجد من أحداث أخطر.
ورغم الكثير الذي قرأناه ونقرؤه عن الجزائر وقضيتها، فلا زال الوضع في رأيي في حاجة إلى أضواء كثيرة تلقى عليه لكي يدرك القارئ هنا عمق المأساة الجزائرية بعد الاستقلال، ولكن الكتابة عن هذه المأساة بكل وضوح والصراحة والموضوعية تكتنفها عقبات:
أولها:
أنه من السهل على الكاتب أن يكتب ليعرض آراءه وأفكاره وما يجب أن يكون على الواقع، وأن يكتب لكي يثبت لنفسه ولنا أننا على حق في كل ما نعتقده وأن كل شيء يمضي كما قدرنا ونقدر له والحمد لله. أما الصعب فهو أن نواجه الواقع بصراحة وشجاعة لكي نقهره ونتغلب عليه.
وثانيها:
أننا بالنسبة للقضية الجزائرية لسنا كالكتاب في أي مكان آخر من العالم أحرارا في أن نقول كل ما نراه ونعتقده؛ فنحن مع القضية، وملتزمون.
وثالثها:
أن القضية الجزائرية فوق أهميتها الذاتية القصوى هي قبل كل شيء قضية مستقبلنا نحن ومستقبل العرب في كل مكان خلال الأعوام القادمة، وهي قضية صعبة بالغة التعقيد يكتنفها ألف ظرف وظرف، ويتدخل في توجيهها ألف عامل وموجه والإحاطة بها في حاجة - وأقولها بصراحة - إلى دراسات سياسية عميقة شاملة؛ دراسات لا أعتقد أنها ستحدث؛ فليس لدينا لها متخصصون، بل تكاد معظم قضايانا الأساسية تخلو من أعمال المتخصصين ودراستهم، ومسائلنا وقضايانا الهامة تتم دائما هكذا بنفس السرعة واللهوجة والاتكال. أحيانا يصبح أقصى ما يمكن عمله مقال خاطف سريع كهذا المقال وكغيره.
الجزائر أضخم بكثير
لقد تعودنا دائما أن نبدأ الحديث عن الجزائر بالحديث عن قادتها وعن أزماتهم، حتى تكاد الجزائر تصبح في نظرنا أعضاء المكتب السياسي أو أعضاء الحكومة المؤقتة، ولكن الجزائر ليست هكذا في الواقع. إنها أكبر وأغنى وأكثر بلادنا العربية فتوة وحماسة وشبابا. لقد كانت الجزائر في ظني هي سفوح الجبال الجرداء، إلا من الغابات، تلك التي كان يعسكر فيها جيش التحرير ويتحرك، والتي لمحت بارقة منها في رحلتي الأولى مع هذا الجيش، ولكني هذه المرة حيث دخلت الجزائر المستقلة وبطريقة قانونية، ومن بابها الأمامي الواسع، ذهلت؛ فقد هبطت الطائرة قادمة من تونس في مطار ضخم فاخر يعتبر مطار القاهرة «الدولي» الحالي شيئا لا يقارن به، ومن المطار قطعت بنا السيارة المسافة إلى مدينة الجزائر وأنا مذهول لا أكاد أصدق نفسي. لقد كنت كغيري أعتقد أنها ليست سوى بلد آخر من البلاد التي امتص الاستعمار خيراتها وتركها فقرا وأكواخا، فإذا بي أجد طرقا وأبنية ومنشآت بالغة الروعة والضخامة، أعظم بكثير مما تراه في إيطاليا أو النمسا أو سويسرا أو حتى فرنسا نفسها. والمدينة - مدينة الجزائر - تجمع بين كل جمال الإسكندرية وشاعريتها وجدية القاهرة وغناها وكأنما المدينتان أدمجتا معا، والميناء أكبر بكثير من ميناء الإسكندرية تكاد أرصفته وأوناشه تعادل أربعة أضعاف مثيلاتها في الإسكندرية؛ مدينة حديثة إلى أقصى حد، غنية إلى درجة أن مستوى المعيشة فيها أعلى منه في فرنسا. وليست المدينة فقط، الريف الجزائري نفسه. إن مساحة الأرض المزروعة كروما ليست بأقل من خمسة ملايين فدان، ومليوني فدان من القمح، والزراعة كلها، من ألفها إلى يائها تتم آليا ودون استعمال اليد البشرية أو الجهد الحيواني.
وثروة الجزائر المعدنية والبترولية تصل أرقامها إلى حد لا يصدقه العقل، والجزائر كقطر شاسعة الأطراف، مساحتها أربعة أمثال مساحة فرنسا، وفي هذه المساحة الهائلة لا يقطن سوى ما يقرب من تسعة ملايين نسمة، ثمانية منهم على الأقل من العرب والتسع الباقي هو الذي يملك كل هذه الحضارة الضخمة. كل شيء للفرنسيين ولليهود ولا شيء للعرب، إلا أحياء كالقصبة يحشرون فيها كالسردين وينامون كل أسرة في غرفة، ويتقاضى فيها العربي المسلم خمس الأجر الذي يتقاضاه الفرنسي عن العمل الواحد.
دكتاتورية الحضارة
ولكن فرنسا لم تكن تكتفي بهذا، كان هدفها من يوم أن وضعت أقدامها في الجزائر ألا تفرنس فقط أرضها، ولكن أيضا أن تفرنس الإنسان الجزائري نفسه وتجتث منه كل ما يربطه بأهم ثلاثة مكونات من مكوناته: ماضيه ولغته ودينه؛ ولهذا فأنت تحس كلما أوغلت في البلاد وتجولت وتفحصت الحياة فيها أن هناك ما هو أكثر من دكتاتورية الجيش الفرنسي أو الاستعمار الفرنسي. إنها دكتاتورية الحضارة الفرنسية تلك التي تحكم الجزائر، دكتاتورية بكل معنى الكلمة، إلى درجة تجد القرى فيا حافلة بالكنائس ذات الأجراس ولا تلمح في بلاد المسلمين مئذنة جامع واحد، إلى درجة أن الجزائريين الذين يعرفون اللغة العربية قراءة وكتابة لا بد أن يكونوا قد تعلموها في كتاتيب تحفيظ القرآن القليلة أو خارج الجزائر، إلى درجة أني كنت أرى الشعارات تكتب على الجدران باللغة العربية وبالحروف اللاتينية، فيكتبون الشعار المشهور: «الله يرحم الشهداء» هكذا
Allah Yerham Elshouhada .
ولقد كانت الطريقة الوحيدة للرد على هذه الدكتاتورية الحضارية الفرنسية الأوروبية التي تعتبر امتدادا فرنسيا للحرب الإسبانية في الأندلس ضد العرب، وتخطى بالعدوان عبر البحر المتوسط كي تشترك فرنسا وإسبانيا في حرب صليبية ضد عرب الشمال الأفريقي. كان الرد على هذا كله أن تقوم ثورة شعبية عربية إسلامية في بلاد المغرب العربي كلها كي تدفع بهذه الدكتاتورية الأوربية الصليبية مرة أخرى عبر البحر إلى حيث جاءت، ولأن الأمور لم تكن في الشمال الأفريقي تجري كلها كما ينبغي فلقد قامت الثورة في تونس والجزائر ومراكش كما كان يجب أن تقوم، ولكن الظروف واختلاف طبيعة القيادات جعلت تونس تكتفي من الغنيمة بالحكم، وجعلت مراكش تكتفي من الثورة بالحديث عن الثورة. وهكذا أصبح على اليد الجزائرية وحدها أن تقوم بما كان يجب أن تقوم به الأيدي مجتمعة. ومن هنا ولأجل هذا تنبع خطورة الثورة الجزائرية؛ الرد الشعبي العربي الإسلامي المسلح على العدوان الأوروبي الصليبي المسلح.
ومن هنا أيضا يمكننا أن ندرك لماذا نشأت المنظمة السرية الإرهابية، ولماذا وجدت لها مرتعا خصبا في إسبانيا، ولماذا كان مركزها الأساسي في وهران حيث المستوطنون الإسبان الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية. ولماذا وهذا هو المهم يشعر هؤلاء المستوطنون وتشعر أوروبا بشكل عام بمرارة الهزيمة في الجزائر. إنها من نفس طعم المرارة التي لا تزال نحسها كعرب حين ندرس التاريخ ونستعيد ما حدث في الأندلس.
ثورة الجزائر ليست ثورة جزائرية
إن ثورة الجزائر ليست ثورة جزائرية فقط. حقيقة هناك كثيرون يحاولون بكل طاقتهم أن يجعلوها هكذا، وأقصد بالكثيرين عددا كبيرا من المثقفين الجزائريين أنفسهم وبعض القادة الجزائريين، يحاولون أن يوهموا أنفسهم أنها لا تعدو أن تكون ثورة وطنية تحررية مثل غيرها من الثورات، هدفها في النهاية أن تستقل البلاد ويعهد بالحكم فيها إلى أهلها، ويصبح لها سفارات ووظائف عامة ومناصب وزارية، تماما كما فهم الحبيب بورقيبة ثورة تونس، ولكن أي ثورة في الوطن العربي، وبالذات في الشمال الأفريقي حيث سيطر العدوان الصليبي الأوربي، ليست أبدا مجرد ثورة وطنية محدودة بحدود بلادها ومرهون مصيرها بنيل الاستقلال وسيطرة أهلها على مصائرهم. إن أي ثورة عربية، وبالذات في الشمال الأفريقي، هي جزء لا يتجزأ من الثورة العربية الحضارية الشمالية، التي ليس هدفها فقط استعادة وحدة الأمة العربية من «المحيط إلى الخليج»، ليس هدفها تجميعا جغرافيا للبلاد وللشعوب العربية ولكن هدفها الأساسي تجمع حضاري وإنساني متطور لهذه الشعوب، هدفها إزاحة كل ما تراكم على طبيعتنا ووجودنا من أدران وعقد وظلامات، هدفها أن نجد أنفسنا ونهيئ أنفسنا لكي نعمل بوحي من طبيعتنا ونضيف إلى التراث الحضاري العالمي بدل أن نحيا عالة عليه، ونقدم بدل أن نظل مجرد مغلوبين على أمرهم وعلومهم وفنونهم ومستهلكين.
وحقيقة هذه الثورة الجزائرية ومغزاها ليست شيئا صادرا عن تفكير الساسة والمتخصصين. إنه مفهوم الرجل الجزائري العادي والمرأة الجزائرية العادية، مفهومها البسيط لهذه الثورة، نحن عرب يا أخي. هذه هي الكلمة التي نسمعها أنى سرت، حتى في بلاد القبائل التي يزعمون أن بينها وبين العرب التعصب والتناقض. والجزائريون لا يحبون الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر لأننا ساعدنا الثورة الجزائرية كما يعتقد بعض السذج، إنهم يفعلون هذا لإحساسهم التلقائي البسيط أن الجمهورية العربية وجمال عبد الناصر يمضيان في نفس الخط الذي قامت من أجله ثورة الجزائر، خط الصحوة الحضارية الثورية العربية، خط ليس الاستقلال فقط أو الاشتراكية فقط، ولكن أيضا خط الكشف عن الكيان العربي وإيقاظه وتقديمه متطورا وإيجابيا وفعالا إلى عالم متطور وإيجابي وفعال. وبهذا لم أعجب أبدا حين سمعت أول خبر عن صاروخنا الذي أطلقناه في أعياد الثورة من سائقي التاكسي الذي كان يقلنا إلى تلمسان، وبالنص كانت كلماته: مزيان بالزاف الصاروخ اللي أطلقناه. أجل، أطلقناه صاروخا عربيا، تحد عربي حضاري علمي، أطلقته ثورة القاهرة وتحييه ثورة الجزائر، والهدف ذلك الوجود الواحد الثائر المتطور.
هل كان الخلاف شخصيا
على أساس هذا الفهم للثورة الجزائرية، من الممكن أن نحدد ببساطة ونحكم على الخلاف بين قادة جبهة التحرير. بعض الناس قالوا إنه خلاف شخصي، حتى جريدة المجاهد جريدة الثورة قالت هذا، وهناك رأي آخر أن بن بيلا اشتراكي بينما المعسكر الآخر لا يميل كثيرا إلى الاشتراكية، وفرنسا وضعت كسبب محرك للخلاف.
ولكن هذه كلها أسباب ظاهرية محضة؛ فهو ليس خلافا بين اشتراكيين وغير اشتراكيين، ولا بين معتدلين ومتطرفين، ولا على من يتسلط ويحكم. إنه في شكله النظري خلاف بين من يرون أن ثورة الجزائر ثورة جزائرية هدفها الاستقلال والتحرر، ومن يرون أن الثورة الجزائرية ليست سوى جزء من ثورة عربية يجب أن تشمل المشرق والمغرب معا، ومن يرون للثورة الجزائرية أهدافا أبعد بكثير من حدود الجزائر، ولكن المشكلة أن وضع الخلاف على هذا المستوى الواضح فيه ظلم كبير للواقع؛ فهو أبدا ليس واضحا أو ظاهرا للعيان بتلك الصورة. إنه يختفي لأسباب كثيرة، وكأن كلا الجانبين حريص على إخفاء حقيقته؛ الجانب الأول لخوفه من أعداء الثورة الجزائرية الكثيرين، والجانب الثاني لخوفه من العرب أنصار هذا الامتداد وتلك الثورة في كل مكان؛ ولهذا فهو يبدو على هيئة أعراض مختلفة منها الموقف من الجيش، ومن تقسيم البلاد إلى ولايات، والحزب الواحد أو تعدد الأحزاب، والإصلاح الزراعي، والتقارب أو التباعد عن الجمهورية العربية المتحدة.
إن لب الخلاف لا يظهر للعيان، ولو قد ظهر للحظة لما تردد أحد في الانضمام إلى جانب الثورة الجزائرية كثورة عربية، ولبقي الطرف الآخر منبوذا وحيدا إلا من بعض المثقفين الجزائيين الذين يسخرون من فكرة القومية العربية، ويرون مثلهم الأعلى، مثلما حدث لبعض المثقفين عندنا، في فرنسا وأوروبا عامة وحضارتها، وإلا من البورجوازية الجزائرية التي نشأت في كنف الاستعمار، والتي تخاف عواقب الثورة العربية الاشتراكية وما يتبعها من تأميم، وإلا من الأوروبيين جميعهم وبلا استثناء الذين يرون أن الخطر الأكبر عليهم ليس أن تستقل الجزائر إذ بعد الاستقلال أيضا ستظل لهم اليد العليا، وسيظلون وبحماية فرنسا وبنصوص اتفاقيات إيفيان يسيطرون على كل شيء. الخطر الأكبر أن تنضم الجزائر المستقلة إلى ركب التحرر الثوري العربي ويصبحوا حينئذ مجرد قطرة صغيرة في بحر عربي ثائر، تلك هي القوى التي تساند جانب الجزائر جزائرية فقط والجزائر مستقلة فقط، والجزائر متطورة داخل حدودها فقط، ومع هذا الجانب أيضا لا بد تقف فرنسا وأمريكا وإنجلترا وكل دول الحلف واليهود في داخل الجزائر وإسرائيل في خارجها.
أما الطرف الآخر فمعه الجيش والشعب العربي في كل مكان، ومعه حكم التاريخ والحقيقة والتطور، وهذا هو الطرف الذي يمثله بن بيلا ورفاقه، وهو الطرف الذي عليه أن يواجه كل هذه القوى مجتمعة، وهو أيضا الطرف الذي لا يجب عليه أن يدخل في الآونة الحاضرة أية معركة حاسمة؛ فأقصى ما يريده الآخرون منه أن يدخل هذه المعركة ويدخلها الآن، قبل أن تنبت له في الشعب جذور، ويرتبط بالجماهير ارتباطا تنظيميا وعضويا لا يمكن فصمه.
الصورة الواقعية مختلفة تماما
هذا هو الخلاف على مستواه النظري البحت.
ولكن الصورة الواقعية تغير كثيرا من المشهد وتدفع إلى مزيد من التأمل.
فالصورة الواقعية مثلا لم تخرج عن محاولة اتهام معسكر بن بيلا للآخرين بأنهم خرجوا على قرارات مجلس الثورة والقيام بتصرفات ليست من اختصاصهم، ورد المعسكر الآخر باتهام بن بيلا بالجنوح إلى التحكم الفردي ومحاولة خلق دكتاتورية عسكرية، إلى آخر القائمة.
والصورة الواقعية دفعت المعسكرين في النهاية إلى الاتفاق أو شبه الاتفاق بتغاضي بن بيلا من ناحيته عن حتمية عودة القيادة المفصولة، وموافقة الآخرين على المكتب السياسي كما اقترح في مؤتمر طرابلس.
وأخيرا ها هي ذي تدفع الجميع إلى دخول الانتخابات كجبهة تحرير واحدة.
وسبب اختلاف الصورتين أن خلاف الزعماء جاء قبل أوانه بكثير. إن جبهة التحرير كانت تنظيما ثوريا سريا قاد المعركة خلال سبع سنين، ومع هذا بقي أعضاؤها غير معروفين لجماهير الشعب يكاد لا يعرف عن معظمهم سوى أسمائهم الحركية. وجبهة التحرير كانت إلى ما قبل الثورة مكونة من شباب يعملون في الحقل السياسي الحزبي السري، نشاطهم لا يعرفه غير أعضاء التنظيم. وإن كانت جبهة التحرير قد ارتبطت في أذهان الشعب بالقيادة الحازمة الواعية التي جلبت النصر، إلا أنها ارتبطت في الأذهان أيضا كجبهة، ولم ترتبط كأفراد أو كزعامات. باختصار أريد أن أقول إن أعمار هؤلاء الزعماء في القيادة العلنية قصيرة، والوحيد المعروف بينهم على نطاق شعبي واسع هو فرحات عباس، وأن تأتي هذه القيادة الجديدة، هذه الجبهة، وأول عمل علني يقوم به أعضاؤها بعد الاستقلال أن يختلفوا هذا الاختلاف الذي كان يضيع النصر والاستقلال، هذا الخلاف بين قادة مهما قيل عن اتجاه كل منهم، فإن جماهير الشعب العادية لم تجرب - على حد قول كثيرين من الجزائريين لي - هذا الزعيم أو ذاك لتحكم عليه وعلى صدق قوله وعن ارتباطه في أذهانهم بهذا العمل والمبدأ أو ذاك.
إن الشعب في مصر والعالم العربي مثلا لم يلتف حول جمال عبد الناصر ويؤيده هذا التأييد الساحق لشخصه فقط، ولكن جمال عبد الناصر هو بالنسبة لهذا الشعب عديد من المواقف والمبادئ، زعامة جاءت نتيجة تجربة ونتيجة تراكم تجارب وثقة واختبارات. كانت القيادة الجزائرية لزمها عنصر الزمن لكي توجد هذه الصلة الحتمية بينها وبين جماهير الشعب من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تتضح أوجه الخلاف النظرية والمبدئية والوسيلة بين هذا وذاك، وضع غريب، قيادة جديدة، لم تكد تتسلم الزمام العلني حتى دب بينها الخلاف. لم يكن مهما لدى الشعب الجزائري أبدا أسباب هذا الخلاف، ولا أين يكمن الحق؛ فالمهم عنده كان أولا أن يحس بأنه استقل، ولا يمكن أن يحس ذلك الإحساس إلا إذا تكونت له فورا حكومة يلمس أنها منه، من جزائريين مثله، لأول مرة منذ 132 عاما، لكي يحس أنه يحيا حقيقة لا حلما، وأنه فعلا وصدقا قد استقل؛ ولذلك أيضا كان أي خلاف مبدئي يقحم في المعركة كان الشعب والصف الثاني من جبهة التحرير لا يقابله إلا بهز أكتافه، وإلا بقوله على لسان جريدة المجاهد في افتتاحيتها المشهورة: إذا لم يتحقق الحل الذي يرجوه الجميع في الوحدة، وإذا أدت المناورات إلى فشل الجهود المبذولة حاليا، فإننا عندئذ سنواجه مشكلة حتمية، هي مشكلة استبدال القيادة الحالية.
ولأن هذا الخلاف النظري أقحم قبل الأوان فقد أسيء تفسيره، ورأى فيه أناس كثيرون أنه ليس صراعا حول السلطة بقدر ما هو صراع حول التسلط، وحول أيهم يأكل «الطبخة» وحده.
الفرق بين الخلاف التنظيمي والخلاف بين قادة علنيين
كان الزعماء يتصرفون وكأن الشعب كان معهم طوال السبع السنوات داخل جبهة التحرير، داخل الأسوار السرية المنيعة، يشهد الخلافات التي كانت تنشب، ويعرف كيف يفرق بين اتجاه هذا واتجاه ذاك، وكانوا يتصرفون وكأن أقوالهم وتصرفاتهم ستظل كما كانت طوال السبع السنوات داخل نطاق الاجتماعات السرية لجبهة التحرير لا تتعداها، ونسوا أن كل كلمة تصدر من أحدهم أصبح لها وزن آخر وفاعلية أخرى، وأنهم أصبحوا القادة الشرعيين لشعب ضخم عظيم خاض أعنف تجربة في تاريخ ما بعد الحرب وخرج منها صابرا ظافرا.
ولهذا أيضا كان رد الفعل مفاجأة للجانبين. كان الجانب الأول يعتقد أنه بمجرد إعلان آرائه سيلتف الناس حوله ويقفون ضد الآخرين، وكذلك كان يعتقد بوضياف وكريم وبوصوف، ولكن الشعب طوال الأزمة ظل لا يقف مع أي من الجانبين؛ إذ هو لم يكن يرى جانبين أبدا. لقد كان يرى دائما الرؤية الواضحة الحقيقية، يرى أنه أمام جبهة التحرير الممزقة على نفسها في وقت غير مناسب ولأسباب لم يجرب نصيبها من الحقيقة.
الفرق بين كفاح العدو وكفاح الصديق
في الحقيقة لم يكن هؤلاء القادة قد أحسوا بعد بأن هناك فارقا كبيرا بين أساليب الكفاح ضد العدو حيث يصبح كل همك أن تحاربه في كل زمان ومكان وتشهر به، وبين أساليب الكفاح ضد زملائك المختلفين معك في الرأي؛ حيث يصبح من واجبك لا أن تسحقهم وتبترهم كما تفعل مع العدو ولكن أن تكسبهم لصفك، وأن تجعل هدفك دائما أن تكسب لصفك وأن ينتصر رأيك داخل معسكرك بطريق الإقناع والزمن والإصرار على الإقناع. نسوا هذا وراحوا يعاملون بعضهم البعض كما كانوا يعاملون جنود الفرقة الأجنبية.وكان أن استنكر الجزائريون هذا الأسلوب استنكارا كاد يطيح بالقيادة كلها، وكاد يخلق نوعا من التمرد داخل الجبهة نفسها؛ بحيث نشأ في وقت قصير ما يمكن تسميته بمرض الزعامة بعد أن ضاع الاحترام الثوري الواجب للقيادة.
المعركة لم تمتد إلى الشعب
والغريب أن المعركة أبدا لم تتعد كما قلت نطاق فندق فيللا ريفو وفندق الآليتيه، ولم تمتد أبدا إلى جماهير الشعب بحيث بقي الشعب بتنظيماته، بعماله، بطلبته، بفلاحيه غير منقسم يواجه قيادة منقسمة، ويواجهها بملامح صارمة غير مرحبة أبدا بمناقشة تفاصيل أي خلاف، بل حتى بقي حافظا لجبهة التحرير تلك التي كان عليها وحدها أن تدفع ثمن هذه المعركة التي أسيء توقيتها واستغلالها من رصيدها الضخم من سمعتها وتاريخها، بل وصل الأمر إلى حد الاشتباكات الأولى التي كان من الممكن نظريا أن تنقلب إلى حرب أهلية. وحمدا لله أن اشتباكات كهذه حدثت سقط فيها حقيقة شهداء شبان لا ذنب لهم، ولكنها تجربة أثبتت للطرفين أن كل جندي في جيش التحرير سوف يسدد بندقيته إلى من يصدر إليه الأمر بالحرب قبل أن يسددها إلى قلب أخيه المجاهد؛ تجربة حاسمة سريعة أثبتت للجميع في وقت واحد أن اللجوء إلى سفك الدم الجزائري بيد جزائرية جريمة أكبر من الخيانة وأكبر من أي اختلاف نظري أو مبدئي، وأن عليهم أن يلجئوا في حل هذه الخلافات إلى طريقة أخرى، إلى الطرق الشعبية الديمقراطية لحلها، إلى إعلان الرأي والإصرار عليه والدعوة له وترك مهمة انتصاره أو فشله للشعب كي يقرر وللزمن ولمزيد من الوعي والنضج.
وهكذا بدأ فريق بن بيلا، يحس بمسئوليته ويتحرك ليجمع الصف مرة أخرى وكان الاتفاق أو شبه الاتفاق.
ولكنه اتفاق جاء متأخرا
ولكنه اتفاق حدث بعد أن أكدت الأزمة وضعا خلقه الاستعمار ولا يزال يرعاه ويعمل على استمراره، بل يكاد يصبح ركيزته الوحيدة لضمان البقاء، هو تقسيم الجزائر إلى ولايات، وإثارة النعرة القديمة بين العربي والقبائلي.
غير أن هذه كلها أصبحت غير ذات موضوع بعد أن قدم الجزائريون أنفسهم وسيلة أنجع. إن الخطة الخبيثة الماكرة للاستعمار الفرنسي أنه ظل يقاوم الثورة الجزائرية بعنف وقوة ليس لهما من مثيل، بطريقة جعلت الجزائريين يقاومونه أيضا بعنف ليس له من مثيل، ويغرقون في هذه المقاومة إلى درجة ينسون فيها كل شيء إلا الكفاح لنيل الاستقلال، وبعد الاستقلال، ماذا يحدث؟ أمور لم يفكر فيها المكافحون، وفجأة وفي أثناء هذه المقاومة الشديدة تخلت فرنسا عن الحرب وسلمت الجزائر للثوار، فكان أن حدث رد الفعل الطبيعي الذي لا بد أن يحدث في هذه الحالة، حين تجند قواك كلها لمقاومة شيء ثم ينزاح هذا فجأة، لا بد حينئذ أن تتهاوى ساقطا على الأرض، وهكذا وجدت جبهة التحرير نفسها بعد الاستقلال بلا عدو تحاربه وتقاومه، فانهارت. وهكذا ودون أي تدخل فرنسي مباشر وجد قادة جبهة التحرير أنهم لأول مرة منذ سبع سنوات يواجهون بموقف لم يعدوا أنفسهم له، في جزائر مستقلة وبلا جيش يحاربونه، فكان أن بدءوا حروبا أخرى واختلقوا لأنفسهم عداوات وتهما وبدأت بينهم المعارك، وفرنسا جالسة مسترخية تستمتع إلى أقصى حد وهي ترى الجزائريين يمزقون الجزائريين، ويتنافسون على إرضائها وعلى تأكيد تسليمهم وإيمانهم باتفاقية إيفيان التي ما قبلوها أول الأمر إلا كنقطة بدء لطريق الاستقلال الطويل.
وأسوأ من هذا حدث حين استشعر المسئولون في جبهة التحرير بالموقف وحاولوا إصلاحه وعودة الوحدة بينهم، لجئوا إلى قادة الولايات لحل الأزمة، وقادة الولايات هم في نفس الوقت قادة جيش التحرير الموجود بولاياتهم، وبن بيلا كان هو صاحب فكرة الاحتكام إليهم، فكانت النتيجة أن أحس هؤلاء القادة لأنفسهم بأهمية، واكتشفوا أن مقاليد الأمور بيدهم هم، وأن باستطاعتهم أن يتدخلوا في الموقف كأصحاب سلطة حقيقية ويلغوا كل قيادة جبهة التحرير ويصبحوا هم حكام الجزائر المستقلة وقادتها، وهذا هو بالضبط ما حدث أخيرا وما قام به قواد الولاية الرابعة، وما أصبح محمد خيضر يصرح بعدم شرعيته وعدم قانونيته؛ نفس خيضر الذي كان يصرح منذ أسابيع بأن مجلس الولايات مجتمع وأن جبهة التحرير كلها في انتظار ما يسفر عن اجتماعه من قرارات.
والنتيجة
لقد تميع الوضع في الجزائر إلى درجة خطيرة أصبحت تهدد بكارثة، وبفقد الرابطة التنظيمية التي كانت تجمع شمل هذا التنظيم الثوري الخطير، وبانتشار مرض الزعامة، وبتدخل ضباط الجيش وجنوده في الحكم وتوجيه الدولة، أصبحت القوة اليوم في الجزائر ليس لمن معه الحق ولكن لمن معه السلاح، والسلاح الآن في يد قادة الولايات وضباط جيش التحرير، والزعماء معهم الحق والمنطق والشهرة ولكنهم مجردون من القوة المنظمة والسلاح، وبين قادة الولايات خلافات وبين الزعماء خلافات، والوضع يهدد بل حتما سيتطور إلى كارثة محققة ما لم يتدخل عامل حاسم أخير.
ذلك العامل هو الشعب الجزائري.
وكلمة الشعب كلمة ما أكثر ما استعملت، ولكنها حين تستعمل للشعب الجزائري فهي تصف بحق شعبا ناضجا وخبيرا وضخما وواعيا سياسيا إلى درجة أن زعماءه جميعا وبلا استثناء يبدون كالأقزام بجواره.
أما كيف يمكن أن يحدث هذا التدخل فهذا موضوع حديث مفصل آخر، وكل ما أرجوه ألا يحدث بين كتابة هذا الكلام ونشره، وهما فترة لا تتجاوز ساعات، ما يمكن أن يقلب الموقف رأسا على عقب.
واللهم احفظ الجزائر للجزائريين!
هل انتهى الصراع في الجزائر
منح الاستقلال كان الوسيلة الأخيرة لمقاومة الثورة!
الفخ الذي نصبته فرنسا وسقط فيه الزعماء.
في الجزائر سلاح سري لم يستعمله إلى الآن أحد.
الأزمة ليس لها إلا حل واحد. ***
القراء في كل مكان لا بد أنهم ملوا تتبع تفاصيل الصراع الدائر الآن فوق أرض الجزائر. والسؤال التقليدي الذي أصبحت تجده على كل لسان هو: النتيجة من الذي سينتصر في هذا الصراع، وكيف؟
سؤال تحس منه أن الناس يدركون عن وعي أو لا وعي أن مرحلة الصراع الحالية مرحلة مؤقتة، وأنها لا بد ستنتهي، ولكن المشكلة هي كيف تكون النهاية وفي أي اتجاه؟ هل سيتمكن بن بيلا ومعه أعضاء المكتب السياسي من التغلب على سلسلة القوى المعارضة المتصلة والتي تتخذ لها في كل مرة اسما مختلفا، داخل جبهة التحرير وخارجها، ويستطيع هو ورفاقه أن يعيدوا لذلك التنظيم الثوري قوته وسيطرته بحيث يعود المكتب السياسي يقود الجبهة، والجبهة تقود الشعب في وحدة وطنية تواجه صعاب ما بعد الاستقلال؟
أم سيظل الوضع متأرجحا بين المعسكرين الرئيسيين المتنازعين بحيث لا تميل الكفة إلى أحدهما «وهو الوضع الذي يريده الاستعمار» وبحيث يفني الطرفان قوتهما وطاقتهما في هذه المعركة الداخلية التي لن يربح فيها سوى الأعداء؟
أم هل يفلت الزمام وتستطيع المؤامرات والمتناقضات الداخلية الرهيبة بمساعدة وإشعال وخطة بالغة الخبث من الخارج، أن تخلق في الجزائر وضعا يكون للحركة الوطنية فيه مصير زميلتها في الكونغو وجواتيمالا والعراق؟
أم تنفرد الجزائر بوضع جديد علينا تماما، مختلف في الشكل اختلافا كليا عما حدث في الكونغو أو العراق وإن كان يؤدي نفس الغاية؟
احتمالات كثيرة كما نرى، ولكنها في النهاية لا تخرج عن احتمالين؛ مع الثورة أو ضدها.
لقد دخلت الجزائر حرب التحرير وخاضتها وخرجت منها، لا بالاستقلال والنصر فقط، ولكن بما هو أهم من الاستقلال والانتصار، بشعب ثائر منظم مسلح يقوده تنظيم ثوري بالغ القوة والنفوذ. ثورة مثالية بكل معنى الكلمة. ولو كان الأمر قد استمر على هذا الوضع لمضى الشعب الجزائري إلى مستقبله وأهدافه الاجتماعية والسياسية بعد الاستقلال بقوة ليس لها من نظير، ولتحققت جميع أهدافه بأسرع مما حدث في أي بلد آخر وفي أي فترة أخرى من فترات التاريخ. إن الشعب حين تتضافر العوامل والظروف لتجعله يثور ويجد في هذه اللحظات بالذات، القيادة الثورية المخلصة التي تستطيع تنظيمه وتملك القدرة على أن تظل طليعته الواعية، شعب كهذا باستطاعته أن يحقق المعجزات. وأقول المعجزات لا كنوع من المبالغة الأسلوبية ولكني أقولها وأعنيها.
ولم نصدق القوى المضادة للثورة:
والقوى المضادة للثورة، الاستعمار لم يكن يصدق هذا. صورها لنفسه أول الأمر عصابة خارجة على القانون وحاربها حرب الخارجين على القانون ففشل. حينئذ اعتقد أنها من صنع البلاد العربية التي تعادي فرنسا وأن تلك البلاد هي التي تثيرها وتهيج الجزائريين وتمول «الفلاجة» وحاربها على هذا الأساس بالدعاية المركزة في الداخل والإخصائيين السيكلوجيين، وفي النهاية حاربها جهرا في بورسعيد وفي المدن والقرى الجزائرية ففشل أيضا، فشلا ذريعا.
ثم صورها لنفسه على أنها عصابات سرية مسلحة وأنها هي التي تثور ضده وليس الشعب الجزائري ككل. وعلى هذا الأساس أعاد خططه وتكتيكاته وركز كل قوته الحربية والسياسية لعزل جيش التحرير عن الشعب، معتقدا أنه إذا سحق الجيش انتهت الثورة واستراح، بل بلغ في هذه الحرب أن غير من تكوين الجيش الفرنسي المنظم وأحاله وحدات صغيرة كوحدات حرب العصابات وأرسلها إلى الجبل كي تحارب وحدات جيش التحرير بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب، وأيضا فشل.
وحين مضت هذه السنوات الكثيرة والاستعمار يقاوم الثورة هذه المقاومة الإجرامية ويجرب معها كل وسيلة وتفشل الوسائل كلها، بل تزداد الثورة قوة وانتشارا.
وحين عم الكفاح الجزائر كلها من الجبل إلى السهل، ومن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال والشرق والغرب، وحين تحركت جماهير المدن على هيئة مظاهرات وتنظيمات سرية مسلحة، وحين بلغ من انتشار الثورة حد أنها انتقلت إلى فرنسا نفسها. حينئذ فقد بدأ الاستعمار يدرك أنه أمام المعجزة التي إذا حدثت فمستحيل أن تقاوم أو يقف في طريقها حائل، أمام شعب ثائر منظم تنظيما وعلى رأسه قيادة ثورية مخلصة؛ شعب كهذا من الممكن أن يظل ثائرا مقاوما لعشرات السنين ومئاتها، شعب كهذا لا يؤثر فيه الزمن، ولا توهن منه التضحيات، وبالعكس كلما طال الزمن اشتد عزمه، وكلما كثرت التضحيات تكونت له أسباب جديدة للاستمرار في الثورة والإصرار على النصر.
والاستعمار الفرنسي ليس بالغباء الذي يصوره لنا به رسامو الكاريكاتير، ومثله مثل أي استعمار آخر، يمثل خلاصة الذكاء الرأسمالي وقدرته وطاقته على الفهم والاستيعاب والابتكار وتغيير الخطط.
فماذا يفعل الاستعمار أمام هذا الثائر ذي التنظيم الحديدي والقيادة الواعية المتحدة المصممة مثل تصميم شعبها المصرة على نيل الاستقلال؟
الحقيقة وضع لنفسه عدة خطط بحيث كلما جرب إحداها وفشلت استعان بالأخرى.
الخطة الأولى
كان قد أدرك أن حصول الجزائر على استقلالها قد أصبح أمرا مفروغا منه، ومشكلته ليست أبدا أن يعطيها استقلالها؛ فاقتصاديا وسياسيا وعسكريا الاستقلال أهون بكثير من ثورة ضده تكلفه المال والرجال وتنخر قواه. مشكلته أصبحت هي ماذا يحدث بعد الاستقلال؟ أن يتحكم في الوضع بحيث تستقل الجزائر من ناحية، ولكنها تظل مجبرة على الارتباط بفرنسا ارتباطا طويل المدى شبه دائم. والسؤال هو: كيف يمكن أن يرتبط هذا الشعب الثائر المنظم ذو القيادة الواعية، كيف؟ ومن أين تضمن فرنسا لشعب كهذا؛ شعب قتلت منه مليون رجل وامرأة ومثلت بأهله وأذاقتهم من المرارة ألوانا، كيف بعد أن يستقل شعب كهذا يظل مرتبطا بالدولة التي ارتكبت في حقه، وفي خلال 132 عاما من احتلالها له، كل تلك المذابح والجرائم والمجازر؟
إن الخطة التي انتهى إليها الاستعمار كانت بسيطة جدا.
أن تغير فرنسا جلدها ووجهها.
ولقد غيرت فرنسا كثيرا من الجلود والوجوه، حتى الاشتراكيين أتت بهم، إلى أن انتهى الأمر إلى تغيير الجمهورية نفسها وإقامة جمهورية خامسة جديدة ذات رئيس أتت به من متحفها التاريخي، كل مؤهلاته أنه ليس من أصحاب السوابق في الجزائر، وأن عليه أيضا مسحات ولمحات من فرنسا التي حاربت هتلر وساهمت في إنقاذ العالم من نازيته وشروره؛ شارل ديجول.
وجاء ديجول بشعار ذي دوي جديد غريب: إن من حق الجزائريين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم.
شعار في ذلك الحين، كان غريبا أن يصدر عن رئيس الجمهورية الفرنسية، نفس الجمهورية التي قتلت 45 ألف مواطن جزائري؛ لأن بعضهم تظاهر مظاهرة سلمية يطلب فيها حق تقرير المصير.
مجرد صدور هذا الشعار كان الخطوة الأولى الكبرى في تغيير وجه فرنسا وجلدها.
تلتها خطوات، المفاوضات، أول مرة تقبل فيها فرنسا مفاوضات علنية ومع من؟ مع ممثل جبهة التحرير، أو الخارجين على القانون، الفلاجة.
وحسب الكثيرون أنها مفاوضات لن تؤدي إلى شيء، وأنها كسب وقت، وأنها عبث، وأن الجزائر لا يمكن أن تحصل على الاستقلال بهذه الطريقة.
ولكن - حسب الخطة - خيبت فرنسا أمل هؤلاء جميعا، وإذا بها تعطي الجزائر فعلا حق تقرير المصير. وجاء الاستفتاء، وكان كثيرون أيضا يتوقعون تدخلا وتزويرا وألاعيب كثيرة من فرنسا، ولكن حدث أغرب شيء، لم تتدخل فرنسا مطلقا في الاستفتاء، وجاءت نتيجته أغلبية ساحقة، وأصبح استقلال الجزائر حقيقة واقعة.
وبدا ديجول، ومن ورائه رجالات فرنسا للجزائريين وللعالم أجمع بمظهر الشرفاء أصحاب المبادئ الذين إذا وعدوا وفوا، وإذا قالوا فعلوا، والذين حقا وصدقا سلموا الجزائر للجزائريين بنبل وشرف. هكذا وقف القائد الفرنسي ينزل علم فرنسا ليرتفع علم الجزائر، وتنتهي وظيفة الرجل، وتنهي فرنسا بيدها احتلالها تحت سمع العالم - غير المصدق - وبصره.
وللحقيقة أيضا يجب أن نقول إن هذه الخطوات كلها كانت قد نجحت فعلا في تغيير وجه فرنسا وجلدها أمام الرأي العام الجزائري والعربي والعالمي.
ولكن هذا التغيير هو الجزء الأول من الخطة.
الجزء الثاني؛ أهم جزء
فلو غيرت فرنسا وجهها وجلدها مليون مرة وطلقته بكل القيم والمبادئ التي يحلم بها الإنسان. لو حدث هذا وبقي الوضع في الجزائر كما هو عليه؛ أي شعب منظم متحد ثائر بقيادة منظمة متحدة ثائرة، لظل الشعب يمضي في ثورته إلى نهايتها، ولتبخرت كل الأحلام التي راودت فرنسا عن ربط الجزائر بعد الاستقلال بها بطريقة تجعل من الاستقلال مجرد كلمة ولافتة.
الخطوة الثانية إذن كانت أن تمتد اليد إلى هذه الكتلة المتجانسة التي لا تستطيع أن تميز فيها قيادة من قاعدة، تمتد اليد إلى هذه الكتلة بعد أن يكون نيل الاستقلال قد خفض من درجة حرارتها وبردها، وتعبث بها عبثا مبيتا مرسوما بدقة وبمهارة عظمى؛ عبثا هدفه تقسيم هذه الكتلة إلى قيادة وقاعدة أولا، ثم تقسيم القيادة، ثم جعل التقسيم القيادي يمتد إلى أسفل ويقسم الشعب. فإذا لم تنجح الجهود كان على فرنسا أن تلعب بورقة المستوطنين ومصالحهم وتتدخل بنفسها في الوقت المناسب «لحماية» هذه المصالح وهؤلاء الرعايا، وإذا لم يفلح تقسيم الشعب على أساس سياسي فمن الممكن تقسيمه على أساس قبائلي، وإثارة نعرة التعصب بين العربي والقبائلي.
خطط واحتمالات وتكتيكات كثيرة بحيث كلما فشلت إحداها حلت أخرى محلها لتظل الخطة ماضية؛ الخطة التي هدفها في النهاية سلب المضمون من كلمة الاستقلال، وإضعاف الحركة الوطنية الجزائرية إلى درجة لا تقوى على مواجهة أوضاع ما بعد الاستقلال، وتلجأ مضطرة أو راضية إلى فرنسا؛ إضعاف هذه الكتلة الثورية الضخمة المكتسحة التي لم يزدها الحصول على الاستقلال إلا ثقة في نفسها وطموحها.
أو حتى إذا لم تنجح فرنسا في إضعافها إلى تلك الدرجة، فعلى الأقل تضعفها إلى درجة تحدد إقامة الحركة الوطنية الجزائرية داخل الجزائر نفسها، غارقة في مشاكلها غير مستطيعة أن تمتد أو تؤثر فيما حولها، أو - هذه هي أخطر النقاط - أن تتصل بالحركة الوطنية المصرية ويكون الاثنان معا جناحي الثورة العربية الكبرى.
إعطاء الاستقلال كأزمة ومجاعة
كانت خطة فرنسا مبنية كلها أو معظمها على اعتبار أنها هي التي ستقوم بالدور، من وراء الستار طبعا، وأن العبء كله سيقع عليها؛ خطة محكمة فهي في الحقيقة المرحلة الخامسة والحاسمة من مراحل مقاومة الثورة الجزائرية.
وقد يبدو هذا غريبا، وقد يقول البعض إننا نبالغ في سوء الظن ونحمل الواقع فوق ما يحتمل، ولكنها الحقيقة المجردة؛ ففرنسا التي فشلت في مقاومة الثورة كحرب عصابات محدودة في الجبل، ثم كجيش تحرير منظم، ثم كجبهة تحرير ذات كفاح عسكري وسياسي، ثم كمشروع دولة جزائرية ذات حكومة مؤقتة ورعايا ووزارات وأجهزة؛ فرنسا التي أدركت أنها إذا مضت في مقاومة الثورة إلى أكثر من هذا وبنفس الطريقة فسينتهي الأمر بها إلى أن تخسر كل شيء، تخسر الجزائر وشمال أفريقيا كله، وقد تخسر فرنسا نفسها، فرنسا هذه، أو الرأسمالية الفرنسية الكبيرة حاكمة فرنسا والمسيطرة على قواها، رأت أن لا بد من تغيير الخطة بحيث تعطي الجزائريين علنا وأمام العالم كله الكلمة التي يتمسكون بها أكثر من تمسكهم بالحياة، الكلمة التي تجمعهم وتولد فيهم الطاقات الرهيبة التي يحاربون بها ويكافحون ويقاومون، تعطيهم الاستقلال، اسما عاليا مدويا له مفعول السحر، تعطيه إياهم لا كتاج ومفخرة وإنما كمشكلة، ككارثة، كمأزق خطير تقع فيه القيادة والقاعدة، ويحدث حوله ومن أجله الصراع؛ صراع تضمن فرنسا نتيجته، فهو صراع بين جزائريين وجزائريين نتيجته الحتمية إضعاف الجزائريين جميعا وهد قواهم.
وهكذا في جزائر خربتها المنظمة السرية وأرغمت كل الفنيين فيها والحرفيين على مغادرتها، في جزائر مفلسة مغلقة الدكاكين، في جزائر لا تستطيع أن تعيش شهرين أو ثلاثة بمفردها، في جزائر مشلولة الاقتصاد عاجزة، أنزلت فرنسا علمها لترفع العلم الجزائري ليرتفع فوق الخراب والمجاعة وليلتف حوله مليونان ونصف مليون من المتعطلين، ولتقول فرنسا للجزائريين. لقد أردتم جميعا الاستقلال وحاربتموني من أجله. هاكم استقلالكم إذن. دعوه يملأ بطونكم الخاوية. دعوه يزحم جيوبكم المقطعة بالنقود. دعوه يخلق لكم العمل أيها المتعطلون، والمستشفيات أيها المرضى، والسلام يا من أردتم السلام، نفس الطريقة الفرنسية الحقيرة التي اتبعوها يوم سحبوا المرشدين من القنال.
ولكن هذا كله لم يحرك في الجزائريين شعرة؛ فمع إدراكهم لكل هذا احتفلوا بالاستقلال احتفالا أقض مضاجع الفرنسيين، مستوطنين وهاربين ومتآمرين على استقلال الجزائر واقتصادها. لقد ضرب الشعب بكل هذه المآزق عرض الحائط، واستعد أن يظل متعطلا جائعا يغزل ملابسه ويقترض دخانه ما دام سيظل يرى العلم الجزائري، علمه، مرفوعا فوق أرضه.
فشلت، بالنسبة للشعب، خطة فرنسا في إعطائه الاستقلال على هيئة مجاعة وبطالة ومشكلة ضخمة.
ونجحت خطة فرنسا هذه المرة
وكان الوجه الثاني للخطة خاصا بجبهة التحرير وقيادتها؛ أي إعطاؤهم الاستقلال هم الآخرون على هيئة مشكلة يتصارعون حولها ويتناحرون.
وهنا فقط، في هذه النقطة بالذات، نجحت الخطة الفرنسية نجاحا لم تكن تتوقعه فرنسا نفسها، ودون أي تدخل علني منها يشجب موقفها أمام العالم، ويكشف عن وجهها الذي غيرته ولون جلدها.
تولى القادة الجزائريون - دون وعي منهم - أن ينفذوا بالنيابة عن فرنسا خطتها. وبينما الشعب يركل القوت والعمل والصحة وأية مطالب حيوية أخرى له، ويفوت على فرنسا خطة أن ينقلب استقلاله كارثة ومشكلة، بينما الشعب يفعل هذا كان النزاع بين القادة ينفجر، النزاع حول السلطة، ويبدأ من أول يومه قاسيا مريرا بحيث يصل خلال بضعة أيام إلى عنفوانه.
هل هو صراع بين جزائريين وجزائريين، فقط؟
ولكن هذا الحديث كله عن الصراع نقوله ونحن لا نزال في منطقة البراءة والنية الحسنة، نقوله باعتبار أنه خلاف في الرأي أدى إلى تطاحن، باعتبار أنه جزائري مائة في المائة لا دخل لفرنسا ولا لأي يد أخرى فيه.
فهل هو هكذا فعلا؟
إنها الصورة التي تبدو للعين المجردة؛ ففي العلن الصراع جزائري دما ولحما ولا أحد يتدخل فيه، وكل الأطراف من غربها إلى شرقها تبدو واقفة لا تفعل إلا أن تتفرج على الموقف وتنتظر النتيجة.
فهل هذا هو ما يدور في الخفاء أيضا؟
لقد أصبحت مودة أن نتهم الاستعمار، وأن ننفي عن أنفسنا كل مسئولية ونحمل الاستعمار، هذه الكلمة الواسعة المطاطة التي أصبحت وهي تنطق مجردة لا تعني شيئا بالمرة؛ فحتى أمريكا تقول إنها تكافح الاستعمار. من السهل أن نقول القوى الاستعمارية هي المسئولة عن هذا الصراع وهي التي تحركه، ولكن هذا القول لا يقربنا من الحقيقة ومن فهم الوضع ومعالجته أية خطوة. المهم أن نعرف حقيقة كيف يتدخل الاستعمار، ومع من يقف، وكيف يحرك الخلاف. المهم ألا نقولها كلمة مبهمة ونمضي؛ فليس أحب إلى قلب الاستعمار نفسه من أن نرتكب هذه الحماقات اللفظية، ونساهم بهذه الطريقة في تغطيته.
كيف إذن يلعب الاستعمار في الجزائر
لا بد أننا جميعا لاحظنا ظاهرة غريبة تميز هذه المعركة بين القادة الجزائريين. ألم نلاحظ أنه كلما بدت المشكلة تجنح إلى التقريب بين وجهات النظر، كلما أصبح اجتماع القادة واتفاقهم على أبواب الوقوع، كلما تنفسنا جميعا الصعداء وقلنا: خلاص انتهت الأزمة. كلما حدث شيء من هذا وجدنا أنه في آخر لحظة تدخل عامل جديد لم يكن في الحسبان وأجج الخلاف مرة أخرى؟
إن الأمثلة لهذا أكثر من أن نضيع الوقت في إحصائها، ولكنا للأهمية نكتفي بهذا المثل الأخير، حكاية الولاية الرابعة التي دخلت قواتها إلى العاصمة لتحل الأزمة، وإذا بها تغير موقفها فجأة وتبدأ تعادي المكتب السياسي، وبعد أن كانت الأزمة ناشبة بين المكتب السياسي من ناحية والولاية الرابعة والثالثة من ناحية أخرى؛ أزمة على أثرها انفرط عقد المكتب السياسي وبدأ كريم يدلي بتصريحات وبوضياف يستقيل ويرتبك الوضع ويتعكر الماء بصورة أظلم وأعنف مما كانت عليه.
إننا لسنا في حاجة إلى ذكاء لكي ندرك أننا بهذا المثل نضبط تدخلا استعماريا على هيئة يد جزائرية، على هيئة قيادة الولاية الرابعة بالذات، وهو تدخل خطير لا لخطورته في حد ذاته ولكن لصعوبة التغلب عليه؛ فقوات الولاية الرابعة جيش مسلح لإخضاعه لا بد - إن فشلت في المفاوضات والمساومات - لا بد من استعمال القوة، يعني حربا أهلية؛ شيء يمقته الشعب الجزائري أشد المقت ومستعد أن يقف ضد كل من ينادي به أو يستخدمه حتى لو كان الحق كل الحق في جانب من ينادي به أو يستخدمه.
لا بد - للتغلب عليه إذن - من استعمال أسلحة أخرى.
أسلحة غير مباشرة مثل إحداث انقلابات داخل قوات الولاية الرابعة نفسها، مثلما حدث في الولاية الثانية، ولكني لا أعتقد أن شيئا كهذا ممكن هذه المرة؛ فقيادة الولاية الرابعة هذه لم تقم بحركتها تلك عبثا، وإلا فكيف كانت تجرؤ قيادة ولاية لا تملك سوى بضع مئات من الجنود أن تتحدى المكتب السياسي وجيش التحرير كله وأربع ولايات أخرى؟ إن التفسير الوحيد لإقدامها على هذا العمل هو أنها لا بد ضامنة بشكل قاطع وأكيد أنها ليست وحدها ولن تقف وحدها، وعند اللزوم ستتدخل قوى ضخمة لحمايتها؛ نفس القوى التي تغذيها الآن بالمعلومات وتحصنها ضد الانقلابات.
ولا أحد يعرف على وجه الدقة كيف سينتهي «فصل» الولاية الرابعة هذا، ولكن الظروف كلها توحي أنه لن يستمر طويلا، وأنه قد يحدث اليوم أو غدا أن تسيطر قوات الولايات الأخرى على العاصمة، ولكن المشكلة ليست أن ينتهي «فصل» الولاية الرابعة، المشكلة أنه حتى لو انتهى فسيحدث، في آخر لحظة، وكما كان يحدث دائما، أن عاملا ليس في الحسبان سيتدخل ليؤجل الحل، وليبقى الوضع مائعا ومنقسما. وستبقى فرنسا أيضا واقفة غير ملامة بينما الملام هم القادة، وبالتالي جبهة التحرير والثورة. ولو حاول بن بيلا من ناحيته أن يحسمه بالجيش فالشعب محصن ضد أي تدخل مسلح، وحتى إذا لم يكن كذلك فليس أحب إلى قلب فرنسا من معركة مسلحة تدور بين الجزائريين وتصيب فيها بضع رصاصات بضع رعايا فرنسيين، لا بد أن يتدخل الجيش الفرنسي على أثرها «للمحافظة على الرعايا الفرنسيين ومصالحهم» ولن يلوم أحد فرنسا بل اللوم كله سيقع على الجزائريين الذين «منحوا الاستقلال ولكنهم لم يعرفوا كيف يحكمون أنفسهم به وأضاعوه».
الحل الوحيد للموقف
إن هناك حلا واحدا للموقف في الجزائر؛ الشعب، ولا أقصد كسب الرأي العام الجزائري عن طريق الإذاعة والبيانات والمنشورات. إن الحل الوحيد أن يجند الشعب وينظم ولو تحت شعار المكتب السياسي بحيث يقف الشعب بجماهيره ضد كل خارج عليه أو طاعن فيه، بحيث تقف جماهير الشعب ضد قوات أية ولاية تراود الأحلام الخبيثة عقول قوادها. الشعب؛ ذلك السلاح الذي أهمل من أول لحظة فكانت النتيجة وبالا، وأدى اللجوء إلى قادة الولايات وقواتها أن أصبحت هناك ست جزائر بدلا من جزائر واحدة، ومائة قائد بدلا من قائد واحد، والصراع الذي كان قائما بين زعيمين ضرب في ست وعشر وعشرين مرة، وأصبح لا بين زعماء بل بين ضباط يملكون القوة والسلاح.
الشعب؛ الشعب الواعي الذي صقلته تجربة سبع سنوات من الحرب الجهنمية، أوعى الجميع وأحرصهم على الاستقلال. الشعب الذي لم ينس أبدا فرنسا والذي لا يزال يعتبر اتفاقية إيفيان مجرد خطوة.
هذا الشعب يجب أن يعطى حقه في حماية نفسه وثورته وجبهته، وفورا وبدون إبطاء وقبل أي انتخابات أو ترشيحات من واجب المكتب السياسي أن ينظم الشعب حول الوحدة الوطنية أولا، حول قيادة المكتب السياسي!
لا بد أن ينسى الزعماء الحكم ويذكروا الثورة، يذكروا أن الاستقلال بالطريقة التي تم بها خدعة وفخ، ويعترفوا بشجاعة أنهم وقعوا فيه، وأن يستأنفوا الكفاح، ليس ضد فرنسا، وإنما ضد الأطماع، ضد الانقسام، ضد التفتيت الذي حدث. إن أهم عمل ثوري الآن ليس هو إجراء الانتخابات ولا التحضير لها ولا التبشير بالاشتراكية ولا الحديث عن الإصلاح الزراعي. أهم عمل الآن هو جمع القوى التي بعثرها فخ الاستقلال، وجمعها كجبهة أيضا، جبهة ليس فيها تحكم فردي، جبهة حقيقية مثلما كانت في أثناء الحرب. إن الوجه الآخر للأزمة - ويكاد تكون حسنتها الوحيدة - أنها أثبتت للزعماء أنهم بغير الجبهة لا يساوون شيئا، وبغير تكتلهم أو تجمعهم معا لا يستطيعون الوقوف أمام عقبة واحدة من العقبات الكثيرة التي ستواجههم. أثبتت لهم أن أية احلام قد تسيطر على بعضهم في الانفراد بالسلطة وتصفية الباقين، هي في الوقت الحاضر جريمة؛ فهي التي قد تضيع الاستقلال نفسه. إن أحد أسباب انتصار الجزائر كان الجبهة، ويجب أن تظل الجبهة كي تستمر الجزائر في انتصاراتها إذ إن الكفاح لم ينته بعد، والمعركة لم تنته، والثوار إذا تحولوا إلى حكام ومتصارعين حول حكم انتهوا كثوار وبحث الشعب لنفسه عن قواد ثوار آخرين. لقد نالت الجزائر استقلالها ولكن الثورة لم تنته، والخطر قائم فعلى أي شيء يتصارع الزعماء؟
بن بيلا لم يحصل على 99٪
الجمعة
لا أجد تعليقا على الخبر الذي قرأته في جرائدنا اليوم من أن بن بيلا قد فاز ب 99٪ من مقاعد المجس التشريعي، إلا أن أقول: إن أخذنا للقضية الجزائرية على هذا الأسلوب فيه ظلم كبير للواقع الجزائري وللحقيقة ولبن بيلا نفسه؛ فلو أتيح لخبر كهذا وبنفس النص أن ينشر في الجزائر لقوبل من الجزائريين بثورة عنيفة وكان بن بيلا أول الثائرين عليه. ونحن إذا أردنا أن نقيم علاقاتنا بإخواننا الجزائريين على أسس صلبة ثورية متينة، فمن واجبنا أن نفهم الواقع الجزائري بعد الاستقلال فهما عميقا، وكذلك أن نلم بنفسية الشعب الجزائري بعد سبع سنوات من الكفاح.
إن الجزائر اليوم لا يوجد فيها تقديس لفرد ولا محاولات للزعامة الفردية. إني لا أزال أذكر كيف كنا في انتظار عودة بن بيلا إلى فيللا «ريفو»، وكيف عن لأحد إخواننا المصريين أن يسأل عن موعد عودته فوجه كلامه لأحد الضباط المتحمسين لبن بيلا والذين كانوا يملئون الفندق قائلا: هو الزعيم بن بيلا ح يجي إمتى؟
ودهشنا للغضب الهائل الذي اجتاح الضباط وهو يقول: ما في شيء اسمه الزعيم بن بيلا هنا، ما عندنا زعماء.
وليس هذا هو موقف أنصاره فقط، ولكنه موقفه هو نفسه؛ فقد كان يتحاشى أن يخاطب باعتبار أنه زعيم أو باعتبار أنه قائد معركة الاستقلال، وبن بيلا كان يفعل هذا بوعي إدراك ذكي لنفسية الشعب الجزائري ومكافحي جبهة التحرير وجنود وضباط الجيش. إن الشعب بكل فئاته مدنيين وعسكريين وسياسيين قد تربى على إيمان أكيد أن لا أحد قد حقق للجزائر استقلالها بمفرده وأن الجميع قد اشتركوا في الحصول عليه، وأن الحرية التي ينعمون بها إن هي إلا نتيجة للجهود الجماعية التي بذلها كل منهم.
هذه حقيقة واضحة كالشمس لا يجرؤ أحد على مناقشتها إطلاقا. كل ما في الأمر أنها أثناء سنوات الكفاح لم تكن واضحة لأنه لم تكن ثمة حاجة إليها. بعد الاستفتاء والاستقلال والصراع الذي دار بين القادة حول من الذي يحصل على أكبر قدر من السلطة، بدأ هذا الشعار يظهر ويعلو وبدأ الشعب يفرضه في كل فرصة ومجال، يقوله للقادة ولنفسه وللجيش ولفرنسا ولكل إنسان. إن الاستقلال من صنعنا كلنا ولا فضل لواحد بمفرده أو لمجموعة بمفردها في الحصول عليه.
هذا الإيمان الذي تكون لدى الشعب الجزائري هو أكبر وأعظم نتيجة إيجابية للمأساة التي حدثت بعد الاستقلال، وهي نتيجة ما لبثت أن أدت بدورها إلى تطور خطير في استراتيجية قادة جبهة التحرير وتكتيكهم. وبينما راحت الصحف الفرنسية والأوروبية بشكل عام تضخم أسماءهم وأدوارهم وتحاول أن تلعب على العنصر الفردي فيهم وتبرز هذا وتسلط الأضواء على ذاك، أصبح هم كل قائد جزائري أن ينفي عن نفسه «تهمة» الزعامة، وأن يتحدث عن دور الشعب والقيادة الجماعية؛ ذلك لأن كلا منهم أحس بشكل قاطع أنه لو ظهر أمام الشعب الجزائري بمظهر من يريد أن يحكم وحده أو يتحكم وحده فسوف يسقط في عين الشعب إلى الأبد، ولن تقوم له بعدها قائمة.
وقد يقول قائل: إذن. فيم كان هذا الاستقبال الحاشد لبن بيلا عند عودته إلى الجزائر، ألا يدل هذا على التفاف الشعب حول زعامته وشخصه؟
والإجابة أن فهم الاستقبال بهذا المعنى فهم سطحي جدا؛ فالجزائريون لم يخرجوا على بكرة أبيهم إلا لهدف آخر أعمق وأشمل؛ فبقاء بن بيلا في وهران وتلمسان كان يعني ويدل على بقاء الخلاف قائما بين قادة جبهة التحرير، وكانت العلامة الوحيدة الأكيدة لانتهاء الأزمة وانتهاء الخلاف هي حضور بن بيلا إلى العاصمة، وقد خرج الشعب يحيي هذا الحضور، يحيي القيادة التي اتحدت، يحيي انتهاء عهد الفرقة وبداية الشعور بالاستقلال الحقيقي. ولو كان هذا التأييد لبن بيلا وحده ففيم إذن كان بقاؤه بعيدا عن العاصمة، ولماذا لم يدخلها دخول الفاتحين من أول يوم؟
لهذا فالقول بأن بن بيلا قد حصل على 99٪ من الأصوات خطأ كبير نرتكبه. الواقع أن جبهة التحرير هي التي فازت بهذا التأييد الضخم، ولو كان بن بيلا قد دخل الانتخابات كبن بيلا وأنصاره فقط، كمنشقين على جبهة التحرير، لما فاز بكل تلك الأصوات ولأصبح مجرد نجاحه في الانتخابات محل شك كبير.
إن المعجزة الكبرى التي يحققها الاستقلال، هو أنه يرغم كافة الاتجاهات والتنظيمات على توحيد جهودها وأهدافها وبهذا يتحقق لأمة كبيرة مترامية الأطراف حافلة بملايين الناس والطبقات والمذاهب والأفكار والاعتبارات أن يضمها جميعا إطار الاستقلال والكفاح من أجله. وقد كان المفهوم الخاطئ لمرحلة ما بعد الاستقلال أن يستبد أقوى هذه الاتجاهات بالحكم ويصفي العناصر الباقية ويفرض نفسه على الشعب وحاضره ومستقبله، والخطأ الأكبر في هذا المفهوم أنه يشتت الجهود التي جمعتها معجزة الاستقلال ويحرم البلاد من خيرة عناصرها ويؤدي في النهاية إلى الديكتاتورية والانعزال عن الشعب وكافة ألوان الشذوذ.
ولأننا نطمع ونريد أن يتحقق للتجربة الجزائرية الكمال، وأن تستفيد من أخطاء غيرها من الثورات، فكلنا أمل أن تدفع هذه الأغلبية الضخمة التي حصل عليها المكتب السياسي لا إلى تشديد قبضته وانفراده بالحكم وتوجيهه في الجزائر، وإنما إلى مزيد من الكفاح لأجل كسب وإشراك الاتجاهات الأخرى داخل جبهة التحرير وداخل الشعب نفسه، عليه أن يستبدل شعار التصفية بشعار الكسب، وشعار الانفراد والفردية بشعار الجبهة؛ فبشعار الجبهة انتصرت الجزائر في معركة استقلالها، ولن تنجح في تثبيت دعائم الاستقلال والمضي قدما في ثورتها إلا بشعار الجبهة نفسه، إلا بالجماعية الديمقراطية الثورية تلك الروح التي سيرت الشعب ونظمته طوال حرب الاستقلال، والتي اعتبرها الجميع أعظم وأروع ما خلقته الثورة الجزائرية وما ساهمت به في إثراء التفكير الثوري العالمي.
شكرا للتعبئة
السبت
كل مواطن منا لابد قد وجد نفسه ذات يوم يعاني مأزق الحاجة إلى رقم. والأرقام كانت ولا تزال مشكلتي. كم من مرة قضيت اليوم أو الأيام حائرا مغيظا أبحث عن رقم ولا أجده، وأضطر إلى كتابة مقال بأكمله لإقناع القارئ بما كان يمكن أن يقنعه به رقمه، مجرد رقم بسيط. وكم سخطت على هيئاتنا العامة ومصالحنا وإدارتنا الكثيرة تلك التي لا تؤمن بالأرقام ولا بأهميتها ولا تحفل بجمعها في كتاب أو إحصائية.
ولقد وجدت مفاجأة تنتظرني وأنا أفض بريد اليوم. كانت كتابا متوسط الحجم يمر عنوانه أمام الأنظار بهدوء: الكتاب السنوي للإحصاءات العامة للجمهورية العربية المتحدة 1952-1960، بل قد يدفع طول العنوان إلى صرف النظر عن الكتاب كلية. غير أن حب الاستطلاع دفعني لتقليب صفحاته، ولا أعرف إن كنتم قد جربتم الشعور باليأس من العثور على شيء، ثم فرحة العثور عليه بعد مدة ومفاجأة دون أن يخطر على البال. إنه بالضبط ما كنت أبحث عنه. إنها الأرقام، عشرات ومئات وآلاف الأرقام. إنها حياتنا وأرضنا وبلادنا ورجالنا ونساؤنا وأطفالنا وثرواتنا وحاضرنا ومستقبلنا في أرقام، حتى الرقم الذي طالما حيرني، طول نهر النيل والمسافة من الإسكندرية لأسوان، هناك، عدد الطلبة الشرقيين الذين يدرسون بالقاهرة، عدد طائرات شركة الطيران العربية، تعداد سكان سيناء، كم طنا من البترول ننتجه. أرقام كلها موجودة بالكتاب، وليس في عام واحد ولكن في عشرة أعوام، وبكل ما حدث فيها ولها من تطور. أحسست لحظتها أن ما وصلني ليس مجرد كتاب ولكنه كنز من المعلومات.
ومن صفحته الأولى لم أتركه إلا وقد قرأته إلى آخر صفحة وإحصائية.
وأغلقت الكتاب لا لكي أستريح، وإنما لكي أغمض عيني وأتأمل كل ما قرأته من أرقام، أتأمله على ضوء جديد؛ فكل منا يحيا في قطاع خاص به بالكاد يعرفه، ومعلوماته من بقية قطاعات حياتنا نادرة وأحيانا كثيرة في حكم المعدومة. هذا السجل يخرج بك من هذه الدائرة الضيقة إلى دائرة وجودنا كله. لقد تغيرت فكرتي عن بلادنا وجمهوريتنا وتجارتنا وزراعتنا وصناعتنا بعد قراءة الكتاب، لكأنه أخذ بيدي وجعلني أصعد إلى مكان عال، إلى أعلى مكان أستطيع أن أرى منه بلادنا كلها وكل ما فيها من أوجه نشاط. ولو أن أعظم الكتاب هو الذي كتبه لما كان باستطاعته أن يبهرني ويلهبني ويغير من نظرتي مثلما فعلت بي أرقام ذلك الكتاب الصغير.
إني لا أجد على غلاف الكتاب أسماء لأحييها، وكمواطن لأشكرها على الفكرة والمجهود الضخم الذي لا بد قد بذل لجمع هذا كله ومقارنته وتنسيقه. لا أجد سوى اسم إدارة التعبئة العامة. شكرا لها وللعديد من جنودها العاملين في صمت، المخلصين.
في سطور
الرد الطويل الذي جاءني من إدارة المعاشات حول موضوع الشاويش الذي توفي وترك أولاده السبعة وزوجته وأمه وأخته يكافحون من أجل الحصول على المعاش، رد مؤثر حقا روعت لما جاء فيه. ليست المشكلة أن إدارة المعاشات خرجت بريئة من التقصير، ولكن المشكلة التي أنستني مآسي الروتين وتأخر الصرف وكل تلك الشكليات أن معاش هذا الشاويش، المعاش الذي يحيا عليه سبعة أبناء وزوجة وأم وأخت هو مبلغ ثلاثة جنيهات و660 مليما لا غير؛ يعني بواقع اثني عشر قرشا في اليوم، وهم عشرة أفواه لو تناول كل منهم رغيفا في الوجبة لكان عليهم أن يشتروا ثلاثين رغيفا ثمنها 15 قرشا. من أين الطعام إذن والكساء والسكن ومصاريف المدارس؟ إننا فقراء إلى درجة مخيفة، ذلك هو ما خرجت به؛ فلا شك أن هناك أسرا تحيا بغير معاش، أسر الفلاحين والعمال الزراعيين، وتحسد أسرة كهذه على ثروة الجنيهات الثلاثة والستمائة وستين مليما. وبعد هذا يتظلم البعض من القوانين الاشتراكية تلك التي تجعل الحد الأعلى للدخل عشرة آلاف جنيه؟! ماذا لو كان على أصحاب دخل كهذا أن يحيوا بمعاش الشاويش؟ ألا يحمدون الله على أنهم في بلاد تسمح لهم بأن يحيا الفرد الواحد، بمبلغ يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة ضعف من معاش أسرة بأكملها مكونة من عشرة أشخاص؟ ألا يحمدون الله؟!
أطرف ما سمعته هذا الأسبوع أن هناك شحاذا «ماشي» مع راقصة بأحد الملاهي الليلية، وأنه ينفق عليها ما لا يقل عن الخمسين جنيها شهريا. إذا أردتم معرفته فهو الشحاذ الشاب الذي يرتدي نضارة سوداء ويقف مثنيا على نفسه في منطقة سينما ريفولي، والغريب أنه لا يخفي حقيقته عن صديقته، وإذا سألته عن عمله قال أنا سائل.
ليس اتهاما للأطباء
هذه المغامرة الصحفية التي قام بها اثنان من محرري الجمهورية، وزار أحدهما فيها عددا من أساتذة كليات الطب في الإسكندرية والقاهرة وادعى فيها أنه مريض، وادعى الثاني أنه قريبه العامل، والتي اختلف فيها الأطباء حول تشخيص «مرض» المحرر وكتبوا له 31 دواء مختلفا بعد أن حللوا له الشاي باعتباره البول، وكشفوا عليه «بالأشعة». هذه المغامرة كلها لا أوافق عليها، لا من الناحية الطبية كما قد يتبادر إلى الذهن ولكن من الناحية الصحفية المحضة؛ فالطب علم ورسالة، أي نعم، ولكن الصحافة أيضا علم ورسالة، فإذا «خدعنا» نحن بعض الأطباء لنثبت أنهم «يخدعون» فإن الغاية هنا لا تبرر الوسيلة؛ لأن الوسيلة الخطأ لا تؤدي إلا لغاية خطأ، تماما مثل من يدعي أنه يعمل للسلام ويحارب من أجل أن يسود السلام. إنه حينئذ لا يعد رسول سلام، إنه رسول حرب مهما رفع فوق رأسه شعار السلام وجعجع به. وليتصور الواحد منا نفسه طبيبا جالسا في عيادته، وإذا بشخص يقبل ويدفع أجرة الكشف ويقول له عندي مغص في جانبي الأيمن. كيف لا يأخذ كلامه حينئذ قضية مسلمة بها ويبدأ بحثه لتشخيص المرض من هذه النقطة، من شكوى المريض؟ فأحيانا، بل في حالات المغص بالذات لا يوجد أية علامات أخرى للمرض غير شكوى المريض، وما دام المريض في تلك الحالات يشكو من مغص فلا بد أن هناك مرضا ما ولا بد أن يصف الطبيب علاجا للمرض، ولا بد أن يختلف الأطباء حول التشخيص فأسباب المغص في الجانب الأيمن عديدة، ولكل سبب منها علاج مختلف.
من ناحية المبدأ نفسه معظم ما قاله الزميل الصحفي لا يصلح اتهاما يوجه إلى الأطباء الذين ذكر أسماءهم وعناوينهم، وليس فيه ما يدينهم سواء بينهم وبين أنفسهم أو بينهم وبين زملائهم ومواطنيهم. صحيح هناك عشرات الأخطاء والجرائم التي يرتكبها عدد من الأطباء؛ تماما مثلما هناك عشرات الأخطاء والجرائم التي يرتكبها بعض المحامين أو المهندسين أو الصحفيين؛ فلا توجد فئة سليمة، أو فوق مستوى النقد والشبهات، ولكن لا يجب أبدا أن نأخذ البريء بذنب المسيء، ولا يجب أبدا أن نعيب على بعض أساتذة الطب أنهم يأخذون نقودا في عيادتهم للكشف على المرضى طالما أن المجتمع يصرح لهم بفتح هذه العيادات. والخطأ الأكبر الذي قد نتورط فيه هو أن نعتقد أن العيب في علاج المواطنين والعناية بصحتهم راجع إلى فساد بعض الأطباء. كلام كهذا يعتبر تخريفا لأننا في هذه الحالة يصح أن نقول إن تأخير صناعتنا راجع إلى فساد ذمم بعض المهندسين مثلا.
العلاج لدينا يتعثر؛ لأن معظمنا فقراء لا نستطيع معالجة أنفسنا، والدولة نفسها لا تستطيع معالجتنا. العيب في مستوانا الاقتصادي المتخلف، العيب في الاستعمار الذي أنهكنا وهد قوانا.
إن ما حدث لا يعد اتهاما لبعض الأطباء بقدر ما هو اتهام لبعض الأوضاع التي عانينا منها ولا نزال نعاني.
اللعبة القادمة
الحقيقة أني لا أكاد أصدق ما حدث في عالمنا العربي خلال الشهور القليلة الماضية. ثلاث ثورات في أقل من نصف عام، ثلاث ثورات زلزلت حكومات واقتلعت أنظمة وغيرت في مجرى التاريخ، وكل هذا في أقل من نصف عام؟! إنها حقائق لا تكاد تصدق، أحقا تحررت بغداد وسقطت عنها القيود؟ أحقا أخرست أصوات الضلال في دمشق إلى الأبد وارتفع صوتها ينادي القاهرة والجزائر وبغداد وصنعاء؟ أحقا انتصرت الثورة في اليمن رغم كل جحافل الظلام؟!
إنها ليست أعيادا جماعية شعبية فقط، ولكنها أعياد شخصية خاصة لكل عربي. امش في الشوارع، اركب القطارات، تنقل بين تعز وكربلاء ودير الزور ووهران والكويت والأقصر وحدق في كل عين تجد الغبطة والسعادة، بل اذهب إلى عمان ذاتها وعاصمة سعود ونجران تجد الفرحة أيضا والأمل، الأمل في الخلاص. أخيرا جدا أصبحت أحلام العرب قاب قوسين أو أدنى من التحقيق. أخيرا جدا تحررت معظم الدول العربية كبلاد لتثبت وجودها كأمة واحدة موحدة. كل الأماني التي طال عليها الكبت في الصدور. كل ساعات الألم ولحظات الهزيمة والنكسة وسني الاحتمال، كلها آن لها تتبلور وتتجسد وتصبح حقيقة هائلة رائعة أجمل من كل واقع عشناه وأرحب من كل أمل تصورناه.
ولكن.
ولكنني لا أريد، ولا أرجو لأحد أن يسكر بخمر الانتصار. العكس بالضبط هو ما أريد؛ اليقظة والحذر والوعي هي الشعارات. إن جراب الاستعمار لم تفرغ منه الحيل بعد، والأسطول الإنجليزي لا يزال «يزور» بيروت، وأعداؤنا أقوياء أذكياء خبيثون جدا يعرفون منا كل نقط الضعف وينتهزون الفرصة ويضربون.
وأعداؤنا اليوم - الاستعمار وإسرائيل - إن كانوا في ورطة وأزمة فلن يظلوا هكذا في الغد، إنهم من الآن يجهزون ويحضرون وفقط ينتظرون أن تحين اللحظة.
فما هي اللعبة القذرة التالية يا ترى؟
إننا بقليل جدا من التفكير نستطيع إدراكها، وبقليل من الجهد نستطيع إحباطها. لقد قطع جمال عبد الناصر على الاستعمار الطريق وحكاية أن يلعبوا بورقة التناقض وإذكاء اللهيب بين القاهرة وبغداد.
ولكن، من يستمع إلى لندن وإسرائيل، ومن يتأمل التعليقات، يستطيع حتى لو كان متوسط الذكاء أن يدرك أنهم يستعدون منذ الآن للعب بورقة أخرى، بتناقض يخلقه ويزعمه يوقع على أمل أن ينقلب كل هذا إلى عداء ذات يوم وحرب.
إنني لا أريد وسط الفرحة الشعبية الكبرى أن أقوم بدور النذير، ولكنني أريد أن أقول إن المعركة لم تنته بعد، وإننا لا نزال محاطين بالأعداء، بل في قلبنا أعداء، وإن فرحتنا لا تمنع من أن نحذر وأن نعي وأن ندرك.
وإن الطريقة الوحيدة لقطع خط الرجعة على كل المشاريع الاستعمارية أن ننظم أنفسنا وأن نتعلم كيف يمكن أن نعمل معا، معا ويدا واحدة حتى لو اختلفت طرق تفكيرنا، بحيث لا نترك العمل والاتجاهات تنبع وتنشر كيفما شاءت وبحيث لا يخطئ أي منا فهم الآخر أو يسيء تأويل نواياه. وقد تكون الوحدة الكاملة العاجلة غير ممكنة، ولكن هل صعوبتها تمنع أن نتحرك على الخط القائم بين التضامن، مجرد التضامن والوحدة؟ هل تمنع أن ننشئ تنظيما ما، نطلق عليه اسما ما، وحوله نجتمع ونلتقي ونتدارس ونتفاهم؟ لماذا لا ننشئ مثلا مجلسا عربيا أعلى للدول العربية المتحررة ينسق كفاحها ويعمل لتحرير بقية الدول التي لم تتحرر بعد؟ لماذا لا نسبق للاتفاق قبل أن تسبقنا الاختلافات؟ إننا بشر وحكامنا وقادتنا والذين صنعوا ثوراتنا بشر أيضا، ومن الجائز بل لا بد أن يحدث أن يختلف هذا مع ذاك أو يتعارض اتجاه مع اتجاه، فمن ينقذنا حينئذ من الوقوع في هوة التناقض والعداء؟ إلى من نحتكم إذا اختلفنا، ومن يرعى اتفاقنا؟ من يتولى وأد التناقضات في مهدها والفصل في أوجه الخلاف؟ والتنسيق؟ من؟
إنني لا أزال لا أهضم ذلك العنوان؛ «الدول العربية المتحررة»؛ فإنها إذا كانت حقيقة دولا عربية، وإذا كانت حقيقة متحررة، وهما مسألتان لا شك فيهما ولا جدال، فماذا يبقيها «دولا» متفرقة؟ إلى متى نظل نعتمد على طيبة قلوبنا ورابطة المحبة والقرابة والود؟ ولماذا لا تتخذ هذه «العواطف» كلها أشكالا تنظيمية شعبية أو رسمية ملموسة وواضحة وذات فاعلية؟
إن بقاء الدول العربية المتحررة كدول عربية متفرقة متحررة وضع خطير لا يمكن أن يكون في صالح مستقبل التحرر العربي. إن هذه الدول لا تقل قربى ولا تقل مصالحها ارتباطا عن دول الدار البيضاء مثلا، أو دول باندونج، أو حتى دول السوق الأوروبية المشتركة، ولكنها الوحيدة إلى الآن التي لا تجد شكلا تنظيميا ثوريا يجمعها ويجعل منها القوة الدافعة الرهيبة التي لا بد أن تؤدي عاجلا أم آجلا إلى تحرير بقية الدول العربية.
حظ الشرقية السيئ
الظاهر أن الحكم المحلي مسألة بخت وحظ ويانصيب. هناك محافظات بختها من السماء رفلت في المصانع والمشروعات والتحسينات على يد الحكم المحلي، وهناك محافظات أخرى مر بها هذا النوع من الحكم مرور الكرام زائدا عن الحد. وأتعس هذه المحافظات - في رأيي - هي محافظتنا الطيبة الشرقية بكل مراكزها وزقازيقها؛ فهي لا تزال كما كانت منذ عشرات السنين. الشوارع على نفس قذارتها ومطباتها، وكفر أبو الريش هو نفس كفر أبو الريش، بل حتى السوق لا يزال يقام، ليس على جانب ولكن في وسط الشارع الرئيسي للزقازيق بكل ما فيه من أسماك وسردين وروائح، لا شجرة زرعت، ولا حديقة أقيمت، ولا ناديا للشباب افتتح ولا نقول «استادا»، أو تصنيعا للمنتجات المحلية أو علاجا ووحدات ريفية.
إنني لا أريد أن أطعن أحدا بهذا القول، حتى ولا المحافظ. إنني فقط أنعى حظ شرقيتنا الكريمة الطيبة وأتحسر على بختها المايل، وأتساءل، والتساؤل هنا موجه إلى وزير الحكم المحلي: إلى متى تظل الشرقية في نظر الوزارة كما مهملا كالابن اللقيط الضائع؟ وأتساءل، والتساؤل هنا موجه إلى السيد علي صبري «وهو ممن تفخر الشرقية بانتسابهم إليها»: إلى متى تظل أكبر محافظاتنا تحيا في عهد ما قبل الثورة إن لم يكن في عهد ما قبل التاريخ، في حين أن الله سبحانه قد فتح على بقية المحافظات والمدن وأسرى في شرايينها إكسير الدفع الثوري فانتفضت ولحقت بركب الإصلاح والتطور.
إن مشكلة الشرقية ليست مشكلة رجال؛ فالرجال والحمد لله كثيرون والحماس متوفر. إنها مشكلة اعتمادات، مشكلة المحافظات التي تدللها وزارة الحكم المحلي وتغدق عليها في أريحية هارون الرشيد، وتلك التي تبخل عليها وتشح وتحرمها من لقمة العيش الحاف.
إنني أطالب بنشر الاعتمادات الخاصة بالمحافظات ونصيب كل منها في مشاريع الخطة الخمسية علنا؛ لكي تناقش وتعلن على رءوس الأشهاد، ولكي نعرف على وجه الدقة على أي أساس توزع تلك الميزانيات، أهي بنسبة السكان، أم بمتوسط دخل الفرد، أم توزع بضرب الرمل والودع وتدليل هذا على حساب ذاك؟
حين كشف الدكتور أنور المفتي على القرية
غفر الله لأستاذنا الدكتور أنور المفتي فقد جعلني أمضي ساعات ألم رهيبة. لقد كانت القرية المصرية بالنسبة لي كالأم العجوز الطيبة، أعرف أناسها وأحبهم وتربطني بهم عاطفة قوية مبهمة لا أجد لها تبريرا ولا تفسيرا. في الأسبوع الماضي أتاح لي الدكتور أنور المفتي جلسة نقاش طبي فلسفي أدبي صوفي ممتعة، في آخرها تكرم وأعطاني التقرير الذي كتبه عن تجربته في سحالي. وللأسف الشديد كانت ظروفي قد منعتني من قراءة هذا التقرير قبلا أو حضور المحاضرة القيمة التي عرضه الدكتور المفتي فيها. أخذت التقرير وحاولت فقط أن أتصفحه. كان تقريرا عن العلاج في الوحدات الريفية الجديدة ومحاولة علمية لإدراك المصاعب الكامنة والتغلب عليها، ولكني من الصفحات الأولى أصبت بالذعر. لكأن القرية، تلك الأم العجوز الطيبة قد امتدت إليها يد عالم طيب تكشف عنها ثيابها القليلة وتعريها وتفحصها بكل دقة العلم وصرامته. وإنه لشيء مزعج أن تكتشف أن تلك الأمراض وبكل تلك الكميات تحيا وتعشش في قريتك الطيبة . من المفزع والمروع أن تدرك أن أقرانك الذين كانوا معك ربما في إلزامي وربما في الحواري كل منهم لا بد مصاب الآن بثلاثة أمراض على الأقل إن لم يكن أحدها قد تكفل به وقضى عليه. من المؤلم والمروع أن تتأمل تلك الحقيقة: وهي أن الريف، جسم أمتنا كلها متليف بالبلهارسيا ومصاب بالأنيميا وتأكل مصارينه الإنكلستوما ويعاني من النقص الخطير من الفيتامينات ومواد الطعام الأساسية.
لم يكن ما أقرؤه تقريرا، ولا طبا، كان أسياخ حقائق محماة تنخر أي عقل وتوقظ كل نائم وتجعله يتساءل: كيف كان باستطاعتنا بالله أن نعرف هذا كله أو أن نعالجه بلا ثورة وبلا قوانين اشتراكية؟ بل نحن حتى بالثورة وبالقوانين الاشتراكية لا نزال أيضا في مرحلة «التشخيص» ولم نبدأ العلاج الشامل بعد.
অজানা পৃষ্ঠা