مقدمة
النقد الديني
النقد السياسي الحضاري
تحليل اجتماعي-نفسي لنقد الاستشراق
خاتمة
مقدمة
النقد الديني
النقد السياسي الحضاري
تحليل اجتماعي-نفسي لنقد الاستشراق
خاتمة
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة
دراسة في المنهج
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
عرف العالم العربي والإسلامي، منذ وقت طويل، نقادا للاستشراق هاجموه على أساس ديني، وسعوا إلى الدفاع عن الإسلام ضد الصورة المتجنية التي رسمتها له كتابات كثير من المستشرقين. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل إن الكثيرين من هؤلاء النقاد قد جمعوا في فئة واحدة بين المستشرقين والملحدين، أو بين المستشرقين وأعداء الإسلام أو الأمة العربية، وأصبح التعبير «افتراءات أو أكاذيب المستشرقين» من أكثر التعبيرات ورودا على الألسن. وفي بعض الأحيان كان هناك وعي بأن المستشرقين يكيدون للإسلام وللعرب كما يكيد لهم المستعمر؛ أي إنه كان هناك وعي بالبعد السياسي لموضوع الاستشراق، ولكن هذا البعد السياسي كان في أغلب الأحيان يندرج تحت البعد الديني ويتخذ شكل عنصر من عناصره؛ أعني جزءا من الكل الأكبر والأهم؛ فالحقيقة الكبرى، في نظر هؤلاء النقاد، هي أن كثيرا من المستشرقين يشاركون في مؤامرة تستهدف تجريح الإسلام وتشويه تعاليمه وتشكيك أبنائه فيه، وهي مؤامرة قد ينظر إليها على أنها امتداد للحملة الصليبية على الإسلام، التي يظل هؤلاء المستشرقون ممثلين متأخرين لها، أو على أنها انتقام من هزيمة أوروبا المسيحية على يد الإسلام العثماني. أو محاولة لوضع العوائق والسدود في وجه نهضة إسلامية حديثة لو قامت لكان فيها تهديد حقيقي لحياة المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء المستشرقون.
كان النقد الموجه إلى الاستشراق ظاهرة قديمة إذن، وقد ظهر بوضوح في بعده الديني، أو في بعده السياسي المرتكز على الدين، في كتابات رواد النهضة العربية، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني، ولم يتردد خلفاؤه من رواد الفكر الإسلامي الحديث، سواء أكانوا من الإصلاحيين أم من السلفيين، في خوض المعارك ضد التصوير الاستشراقي للإسلام، وكانت هذه المعارك تحتل قدرا غير قليل من اهتمام الشيخ محمد عبده ورشيد رضا ومحمد فريد وجدي بل، إن كل مفكر إسلامي ذي شأن، منذ عهد هؤلاء الرواد حتى جيل العقاد ومحمود شاكر، قد أدلى بدلوه في هذه المعركة، وظهرت في كتاباته، في لحظة أو أخرى، ردود تتفاوت عنفا، على حجج المستشرقين ودعاواهم، تدخل ضمن إطار سعيهم إلى صد الهجمات على الإسلام وإزالة الشوائب عن صورته داخل البلاد الإسلامية وخارجها.
وعلى هذا يمكن القول إن نقد الاستشراق قد صاحب عصر النهضة الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي منذ بدايته. وكان محور هذا النقد دينيا دفاعيا، بالمعنى الذي تدل عليه الكلمة الإنجليزية
Apologetic . أما العنصر السياسي فيه فكان غائبا في كثير من الأحيان، وإذا وجد فقد كان هامشيا يرتد في نهاية الأمر إلى خدمة الهدف الديني. وهكذا فإن الموجة الحالية في الهجوم على الاستشراق، التي كان أهم معالمها كتاب أحرز شهرة واسعة هو كتاب إدوارد سعيد، ليست جديدة في العالم العربي على الإطلاق. ولكن الجديد حقا هو أن الطابع السياسي-الحضاري قد أصبح المحور الأساسي لهذا النقد الجديد. أما الجانب الديني فقد اختفى أو توارى إلى حد لم يعد يمثل معه إلا واحدا فقط من عناصر هدف سياسي حضاري أوسع مدى بكثير، أصبح الآن ينسب إلى الاستشراق، هو هدف مساعدة العالم الغربي في السيطرة على الشرق، بأوسع معاني هذه الكلمة. وهكذا فإن بؤرة الاهتمام، في هذا النقد الجديد، قد انعكست. ولم يكن ذلك بالأمر المستغرب؛ لأن الذين حملوا لواءه لم يكن يتوقع منهم، بحكم تكوينهم الثقافي، أن يكونوا دعاة دينيين، وإنما هم أساسا مثقفون علمانيون، بل إن أهمهم، مثل أنور عبد الملك وإدوارد سعيد، مسيحيون، ومن ثم كانت نظرتهم إلى الإسلام سياسية حضارية في المحل الأول.
والأمر الذي ينبغي أن ننتبه إليه هو أنه لم يكن هناك اتصال بين فئتي النقاد هاتين، ولم يكن من المتصور أن يقوم بينهما أي اتصال؛ ذلك لأن لكل منهما منطلقها الخاص. وفي هذا المنطلق نواحي قوة ونواحي ضعف. فالفئة التي تنقد الاستشراق من منظور إسلامي كانت تتميز بعمق جذورها الإسلامية، فضلا عن حماستها الدينية المتوقدة، ولكن كان يعيبها في كثير من الأحيان سطحية النظرة إلى أعمال المستشرقين وتأملها من زاوية واحدة، هي محتواها الديني، بل إن بعض أفرادها كانوا يطلقون على الاستشراق أحكاما منقولة متسرعة لم تكن مبنية على اطلاع كاف ودراسة متأنية، وهؤلاء هم في الغالب ممن يفتقرون إلى ثقافة أجنبية تتيح لهم معرفة أعمال المستشرقين في لغاتها الأصلية، فضلا عن عجزهم التام عن استيعاب مناهج البحث الحديثة. أما الفئة الأحدث عهدا، والتي تنقد الاستشراق من منظور علماني مرتكز على البعد السياسي-الحضاري، فإن قدرتها على معرفة أعمال المستشرقين بصورة مباشرة أعظم بكثير، كما أن في استطاعتها، بما درسته وأتقنته من مناهج البحث الغربية الحديثة، أن تخوض المعركة ضد المستشرقين بأسلحة متكافئة، ولكن يعيبها في معظم الأحيان ضعف الإلمام بالتراث الشرقي ذاته، والافتقار إلى جذور عميقة في الثقافة الإسلامية، لا بالقياس إلى النقاد الإسلاميين فحسب، بل بالقياس أيضا إلى المستشرقين أنفسهم.
وهكذا فإن نقاد الاستشراق من منطلق إسلامي تقليدي تنقصهم في أغلب الحالات - ولا أقول في جميع الحالات؛ لأن هناك دائما استثناءات هامة - المعرفة الكافية بالمصدر الذي ينبع منه الاستشراق ذاته؛ أعني بالحضارة التي انبثق منها الاستشراق من حيث هو مبحث علمي، وبالمناهج التي تتبع في أبحاثه. والدلالة الحقيقية لنواتج هذا المبحث. أما نقاده من المنطلق السياسي الحضاري فينقصهم الإلمام الكافي بالموضوع الذي يتحدث عنه المستشرقون، ومن ثم كانت تفاصيل ذلك التراث الشرقي الذي يريدون أن يصدوا هجمات المستشرقين عليه، مجهولة لديهم إلى حد بعيد. وهكذا فإن الفئتين لم تلتقيا؛ لأن كلا منهما تسير في خط يزداد تباعدا عن الأخرى. وأغلب الظن أن كلا منهما لم تطلع على أعمال الأخرى إلا في أحوال نادرة، بالرغم من أنهما يحاربان، نظريا، معركة واحدة ضد خصم واحد، بل إن الأرجح عندي أنه لو أتيحت لأفراد إحدى الفئتين فرصة الاطلاع على أعمال الفئة الأخرى، لما وجدوا فيها ما يعينهم في معركتهم، وربما نظروا إليها بعين مرتابة وأدرجوها ضمن فئة الخصوم؛ إذ يرى الإسلاميون في النقاد العلمانيين نفس العيوب التي يرونها في المستشرقين، أعني الإفراط في العلمانية نتيجة للتأثر بأساليب التفكير الغربية. والوقوع في أسر المصطلح الأجنبي الدخيل والمنهجية المستمدة من تراث الغرب بوجه عام. أما العلمانيون فيرون أن أعمال الإسلاميين ترسم صورة للشرق لا تقل في تشويهها عن تلك التي يرسمها المستشرقون له، مع فارق واحد، هو أن التشويه في الحالة الأولى جاء نتيجة التحمس الزائد، بينما نجم في الحالة الثانية عن التحامل المفرط.
وهكذا تتسم الكتابات الحالية عن الاستشراق بأنها في أغلب الأحيان أحادية الجانب. ولست أعني بذلك أنها تتجاهل أي جانب آخر في موضوع الاستشراق، وإنما أعني أن تركيز فئة منها على الجانب الديني يمنعها من أن تدرك بوضوح الأبعاد السياسية والحضارية للمشكلة وتعطيها ما تستحقه من أهمية، على حين أن إرجاع الفئة الأخرى مشكلات الاستشراق كلها إلى العامل السياسي الحضاري يحول بينها وبين عمل حساب كاف للبعد الديني. وأعتقد أن المعالجة الشاملة لمختلف هذه الجوانب، بطريقة متساوية في الأهمية، هي إحدى النقاط التي تبرر في نظرنا إضافة هذا البحث الجديد إلى سيل البحوث التي تدفقت أخيرا حول هذا الموضوع.
على أن هناك سمة أخرى، ربما كانت أخطر شأنا من السابقة، يختلف فيها هذا البحث عن بقية البحوث التي ظهرت في هذا الموضوع، هي أنه لا يكتفي بالسير في اتجاه واحد، إذا جاز هذا التعبير، وإنما يسير في اتجاهين، وربما في ثلاثة. فالأبحاث الحالية تعالج موضوع الاستشراق من زاوية نظرة الشرقي إلى ما يكتبه الغربيون عنه وعن ماضيه وحاضره. ولكن يبدو في نظرنا أن هذه المعالجة تغدو أخصب بكثير لو ارتبطت ببحث مقارن يدرس، في كل حالة، نظرتنا نحن إلى الغرب ويقارن أخطاءهم بأخطائنا، وتحيزاتهم بتحيزاتنا. بل إننا سوف نجد أنفسنا، في أحيان كثيرة، مضطرين إلى إجراء مقارنة أخرى بين نظرة الغرب إلينا ونظرتنا نحن إلى أنفسنا، فنضيف بذلك بعدا ثالثا إلى الموضوع. ولو كنا ممن يميلون إلى استكمال تناسق البناء الشكلي وتحقيق «التماثل
Sysmmetry » الكامل، كما يفعل الفلاسفة أصحاب المذاهب عادة؛ لأضفنا بعدا رابعا، هو نظرة الغرب إلى نفسه، حتى تكون الأركان الأربعة قد اكتملت: الشرق في نظر الغرب، والغرب في نظر الشرق، والشرق في نظر ذاته، والغرب في نظر ذاته. غير أن هذا البعد الأخير، على الرغم مما فيه من خصوبة، وما يمكن أن يلقيه من أضواء على موضوع بحثنا، سوف يفتح أمامنا أبوابا تبلغ من التشعب حدا قد يهدد بضياع معالم الهدف الأصلي، ومن ثم فقد آثرنا أن نستبعده. وهكذا تتبقى الأبعاد الثلاثة الأخرى لكي تشكل معالجة لموضوع الاستشراق ضمن إطار بحث أوسع في مشكلات الالتقاء بين الحضارات، وهو الإطار الذي يلقي أضواء عظيمة الأهمية على موضوع يستحيل أن تستبين معالمه بوضوح ما دام يبحث بصورة منعزلة، أعني من زاوية التركيز على أخطاء أو تحيزات النظرة الغربية - علمية كانت أو غير علمية - إلى الشرق.
النقد الديني
كان الهجوم على الاستشراق من الزاوية الدينية، كما قلت، هو الأسبق. وكان النقاد الذين يتخذون وجهة النظر الدينية ينسبون إلى المستشرقين في معالجتهم لموضوع بحثهم، أي الإسلام، صفة التحامل، ولكن في أغلب الأحيان كانت اللهجة تشتد فتستخدم أوصاف مثل الكذب والافتراء ... إلخ. وفي حالات معينة كان سوء الفهم المنسوب إلى الغربيين يوصف بأنه ناجم عن تأثير تاريخ طويل من تشويه للعقيدة الإسلامية في الغرب المسيحي، بدأ منذ العصور الوسطى وظلت آثار منه باقية، بدرجات متفاوتة، حتى اليوم. ومثل هذا التفسير يتضمن، على الأقل، قدرا من التماس العذر للخطأ الغربي المعاصر بإرجاعه إلى أصول تاريخية قديما. غير أن الاتجاه الأغلب، بين ناقدي الاستشراق على أساس ديني، هو اتجاه التفسير التآمري؛ أي القول بوجود نية مبيتة لدى المستشرقين لتشويه تعاليم الإسلام. والرأي الشائع هو أن هذا التشويه يتم عند بعض المستشرقين بصورة صريحة تتضمن هجمات مباشرة وتفسيرات باطلة لحقائق أساسية في الإسلام، وعند البعض الآخر بصورة غير مباشرة، ربما اقترنت أحيانا بشيء من المدح أو الدعوة إلى التفاهم، ولكن الهدف - الذي يتم التوصل إليه بطريقة أذكى في هذه الحالة - يظل هو «الدس» للإسلام وتشويه صورته، مع تقديم بعض الأحكام الإيجابية من أجل «تمرير» الأحكام الباطلة في إطار يفترض أنه موضوعي.
والذي كان يحدث في هذا الهجوم من المنطلق الديني على الاستشراق هو أن المهاجم كان في واقع الأمر مدافعا؛ فهو يدخل في مبارزة مع «عدو للإسلام»، محاولا أن يثبت له أنه وقع في أخطاء أساسية، مقصودة أو غير مقصودة، وساعيا إلى أن يعيد إلى الإسلام صورته النقية عند المسلم المؤمن، وناظرا إلى كل خروج عن هذه الصورة عند المستشرق على أنه جزء من «المؤامرة».
وبطبيعة الحال، فإن مجال «المبارزة» يغدو واسعا حين تدور المعركة على أرضية دينية بين مدافع متحمس من جهة، وبين باحث ينتمي - رسميا على الأقل - إلى عقيدة أخرى، ولا يلزم نفسه بتعاليم الإسلام من جهة أخرى. إذ يصبح ميدان الهجوم في هذه الحالة هو نظرة المستشرقين إلى معنى الألوهية في الإسلام، وإلى شخصية الرسول وسلوكه وتاريخه، وإلى القرآن في ذاته وفي علاقته بالكتب المقدسة الأخرى، وإلى طبيعة الوحي في الإسلام، ثم يمتد من هذه الأصول إلى الشخصيات الإسلامية الرئيسية، كآل البيت والصحابة والخلفاء الراشدين، وربما امتد بعد ذلك إلى شخصيات فرعية، فضلا عن أنه يشمل مسار التاريخ الإسلامي وتفسيرات المستشرقين له، وإسهامات الحضارة الإسلامية وأحكامهم عليها. هذه بعض من الميادين التي يدور فيها الجدل الساخن بين المدافعين عن الإسلام وبين المستشرقين، وهي ساحات لهجوم ظل ممتدا منذ أن اطلع المفكرون العرب على كتابات الغربيين عن الإسلام من فجر النهضة العربية الحديثة حتى اليوم.
والمعيار الأساسي، والأوحد في أغلب الأحيان، الذي تقاس به قيمة المستشرق عند هذه الفئة التي تنقد الاستشراق من منظور ديني، هو مدى اقتراب المستشرق أو ابتعاده عن تعاليم الإسلام، ومدى تمجيده للعرب أو تنديده بهم. وفي معظم الحالات تنسى القيمة الذاتية، والعلمية، لأبحاث المستشرق إذا كان ما يكتب يبتعد كثيرا عن أصول العقيدة، ويتم الحكم عليه من المنظور الديني وحده. وهكذا ينطوي هذا النقد على مبدأ لا يصرح به، بطبيعة الحال، ولكنه يكاد يقفز إلى العيان في كافة كتابات هؤلاء النقاد، هو أن المطلوب من المستشرق أن يكون مشاركا للمسلمين في عقيدتهم، وفي هذه الحالة يعد منصفا، أما إذا ابتعد عنها فإنه يغدو مفتريا متآمرا. وأفضل الحالات، بالطبع، هي تلك التي ينطق فيها المستشرق بالشهادتين، ويشهر إسلامه، إذ يصبح في نظر هؤلاء النقاد مستشرقا نموذجيا، أمينا، منصفا، أما القيمة الكامنة لأعماله، ومدى الجهد الذي بذل فيها أو الدقة المنهجية التي روعيت فيها، فهي في نظر هؤلاء النقاد آخر ما يؤخذ في الحسبان، بل إن الخلط بين الأمرين شائع إلى أبعد حد، إذ يوصف المستشرق الذي يتعاطف مع تعاليم الإسلام بأنه هو الأدق، والأعمق، أما الذي يتباعد عنها فلا بد أن يكون بعيدا عن روح العلم ومنهجه.
ولأضرب مثلا بكتاب عن الاستشراق لواحد من ممثلي هذه الفئة، ليس بالقطع أفضل ما ظهر عن الموضوع، ولكنني اخترته لأنه من أحدث هذه الكتب فحسب؛ فمؤلف كتاب «أضواء على الاستشراق»
1
يذهب صراحة إلى أن أفضل المستشرقين هم الذين اعتنقوا الدين الإسلامي، وأسوأهم هم «اليهود والماركسيون والمبشرون»، أما القيمة العلمية لأعمال هؤلاء فلا تهمه في كثير أو قليل، بل إنها قد تكون سببا لمهاجمة المستشرق (كما حدث في حالة مرجليوث وجب وجلود تسيهر)؛ لأن تفوق المستشرق علميا يضفي على آرائه مزيدا من قابلية التصديق، على حين أن هدفه الأصلي هو التشكيك في الإسلام، بل إنه يدين مؤلفين امتدحهم معظم الكتاب العرب بعد أن أحدثوا ضجة دعائية كبيرة بمؤلفات كانت توصف عادة بأنها «منصفة»، أي قريبة من وجهة النظر الإسلامية، كما حدث في حالة توينبي، الذي لم يغفر له المؤلف تفسيراته «الدنيوية» لكثير من الحقائق والوقائع الدينية الإسلامية، على الرغم من إعجاب الكثيرين به بسبب مواقفه الصريحة المعادية للصهيونية.
2
ومثل ذلك يقال عن موقف المؤلف من «زيجريد هونكه»، مؤلف كتاب «شمس الله (أو شمس العرب) تسطع على الغرب»، وهو الكتاب الذي لا يكف المؤلفون العرب في السنوات الأخيرة عن الاقتباس منه بوصفه شهادة من الغرب على أمجادنا الحضارية وضخامة الدين الذي تدين به الحضارة الغربية للعلم والفكر الإسلامي. فهو يهاجمها بدورها لأنها ربطت في بعض المواضع بين الإسلام وبين العقائد القديمة، ولأنها نسبت إلى ابن زكريا الرازي أقوالا فيها هرطقة ضد الإسلام (ولم يكلف المؤلف نفسه مشقة التحقق من مدى صحة هذه الأقوال). وهكذا يدرجها ضمن أولئك الذين «دسوا السم» في إطار من الإنصاف، لكي «يمرروا» أحكامهم الباطلة من خلال موضوعيتهم الظاهرية.
3
وإذا كان هذا الناقد قد هاجم بعض المستشرقين الذين قدموا أحكاما إيجابية عن الإسلام، على أساس أنهم حاولوا مهاجمة الإسلام من الأبواب الخلفية، واتخذوا من مدحهم وسيلة لتسريب تفسيرات علمانية لموضوعات العقيدة الإسلامية، فإن هناك ناقدا آخر يسير في الاتجاه العكسي، ولكنه يعبر عن الموقف الأساسي نفسه. ففي كتاب «المستشرقون والإسلام» يرى المؤلف «زكريا هاشم» أن هناك أقلية من «المنصفين» بين المستشرقين، على حين أن غالبيتهم «يكيدون» للإسلام بوحي من الاستعمار والتبشير (لاحظ المزج بين العامل الديني والسياسي). ثم يضع المؤلف، ضمن المنصفين الذين يستحقون المدح، المستشرق الإنجليزي المعروف «جون فيلبي» لأنه أشهر إسلامه.
هنا يظهر التشويه الفكري بأجلى صوره؛ فالمعيار الأوحد الذي تطبقه هذه الفئة من ناقدي الاستشراق هو، كما قلنا، موقف المستشرق من الإسلام كعقيدة. وهكذا يكون أفضل المستشرقين، بالطبع، هم الذين يدخلون في دين الإسلام. ولكن هذا المعيار ينظر إليه منفصلا عن جميع المعايير الأخرى؛ مثل مدى تعمق المستشرق أو نوع منهجيته أو أهمية إنتاجه. بل إن الكاتب الذي نتحدث عنه يؤكد أن الاستعمار يكيد للإسلام، ولا يتورع بعد قليل عن امتداح واحد من أعمدة الاستعمار البريطاني، وهو الجاسوس المشهور جون فيلبي، الذي يرجح أنه اعتنق الإسلام لكي ينال قبولا أفضل لدى المسلمين؛ أي لكي يؤدي مهمته الأصلية بمزيد من الفعالية. فالدفاع عن الإسلام، واعتناقه أحيانا، قد يكون في بعض الأحيان أكثر فائدة للاستعمار من مهاجمته (هل تذكر «إسلام» نابوليون؟) وليس هذا إلا مثلا واحدا يكشف عن السذاجة الفكرية الشديدة لأولئك الذين يقيسون عمل أي مستشرق بمدى «دفاعه» عن الإسلام.
لقد وقع الغرب المسيحي في أخطاء فادحة ولا شك عندما وجد نفسه في موقف الضعف والانهيار أمام الحضارة الإسلامية الفتية، منذ القرن السادس الميلادي حتى عهد الحروب الصليبية، وربما حتى عهد فتح القسطنطينية، فقد وصل الإسلام، في زمن وجيز بصورة مذهلة، إلى قلب القارة الأوروبية، وكان من الطبيعي أن ترى فيه الحضارة المسيحية تهديدا خطيرا لها، وكان رد فعلها المتوقع هو أن تشوه صورة الدين الجديد وتهاجم نبيه وكتابه المقدس بقسوة شديدة لا تقيم وزنا لأبسط الحقائق التاريخية. ومن هنا نشأت تلك الصورة المهتزة المختلة التي كونتها أوروبا المسيحية عن الإسلام في العصور الوسطى، والتي كان الخيال المشوب بالخوف والعداء والتعصب يلعب فيها دورا يفوق بكثير دور المعرفة الفعلية. هذه الصورة المشوهة حقيقة تاريخية يعترف بها كثير من الباحثين في الشرق والغرب بدءا من «نورمان دانيل»
4
حتى إدوارد سعيد وماكسيم رودانسون.
5
ولكننا إذ نعرض هذا التشويه الغربي للإسلام، في العصور الوسطى، على أنه أمر مؤكد من الوجهة التاريخية، ينبغي، من الناحية المنهجية، أن نضعه في إطار حقيقتين أساسيتين لا مفر من الاعتراف بهما: (1)
الحقيقة الأولى هي أن التفسير التآمري متبادل بين الطرفين؛ فالغرب في العصور الوسطى كان يرى في الإسلام «مؤامرة» على المسيحية، وأدى ذلك إلى تشويه معرفته بالإسلام، أو على الأصح إلى العجز عن التمييز بين هدف المعرفة وهدف الدفاع عن الذات. ولكن الباحثين ذوي النزعة الإسلامية يرون بدورهم أن الاستشراق ذاته مؤامرة حاكها باحثون مسيحيون أو يهود من أجل هدم العقيدة الإسلامية وزعزعة إيمان المسلمين. وهكذا فإن فكرة المؤامرة تسود وجهتي نظر الطرفين، وليس من حق أحدهما أن يدين بها الآخر وحده. وليس من الصعب أن نعلل هذا الارتياب المتبادل بين الطرفين: (أ)
فهو يزداد حدة في الأوقات التي تسود فيها النظرة الدينية إلى العالم؛ حيث يؤمن أصحاب أية عقيدة بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ومن ثم فلا بد أن يكون الآخرون مخادعين متآمرين. وعلى هذا الأساس نجد هذا التفسير يزداد ظهورا لدى أوروبا في العصور الوسطى، كما تقوى شوكته في العالم الإسلامي كلما مر بفترة من فترات «الصحوة الدينية». (ب)
كذلك فإن فكرة المؤامرة تفرض نفسها، دائما، على الجانب الأضعف، الذي يتخذ من تشويهه لموقف الجانب الأقوى وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس. وهكذا سادت فكرة المؤامرة لدى أوروبا عندما كانت هي الأضعف أمام موجة الإسلام الظافرة في العصور الوسطى، وسادت لدى المسلمين المعاصرين؛ لأنهم هم الأضعف، حضاريا واقتصاديا، بالقياس إلى الموجة الغربية الطاغية. (2)
أما الحقيقة الثانية، التي تترتب مباشرة على الأولى، فهي أن تشويه الصورة متبادل أيضا بين الطرفين. فكما أن الغرب المسيحي في أوروبا الوسيطة قد قدم صورا مشوهة إلى حد بعيد عن الإسلام، فإن في استطاعة كثير من المسيحيين المتدينين أن يشيروا إلى ما يعدونه، من وجهة نظرهم الخاصة، «تشويهات» موازية في تصور المسلمين لحقائق أساسية في المسيحية: كاعتقاد كثير من المسلمين أن المسيح - في نظر أبناء عقيدته - ابن الله بالمعنى المادي، وفهم العلاقة بين مريم العذراء والألوهية فهما لا يخلو من مضمون بشري فيه مسحة من الإشارة الجنسية، والقول بأن الأناجيل الحالية محرفة وبأن هناك إنجيلا أصليا تم إخفاؤه لأن فيه تنبؤا بظهور محمد. وهكذا يستطيع كل من الطرفين أن يشير إلى ما يعتقد، من وجهة نظره الخاصة، أنه «تشويهات» لصورته في نظر الطرف الآخر.
فإذا اتضح لنا ذلك أصبح من واجبنا أن نتأمل مسألة سوء الفهم هذه من منظور أوسع من منظور نقاد الاستشراق الذين يرونه تشويها سائرا في اتجاه واحد. فلا بد أن تكون لسوء الفهم هذا أبعاد عميقة حتى يسير في الاتجاهين على هذا النحو، ولا بد أن للمسألة كلها حدودا أوسع من مجرد ضيق الأفق الغربي في نظرته إلى الشرق، سواء كان ضيق الأفق هذا ناتجا عن جهل وافتقار إلى المعلومات الصحيحة، أم ناتجا عن خوف أو كراهية أو احتقار أو رغبة في السيطرة.
الأخطاء المنهجية في النقد الديني
وإذا كان هذا المنظور الأوسع الذي ندعو إلى تأمل المشكلة كلها من خلاله، سيتضح تدريجا خلال الأجزاء المتبقية من هذا البحث، فإننا نود أن ننبه إلى مجموعة من الأخطاء المنهجية الأساسية التي يرتكبها نقاد الاستشراق من وجهة النظر الدينية، وهي أخطاء لا يشير إليها الباحثون في هذا الموضوع عادة، إما بدافع الشعور بالحرج، أو خوفا من أن توجه إليهم تهمة الدفاع عن الاستشراق. ولما كان هدفنا يتجاوز هذين الاعتبارين، فإننا سنعرض لهذه الأخطاء إيمانا منا بأن الحقيقة العلمية تتخطى نطاق الحساسيات الضيقة، والمجاملات المزيفة. (1)
مما يدعو إلى الأسف حقا أن عددا غير قليل من نقاد الاستشراق الذين يتبنون وجهة نظر دينية، يكشفون في كتاباتهم عن افتقار إلى معرفة أبسط قواعد المنهج العلمي؛ مما يضفي على انتقاداتهم طابعا هشا يجعلها عاجزة عن إقناع أي ذهن يتمسك بأوليات المنطق السليم. وسأضرب لذلك مثلا صارخا:
ففي كتاب «شبهات التغريب»
6
يهاجم المؤلف الاستشراق بمنهج غريب؛ إذ لا توجد طوال الكتاب إشارات إلى المراجع إلا في حالات تعد على الأصابع، وحتى في هذه الحالات لا تذكر أرقام الصفحات أو دور النشر أو سنوات الطبع. وليس هذا مجرد نقد أكاديمي، بل إنه يمس صميم القضايا التي يدافع عنها المؤلف، إذ إن الاقتباسات الكثيرة التي ترد دون إشارة إلى مصدرها، أو التي تتصدرها عبارة «يقول فلان» ... دون أي تحديد للموضع الذي قال فيه ذلك، لا بد أن تثير عند القارئ الواعي إحساسا بعدم التصديق أو بأنه يقرأ أحكاما غير موثقة، لا يستبعد أن تكون ملفقة.
7
وعلى سبيل المثال ففي صفحتي 207 و208 يشير المؤلف إلى «واحدة من الوثائق الكبرى التي تكشف هدف الحملة على الإسلام»، وهذه الوثيقة هي مقال لجريدة التيمس الإنجليزية. وبغض النظر عن السذاجة الفكرية التي تتضح في إعطاء صفة «الوثيقة الكبرى» لمقال في جريدة يومية، فإن المؤلف لا يذكر اسم كاتب المقال ولا رقم العدد ولا تاريخ اليوم أو السنة، فضلا عن أن نصف الاقتباس إضافات وشروح من عنده لما هو مكتوب. فكيف نتوقع من القارئ الواعي أن يصدق إشارة كهذه وما الذي يمنعه من الاعتقاد بأنها من تأليف الكاتب نفسه؟
ولكن، لنتأمل مثلا أخطر، جاء في الفقرة الأخيرة من الكتاب المذكور (ص426)، وفيها يقول :
ونحن نعرف أن مؤتمرا خطيرا عقد في إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر، وخرج بمقررات مفادها أن الحضارة الغربية منهارة، فلكي يطيلوا أمد انهيارها (هكذا في الأصل) يجب القضاء على الوريث، وهو الأمة الإسلامية بدينها وتراثها وموقفها (يقصد: موقعها) الإستراتيجي، وقد عملوا على تفتيت هذه الأمة لكي يطيلوا في أمد انهيارهم (!) ويؤخروا سقوط حضارتهم و
أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون .
أود من القارئ أن يتأمل هذا الاقتباس لكي يدرك بعض ما فيه من عناصر التشويه الفكري والافتقار إلى أبسط مقومات المنهج، بل وأوليات الثقافة العامة.
إنه يقول: «نحن نعرف.» فمن أين عرف، ومن أي مصدر؟ ألا يستطيع أي كاتب، بمثل هذه البداية، أن يمرر على قرائه أي خبر ملفق؟
ويقول: «مؤتمرا خطيرا.» ما اسم هذا المؤتمر؟ ومن الذي نظمه؟ ومن الذين حضروه؟ وإذا كان قد عقد في «إنجلترا» ففي أي مدينة؟
ويقول: «في أوائل القرن التاسع عشر.» أليس للمؤتمرات تاريخ يحدد بالسنة والشهر واليوم؟
هذه كلها أسئلة لا يجاب عنها بكلمة واحدة. ولكن الأخطر من ذلك هو «مضمون» الخبر نفسه. فإنجلترا، في أوائل القرن التاسع عشر، كانت في أوج طموحها الاقتصادي والسياسي، فكيف ينتهي مؤتمر يعقد بعد بداية العصر الصناعي بقليل، ذلك العصر الذي غزت فيه مصنوعات إنجلترا العالم وأصبحت فيه جيوشها وأساطيلها سيدة البر والبحر، كيف ينتهي مؤتمر يعقد في هذه المرحلة بالذات إلى أن الحضارة الغربية منهارة؟ وببساطة شديدة ينتهي المؤتمر نفسه، حسب قول المؤلف، إلى أن الأمة الإسلامية هي الوريث. ومتى؟ في الوقت الذي كانت فيه الأمة الإسلامية منسية تماما، وفي الوقت الذي كانت تعاني فيه من أشد حالات التخلف؛ أي أن الغرب الفتي الصاعد كان يخاف من منطقة كانت عندئذ تعيش في ظلمات الجهل، بلا موارد ولا طموح ولا إمكانات بشرية أو مادية، فيعمل على تأخير انهياره (أو يطيل أمد انهياره، حسب التعبير المخطئ الذي كرره المؤلف مرتين) عن طريق تفتيتها. وهكذا اجتمع المؤتمر، في مكان مجهول وزمان غير معقول، لكي يحيك مؤامرة ويصدر «مقررات» ضد أمة لم يكن يشعر بها في ذلك الحين أحد، يفترض أنها تهدد الحضارة الغربية التي كانت عندئذ تقف وحدها بلا منافس!
قد يرى القارئ أنني أطلت في الحديث عن نص لم يكن يستحق أصلا مثل هذا الاهتمام، ولكنني أود أن أؤكد أن لهذه الطريقة المشوهة في الكتابة أهمية عظمى في وقتنا الحاضر. فهي تشكل وسيلة أساسية لنقل المعلومات ونشر الثقافة لدى كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، التي يقرأ أنصارها كتبا أو يسمعون خطبا تحفل بأحكام غير محققة، وسرعان ما تتحول تلك الأحكام إلى قوالب محفوظة يرددها شباب مغرر به عقليا على يد معلمين روحيين يتلاعبون بعقول أتباعهم كما يشاءون. والكتابات التي تتبع منهج «نحن نعلم» هذا، تباع على أوسع نطاق، والمؤلفون الذين يؤثرون على قرائهم عن طريق ابتكار أي خبر مثير كهذا، هم، في ثقافتنا المعاصرة، ناجحون إلى أقصى حد مع الأغلبية الجماهيرية غير الواعية، وليرجع من يشك في ذلك إلى إحصاءات معارض الكتب لكي يدرك خطورة تأثير هذا المنهج وسعة انتشاره. (2)
ولكن، لنسأل أنفسنا: كيف يحرز منهج واضح البطلان كهذا نجاحا واسعا إلى هذا الحد؟ وما هي الأسباب التي تجعل وصول مثل هذه الروايات الملفقة إلى عقول الجماهير أيسر من وصول الرأي الموثق، المدعم بالمصادر، والمؤيد بالبراهين؟ إن التعليل، في رأيي، واضح، يكمن في طبيعة الجماعات التي يحرز هذا المنهج بينها نجاحا هائلا. فالجماعات الدينية ترتكز في تفكيرها على مبدأ الإيمان الذي يولد ميلا قويا إلى التصديق. وكما أن الموجهين الروحيين لهذه الجماعات يعملون على الإفادة من هذا الميل إلى التصديق لدى أتباعهم، فإنهم في الوقت ذاته يحرصون على تقويته وتأكيد اتجاههم إلى «الطاعة» ووأد أي نزوع إلى النقد أو التساؤل في عقولهم. وهكذا فإن الأخذ بهذا المنهج في التأليف يخدم غرضا مزدوجا، فهو يساعد من جهة على تمرير أية قصة ملفقة تخدم أهداف المؤلف دون الحاجة إلى بذل الجهد والعناء الذي يقتضيه المنهج العلمي في الكتابة، وهو يدعم من جهة أخرى روح التصديق والتبعية والطاعة لدى القارئ، مما يزيد من استعداده لقبول هذا المنهج، ويجعل العلاقة الثقافية بين الكاتب وقارئه علاقة إرسال واستقبال فحسب، لا نقد فيها ولا شك ولا تساؤل.
وحصيلة هذا كله هي ما نشهده جميعا من ترديد النقاد الذين يتخذون المنظور الديني لعبارات محفوظة عن الاستشراق، دون أية محاولة لاستقصاء أصل هذه الأحكام والتأكد من صحتها. والأمر الذي لا شك فيه أن تنشئتهم على قبول فكرة السلطة، ومبدأ السمع والطاعة، يسهل قبولهم للأفكار الواردة في أي مقال تافه أو زعم غير مدعم في كتاب، عن «مؤامرات» المستشرقين التي يفترض وجودها في كل سطر من كتاباتهم، أو عن تحيزات الفكر الغربي وعيوبه وعجزه بالقياس إلى الفكر البديل الذي يقدمونه. وما دام الأسلوب الذي ينشأ عليه العقل هو الاكتفاء باقتباس النصوص والاستشهاد بها والاكتفاء بشهادتها على أنها أعظم حجة وأبلغ دليل، فليس من المستغرب عندئذ أن يتحول أي نص يعرض عليهم إلى سلطة فكرية لا تناقش.
وفي هذا الصدد يتبين لنا بوضوح أن الحملة التي شنها الأزهر ضد طه حسين «ومنهجه الديكارتي» بحجة أنها نماذج «للتغريب» الفكري - وهي الحملة التي بعثتها بعض التيارات الإسلامية المعاصرة إلى الحياة من جديد - لم تكن في واقع الأمر إلا دفاعا عن منهج «السلطة» والإيمان المطلق الذي يقوم عليه نوع كامل من التعليم. فالمنهج الديكارتي لم يكن يهاجم لأنه غربي المنشأ، بقدر ما كان يهاجم لأنه يدعو إلى الشك والنقد واختبار صحة المسلمات واستدعائها أمام محكمة العقل. وتلك قيم فكرية تتجاوز ديكارت، بل تتجاوز الحضارة الغربية ذاتها، رغم أنها نتاج مؤكد لمرحلة من مراحلها، فهي قواعد يفيد منها الفكر الإنساني غربيا كان أم شرقيا. ومن هنا فإن مهاجمة الأزهر لها كانت في واقع الأمر دفاعا عن منهج التسليم والتصديق والإذعان ضد خطر ساحق يبدده. وهجومه على كتاب «الشعر الجاهلي» و«الإسلام وأصول الحكم» كان في حقيقته هجوما على الجذور المنهجية التي بنيت عليها هذه المؤلفات، والتي يمكن أن يؤدي تطبيقها على ميادين أخرى إلى نتائج أشد خطورة. إنها هي ذاتها معركة ديكارت مع رجال الدين المسيحيين، الذين لم يهاجموه من أجل مضمون فلسفته بقدر ما هاجموه من أجل منهجه الذي يهدد بالامتداد إلى أخطر المناطق وأشدها حساسية في ميدان الإيمان.
8 (3)
أما الخطأ المنهجي الثالث، الذي يقع فيه نقاد الاستشراق من منطلق إسلامي، فهو ازدواجية المعايير؛ فهم في جميع الأحوال يطبقون على الحضارة الإسلامية معيارا، وعلى الحضارة الغربية معيارا آخر، دون أن ينتبهوا إلى التناقض الذي يقعون فيه. ونستطيع في هذا الصدد أن نقدم أمثلة لثلاثة أنواع من ازدواجية المعايير هذه: (أ)
يرى مؤلف كتاب «المستشرقون والإسلام» في مستهل الفصل الأول من كتابه، أن تأثر الغرب بالإسلام وتشبه أوروبا بالعرب أيام ازدهارهم، وخاصة في الأندلس، هو أمر جدير بالثناء. وهو ينقل عن «دوزي» وصفا لموقف المثقفين الإسبان الذين «سحرهم رنين الأدب العربي فاحتقروا اللاتينية وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها.» ويعلق على ذلك بقوله: «نعم، لقد كانت الحضارة الغربية كلها قبسا من حضارة العرب، لا سيما في أيام ازدهار الأندلس.» (ص17)، وفي الصفحة التالية يصف المتأثرين بالحضارة العربية والمعجبين بها بأنهم «عقلاء الإسبان».
إن من المستحيل من الناحية المنهجية، أن نضع معيارين متناقضين في حالة تأثر حضارة بحضارة أخرى متفوقة. فمن حقنا أن نعتبر هذا التأثر خيرا، أو أن نعتبره شرا. ولكن ليس من حقنا أن نعتبره خيرا في حالة وشرا في حالة أخرى. فأي منهج هذا الذي يسمح لنا بأن نفخر بتأثر الغرب بالثقافة العربية، ونراه خيرا على أوروبا، وننقد في الوقت ذاته تأثير الأفكار الغربية في أبحاث العرب المعاصرين وننظر إلى الاستشراق على أنه مؤامرة استعمارية؟ ألم يكن في استطاعة راهب إسباني من الأندلس أن يصف التأثير الفكري للعرب بأنه غزو ثقافي، ويتهم «عقلاء الإسبان» بأنهم عملاء وقعوا في فخ «الاستعمار العربي» وفقدوا هويتهم وانسحقت شخصيتهم في الحضارة العربية المتفوقة؟ إنني لا أقول بالطبع بأن هذا هو ما كان ينبغي أن يحدث، وإنما أقول فقط إن من التناقض أن نكيل في موضوع التأثر الثقافي بكيلين، فيصبح التأثير خيرا وبركة حين يأتي من العرب، ويصبح مؤامرة وفخا حين يأتي من الغرب. والمنهج السليم - بغض النظر عن ميولنا الذاتية - يحتم علينا أن نأخذ بمعيار واحد في كلتا الحالتين. (ب)
وإذا كان هؤلاء النقاد الإسلاميون يجعلون من اقتراب المستشرق من احترام تعاليم الإسلام معيارا لمكانة هذا المستشرق، فلا بد أن نذكر أن هذا المعيار ذاته ينطوي على تناقض واضح؛ إذ إنه يدعونا ضمنا إلى خروج الباحث عن عقيدته الخاصة لكي يصبح باحثا أفضل. وهكذا فإن المؤمن المدافع عن عقيدته يدعو الآخرين إلى مهاجمة عقائدهم كيما يصبحوا مقبولين. والمثل الصارخ على ذلك نجده في كتاب «أضواء على الاستشراق»: فالمؤلف يمتدح مستشرقا اعتنق الإسلام، اسمه «إسحق رينيه»؛ لأنه تشكك في مسائل معينة في العقيدة المسيحية، مثل عصمة البابا، وبنوة المسيح لله، وصلب المسيح، كما وجد في الإنجيل «أشياء لا تتفق مع العقل في شيء» (ص76). ولكننا لو أجزنا لأنفسنا أن ننظر إلى المسيحي الذي يتخلى عن دينه ويجده غير متفق مع العقل على أنه «منصف»، لكان من الواجب لكي نكون متسقين منهجيا أن ننظر بصدر رحب إلى المسيحي الذي يبحث في عقيدتنا نحن بنفس الطريقة العقلانية النقدية، ولا نراه متآمرا دساسا مفتريا على الإسلام. هذا ما يقضي به المنطق السليم، ولكننا نرفض الاتساق ونطبق معايير مزدوجة، فنؤكد بذلك الطابع الذاتي المحض لنقد الاستشراق من منطلق إسلامي.
ولكي تكتمل الصورة، فلا بد أن نشير إلى أن بعض المستشرقين من ذوي النزعات الدينية يرتكبون هذا الخطأ نفسه في بحثهم للإسلام، فهم يطبقون على هذا البحث أحدث المعايير العلمية النقدية، ولكنهم يستبعدون هذه المعايير حين يكون الأمر متعلقا بعقيدتهم الخاصة، مسيحية كانت أم يهودية؛ إنهم في الحالة الأولى عقلانيون ناقدون، وفي الحالة الثانية إيمانيون مذعنون، وهو موقف يستحق أن ينقد بكل قوة بوصفه مثلا مؤسفا من أمثلة ازدواجية المعايير. (ج)
أما المثل الثالث لهذه الازدواجية، فإنه يبدو أشد خفاء من المثلين السابقين، ولكنه في الواقع لا يقل عنهما خطورة؛ ذلك لأن هؤلاء النقاد الإسلاميين يحكمون دائما على الحضارة الغربية بالسعي إلى السيطرة والتآمر، فضلا عن صفات الانحلال والتمزق والاغتراب والإغراق في المادية ... إلخ. وفي مقابل ذلك فإنهم يصفون الحضارة الإسلامية بأنها هي المتكاملة وهي التي تجمع بين الروح والجسد في توافق سليم، وهي التي لا تعرف أزمات القلق والتمزق ... إلخ.
فلنسلم إذن بأن هذه الصورة صحيحة - وإن كانت في كلتا الحالتين تحتاج إلى قدر كبير من المناقشة - ولنتساءل: هل المعيار المطبق واحد في الحالتين؟ الواقع أن هؤلاء النقاد يطبقون على الحضارة الغربية معيار «الواقع»، وعلى الحضارة الإسلامية معيار «المثل الأعلى»؛ فالأوصاف التي ينسبونها إلى الغرب تصف واقع هذا الغرب كما يراه هؤلاء، ولكن أوصافهم للعالم الإسلامي لا تصف واقعه، وإنما تصف نموذجا مثاليا هو ذلك الذي يرسمه لنا الكتاب والسنة والسلف الصالح في صدر الإسلام. وهم يعترفون، بلا تردد، بأن هذا المثل الأعلى بعيد كل البعد عن واقع المسلمين الراهن، ومع ذلك فإنهم لا يرون أي تناقض في المقارنة بين الغرب «الموجود فعلا» وبين إسلام «المثل الأعلى» في الآيات والأحاديث والسنن الأولى. وهم لا يقيمون أي وزن لواقع العالم الإسلامي؛ لأن هذا الواقع في نظرهم لا يمثل «الإسلام». ولو اقترب أحدهم من الواقع الفعلي للإسلام - كما يقترب من الواقع الفعلي للغرب - لوجد فيه أبشع صور المادية والأنانية، وأفدح الأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وأسوأ أنواع الممارسة السياسية. وإذن، فحين نوحد المعيار، فنجعله هو «الواقع»، سيفقد العالم الإسلامي تميزه بغير شك. أما لو طبقنا المعيار المثالي على الحالتين، فلا جدال في أننا سنجد في كتابات فلاسفة الغرب وشعرائه وحكمائه وأعمال فنانيه قدرا من المثالية يجعله يصمد على الأقل في المقارنة مع الإسلام المثالي.
ولكن الذي يحدث هو أن هؤلاء النقاد يطبقون المنهج المثالي، الملائم لنا، عند الحديث عن حضارتنا، ويطبقون المنهج الواقعي، فهو الملائم للغرب (وإن كان ملائما لأوهامنا) عند الحديث عن حضارته. (4)
أما الخطأ المنهجي الرابع لنقاد الاستشراق من المنظور الإسلامي، فهو إصرارهم على رفض كل ما يخرج عن نطاق «الإسلام الرسمي» في معالجة الحضارة الإسلامية . وقد لخص أنور الجندي هذا الموقف حين أكد أن «الاستشراق، بوصفه أداة التغريب والتبشير، يركز على موضوعين: (1) التصوف ووحدة الوجود. (2) الثورات المضادة للإسلام، كالقرامطة والزنج، مع وصفها بأنها إسلامية.»
9
وبطبيعة الحال، فإن الاستشراق لم يترك بقية الموضوعات دون بحث، ولكن مجرد خوضه في هذه الموضوعات الخارجة عن نطاق الإسلام الرسمي، إسلام الخلفاء وفقهائهم، يعرضهم لنقد شديد. وواقع الأمر أن ما يهدف هؤلاء النقاد إلى تجنبه هو تصوير تاريخ الحضارة الإسلامية على أنه تاريخ بشري، له نقاط قوته ونقاط ضعفه، أعني تاريخا تحدث فيه ثورات ويتمرد فيه الناس على الحكام إذا أحسوا أنهم مظلومون، ويرتكب الحكام أنفسهم، في بعض الأحيان، أخطاء قاتلة. فالتاريخ الذي يريدونه تاريخ للقداسة، ولأن هذا التاريخ «إسلامي»، فلا بد أن يصبح بدوره فوق مستوى البشر الفانين ولا بد أن تمحى منه تلك المظالم التي جعلت الناس من آن لآخر يثورون أو يتمردون. كذلك فإن التصوف بدوره خروج على الخط الرسمي، وفيه تجاوز للتفسيرات المباشرة، ومن ثم كان من الضروري استبعاده. ولو ترك الأمر بيد هؤلاء المفكرين لاستأصلوا من التاريخ بأسره كل إشارة إلى ما يخرج عن ذلك التيار الرئيسي الذي تمثله المؤسسة الرسمية للخلافة.
ومن الصعب، في هذه الظروف، أن يتعرف المرء على هذا التاريخ بوصفه تاريخا لأناس عاديين لهم أخطاؤهم وعيوبهم؛ فكل ما يخرج عن إطار المؤسسة ذاتها لا بد أن يكون كفرا وزندقة ومروقا. وكل محاولة لدراسة الحركات التي تؤكد خضوع التاريخ الإسلامي للقوانين التي يخضع لها أي تاريخ بشرى آخر، تقابل بالاستنكار والتشكك والاتهام. وبمثل هذا المنهج يفقد التاريخ أهم عناصره: عنصر الصراع بين القوى المتعارضة، ويرتدي التاريخ عباءة مزيفة بيضاء من غير سوء. •••
إن نقد الاستشراق من المنظور الإسلامي ينطوي في نهاية الأمر على مبدأ أساسي لا يصرح به أصحاب هذا الموقف، ولكنه موجود ضمنا في كل حرف مما يكتبون، هو أننا أصحاب حقيقة مطلقة، وكل من يؤيد حقيقتنا المطلقة على صواب، وكل من يعارضها على خطأ. وإني لأكاد أوقن بأن رد فعلهم إزاء نقد كازدواجية المعايير مثلا هو أنه لا بد أن يكون هناك معيار مزدوج؛ لأن الحق لا يمكن أن يعامل كالباطل، ومن المستحيل وضعهما على قدم المساواة. فتأثر الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية مثلا شيء لا بد منه؛ لأن إشعاع الحق على الباطل ظاهرة إيجابية دائما، أما تأثر الحضارة الإسلامية بالغرب في الوقت الراهن فهو أمر مذموم؛ لأن الباطل فيه يلوث الحق.
وهكذا تواجه جميع الانتقادات بهذا المبدأ الذي يغلق الطريق أمام كل مناقشة منطقية، مبدأ الحقيقة الواحدة المطلقة التي نمتلكها «نحن» ولا يمتلكها «الآخرون». ولو رددت عليهم بأن هؤلاء «الآخرين» لديهم بدورهم حقيقتهم المطلقة، وأنهم يسمون أنفسهم «نحن»، على حين أننا في نظرهم «الآخرون»، المحرومون من الحقيقة المطلقة - لو قلت ذلك لما كانوا على استعداد لسماعك؛ لأن مكانة الحقيقة التي يمتلكونها لا يمكن أن تمسها تلك الأفكار المنطقية «السطحية».
ومعنى ذلك، بعبارة أخرى، هو أن النقد الإسلامي للاستشراق يرتكز أساسا على موقف إيماني، ولا يثير مشكلة حقيقية على المستوى العقلي، ولا يرتكز على حجج قابلة للنقاش. ومن ثم كان هذا المنظور الديني في نقد الاستشراق هو أضعف المنظورات وأقلها جدارة بالمناقشة.
فهو يؤدي إلى استبعاد المعايير العلمية استبعادا تاما عند تقويم أعمال المستشرقين، وكثيرا ما يرى في ضخامة الجهد العلمي الذي بذله المستشرق سببا لمهاجمته بشدة.
10
وهو يزداد تطرفا، فيفسر قيام الاستشراق أصلا بأنه يستهدف «الانتقاص من تعاليم الإسلام ... وتعويضا عن هزائم الصليبية.»
11
والنتيجة الطبيعية لذلك هي رفض الاستشراق بأكمله، ومعه كافة المناهج الحديثة في كتابة التاريخ، على أساس أن «أخلاق الإسلام وآدابه وسننه وسائر ما يكون به الإسلام إسلاما، هي الأصل الذي لا غنى عنه لمن يتعرض لكتابة تاريخ أهل الإسلام.» هذا هو المنهج لا غيره من مناهج البحث، كما تعرف مناهج البحث في العصر الحديث.
12
إنه منهج يؤدي إلى طريق مسدود، يغلق كل ثقافة على نفسها، ويرفض - من حيث المبدأ - رؤية الغير.
النقد السياسي الحضاري
كان الجديد في موقف الباحثين العرب من الاستشراق، هو ظهور نوع آخر من النقد لم تكن دوافعه دينية على الإطلاق، وإنما كانت سياسية حضارية في المحل الأول. وعلى حين أن أصحاب النقد الديني كانوا يهدفون إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد «التشويهات» أو «الانحرافات» التي تتميز بها نظرة كثير من المستشرقين إلى الإسلام، فإن أصحاب النقد السياسي الحضاري يهدفون قبل كل شيء، إلى فضح الأهداف السياسية والتشويهات الثقافية للاستشراق من حيث هو أداة لهيمنة الغرب على الشرق في الميدان الفكري.
ومن الجدير بالذكر أن هاتين الفئتين من النقاد، الدينية والسياسية الحضارية، لا تعترف بالأخرى، ولا تعتمد عليها أو حتى تشير إليها في نقدها للاستشراق؛ فالإسلاميون لا يشيرون من قريب أو بعيد إلى نقاد الاستشراق من المنظور السياسي الحضاري، ولا يقبلون أن يستعينوا بحججهم، حتى ولو كان ذلك صورة ثانوية أو تكميلية. والسبب في ذلك واضح، هو أنهم يدافعون عن الإسلام كعقيدة، على حين أن الآخرين يتحدثون في كثير من الأحيان عن «الشرق» بوجه عام، وإذا تحدثوا عن الإسلام فإنما يقصدون به الإسلام السياسي أو الإسلام كحضارة، ولا شأن لهم بتفنيد «افتراءات» المستشرقين على العقيدة.
ويمكننا أن نعد ظهور هذا النوع - الجديد نسبيا - من نقد الاستشراق مظهرا من مظاهر النضج العقلي للثقافة العربية الحديثة. فهو يؤكد أن عهد الانبهار بالثقافة الغربية قد انتهى، بل إنه يؤذن ببدء العهد الذي تظهر فيه ردود فعل قوية متماسكة لدى المثقفين العرب على الثقافة الغربية التي تكون الجزء الأكبر من حصيلتهم. ولكن يظل هذا النقد برغم كل شيء «رد فعل»، وليس فعلا أصيلا؛ لأن الفعل الأصيل في الحالة التي نحن بصددها ليس نقد الاستشراق وإنما الاستغناء عنه ببديل تعاد فيه دراسة الثقافة العربية على نحو يتم فيه التخلص من أخطاء المستشرقين وتجاوز تحيزاتهم. وهذا الفعل الأصيل، كما نعلم جميعا، لم يحدث بعد.
بل إن هذا النقد للاستشراق، حتى من حيث هو مجرد رد فعل، يثير تساؤلات أساسية سنطرحها فيما بعد بمزيد من التفصيل، ولكن تكفينا الإشارة إليها في سياقنا الحالي. فإلى أي مدى تجاوز نقاد الاستشراق هؤلاء، المنظور الغربي الذي ينتقدونه؟ وهل يعد النقد الذي يقومون به نقدا جذريا بحق، إذا كانت جميع المفاهيم التي يستخدمونها، وجمع المناهج التي يطبقونها، مستمدة من الثقافة الغربية التي نبع منها الاستشراق، هل نستطيع أن نواجه الغرب حقا بذلك النقد الذي يظل في مجمله وتفصيلاته دائرا - من الناحية الفكرية - في فلك الثقافة الغربية؟ هل تستطيع حركة نقد الاستشراق من المنظور السياسي الحضاري، كما نجدها لدى المثقفين العرب الذين تحدد الثقافة الغربية أفقهم العقلي، أن تدفع عن نفسها تهمة كونها شكلا من أشكال النقد الذاتي للحضارة الغربية نفسها؟
هذه أسئلة نكتفي بطرحها الآن، بهدف إيضاح الاختلاف الكبير بين المنطلق الإسلامي والمنطلق السياسي الحضاري في نقد الاستشراق. أما المعالجة التفصيلية لها، فلا بد أن تنتظر حتى يقطع هذا البحث مراحله الهامة. •••
يلخص إدوارد سعيد موقفه من الاستشراق، الذي يقدم أساسا لنقده السياسي الحضاري له، بقوله: «وعلى ذلك فالاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي للبحث، أو ميدان تعكسه الثقافة أو الدراسة أو المؤسسات الأكاديمية بطريقة سلبية، كما أنه ليس مجموعة النصوص الضخمة أو المتنوعة عن الشرق، ولا هو يمثل أو يعبر عن مؤامرة إمبريالية «غربية» لعينة من أجل إخضاع العالم «الشرقي». بل إنه توزيع للوعي الجيوبوليتيكي على نصوص جمالية وأكاديمية واقتصادية وسوسيولوجية وتاريخية وفيلولوجية، وهو توسيع لتمييز جغرافي أساسي (هو تقسيم العالم إلى جزأين غير متساويين، الشرق والغرب) ولسلسلة كاملة من المصالح يخلقها الاستشراق ويحافظ عليها من خلال الكشف العلمي والتحقيق الفيلولوجي والتحليل النفساني والوصف الجغرافي والاجتماعي ... والواقع أن الفكرة الحقيقية التي أدافع عنها هي أن الاستشراق هو ذاته بعد هام من أبعاد الثقافة الحديثة السياسية والعقلية، وليس مجرد ممثل لهذه الثقافة، ومن ثم فإنه يتعلق «بعالمنا» أكثر مما يتعلق بالشرق.»
1
وهو يزيد هذه الفكرة الأخيرة إيضاحا فيقول في موضع آخر إن الاستشراق يرتبط بمصدره، أي الغرب، أكثر مما يرتبط بموضوعه، أي الشرق، فللاستشراق صلة وثيقة بالحضارة المسيطرة التي أنتجته.
2
في هذا الإطار العام يمكن القول إن إ. سعيد قد جمع حول آرائه مدرسة كاملة في نقد الاستشراق، تطرح مجموعة من القضايا وتوجه إليها انتقاداتها لكونها مسلمات لا تتم مناقشتها، أو مغالطات صريحة، أو تعبيرا عن تحيزات ظاهرة، أو عن افتقار إلى شروط الموضوعية العلمية: (1)
فالاستشراق تأثر بتراث قديم انحدر إليه من تحيزات العصور الوسطى الأوروبية ضد الإسلام (وبخاصة نتيجة للعداء الدعوي بين الإسلام والمسيحية في الحروب الصليبية)، وهذا التراث كامن في كتابات المستشرقين بحيث يكون من الصعب عليهم إن لم يكن من المستحيل التخلص منه. (2)
وهو قد تأثر بالاعتبارات السياسية والنزوع إلى السيطرة، بحيث أصبح يعكس نظرة الغرب «القوي» إلى الشرق الضعيف. وهكذا كانت المقولات التي يستخدمها الاستشراق مقولات تتسم أساسا بالمركزية الأوروبية، وكانت نظرة إلى الشرق تستمد كلها من علاقة مفترضة بين هذا الشرق والغرب، ولا تتناول الشرق بوصفه كيانا مستقلا له تطوره الخاص. (3)
وهو يتحدث عن كيان ثابت باسم «الشرق»، أو «الإسلام»، ويضفي على هذا الكيان صفات متحجرة. أي إنه ينكر الشرق كدينامية وتاريخ، وينكر ما فيه من تعدد وتنوع، وإنما يجعل منه «جوهرا» غير قابل للنمو أو التغيير.
هذه الانتقادات، كما هو واضح، تثير مشكلات متعلقة بالمنهج، وبالأبستمولوجيا أو علم المعرفة من جهة، وبمضمون العلم الاستشراقي من جهة أخرى. وعلينا أن نسير في بحثنا للموضوع وفقا لهذا التقسيم، لا لكي نبحث في مدى صحة الاتهامات التي توجه إلى الاستشراق فحسب، بل لكي نختبر - وهو الأهم - موقف ناقدي الاستشراق أنفسهم، ونرى إلى أي حد كانت انتقاداتهم متسقة مع ذاتها.
المشكلات المنهجية والأبستمولوجية
يثير النقد السياسي والحضاري للاستشراق مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية من خلال البحث في مدى نزاهة البحث الاستشراقي وحريته. فالبحث في الشرق، كما يرى أ. سعيد، لا يمكن أن يكون موضوعيا أو حرا؛ لأنه خاضع دائما لاعتبارات تبعده عن النزاهة، كالاستعلاء أو الرغبة في السيطرة أو التمركز الأوروبي حول الذات، فضلا عن تداخل الخيال والصور النمطية والاتجاهات النفسية الموروثة منذ العصور الوسطى الأوروبية. فهناك إذن تشويه أساسي في الاستشراق، بحيث إنه في حقيقته أقرب إلى أن يكون مظهرا للقوة التي تمارسها أوروبا والأطلسي على الشرق ، منه إلى أن يكون وصفا صادقا لأحوال الشرق.
3
فهو محاولة من علماء ينتمون إلى قوى كبرى ذات مصالح ضخمة، من أجل فهم عالم مغاير لهم، توطئة للسيطرة عليه. ومن هنا كانت العوامل السياسية فيه متداخلة مع العوامل الثقافية، وكانت المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تضمن استمراريته، وإحكام الروابط بين حلقاته.
ولكن هذا النقد يفترض مجموعة من المسلمات التي لا تصمد كثيرا أمام الاختبار العقلي الدقيق: (1)
أولى هذه المسلمات هي إمكان قيام موضوعية خالصة في ميدان العلوم الإنسانية. والواقع أن أبحاث عالم اجتماع المعرفة، والتاريخ الاجتماعي للعلم، تتجه إلى تأكيد وجود طابع أيديولوجي تخضع له كل معرفة بشرية بدرجة أو بأخرى، وتعمم هذا الحكم بحيث يسري حتى على تلك العلوم التي نفترض فيها أكبر قدر من الحياد والموضوعية، كالعلوم الطبيعية. وإذا كانت هذه الحالة الأخيرة المتطرفة تقبل النقاش، فمن المؤكد أن العلوم الإنسانية تكشف عن هذا الطابع الأيديولوجي بوضوح أكبر. ومن ثم كان من حقنا أن نطلب إلى من ينقدون الاستشراق بسبب افتقاره إلى الموضوعية، أن يحددوا لنا ذلك المعنى المجهول «للموضوعية» الذي يطالبون به، لكي نرى إن كانت هذه ممكنة أصلا في أي علم إنساني. إن المؤرخين على سبيل المثال قد اعترفوا منذ وقت طويل بأن المؤرخ لا يستطيع أن يكون على الدوام مشاهدا محايدا لا يتدخل في تفسير الأحداث من منظوره الخاص، وأن كل تأريخ هو «رؤية» وليس رواية تامة النزاهة، متحررة من كافة التحيزات. وهكذا يبدو أن نقاد الاستشراق يتوقعون منه المستحيل، أو ينتقدونه لأسباب يشترك فيها مع كل أنواع المعرفة التي تتخذ لها موضوعا من الإنسان - أعني - إذا كان إنسانا ينتمي إلى حضارة معينة.
وبطبيعة الحال فإن من حق القارئ أن يطلب إلى ناقد الاستشراق أن يقدم إليه البديل المنهجي الذي يريده. ففي وسعنا أن نوافق هذا الناقد - جدلا - على أن الاستشراق يقدم للشرق صورة شوهها التحامل والرغبة في السيطرة، ولكن من الواجب عندئذ أن نسأله: كيف كنت تريد منه أن يصور الشرق؟ فإذا بحثنا عن رد على هذا السؤال، واجهتنا إجابات أقل ما توصف به هو أنها غير مقنعة.
ولنأخذ موضعا من المواضع التي نستطيع أن نستنتج منها البديل المطلوب، فسعيد يضرب مثلا بكتاب «وصف مصر» الذي ألفه العلماء المصاحبون لنابوليون في الحملة الفرنسية، فيقول إنه نموذج لكتب الاستشراق الأخرى، إذ كان هدفه هو أن يجعل الشرق مفهوما، ويجعل الإسلام مأمونا، بالنسبة إلى الغرب. ويعلق على ذلك بقوله: «ذلك لأن الشرق الإسلامي سيظهر من الآن فصاعدا على أنه مقولة تعبر عن قوة المستشرقين، لا عن الشعب الإسلامي كبشر، ولا عن تاريخهم كتاريخ.»
4
من هذا التعليق نستطيع أن نستنتج أن البديل الذي يراد أن يحل محل المنهج الاستشراقي، هو أن ينسلخ الباحث الغربي عن ماضيه وثقافته لكي يعايش شعبا آخر وينظر إليه من منظور خاص بهذا الشعب وحده، وهو مطلب مستحيل. بل إن الأمر يصل إلى حد وصف المناهج العلمية الأوروبية التي استخدمت في الكتاب بأنها تعبير عن السيطرة الأوروبية،
5
وكأن المطلوب هو التخلي عن مستوى معين بلغته طرق البحث العلمي - وهو مستوى يستحيل التراجع فيه أو التنازل عنه - من أجل إبعاد شبهة السيطرة.
وربما كان في وسعنا أن نستنتج البديل المطلوب بصورة أوضح من ذلك النص الذي يقول فيه مؤلفنا إن المستشرق يقدم في تصويره دائما «معرفة لا تتصف أبدا بأنها خام، أو مباشرة بلا توسط، أو موضوعية فحسب
Never raw, unmediated or simply objective »،
6
وهكذا يبدو أن المطلوب من المستشرق، لكي يتخلص من الاتهام بالتشويه، هو أن يقدم المعرفة في صورتها الخام، بلا توسط، وفي موضوعيتها المجردة. فهل هناك باحث يستطيع أن يقدم معرفة كهذه في مواجهته لحضارة أخرى؟ وهل مثل هذه المعرفة أصلا ممكنة في ميدان بحث الإنسان للإنسان؟ وهل سيكون هذا الشيء الهلامي الغامض مفيدا، حتى لو أمكن تقديمه في صورته الخام، بلا تفسير أو «توسط»؟
على أية حال، فمن الملفت للنظر أن الكاتب نفسه يؤكد استحالة الوصول إلى هذا الغرض الحيادي المطلق في ميدان المعرفة الإنسانية بوجه عام. فبعد أن يؤكد أن الغرب أساء تصوير الإسلام بصورة أساسية، يتساءل إن كان من الممكن قيام تصوير
Representation
صحيح لأي شيء، ويرى أن أي تصوير يخضع للغة القائم به وثقافته ومؤسساته وجوه السياسي، ويتم في ميدان يتحكم فيه تراث وتاريخ وجو عقلي لا يستطيع الباحث المنفرد أن يستقل عنه، وإن كان يسهم بالجديد فيه. وهكذا فإن أي بحث جديد يحدث قدرا من التغيير في ميدانه، ولكنه يساعد في الوقت نفسه على تثبيت هذا الميدان.
7
هذا الإدراك لفكرة مألوفة هي النسبية العقلية والثقافية، وتطبيقه على جميع الحالات التي يقوم فيها باحث ينتمي إلى ثقافة معينة بتصوير ثقافة أخرى، كفيل بأن يخفف إلى حد بعيد من غلواء الأحكام التي أطلقت من قبل على الاستشراق. فالمستشرق وفقا لهذا الرأي يخضع لنفس القيود التي يخضع لها عالم الاجتماع والناقد الأدبي والمؤرخ. ومن هنا كان «العظم» على حق حين أشار إلى فكرة النسبية هذه قائلا إنها تعفي الباحث الغربي من أية مسئولية عن التشويه المتعمد لصورة الشرق؛ لأنه بذلك إنما يستجيب لصفة تنتمي إلى طبيعة العقل نفسه، وهي أنه يحيل كل شيء يكون لنفسه تصورا عنه، إلى شيء ملائم له.
8
والفكرة التي نود أن ندافع عنها هي أن رؤية المثقف الذي ينتمي إلى حضارة معينة، لحضارة أخرى، هي رؤية تتم في ظروف بالغة التعقيد، ولا يمكن إخضاعها لذلك النمط الواحد الذي حاول «سعيد» أن يخضع لها الرؤية الاستشراقية، أعني نمط التشويه الذي يتم بدافع القوة والسيطرة والحماس بالتفوق. وسوف تتكشف لنا هذه الحقيقة خلال هذا البحث بالتدريج. (2)
يقع مؤلف كتاب «الاستشراق» في خطأ الانتقائية. فهو منذ مستهل كتابه يعترف بوضوح بأن قضيته الأساسية في الربط بين الاستشراق والإمبرالية تنصب على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، ثم الأمريكي في العهد القريب. وهو يعترف بأهمية الاستشراق الألماني والإيطالي والهولندي والسويسري (ونستطيع أن نضيف: الروسي والمجري والإسباني والفنلندي، ... إلخ)، ولكنه يرى أن أحكامه لا تنطبق على هذا النوع الأخير، الذي يستحق أن يكتب عنه بطريقة مستقلة. وهو في موضع آخر يؤكد أن النوع الأول، أي الإنجليزي والفرنسي، هو الأساس، وهو الذي يجمع بين الجوانب الثقافية والتجارية والاستعمارية والخيالية في مركب واحد. «إن وجهة نظري هي أن الاستشراق مستمد من تلك الصلة الوثيقة الخاصة التي تربط بين إنجلترا وفرنسا وبين الشرق، الذي كان يعني حتى نهاية القرن التاسع عشر الهند وأرض الكتاب المقدس فقط.»
9
وربما اعترض بعض الباحثين على الحكم القائل إن الاستشراق الإنجليزي والفرنسي أهم من الألماني والإيطالي والروسي، ولكن المسألة الهامة في نظرنا لا تكمن في مثل هذا الاختلاف في التقويم، ففي استطاعتنا أن نقبل هذا الحكم على علاته، ولكن يظل السؤال الأهم هو: كيف استطاعت الحضارة الأوروبية أن تنتج نوعا آخر من الاستشراق، لا تختلط فيه الأطماع التوسعية بالاعتبارات العلمية؟ إن معنى ذلك هو أننا نستطيع أن نتصور استشراقا بدون هيمنة، أو بدون مضامين سياسية. ووجود هذا النوع معناه أن الحضارة الغربية استطاعت أن تنتج دراسة للشرق لا تخضع - أو لا تخضع في المحل الأول - لمطالب مجتمع متفوق يسعى إلى السيطرة. وهذه الظاهرة ذاتها يمكن أن تلقي ظلا من الشك على قضية سعيد بأكملها، إذ لا يعود الخضوع للإمبريالية هنا سمة مميزة للاستشراق من حيث هو مؤسسة علمية، بل يصبح سمة تميز مجتمعات معينة، أبدت اهتماما خاصا بالاستشراق تحقيقا لأطماعها الخاصة، وإن لم يكن منتميا إلى «جوهر» الاستشراق في ذاته. ويترتب على ذلك أن التركيز على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، والأمريكي فيما بعد، معناه انتقاء العينة التي تخدم استنتاجا وضع مقدما، وتمت البرهنة عليه من خلال النماذج المؤيدة له وحدها. (3)
وهناك نقطة ضعف ثالثة تميز موقف عدد كبير من نقاد الاستشراق في العالم العربي المعاصر، هي وقوعهم في شكل من أشكال المغالطة المنشئية
Genetic Fallacy ، فمن الخطأ كما يعرف كل دارس للمنطق أن نخلط بين منشأ الشيء أو أصله وبين حالته الراهنة. ومن الممكن جدا أن يكون الاستشراق، في بلاد معينة، قد نشأ تلبية لحاجات استعمارية، ولكن هذا الأصل لا يتعين أن يلازمه، ويؤثر في حكمنا عليه، طوال مساره اللاحق؛ ذلك لأن العلم يكتسب بمضي الزمن قدرة على التطور المستقل عن الأصل الذي نشأ منه، ومن الممكن أن يتباعد بالتدريج عن هذا الأصل إلى حد السير في اتجاه مضاد له. ومن طبيعة العلم أن تصبح له، بحكم الممارسة المستمرة، حياته الخاصة، ونموه الخاص، بغض النظر عن الظروف التي نشأ فيها والدوافع التي أدت إلى ظهوره.
ونستطيع أن نضرب لذلك أمثلة لا حصر لها، تنتمي إلى ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية معا. فعلم الفلك ظل طوال الجزء الأكبر من تاريخه مرتبطا بالتنجيم وقراءة الطالع، وحتى عندما أصبح علما دقيقا في مطلع العصر الحديث، ظل لفترة غير قصيرة محتفظا بآثار من هذا الأصل الأول. ولكن مما يدعو إلى السخرية بطبيعة الحال أن نحكم على إنجازات علم الفلك المعاصر من خلال الأصل الذي نشأ منه. ومثل هذا يقال عن الكيمياء، التي ترجع جذورها إلى أوهام السيمياء وخرافاتها. وكلنا نعلم أن علوم الفضاء قد نشأت في ظروف الحرب الباردة وارتبطت بأهداف عسكرية عدوانية أو دفاعية، ولكن هل يستطيع أحد أن ينكر أن كثيرا من إنجازات هذه العلوم قد استقلت عن الأصل الذي نشأت منه، وأن قيمتها في الحاضر والمستقبل تتجاوز بكثير نطاق الأغراض العسكرية؟ وأخيرا، فإن الأنثروبولوجيا كانت مرتبطة بالاستعمار بصورة صريحة لم ينكرها مؤسسو العلم ذاته، فالغرب المتفوق كان يسعى إلى فهم الشعوب البدائية والقديمة «من الداخل» كيما يستطيع أن يحكم سيطرته عليها (وهو في هذه الناحية يسير في خط متواز، بصورة ملفتة للنظر، مع الأصول الأولى للاستشراق). ولكن هل يعني ذلك أن ننكر القيمة التي اكتسبها هذا العلم بعد أن أصبح له مساره الخاص، واكتسب صفات جديدة تختلف عن الأصل الذي بدأ به؟ هل ينبغي أن تظل الأنثروبولوجيا علما «استعماريا» إلى الأبد، لمجرد أن نشأتها كانت كذلك؟ (4)
أما الملاحظة الأخيرة على النقد السياسي للاستشراق، فتشير إلى تناقض كامن في صميم هذا النقد؛ ذلك لأن الاستشراق وفقا لأصحاب هذا النقد هو من جهة أحد الأسلحة التي يستخدمها الغرب المتفوق من أجل السيطرة على الشرق؛ وهو لهذا السبب ليس علما خالصا، أو موضوعيا، أو حرا، وإنما هو علم مشوه. وفي رأينا أن هاتين القضيتين متناقضتان، فإذا سلمنا بالقضية الأولى، كان من الضروري أن نرفض الثانية أو نحصرها على الأقل في أضيق نطاق.
وفي هذا الصدد، نود أن نقتبس نصا من مقال حديث العهد، يظهر فيه هذا التناقض بوضوح تام: - لماذا يريد الغربيون معرفة كل شيء عن الشرقيين وعن المسلمين؟ - الإجابة في نظرنا تتلخص في أمرين: الأمر الأول: أن المعرفة الكاملة عن «الآخر» تسهل للشخص المعني طريقة وكيفية التعامل مع هذا الآخر، وعلى كل الأصعدة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. الأمر الثاني: أن دراسة الحضارة الإسلامية داخل إطار المشروع الثقافي الغربي، وبالمناهج والمفاهيم والمقولات والأفكار المسبقة، والنوايا غير الخالصة للغرب الاستعماري، كل ذلك يمكنه من تقديم هذه الحضارة لأصحابها كما يريد لها هو أن تكون.
10
هناك إذن - وفقا لهذا الرأي - هدفان للاستشراق: التعامل الناجح مع الآخر الذي يصل إلى حد «المعرفة الكاملة»، ثم عرض الحضارة الإسلامية للمسلمين كما يريد الغرب لهم أن يروها، أي عرضها عرضا مشوها ومزيفا ومشوبا بالخداع. فكيف يستطيع الاستشراق تحقيق هذين الهدفين معا؟ إن الهدف الأول يقتضي فهم «الآخر» فهما صحيحا؛ لأن التعامل الناجح يصبح مستحيلا إذا كان المستشرقون يغشون أنفسهم ويغشون جمهورهم، كما هو وارد في الهدف الثاني. فإذا كان الاستشراق هو الأداة الثقافية المسيطرة الاستعمارية، فلا بد أن يكون فيه على الأقل قدر كبير من الحقائق، بدليل أنه يمهد لهذه السيطرة بالفعل. ولو كان التشويه والتزييف هو الغالب عليه لكان معنى ذلك أن الاستشراق معوق للاستعمار وليس مساعدا له. وقد أدرك هذه الحقيقة أحد الباحثين العرب حين أشار إلى أن دراسات المستشرقين لم تكن جميعها متعلقة بشرق وهمي، ولو كانت كذلك لما فهمونا وسيطروا علينا.
11
لنسلم بأن الاستشراق معرفة من أجل القدرة والسيطرة
Savoir Pour
، ولنتساءل: ألم يكن هذا هو شعار العلم الغربي، سواء منه الطبيعي والإنساني، منذ عهد بيكن حتى اليوم؟ ألم يطالب ديكارت بمعرفة تجعلنا «سادة الطبيعة ومالكيها»
Maîtres et Possesseurs de la Nature ؟ إن الاستشراق في بعض جوانبه يمكن أن يكون بدوره معرفة تجعل الغربيين «سادة الشرق ومالكيه
Maîtres et Possesseurs de l’Orient »، ولكن هل كانت المعرفة المسيطرة التي دعا إليها بيكن وديكارت معرفة مزيفة أو مشوهة لأنها لم ترفع شعار العلم الخالص؟ الواقع أن شعار المعرفة النظرية الخالصة المقصودة لذاتها فحسب، هو الذي كان يؤدي إلى تزييف العلم وتشويهه في العصور القديمة والوسطى، وأن اتخاذ السيطرة والقدرة على امتلاك الواقع هدفا للعلم هو الذي جعله ينتقل من كشف إلى كشف، ومن نجاح إلى نجاح. ولا بد لنا في هذا الصدد أن نميز بين هدف العلم ومحتواه، فقد لا يكون الهدف موضوعيا، ومع ذلك يظل المحتوى أو المضمون صحيحا. وكل محتوى صحيح يمكن توظيفه لأهداف مغرضة، كالسيطرة والاستعمار، كما يمكن توظيفه لأهداف الفهم والمعرفة وتوسيع قدرة العقل البشري. وهنا نعود مرة أخرى إلى ضرب مثال لعلوم الفضاء، فصحيح أن هذه العلوم لا تستهدف في معظم الأحيان غايات معرفية خالصة، وإنما تستهدف السيطرة وقهر الخصوم، وتكون جزءا من الصراع الاستراتيجي بين المعسكرين الكبيرين، ولكن هل ينفي هذا أن هذه العلوم قد وصلت إلى مجموعة هائلة من الحقائق من الطبيعة والفضاء الخارجي، وأضافت رصيدا ضخما إلى المعرفة الموضوعية، ولولا ذلك لما تمكنت من تحقيق هدف القوة والسيطرة الذي تسعى إليه؟
والنتيجة التي نخلص إليها من ذلك هي أنه، حتى لو كانت هناك أهداف «غير موضوعية» لنوع معين من المعرفة، فإن هذا لا يسلب هذه المعرفة صفة الحقيقة بالضرورة، بل إن حقيقتها - وليس زيفها وتشويهها - هي التي تساعدها على تحقيق أهدافها «غير الموضوعية». •••
هكذا ينكشف لنا، من خلال هذه المعالجة المنهجية للنقد السياسي للاستشراق، أن هذا النقد يرتكز على مجموعة من المسلمات التي تقبل قدرا كبيرا من المناقشة والجدل. وليس الهدف من المناقشة التي أجريناها هنا بالطبع هو تنزيه الاستشراق من العيوب - كما قد يفهم من النظرة السطحية إلى البحث - بل إن الهدف الحقيقي هو أن نكون متسقين مع أنفسنا عندما نريد أن نوجه نقدا جذريا إلى مبحث هام كالاستشراق، وأن نتجنب التناقض حتى لا يبدو النقد الذي يوجهه مثقفونا في نظر الغربيين تمردا متسرعا على ثقافة راسخة من أصحاب ثقافة أخرى لم تبلغ بعد مرحلة النضوج.
الاستشراق ومشكلة حدود الاتصال بين الثقافات
في اعتقادي أن المشكلة الحقيقية التي يثيرها نقد المثقفين العرب للاستشراق على أسس سياسية حضارية، هي مشكلة حدود الاتصال بين الثقافات. فالاستشراق نموذج لعلم يرتكز كله على فكرة الاتصال هذه؛ إذ يقوم فيه باحثون ينتمون إلى ثقافة معينة بدراسة متعمقة، ربما استغرقت منهم حياتهم كلها، لثقافة أخرى أجنبية بالنسبة إليهم. فما هي حدود الفهم الذي يستطيع هؤلاء بلوغها؟ وهل يؤدي التفرغ والتخصص التام إلى اندماج كامل في الثقافة الأخرى، أم أن الانتماء الأصلي للمستشرق إلى نمط آخر في التفكير وفي النظرة إلى الحياة يحتم وجود حدود معينة لاتصاله بالثقافة الأخرى، مهما حاول أن يندمج فيها؟
إن القضية التي أدافع عنها هي أن هذه هي المشكلة الكبرى والأساسية في موضوع الاستشراق. وكما يظهر بوضوح، فإن هذه المشكلة أوسع بكثير من مسألة الهيمنة التي تمارسها مجتمعات تتخذ من دراستها لمجتمعات أخرى وسيلة للسيطرة عليها، ومن الإحساس بالتفوق الذي يتملك الغرب إزاء الشرق. ففي ضوء القضية التي نطرحها، لا يعود التشويه والتجويف عملية تتم من طرف واحد قوي أو مسيطر إزاء طرف آخر ضعيف أو خاضع، وإنما يصبح عملية متبادلة يشترك فيها الطرفان معا. وترجع قبل كل شيء إلى تلك الحدود التي لا يستطيع أن يتخطاها أي اتصال بين ثقافتين متباينتين.
وسوف نركز بحثنا في الجزء القادم على ذلك الطابع المتبادل للتشويه وسوء الفهم بين الثقافات، لكي نثبت أن النظرة الأحادية الجانب للاستشراق ما هي إلا جزء من كل أوسع منها بكثير، وأن كل ثقافة لا تدرك الثقافة الأخرى إلا من خلال منطقها الخاص، وتعجز عن الاندماج في منطق الثقافة الأخرى ورؤية الأمور من منظورها هي بطريقة كاملة.
ومن الملاحظ أن إ. سعيد يرفض هذا المنظور بأكمله، ويرد عليه مقدما، وذلك في قوله: «إن العيوب المنهجية للاستشراق لا يمكن تفسيرها بالقول إن الشرق الحقيقي يختلف عن الصورة التي يقدمها المستشرق له ، أو بالقول إنه لا يتوقع من المستشرقين الذين هم غربيون في معظم الأحيان أن يكون لديهم حس داخلي بحقيقة الشرق، فهاتان القضيتان باطلتان معا؛ ذلك لأن هذا الكتاب لا يتخذ الموقف الذي يوحي بأن هناك شيئا اسمه الشرق الحقيقي أو الصحيح (إسلاميا كان أم عربيا أم أي شيء آخر)، كما أنه لا يؤكد أن المنظور «الداخلي» متميز بالضرورة عن المنظور «الخارجي» ... بل إن ما أدافع عنه على عكس ذلك هو أن «الشرق» ذاته كيان مصنوع، وأن الفكرة القائلة بوجود أماكن جغرافية لها سكان أصليون «مختلفون» جذريا يمكن تعريفهم على أساس عقيدة أو ثقافة أو جوهر عرقي خاص بذلك المكان الجغرافي هي بدورها فكرة مشكوك فيها إلى حد بعيد.»
12
وبطبيعة الحال، فإن القضية حين تختزل إلى أماكن جغرافية يصبح نقدها أمرا يسيرا. غير أن التقابل الحقيقي إنما هو تقابل بين ثقافات ومجتمعات يحمل كل منها تاريخا كاملا. ومحاولة طمس الاختلاف بينها وإنكاره على هذا النحو المطلق أمر يدعو إلى الاستغراب بحق. صحيح أن هذا الاختلاف يمكن أن يشوه، ويمكن أن يعلل بأسباب باطلة، ولكن وجوده هو ذاته أمر لا يمكن إنكاره بهذه السهولة، لأنه ببساطة حقيقة من حقائق الحياة في الحاضر وخلال التاريخ.
ومن هنا فإننا سنتجاوز عن هذا الاعتراض ونمضي في عرض أبعاد المشكلة من منظورها الأوسع؛ منظور حدود الإدراك المتبادل بين الثقافات، لكي نثبت أن صعوبات الاستشراق تفسر على نحو أفضل من خلال هذا المنظور. (1)
إن نقاد الاستشراق يجدون غرابة في التقسيم الجغرافي الذي يقتطع فيه نصف العالم ليصبح كتلة واحدة متجانسة هي «الشرق»، ويؤكدون الطابع التعسفي لهذا التقسيم الذي يضع فيه البعض سورا حول أنفسهم ويسمون كل من يخرج عن حدودهم «غرباء» أو «برابرة»، وتصبح أرض الغرباء مقرا لأناس لهم سمات تميزهم ثقافيا، لا مكانيا فقط، عمن يسكنون «أرضنا».
13
والآن، هل هذه حالة تقتصر على موقف المستشرقين من الشرق؟ ماذا نقول إذن عن وصف اليونانيين لكل من هو غير يوناني بأنه من «البرابرة»، وعن وصف اليهودية للشعوب الأخرى بأنهم هم «الأغيار» (جوييم )؟ وماذا نقول في وصف المسيحية لهم بلفظ
Gentiles ؟ أما فيما يتعلق بالإسلام، فإن الموقف يصبح أشد وضوحا؛ ففي الإسلام تمييز واضح محدد المعالم بين «دار الإسلام» و«دار الحرب». وهنا لا يكون الأمر مجرد تمييز جغرافي أو ثقافي، وإنما تصطبغ العلاقة منذ البدء بصبغة العداء، فكل من يخرج عن حدودنا العقيدية والثقافية والمكانية يعرف بأنه موضوع للحرب. ولعل هذا أن يكون أقوى تأكيد لتلك القسمة الثنائية التي لا يعد التقسيم إلى غرب وشرق إلا مظهرا واحدا من مظاهرها، والتي ترجع إلى أسباب تتعلق بحدود الاتصال بين الثقافات، لا بالاستعلاء الغربي أو المركزية الأوروبية وحدها، بدليل أن مظاهرها خارج النطاق الأوروبي، والغربي عامة، واضحة كل الوضوح. (2)
ومثل هذا يقال عن التشويه التاريخي لصورة الشرق في أوروبا، الذي يتتبعه مؤلف كتاب «الاستشراق» حتى عهد هوميروس ويوريبيدس وغيرهم من الشعراء والأدباء في العصور القديمة. فالصورة ليست أحادية البعد إلى هذا الحد؛ ذلك لأننا نجد في صميم العصر الأوروبي الكلاسيكي ذاته تمجيدا هائلا للشرق وانبهارا به. وحسبنا أن ننبه إلى إشارة أفلاطون المشهورة إلى الشرق، في محاورة طيماوس، على أنه منبع الحكمة، وسخريته من اليونانيين بوصفهم أطفالا بالقياس إليه، وهي الإشارة التي يعلق عليها مؤرخ العلم الكبير «سارتون» بقوله إن أفلاطون قد تحدث عن اليونانيين كما يتحدث الأوروبي المعاصر عن الأمريكيين، بوصفهم «محدثي» ثقافة، ومثل هذا يقال عن إشارات الكتب المختلفة عن «حياة الفلاسفة» في العالم القديم إلى تلك الرحلة التقليدية إلى الشرق، التي قامت بها أهم الشخصيات الفلسفية اليونانية وعادت بعدها ناضجة مهيأة للحياة الفلسفية. وهذا ما دعا الباحثين العرب الآخرين إلى أن يصدروا على هذا الموضوع أحكاما مختلفة كل الاختلاف. ويكفي في هذا الصدد أن نقارن بين رأي إ. سعيد والرأي الآتي لسهيل فرح: «مع بروز الحضارة اليونانية التي شكلت الامتداد الطبيعي للحضارات الشرق-أوسطية، التي تأثر بها أرسطو كثيرا، كان يعتبر الفيلسوف الإغريقي بأن أوروبا الباردة، باستثناء اليونان، بحكم طبيعتها الخارجية، غير قادرة على التطور، ذلك حسب رأيه ؛ لأن العقل الأوروبي خامل غير كفء لبناء مجتمع متحضر. وكان يرى المقياس والقدرة لشعوب الشرق الأوسط التي أنتجت حضارات عريقة. فالصراع الذي حدده المفكرون آنذاك هو صراع جغرافي بين الشرق المتنور الديناميكي والغرب البارد الجاحد.»
14
ومن هذا كله يتضح أن مسألة تحامل اليونانيين، ثقافيا، على الشرق القديم ليست بالبساطة التي يعرضها بها إ. سعيد كيما تدخل في القالب العام الذي حدده لصورة الشرق لدى الغرب، فالصورة ليست تشويها خالصا، وإنما يوجد إلى جانب هذا التشويه تمجيد واضح. (3)
أما فكرة «الشرق المختلف» أو «الشرق المتشابه» فهي أيضا من الأفكار التي يحرص الاستشراق على إبرازها، ولكنها بدورها جزء كبير من ظاهرة أوسع بكثير. إن الشرق يفهم، في كتابات كثير من المستشرقين، على أنه هو «المختلف» عن الغرب أو نقيضه. ولكن الشرق هو أيضا المشابه للغرب، الذي يعاد تحويله بحيث يدرك من خلال مفاهيم غربية، ويعاد تمثله بطريقة تقربه إلى الغرب.
15
وفي وسع المرء أن يعترض على هذا النوع من النقد اعتراضا شكليا، فكيف ينقد الاستشراق إذا صور الشرق بأنه هو «الآخر» أو «المختلف» أو «المضاد»، ثم ينقد أيضا إذا صوره بأنه «المشابه» الذي لا يفهم إلا بمقولات الغرب؟ ما هي الصورة التي تريحنا، كشرقيين، ونقبلها من الدارسين الغربيين، إذا كانت صورة الاختلاف تثير اعتراضنا، وصورة التشابه لا تعجبنا؟ ومتى يكون المستشرقون في نظرنا منصفين؛ إذا صورونا بأننا مختلفون عنهم ومضادون لهم، أم بأننا مشابهون لهم؟
ولكن هذا الاعتراض الشكلي يمكن أن يجاب عنه بالقول إن التشابه والاختلاف معا يمكن أن ينظر إليهما على أنهما وجهان لعملة واحدة، هي التركز حول الذات لدى الباحثين الغربيين. فمن مظاهر هذا التركز حول الذات أن يفهم الشرق بمقولات غربية، وينظر إليه على أنه «غرب ناقص أو غير مكتمل»، كما أن من مظاهره أن يصور الشرق بما ليس في الغرب، فيقال إنه هو السحري أو اللاعقلاني أو العاطفي في مقابل عقلانية الغرب، ويقال إنه هو المتحجر، في مقابل ديناميكية الغرب، ... إلخ.
وفي هذه الحالة سنجد أن الماركسية ذاتها لم تخل من هذا النوع من المركزية الأوروبية، ففيها افتراض ضمني هو أن هناك خطا واحدا لتطور المجتمعات، هو الخط الذي سار عليه التاريخ الأوروبي من العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية. وإذا كان هذا الخط مفتقدا في المجتمعات الشرقية، فإنها تشكل نموا ناقصا لم يكتمل لكي يصل إلى المجتمع الصناعي الديمقراطي الذي وصل إليه الغرب. ولقد حدثت محاولة لتعويض هذه المركزية الأوروبية في إشارات ماركس إلى «نمط الإنتاج الآسيوي»، ولكنه لم يحاول أن يتوسع في الفكرة إلى الحد الذي تكون معه نظرية تقف إلى جانب النظرية الخاصة بالتطور الاجتماعي الأوروبي. وهكذا يظل هناك افتراض ضمني هو أن المقاييس الغربية هي الوحيدة التي يمكن الاعتراف بها، وأن تاريخ الشرق ليس إلا سلسلة من النواقص أو السلبيات، مثل عدم وجود طبقة وسطى فعالة يبنى على أكتافها نظام رأسمالي، وعدم وجود حقوق سياسية، وعدم وجود ثورات اجتماعية بالمعنى الصحيح.
16
وهكذا يختلف الموقف الماركسي جزئيا عن الموقف الاستشراقي التقليدي الذي يرجع تخلف المجتمعات الشرقية إلى سمات سلبية كامنة في هذه المجتمعات، بينما ترجع الماركسية هذا التخلف إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية وتقسيم العمل العالمي، الذي يجعل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في حاجة إلى مجتمعات هامشية ذات إنتاج مبعثر قوامه المواد الخام التي يقوم الغرب بتصنيعها. ولكن الموقفين يشتركان معا في أن مركز الإشارة يظل هو الغرب، ولا تفهم المجتمعات الشرقية إلا في علاقتها بهذا المركز، سواء أكانت علاقة تضاد أم علاقة نمو ناقص متخلف عاجز عن اللحاق بالأصل.
هذا التحليل الذي يقدمه نقاد الاستشراق العرب هو إذن صحيح في جوهره، ولكنه تحليل ناقص؛ ففي مواجهة اتهام الغربيين للشرق بأنه غرب مضاد أو غرب لم يكتمل، يتهم العرب هؤلاء الغربيين بأنهم متمركزون حول ذاتهم وعاجزون عن الخروج عن إطار مقولاتهم. وكلا الصورتين يمكن أن تكون صحيحة في ذاتها، ولكنهما معا مظهران لحقيقة أعمق، هي الحدود التي لا يمكن أن يتعداها التفاعل بين الحضارات. وأبسط دليل على ذلك هو أن الشرق، في نظرته إلى الغرب، يقع في أخطاء منهجية مشابهة إلى حد بعيد لتلك التي نلاحظها لدى بعض المستشرقين.
فلدى الكثير من أصحاب الاتجاهات الإسلامية تصور للمسيحية على أنها نوع من الإسلام الناقص. وقد أشرنا من قبل إلى الفكرة الإسلامية الواسعة الانتشار التي تقول بوجود إنجيل حقيقي غير الأناجيل المعروفة، كان يتنبأ بظهور نبي اسمه محمد، ثم أخفي عمدا وحلت محله الأناجيل الحالية «المحرفة». هنا يعد الإسلام هو الأصل، وتقاس المسيحية كلها على أساس مدى اقترابها منه. كذلك فإننا أشرنا عند الحديث عن النقد الديني للاستشراق إلى ذلك المقياس الأساسي الذي يضعه كثير من الباحثين الإسلاميين عندما يصدرون حكما تقويميا على مستشرق، وهو مدى اقترابه من الاعتراف بحقائق العقيدة الإسلامية، بغض النظر عن مدى الجهد والإسهام العلمي الذي قام به ذلك المستشرق. وفي هاتين الحالتين يوجد أيضا نوع من «المركزية الإسلامية»، تقاس على أساسها أفكار الحضارة الأخرى. (4)
ولنتأمل صورة أخرى للشرق في كتابات المستشرقين، هي صورة الشرق المغرق في الملذات المادية، تلك الصورة التي ضرب لها إ. سعيد مثلا بشخصية «كوتشوك هانم» عند الأديب الفرنسي فلوبير. فهي نموذج للمرأة الحسية الشهوانية التي لا تشبع ولا ترفض، ... إلخ. وهذا النموذج يتكرر كثيرا لدى المستشرقين بوصفه تعبيرا عن الطبيعة الشرقية بوجه عام.
ومع ذلك، فإن ما لم يشر إليه سعيد هو أن النموذج المضاد، أعني النموذج الروحاني، يكون بدوره صورة تتردد كثيرا لدى المستشرقين. فهناك دائما حديث عن الشرق المتصوف، المتمسك بالقيم العريقة والأصيلة، وهناك افتتان بهذا الشرق الذي يقدم للحياة الإنسانية وجها آخر يكمل الوجه المفرط في عقلانيته لدى الغرب. هذه الصورة الأخرى تحتشد بها كتابات الغربيين منذ جوته حتى جاك بيرك (فضلا عن أنها نغمة مفضلة لدى الأدباء الشرقيين من أمثال طاغور وإقبال وتوفيق الحكيم وحسين هيكل ومحمد كامل حسين).
ومن جهة أخرى، فمن المؤكد أن لدينا في الشرق ميلا أقوى إلى وصف الغرب بالإفراط في المادية والنزعة الحسية. فمعظم كتاباتنا الصحفية الراهنة، وخطبنا في المنابر والمساجد، تحذر الشباب من فساد الغرب وانحلاله الخلقي وإغراقه في الجنس ، وكل شاب عربي يسافر إلى الغرب يعود محملا بقصص (حقيقية أو مختلقة) عن مغامراته مع النساء الغربيات اللاتي لا يرفضن طلبا للشرقي الأسمر. وكلنا نشاهد نظرة النهم التي ينظر بها الرجل الشرقي إلى أية امرأة تصادفه في الطريق بمجرد نزوله من مطار لندن أو باريس، متصورا أنها ستستجيب له وتعجز عن مقاومة إغرائه. بل إن الحياة الغربية بأسرها أصبحت توصف في كتاباتنا بأنها «مادية»، سواء في ذلك الحياة اليومية أم حياة العلم والمعرفة. وقد أصبح تعبير «العلم المادي الغربي» جاريا على الألسن في مجتمعاتنا إلى حد أن الجميع يرددونه دون أدنى تفكير فيما ينطوي عليه من مغالطة وتضليل.
وهكذا فإن الصورة المشوهة في هذا المجال أيضا متبادلة، بل إننا في كثير من الأحيان نشوه الغرب بأكثر مما يشوهنا، لا سيما وأن مصادر معرفتنا ومظاهر احتكاكنا واتصالنا به أكبر وأوسع بطبيعتها من مصادر معرفته بنا، ومن ثم فإن عذرنا في هذا التشويه أقل. (5)
ومن أهم الانتقادات التي توجه إلى التصور الاستشراقي للعالم الشرقي بوجه عام، والعالم الإسلامي بوجه خاص، فكرة «الثبات» كما تطبق على المجتمعات الشرقية. فالمستشرقون ينسبون إلى العالم الشرقي صفة التجمد عند عصر قديم، وعدم الاستعداد لقبول الجديد، وعدم الثقة في التغيير، والعجز عن فهم طبيعة الزمن. وهم يحكمون على الإسلام المعاصر من خلال الإشارة إلى القرآن أو إسلام القرن السابع، مع تجاهل كل التغييرات المعاصرة والتطورات السياسية وتأثير الاستعمار.
17
فهم لا يعترفون بوجود حاضر متميز للشرق، ويردون كل ما هو شرقي معاصر إلى النمط الشرقي التقليدي، وذلك كجزء من نزعتهم إلى التعميم وإرجاع الجزئي أو الخاص إلى أنماط عامة من أمثال: الشرقي، والإسلامي، والعربي، ... إلخ، بحيث إن الحكم على الإنسان الشرقي هو حكم عليه بأنه «شرقي» قبل أن يكون إنسانا. «فليس من الممكن أن نرى الحاضر والأصل معا في أي شعب أكثر مما نرى في الساميين الشرقيين.» والأصول القديمة للشرقيين هي التي تفسر حاضرهم وتجعله مفهوما. وقد لخص رينان الموقف الاستشراقي حين وصف حالة الساميين بأنها من حالات «التطور الموقوف
Development Arrêté »، أي التطور الذي لا يتقدم في الزمان ولا يتجاوز العصر الكلاسيكي.
18
هكذا يوجه اللوم إلى المستشرقين لأنهم عجزوا عن النظر إلى الشرق من حيث هو حاضر متطور له مشكلاته وصراعاته وأمانيه، واكتفوا باختزال تاريخ الشرق كله إلى تلك اللحظة الثابتة الماضية التي يقف عندها التطور، وتعمم هذه اللحظة على التاريخ كله، فتصبح تجريدا شاملا هو «الشرق» أو «الإسلام» ... إلخ.
ولكن، هل كان المستشرقون مخطئين بالفعل في نظرتهم هذه إلى العالم الإسلامي؟ وهل كان هذا التثبيت للتاريخ الشرقي أو الإسلامي وهما من أوهام العقلية التي يخلقها خيال المستشرقين أو شعورهم بالقوة والاستعلاء إزاء الشرق؟ الواقع أننا لو تأملنا موقف التيارات الإسلامية السلفية، بمختلف أشكالها، لما وجدناه يختلف في شيء عن تلك الصورة التي رسمها الاستشراق. فكيف نلوم الاستشراق على أفكار وتصورات تتضمنها دعوة المودودي وحسن البنا وسيد قطب وكبار أقطاب الحركات الإسلامية؟ أليس المثل الأعلى لهؤلاء جميعا هو إسلام القرن السادس أو السابع على الأكثر؟ ألم يتوقف التاريخ بالفعل عند هذه «القمة»، بحيث تكاد تمحى منه كل التطورات الواقعة بين «العصر الذهبي» والعصر الحاضر؟ ألا تؤكد دعوتهم إمكان تكرار الحلول التي أدت إلى ازدهار مجد الإسلام في عصره الأول؟ أليست هذه هي القضية الأساسية في برنامجهم كله، لا يصلح آخر الإسلام إلا بما صلح به أوله؟
فلنتأمل مبدأ أساسيا من مبادئ الدعوة الإسلامية، وهو «صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان»، ولنر كيف يطبق هذا المبدأ، لا على القواعد العامة للدين فحسب، بل على تفاصيل الحياة اليومية، بحيث تقوم المظاهرات الحاشدة لو حدث أدنى تغيير فرعي في أحد بنود قانون الأحوال الشخصية مثلا، أو شيء من التقييد للطلاق أو تعدد الزوجات، ما معنى هذا؟ هل يمكن بعد هذا أن يقال إن فكرة «التطور الموقوف» قد نسبت إلى هذه التيارات شيئا مختلقا، أو أن هناك فرقا كبيرا بين مفهوم «التطور الموقوف» ومفهوم «الصلاحية لكل زمان ومكان» كما ينادي بها المسلمون أنفسهم؟
في هذه الحالة نستطيع أن نقول إن الصورة الاستشراقية تعكس شيئا موجودا بالفعل. وقد لا يكون هذا الشيء تعبيرا عن الواقع الكامل للعالم الإسلامي، ولكنه على الأقل تعبير عن تيار هام له ثقله في حياتنا المعاصرة بوجه خاص، وتزداد أهميته مع نمو ما يسمى «بالصحوة الإسلامية». فهذه الصورة تقدم من خلال إطارها الفكري الخاص تبريرا قويا لتلك النظرة الاستشراقية إلى الإسلام بوصفه «عقيدة أثرية» تتحكم في كافة جوانب تفكير الناس وسلوكهم في تلك المنطقة المسماة بالعالم الإسلامي. وعندما يطبق أصحاب هذه الاتجاهات المعاصرة مبدأ «الإسلام دين ودنيا» بحيث يجعلون العقيدة تحكم جميع تفاصيل سلوك الفرد، حتى في نوع ملبسه وطريقة حديثه وشكل وجهه، فعندئذ يحق لنا أن نجد مبررا لأولئك الذين يجعلون من الإسلام جوهرا ثابتا يحكم كافة جوانب سلوك الإنسان المسلم.
فلنتأمل حادث مقتل الرئيس السادات، بوصفه نموذجا صارخا «للتطور الموقوف». إن الذين قتلوه قد اعترفوا في محاضر التحقيق أنه كان يستحق القتل لأنه سخر من ملابس المحجبات، ولأنه وعد بتطبيق الشريعة الإسلامية ولم يف بوعده، ولأنه خرج من نصوص الشريعة في قانون الأحوال الشخصية الذي قام بتعديله. وقرار القتل قد اتخذ بناء على فتوى عاد فيها مفكرهم وفيلسوفهم إلى كتابات ابن تيمية وعصر التتار، وأقام نوعا من التوازي بين ذلك العصر وعصر السادات.
أما الدوافع الأخرى، الوطنية والاجتماعية والقومية، التي تخيلها المفكرون التقدميون وصفقوا لها، والتي كانت ترتكز على الأخطاء الحقيقية الفادحة لنظام السادات، فلم تكن في ذهن قاتليه على الإطلاق. ومعنى ذلك أن تيارا هاما من أكثر التيارات الإسلامية المعاصرة فعالية ودينامية، لم يستطع أن يفكر في الأحداث الهائلة التي تحيط به في عصره إلا من خلال أحداث موازية حدثت في الماضي البعيد، وعجز تماما عن معالجة الحاضر بمنطقه الخاص، وتوقفت رؤيته للعصر الذي يعيش فيه عند حدود عصر غابر غير قابل للتكرار. وينبغي أن ننتبه إلى أن هذا النمط الفكري أوسع انتشارا بكثير من هذه الجماعة بعينها. فهناك جماعات أكبر منها بكثير، تشاركها هذه الطريقة في التفكير، وإن كانت تختلف عنها في طريقة رد فعلها على الأحداث المعاصرة، وفي إيثارها الدعوة السلمية على الجهاد والعنف. فإذا لم يكن هذا النمط من التفكير «تطورا موقوفا» فماذا يكون؟ وإذا لم يكن نموذجا صارخا لإدراج الزمني والمعاصر في نطاق «اللاتاريخي واللازمني» فماذا يكون؟
فإذا شكا الناقد الأكبر للاستشراق بين العرب المعاصرين من أن الصورة الغربية للإسلام تخلط بين العالم الإسلامي وما يسمى «جوهر الإسلام»، وتتجاهل الصراعات البشرية الفعلية والمطالب المشروعة للمجتمعات الإسلامية، كما تتجاهل اضطهاد الغرب لهذه المجتمعات ووقوفه ضد رغبتها في التحرر والاستقلال، أي - باختصار - تتجاهل الحقائق المعاصرة للعالم الإسلامي، مكتفية بذلك التعميم والتجريد المسمى بالإسلام
19
فلا بد أن نرد عليه بأن هذه السمة تتكرر أيضا في تيارات هامة تؤكد أنها هي الممثلة الحقيقية للإسلام، وتفخر بأن دعوتها تتجه إلى جعل الإسلام في عصره الذهبي معيارا وحيدا للتقدم، ووسيلة وحيدة لمواجهة مشكلات العصر. ولا قيمة في هذه الحالة للقول بأن هذه التيارات لا تمثل العالم الإسلامي كله؛ لأن المهم أنها في دعوتها هذه تؤكد أنها هي التي تعبر عن «جوهر» الإسلام، فضلا عن أنها هي الأكثر جاذبية للشباب في العالم الإسلامي المعاصر. وما دام الأمر كذلك، فلا مفر لنا من أن نستنتج أن رؤية نقاد الاستشراق هؤلاء للعالم الإسلامي ناقصة، فضلا عن أنها رؤية خارجية إلى حد بعيد.
ولقد لاحظ بعض الباحثين العرب في ردود فعلهم على آراء إ. سعيد، أن هناك التقاء بين موقف الاستشراق وموقف دعاة الأصالة الإسلامية، وقام «عزيز العظمة» بتعداد عناصر الالتقاء هذه.
20
غير أنه لم ينتبه إلى النتيجة الحتمية التي ينبغي أن تستخلص من تعداد نقاط الالتقاء هذه، وهي أنه إذا صح ذلك لما كان المستشرقون قد نسبوا إلى العالم الإسلامي سمات لا تنتمي إليه، كما أنهم لم يخترعوا شيئا أو يفرضوا تصوراتهم الخاصة على الإسلام، ولم يجمدوه من أجل السيطرة عليه ... إلخ؛ فهم يكشفون عن صفات موجودة بالفعل عند دعاة «الأصالة الإسلامية»، أي أشد الجماعات تمسكا بأصول الإسلام. ولا عبرة في هذه الحالة باختلاف الدوافع والأهداف بين المستشرقين وبين الأصوليين. ولا عبرة أيضا برفض المثقف العربي المستنير ، أو المتشبع بالثقافة الحديثة، أن يحصر الإسلام في نطاق هذا «الجوهر» الذي يراد له أن يتحكم في كافة جوانب حياة المسلمين المعاصرين، فهذه قضية أخرى. وإنما القضية الأساسية هي أن فكرة وجود جوهر ثابت للإسلام ينبغي أن يحكم كافة جوانب حياة الفرد المسلم، هي فكرة واسعة الانتشار بين المسلمين المعاصرين، يجدون فيها موضع فخر لهم ولعقيدتهم، حتى ولو كانت في نظر بعض المثقفين تعبيرا عن أمر واقع مرفوض.
ومن هنا فإن موقف «العظم» من هذا الموضوع كان أفضل من موقف «العظمة»؛ لأن الأول يلاحظ عن حق ذلك التشابه الواضح بين نظرة المستشرقين إلى الإسلام بوصفه كيانا فكريا وعقيديا ثابتا ينظم كافة جوانب حياة المسلمين، وبين نظرة الجماعات المعاصرة التي يطلق عليها اسم «الإسلامانية». والتي ترى العقيدة الإسلامية كيانا شاملا متفردا لا يفهم إلا بذاته. وإذا كان المستشرقون قد وجدوا في هذه الصفة سببا يدفعهم إلى الإقلال من قدر الإسلام، فإن «الإسلامانيين» قد وجدوا فيها موضوعا للفخر بعقيدتهم والتمجيد الذاتي لتراثهم.
21
ومع اتفاقي مع «العظم» في اتجاهه العام، فإني أختلف معه في نقطتين تفصيليتين: الأولى: هي أنه يسجل هذا الالتقاء بين وجهتي نظر الاستشراق و«الإسلامانية» المعاصرة على أنه مجرد «تشابه» بين موقفين يتطرف كل منهما في ناحية، وإن كانا يلتقيان واقعيا في الأسس التي يرتكزان عليها. وفي رأيي أن العلاقة بين الموقفين علاقة «سببية» أكثر منها مجرد تشابه. وأعني بذلك أن وجود هذه السمة في الفكر الإسلامي الأصولي هو الذي جعل المستشرقين يؤكدونها في كتاباتهم، بغض النظر عن الحكم التقويمي الذي يصدره بعضهم عليها بوصفها مظهرا من مظاهر التخلف. فهم لم يؤكدوا هذه السمة لمجرد إثبات انحطاط الإسلام وتفوق الغرب عليه، بل لأن المسلمين ذاتهم ينظرون إلى أنفسهم على هذا النحو، ولا يمنع ذلك بالطبع من أن يكون هناك مستشرقون أفرطوا في تعميم هذه السمة إلى حد تجاهل كل حركة مغايرة لها، أو وجهوا النصح إلى المسلمين، بطريقة مغرضة، كيما يحافظوا عليها لأنها هي التي تخدم مصالح بلادهم آخر الأمر . أما نقطة الاختلاف الثانية فهي أنه لا يكفي أن ننظر إلى وجود هذه السمة في التيارات الإسلامية المعاصرة على أنه «استشراق معكوس»، كما فعل العظم (ويقصد به التقاء هذه التيارات الحالية مع الاستشراق في تأكيد وجود طبيعة ثابتة غير قابلة للتغيير في الإسلام، مع التفاخر بهذه الصفة بدلا من التنديد بها كما يفعل المستشرقون). ذلك لأن هذه السمة لها جذور قديمة العهد، ظلت تتردد طوال التاريخ الإسلامي، قديمه وحديثه، وحسبنا أن نذكر هنا أسماء ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والمهدي والأفغاني ... إلخ؛ فهي تمثل ظاهرة أقدم بكثير من الاستشراق، وليست على الإطلاق الوجه الآخر لعملية الاستشراق، كما قد يوحي تعبير «الاستشراق المعكوس». وحقيقة الأمر أن الاستشراق في تأكيده لهذا الجوهر الثابت للإسلام، هو الذي يعكس واقعا فكريا اتسم به العالم الإسلامي منذ عهد بعيد (لأسباب اجتماعية وتاريخية معقدة)، وأن الصورة الاستشراقية المشوهة ما هي إلا تعبير عن تشويه تاريخي حدث بالفعل في العالم الإسلامي. وهكذا فإن الجمود واللاتاريخية في الفكر الإسلامي ليس «استشراقا معكوسا»، وإنما تظل الصورة الاستشراقية انعكاسا (قد تكون له في بعض الأحيان دوافع مغرضة) لهذا الفكر المتحجر الذي يفخر بأنه خرج عن نطاق الزمن.
والآن، لننظر إلى المسألة من وجهها العكسي: إن الغرب متهم بأنه يكون عن الشرق صورة متحجرة، ويتجاهل التغييرات التي يموج بها واقعه الحسي (وهي تهمة يسهل تفسيرها في ضوء الصورة التي يكونها الشرق عن ذاته، والتي هي في كثير من الأحيان صورة متجمدة، وتفخر بأنها كذلك). ولكن، ما طبيعة الصورة التي يكونها الشرق عن الغرب؟ ألا توجد فيها أيضا عناصر هامة من ذلك التثبيت النمطي الذي يشوه الواقع؟
يكفينا هنا أن نختار أمثلة قليلة توصلنا إلى النتيجة المطلوبة؛ فتثبيت صورة الغرب واضح كل الوضوح لدى أصحاب الفكر الإسلامي المعاصر، إذ إن تفكيرهم في الاتجاهات الحالية للعالم الغربي إزاء المجتمعات الإسلامية ما زال ينصب في قالب المؤامرة الصليبية المسيحية التي تستهدف النيل من الإسلام. وهو يجمد الغرب في هذا القالب بحيث تغيب عن عينيه أهم مقولات الحياة المعاصرة: كالأحلاف العسكرية والتكتلات السياسية والمصالح الاقتصادية.
أما أصحاب الثقافة الحديثة في العالم العربي، فإنهم بدورهم يجمدون الغرب، ولكن على نحو آخر، يخلطون فيه بين غرب العلم والعقلانية والسيطرة على الطبيعة وكشف أسرارها، أعني غرب ديكارت ونيوتن ودارون وماركوني، وغرب الاستعمار والسيطرة على البشر واستعبادهم: غرب سيسل رودس وكتشنر ونابوليون وهتلر. صحيح أن الوجهين ليسا منفصلين تمام الانفصال، بدليل أن الوجه الأول أدى في جانب منه إلى الثاني؛ أعني أن المعرفة والسيطرة على الطبيعة هي التي أعطت الغرب ذلك التفوق المادي والعسكري الذي سيطر به، طوال عدة قرون، على العالم. ومع ذلك فإن التمييز بين هذين الوجهين يظل أساسيا، كما أن الارتباط الذي حدث بينهما ليس ارتباطا منطقيا أو ضروريا، وإنما هو ارتباط واقعي فحسب (بدليل إمكان استخدام العلم والتكنولوجيا في ظل علاقات عقلانية غير استغلالية).
ومع ذلك فإن المثقفين العلمانيين المعاصرين في العالم العربي يجمعون بين الوجهين بصورة متعمدة، ويضعون الإيجابي مع السلبي في زكيبة واحدة، وتصل بهم حماستهم لمحاربة الاستعمار والتحرر من الهيمنة الغربية إلى حد رفض مبدأ العقلانية ذاته، وكأنه حكر للغرب وحده، وليس نتاجا لتطور طويل أسهمت فيه كل حضارات الإنسانية قبل فترة الهيمنة الغربية بألوف السنين.
22
وهكذا يكون هناك «جوهر واحد» للغرب، هو جوهر السيطرة والهيمنة، يسري على كافة جوانب النشاط الروحي والمادي للمجتمعات الغربية، وينبغي التعامل معه بكل الحذر والتشكك؛ لأنه يصبغ حقيقته المسمومة الباطنة بطلاء خارجي شديد الإغراء.
فهل يختلف هذا الموقف - الذي يسود فكرنا الحالي في اتجاهاته المحافظة والتقدمية معا - اختلافا حقيقيا عن الموقف الاستشراقي الذي نهاجمه؟ ألا يؤدي بنا ذلك إلى الشك في أن المسألة قد لا تكون مسألة سيطرة وهيمنة، بقدر ما هي مسألة حدود لا يمكن تعديها في الإدراك المتبادل بين الثقافات؟
هناك إذن تمركز أوروبي حول الذات، يعد الاستشراق واحدا من أهم مظاهره. ولكن ما نود أن نثبته هو أن هذا التمركز حول الذات أمر لا مفر منه حين يكون الأمر متعلقا بإدراك ثقافة لثقافة أخرى. صحيح أنه قد يقل أو يزيد، بين هذا الباحث أو ذاك، ولكنه هناك دائما. وأكبر دليل على استحالة التخلص منه هو وجوده بصورة واضحة في إدراك الشرق للغرب. فإذا كان من المستحيل أن يصبح الشرق موضوعا «حرا» للبحث عند المفكر الغربي، نتيجة لتدخل عوامل السيطرة السياسية والمصالح الاقتصادية والتراث العدائي القديم ... إلخ، فإن من المستحيل بنفس المقدار أن يصبح «الغرب» موضوعا حرا للبحث عند المفكر الشرقي، بعد تراكم عداوات تاريخية كبرى، وبعد اتساع الفجوة الحضارية بين الشرق والغرب، وتراجع المجتمعات الشرقية أمام التقدم السريع للغرب، وخضوعها لسيطرته الاستعمارية في كثير من الحالات.
إن هناك «مركزية إسلامية
Islamo-Centrism » تقابل المركزية الأوروبية، وتظهر علاماتها بوضوح في الصورة التي نكونها عن الغرب على كافة المستويات. فعلى المستوى الديني، نريد من المستشرقين أن يكونوا مؤمنين طيبين مصدقين بتعاليم ديننا، ونكاد نطلب إليهم أن يقرءوا الشهادتين حتى يصبحوا مقبولين «ومنصفين». وعلى المستوى الحضاري، نحكم على مجتمعاتهم من خلال قيمنا الخاصة، التي تعطي دورا مفرطا، مليئا بالمتناقضات والمفارقات، للحياة الجنسية، فإذا لم تتطابق حياتهم مع معاييرنا نحن أصبحوا «منحلين». وعلى المستوى التاريخي، يكفي أن نقارن بين منظورنا والمنظور الغربي في «فتح الأندلس»، ونظرتنا إلى نكبة خروج العرب منها، التي هي عند الغربيين حركة تحرر تاريخية كبرى.
23
ونحن نهاجم المعرفة والمناهج الغربية؛ لأنها تجعلنا ممثلين للشرق «الثابت» و«المختلف»، وننسى أننا نحن الذين ندعو إلى هذا الثبات في تصورنا للتاريخ، فضلا عن أننا نعامل الغرب بدوره كما لو كان كيانا واحدا، يتسم كله بالعدوانية، ولا يفهم إلا من حيث هو مضاد لنا.
إن التشويه، إذا جاز أن نطلق عليه هذا الاسم، متبادل بين الطرفين. وإذا كان هناك تشويه تؤدي إليه القوة والسيطرة والرغبة في التعامل مع الشرق بنجاح، فإن هناك تشويها آخر يؤدي إليه الشعور بالضعف وبتفوق الخصم والرغبة في الانتقام منه واللحاق به. ومشكلة ناقدي الاستشراق، وعلى رأسهم إدوارد سعيد، هي أنهم لم يستطيعوا أن يروا إلا النوع الأول، مع أن النوع الثاني ربما كان أخطر وأفدح في نتائجه؛ ذلك لأن الرغبة في السيطرة والتعامل الناجح تقتضي حدا أدنى من الفهم الصحيح للآخر حتى يمكن تحقيق هذا الهدف بأيسر السبل الممكنة. أما الرغبة في تعويض النقص أو الانتقام من العدوان فإن التشويه فيها يكون أخطر، وغير قابل للإصلاح.
وسوف نحاول في الجزء الأخير من هذا البحث إلقاء المزيد من الضوء على هذه النقطة بالذات، أعني موقع النظرة النقدية إلى الاستشراق في مجتمع يحتل مركزا أضعف، وذلك إكمالا للصورة الناقصة التي عرضت للجوانب غير الموضوعية في الاستشراق بوصفه مبحثا علميا يمارس من موقع القوة.
تحليل اجتماعي-نفسي لنقد الاستشراق
لقد بدأت موجة نقد الاستشراق من الزاوية السياسية والحضارية في الخمسينيات من هذا القرن، على حين أن نقده من الزاوية الدينية كان أقدم من ذلك بكثير. ومنذ أن كتب أنور عبد الملك مقاله الهام عن أزمة الاستشراق، بدأ حوار جاد حول هذا الموضوع، دارت معظم حلقاته خارج حدود الوطن العربي. ولكن العمل الذي فجر المشكلة في الخارج ونقلها بعد ذلك بصورة حية إلى الداخل، هو كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق. ومنذ ذلك الحين توالت كتابات متعددة حول هذا الموضوع بطريقة توحي بأن المثقفين العرب كانوا ينتظرون إشارة البدء للهجوم على الاستشراق بكل العنف الذي يؤدي إليه غضب وسخط مختزنان منذ أمد بعيد.
على أننا قد أوضحنا من قبل أن حركة نقد الاستشراق يستحيل أن ينظر إليها من اتجاه واحد؛ لأنها بطبيعتها جزء من ظاهرة أوسع منها وأهم، هي الإدراك المتبادل بين الثقافات. فمن القصور وعدم الدقة أن نصدر حكما أحادي الجانب على طريقة الباحثين الغربيين في دراسة الشرق، دون أن يكمل ذلك حكم آخر على رؤية الشرقيين للغرب؛ لأن بحث الموضوع من هذا المنظور يفتح آفاقا أوسع وأشمل. وصحيح أن الرؤية الغربية للشرق تتسم بسمة فريدة (هي التي يتوسع في تحليلها نقاد الاستشراق من العرب المعاصرين)، هي أنها رؤية تتم في ظروف عداء تاريخي طويل، مقترن برغبة في السيطرة، أي إنها معرفة غير مقصودة لذاتها، لا تشكل - على حد تعبير إدوارد سعيد - بحثا حرا أو موضوعيا. ولكن تكملة الرؤية الاستشراقية برؤية أخرى «استغرابية» - كما حاولنا أن نفعل في هذا البحث - كفيلة بأن تكشف لنا عن حقيقة هامة، هي أن الغرب بدوره لا يمكن أن يشكل بحثا حرا وموضوعيا بالنسبة إلى الشرقي، أو العربي، أو المسلم، مع فارق هام هو أن الخروج من الحرية والموضوعية - أي التشويه، إذا جاز أن نستخدم هذا اللفظ - يتم في هذه الحالة من موقع الضعف، والرغبة في مقاومة الخضوع والتبعية. وهكذا تتكشف لنا أبعاد جديدة لمشكلة الإدراك المتبادل بين الثقافات، ودوافع للافتقار إلى الموضوعية في العلوم الإنسانية، أوسع من مجرد فرض سلطة القوي وسعيه إلى تحقيق مصالحه. فالخوف من التبعية، أو الانتقام من السيطرة السابقة، أو تسوية الحساب مع القهر التاريخي، تخلق أساطيرها الخاصة عن «الآخر» على نحو لا يقل، بل ربما كان يزيد، عن تلك الأساطير التي تخلقها المصالح التوسعية للمسيطرين.
إن السياقات التاريخية للالتقاء بين الثقافات تتسم بالتعدد والتعقيد الشديد، وتفرض بالضرورة حدودا لا تستطيع كل ثقافة أن تتعداها في محاولتها فهم الثقافة الأخرى. وإذا كنا قد اكتفينا في المحاولات السابقة بإضافة بعد جديد يشكل الوجه الآخر لذلك البعد الذي ركز عليه ناقدو الاستشراق المعاصرون - أي إذا كنا قد أضفنا بعد سوء الفهم الذي يجلبه الضعف إلى سوء الفهم الناتج عن القوة، فإننا حتى بعد هذه الإضافة لا نكون قد استنفدنا التعقيد الشديد لظاهرة الالتقاء الثقافي بين الشرق والغرب على مدى التاريخ؛ ففي العصر القديم، لم تكن العلاقة تتسم فقط بذلك التحامل والاستعلاء الذي أبداه أدباء اليونان وشعراؤهم تجاه الشرق، كما أشار إ. سعيد، بل كان هناك - كما قلنا من قبل - ذلك الإعجاب المفرط الذي أبداه أفلاطون بحكمة المصريين القدماء، وتلك الرحلة إلى الشرق التي كانت جزءا أساسيا من التكوين العقلي والروحي للفيلسوف. كذلك لا نستطيع أن نجد نمطا واحدا ثابتا للعلاقة بين الغرب والشرق في العصور الوسطى، فقد تكونت عداوات وحدثت تشويهات وتحاملات بسبب الحروب الصليبية والصراع الديني والنزاع على طرق التجارة مع الشرق، ولكن كان هناك في الوقت ذاته إعجاب مفرط بالعرب والإسلام (في بلاط ملوك صقلية وجنوب إيطاليا مثلا)، وكان هناك انبهار بالمعرفة والقيم والأخلاق العربية حتى في قلب العداء الصليبي ذاته. وفي العصر الحديث تعقدت صورة الغرب في نظر الشرق: ما بين العداء الشديد للاستعمار وكل ما يرتبط به عند البعض، والتمجيد الزائد للعلم والتقدم الاجتماعي الغربي عند البعض الآخر. ومن جهة أخرى كان الغرب يؤكد الصورة الجامدة للإسلام نتيجة لاستعلائه وشعوره بالسيطرة، ولكنه بعد بداية عصر البترول العربي، ثم بعد الثورة الإيرانية بوجه خاص، يقوم بجهد محموم للبحث في ديناميات العقيدة الإسلامية، بطوائفها المختلفة، أملا في التنبؤ بالاتجاهات المحتملة لتحركها في المستقبل.
إنها إذن صورة معقدة كل التعقيد، لا يمكن اختزالها إلى نمط «التشويه من أجل السيطرة». وهذا يؤدي إلى إثارة سؤال على جانب كبير من الأهمية هو: لماذا ركز النقاد العرب المعاصرون والعلمانيون على هذا النمط بالذات، وتركوا الجوانب الأخرى لظاهرة الالتقاء بين الثقافات، التي لا يشكل هذا النمط إلا جانبا واحدا من جوانبها؟
في محاولتنا أن نجيب عن هذا السؤال الهام، سيكون لزاما علينا أن نقوم بنوع من التحليل الاجتماعي-النفسي لحركة نقد الاستشراق في المجتمع العربي المعاصر، وهذا التحليل يستحق في الواقع أن يسمى «دراسة لباثولوجية النقد المعاصر للاستشراق». وبطبيعة الحال فإن أي تحليل من هذا النوع ما هو إلا اجتهاد شخصي يمكن أن يرفض بأكمله. فالجزء السابق من البحث هو الجزء الواقعي
Factual ، أما هذا الجزء فهو تفسيري
Explanatory . ومن حق الكثيرين ألا يقتنعوا بهذا التفسير، وإن كنت من جانبي أعتقد أنه يسهم في إلقاء ضوء هام على حركة نقد الاستشراق لدى العرب المعاصرين، بقدر ما تمثل جانبا هاما من جوانب أزمة الثقافة العربية المعاصرة.
محاولة لتحليل اجتماعي-نفسي للاستشراق
على الرغم من أن هدفنا في هذا الجزء من البحث هو تحليل حركة «نقد الاستشراق»، فلا بأس من أن نبدأ بمحاولة شديدة الإيجاز، وناقصة بغير شك، لتحليل حركة الاستشراق ذاتها من منظور اجتماعي-نفسي .
إن الاستشراق يرضي عند الكثيرين من أصحابه نزعات التعصب التي يمارسها المنتمون إلى ثقافة معادية دينيا، وأحيانا عنصريا، لثقافة أخرى، وكذلك نزعات الاستعلاء التي تشعر بها ثقافة متفوقة نحو ثقافة أصبحت في المرحلة التاريخية الراهنة أضعف منها بكثير، ولكن هذا جانب واحد من صورة شديدة التعقيد، فلنرجئ الكلام إلى موضع لاحق عن ظاهرة التعصب ولنتأمل الأشكال المختلفة المباشرة وغير المباشرة التي تتخذها نزعة الاستعلاء.
هذه النزعة تتخذ شكل ميل إلى التوسيع
Expansion
وخروج العقل عن حدود ثقافته الخاصة، والتوجه إلى الآخر من أجل محاولة فهمه في العمق. وقد تتسامى هذه النزعة فتأخذ شكل كرم عقلي وسعة أفق وتواضع يسمح للمستشرق أن يمدح هذا الآخر ويجد عناصر إيجابية في عقيدته التي لا يؤمن بها، أو في نمط حياته الذي هو بالنسبة إليه تاريخي عتيق
Archaic .
وفي حالات كثيرة يتخذ هذا التوسع شكل النزعة العلمية المفرطة، التي تدقق في تفاصيل موضوعاتها بهدف الاستيعاب الكامل. ولكن هذا التدقيق التفصيلي والإفراط في استخدام المنهج المنضبط قد يؤدي أحيانا إلى تغيير صورة الموضوع الذي يتم بحثه، بحيث تختفي معالمه الأصلية وسط ذلك الحشد الهائل من المعلومات والمقارنات التي يقوم بها باحثون يعرفون عشرين لغة مثلا ما بين شرقية وغربية.
وفي أحيان كثيرة تتخذ هذه النزعة التوسعية شكل التضحية، وربما الاستشهاد العلمي، بحيث تشكل نوعا من الرهبنة (الفعلية أو المجازية) لباحث غربي يقضي حياته بين أسوار الحياة العقلية والروحية لمجتمع آخر.
ولكن ربما كان أهم الأشكال التي تتخذها النزعة التوسعية هذه، هو شكل الوصاية الأبوية
التي يمارسها باحث غربي ينتمي إلى مجتمع متقدم تجاه المجتمعات الأكثر تخلفا. قد تكون هذه الوصاية على شكل تعاطف أو توجيه وإرشاد، وقد تتخذ شكل السخرية الخفية، ولكنها في جميع الحالات تبرر الجهد الذي يبذله المستشرق في دراسة «الآخر» وتقدم إليه مكافأة معنوية يحتاج إليها مقابل تضحيته.
ومع ذلك، فمن الممكن أن تؤدي هذه المعايشة المستمرة للمجتمع الآخر - أيا كانت دوافعها الأولى - إلى تعاطف حقيقي، وإلى اندماج روحي في هذا المجتمع، واقتراب من فهم المنظور الذي يتأمل به هذا الآخر عالمه، بل وإلى انسلاخ - بدرجات متفاوتة - عن الجذور الغربية التي كانت تشكل نقطة انطلاق المستشرق.
ولعل هذه النزعة التوسعية، المصحوبة بالترف تارة وبالتعاطف تارة أخرى، والتي تمثل في كثير من الأحيان نوعا من الوصاية الأبوية، هي التي تفسر تلك الظاهرة الفريدة التي تميز مبحث الاستشراق عن فروع المعرفة الأخرى، وهي أن مساره كان يتجه نحو توسيع مجاله باطراد، واستيعاب جميع أنواع التخصصات في داخله، بقدر ما تتعلق «بالشرق»، على حين أن الاتجاه المألوف في الفروع الأخرى يسير نحو مزيد من التخصص الدقيق، وتطور الفروع الجزئية إلى علوم لها كيانها المستقل.
1
هذه خطوط عامة لموضوع يحتاج قطعا إلى ما هو أكثر بكثير من هذه الإشارات العاجلة، ولكن موضوعنا الأصلي هو تحليل حركة النقد الموجهة إلى الاستشراق.
تحليل لحركة نقد الاستشراق (1)
أول سؤال نود أن نجيب عنه في هذا التحليل هو: لمن يوجه خطاب الاستشراق؟ هناك، من الوجهة النظرية، ثلاثة احتمالات: إما أنه يوجه إلى الغرب نفسه، أي إنه يستهدف تقديم الشرق بصورة منهجية - أيا كان نوع المنهج المستخدم - إلى الثقافة الغربية، وإما أنه يوجه إلى الشرق، أي أنه يستهدف تعريف الشرق بنفسه وبثقافته من خلال «توسط» الباحث الغربي، وإما أن له الهدفين معا. وفي رأيي أن الاحتمال الأول هو وحده الصحيح. فالمستشرقون يكتبون عن الشرق والعرب والإسلام لأبناء ثقافتهم، وليس من أهداف عملهم العلمي توصيله إلى الثقافة الشرقية وتعريفها بنفسها من خلاله. صحيح أن هذا الأمر الأخير يتحقق كأمر واقع، وأننا كشرقيين ننتفع من أعمال المستشرقين على نطاق واسع، ولكن هذا هدف غير مقصود.
فالاستشراق ليس فقط مبحثا «يرتبط بمصدره؛ أي الغرب، أكثر مما يرتبط بموضوعه، أي الشرق.»
2
وليس فقط نوعا من المعرفة وثيق الصلة بالحضارة المسيطرة التي أنتجته، وإنما هو أيضا مبحث «ينتمي» إلى الغرب وحده ويوجه إليه ويهدف إلى خدمته، أي إنه مرتبط بالغرب، لا من ناحية الأصل فقط، بل من ناحية الغاية أيضا.
ففي الاستشراق تخاطب الثقافة الغربية نفسها، أساسا، لكي تتعرف على الشرق وتتعامل معه. وتترتب على هذه الحقيقة البسيطة عدة نتائج هامة:
الأولى:
هي أننا لسنا ملزمين بقبول الصورة الاستشراقية لفكرنا ومجتمعنا، فمشكلة الاستشراق بأكملها يمكن التخلص منها، إذا أردنا، بالاستغناء عن كتابات المستشرقين، وترك الغرب نفسه يتحمل نتائج أية أخطاء أو تشويهات قد تكون متضمنة في هذه الكتابات. وكما أن الثقافة الغربية لا تقرأ ولا تتأثر في الغالب بالأحكام التي يصدرها عنها مصطفى محمود أو الشيخ شعراوي مثلا، ففي استطاعتنا نحن بفعل إرادي أن نتجنب أية أضرار أو تشويهات محتملة للفكر الاستشراقي بأن نستغني عنه بكل بساطة.
والنتيجة الثانية:
التي تترتب على الأولى، هي أن نظرية المؤامرة والتشويه المتعمد، التي يقول بها نقاد الاستشراق من المعسكرين الديني والعلماني، كل على طريقته الخاصة، تضعف إلى حد بعيد إذا أدركنا أن الخطاب الاستشراقي موجه أساسا إلى الغرب. فالباحثون الغربيون لا يشاركون في مؤامرة تستهدف تضليل الشرق وتثبيط عزيمته وتشويه تاريخه، لأنهم ببساطة لا يخاطبونه أصلا. هذا بالطبع لا يمنع دون حدوث تشويه، ولكنه إذا حدث لا يكون مستهدفا خداع الشرق أو التآمر عليه. وعلى ذلك ففكرة المؤامرة في هذا السياق لا معنى لها، أما التشويه فلا يمكن أن يكون فادحا؛ لأن أي مجتمع سيحاول بقدر إمكانه ألا يخدع ذاته، وخاصة إذا كان يستهدف فهم مجتمع آخر من أجل السيطرة عليه.
والنتيجة الثالثة:
هي أن استخدام المستشرقين للمناهج والمقولات المنتمية إلى حضارتهم، في محاولتهم أن يفهموا الشرق، يغدو عندئذ أمرا طبيعيا، فخطابهم إذا كان عن الشرق فإنه موجه من الغرب إلى الغرب، ومن ثم فإن ما يبدو غريبا في نظرنا - أعني اتباع المنهج العقلاني أو التاريخي مثلا في تفسير ظواهر تنتمي إلى صميم الجانب العقائدي في الإسلام - يكون في نظرهم شيئا عاديا لا غرابة فيه؛ ذلك لأن الغرب يستخدم هذا المنهج العقلاني في تفسير المسيحية واليهودية بدورهما، كما أنه يتعقب أصول العقائد فيهما إلى مراحل تاريخية أسبق من ظهور العقيدتين بكثير. وبعبارة أخرى، فإن المعرفة الاستشراقية لا تستهدف النيل من الإسلام بالذات عندما تفسر الظواهر الدينية تفسيرا عقلانيا أو تاريخيا، بل إن هذا منهج سار عليه العلم الغربي منذ عهد بعيد، وأصبح تقليدا راسخا فيه، أيا كان الموضوع الذي يبحثه.
والنتيجة الرابعة:
التي ربما كانت أهم النتائج جميعا، هي أن الاستشراق نشأ عن وجود فراغ علمي لدى الشرق ذاته، فقد كان من الأفضل بالنسبة إلى الغرب أن يعرف الشرق من خلال ما يكتبه عنه أهله، لو كانت توجد كتابات كافية تتبع مناهج علمية دقيقة وتقدم معرفة متكاملة. ولكن عدم وجود هذه الكتابات، أو وجودها بصورة ناقصة، هو الذي ولد ظاهرة الاستشراق. فما الذي كان يدعو الباحثين الغربيين إلى تحمل مشقة تعلم اللغات الشرقية ومعايشة تراث الشرق وعاداته، وإلى تحمل مهمة التعريف بالشرق بدلا من أهله، لو كانوا يجدون في أعمال الشرقيين أنفسهم ما يغني عن هذا الجهد؟ إن ضعف الدراسات التي نقوم نحن بها هو في الواقع سبب أساسي لازدهار الاستشراق. ومن هنا فإني أتفق تماما مع الرأي الذي يقول إنه «في اليوم الذي يضطر فيه الغرب لترجمة دراساتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عن بلداننا، باعتبارها أفضل المراجع المتوفرة عنا، نكون قد بدأنا دق المسامير الأولى في نعش الاستشراق، ولكنه ولا شك نهار بعيد.»
3
وهكذا فإن نقاد الاستشراق لو كانوا قد طرحوا على أنفسهم هذا السؤال البسيط: لمن يوجه الخطاب الاستشراقي؟ لتوصلوا منه إلى مجموعة من النتائج الهامة التي كانت كفيلة بأن تقدم ردودا مباشرة على كثير من تساؤلاتهم وانتقاداتهم.
فإذا كان الاستشراق في أساسه خطابا عن الشرق موجها من الغرب إلى الغرب، فإن من واجبنا، في هذا التحليل النفسي الاجتماعي الذي نقدمه الآن، أن نبحث عن الأسباب التي جعلتنا، في هذا الجزء من الشرق الذي نسميه بالوطن العربي، والذي هو أيضا جزء من الحضارة الإسلامية، ننظر إليه كما لو كان خطابا موجها إلينا، وننقده بوصفه مؤامرة تحاك ضدنا، أو معرفة غير موضوعية تستهدف تحقيق مصالح الغرب في مجتمعاتنا. وسوف نحاول في النقاط التالية أن نعدد أهم هذه الأسباب، في ضوء هدفنا الحالي، وهو تحليل نقد الاستشراق نفسيا واجتماعيا. (2)
إن رفضنا للاستشراق يمكن أن يعد في جانب منه مظهرا من مظاهر العجز عن تقبل وجهة النظر الأخرى، والامتناع عن رؤية أنفسنا بعيون الآخرين. ولو كنا ناضجين بما فيه الكفاية لعملنا على الإفادة من رؤية الآخرين لنا، حتى ولو كانت غير موضوعية، بعد أن شبعنا من رؤية أنفسنا بطريقتنا الخاصة. والواقع أننا نستطيع أن نكتسب استبصارا عميقا بحياتنا وتاريخنا من خلال المقارنة بين الرؤيتين، بغض النظر عن مسألة الصواب والخطأ في كل منهما. ولكن الإصرار على رفض نظرة «العين الأخرى» إلينا، والتمسك بأن تكون هذه النظرة مطابقة لطريقتنا في النظر إلى أنفسنا - وهو ما نسميه «إنصاف» الحضارة الإسلامية - لا بد في هذه الحالة أن يبدو علامة من علامات الافتقار إلى النضج.
إننا نريد من الآخر حين يرانا أن يتخلى عن «آخريته»، ويرانا كما نرى أنفسنا، ونريد من الغير أن يتقمصوا وجهة نظرنا تجاه ذاتنا، ويلغوا «غيريتهم». وقد تتعدد أسباب رفضنا لرؤية المستشرقين، ما بين دينية وسياسية وحضارية، ولكن من وراء هذا كله يكمن موقف واحد، هو رفض النظرة التي تتم بعين مغايرة. وكم يكون رائعا في نظرنا أن يستعير الآخر عيوننا نحن لينظر بها إلينا. ولهذا كان أعظم المستشرقين، في رأي الكثيرين، هم الذين يعتنقون الإسلام، يليهم من يتعاطفون معه ويمدحون إنجازاته،
4
أما ألعنهم جميعا فهم أولئك الذين يتمسكون بأن يرونا بعيونهم المغايرة.
بل إننا نستطيع أن نرى في الحملة على الاستشراق، من حيث هو تعبير عن «رؤية أخرى» لنا، مظهرا من مظاهر سيطرة التفكير السلطوي، الأحادي الجانب، على عقولنا. فالعالم العربي لا يقول «بالحقيقة الواحدة أو المطلقة» في ميدان الدين فحسب، وإنما يقول بها في ميدان السياسة والأيديولوجيا معا. وفي كل يوم يضيق نطاق المعارضة وتتسع سلطة الأنظمة التي لا تتحمل إلا طريقة تفكيرها الخاصة، وتعد كل ما عداها «خيانة»، ويبدو أن هذه النزعة التسلطية الأحادية الجانب قد تسربت إلى الميدان الثقافي بدوره، بحيث يمكن أن يعد نقد الاستشراق مظهرا لها، وإن لم يكن مظهرا واعيا بنفسه كل الوعي. (3)
وفي ضوء السمة السابقة نستطيع أن نلمح من وراء حملتنا على أعمال المستشرقين قدرا هائلا من الرضا عن النفس والغرور الذاتي، فالرؤية المغايرة ترفض إذا كان فيها هتك لحجاب «الستر»، الذي تعده قيمنا وأمثالنا الشعبية من أعظم النعم التي يمكن أن يمنحها الله للإنسان. وهذه الرؤية تصبح مقبولة إذا سايرتنا في تضخيم الذات وتفخيمها، أما إذا اخترقت قشرة الغرور فإنها تصبح شرا مستطيرا. ومن هنا كان مقياس قبولنا للمستشرقين هو: إلى أي حد يعددون أفضالنا على الغرب، ويمدحوننا (مع ملاحظة أن هذا المديح هو وحده الذي يستحق في نظرنا اسم «الموضوعية»).
فهل يجرؤ أحد منا في تقييمه للمستشرقين على أن يضع لهم معايير علمية خالصة، بحيث يفضل الأعمق بحثا والأكثر جهدا والأوسع معرفة، بدلا من تلك المعايير «الذاتية» التي نتمسك بها، مثل مدى التعاطف مع العرب؟ هل يجرؤ أحد على أن يتقبل المستشرق العلامة حتى لو لم يكن يتعاطف معنا؟
إننا في تعاملنا مع المستشرقين لا نستطيع - حتى نظريا - أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال الأساسي: ألا يجوز أن تكون بعض ملاحظاتهم السلبية عنا صحيحة؟ ولا بد أن أؤكد هنا أن ما أعنيه ليس على الإطلاق كون هذه الملاحظات صحيحة بالفعل أم باطلة، بل إن ما يهمني هو حالتنا الذهنية ومدى قدرتها على تقبل الصورة التي تكشف العيوب. ولو افترضنا حالة خيالية لمستشرق عالم ونزيه وموضوعي، ولكنه ناقد لنا، فإننا في هذه الحالة نخشى أن نطرح السؤال السابق، بل لا يخطر ببالنا السؤال أصلا؛ لأن غرورنا الذاتي وطريقة تربيتنا وقيمنا، بل وتخلفنا، كل هذا لا يسمح بطرح السؤال، ناهيك عن الاستعداد لقبول رد إيجابي عليه. (4)
هذا الغرور الذاتي، وما يرتبط به من رفض أية صورة لا تكون مرضية لنا، يؤدي في واقع الأمر إلى خداع ذاتي فادح الضرر. فحين تكون رؤية الغرب لنا مؤامرة متصلة الحلقات، حتى ولو اختلفت دوافعها عبر القرون، وحين تكون المناهج والمفاهيم وطرق البحث الغربية ذاتها جزءا من هذه المؤامرة، يكون أي تصوير نقدي لنا أكذوبة مضللة. وهكذا نخدع أنفسنا فنعتقد أن سمات مثل التخلف والتفكير اللامنطقي والعقلية السحرية أو الخرافية، ما هي إلا أساطير يروجها الغرب وينقلها إلينا عمدا، وربما أقنع بها بعض مثقفينا، حتى تكتمل سيطرته علينا. وحين نصل إلى هذا الحد من التفكير، نرضى عن أنفسنا كل الرضا، فقد أعفينا أنفسنا من العيوب، وعلقناها على مشجب «التزييف الذي يقوم به الآخرون لكي يحطموا معنوياتنا.»
وفي اعتقادي أنه ليس أضر على مجتمعات تمر بمرحلة نضال شاق من أجل البناء، ويتعين عليها أن تكافح عناصر التخلف وتواجه مشاكلها بوضوح وصراحة، من أن تقنع نفسها بمثل هذه الأوهام الخادعة. فتخلفنا حقيقة واقعة، سواء قال بها المستشرقون أم لم يقولوا. وسيطرة اللامعقول والفكر الخرافي على طريقتنا في النظر إلى العالم، وإلى أنفسنا، هي أمر يستحيل إنكاره، بغض النظر عن نوايا المستشرقين ودوافعهم عندما يشيرون إليه. والطريق الموصل إلى النهوض الحقيقي ليس أن نخدع أنفسنا وننكر عيوبنا، بحجة مقاومة الهيمنة الثقافية للغرب، وإنما هو أن نعترف بهذه العيوب حتى يكون اعترافنا هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها.
وهكذا فإن مشكلة الاستشراق لا تكمن في أنه ينسب إلينا صفات التخلف واللاعقلية والإيمان بالسحر والخرافة (فيكفي أن نخرج عن نطاق الشريحة العليا من المثقفين لكي ندرك أن هذه السمات واسعة الانتشار بين الفئات الشعبية إلى أبعد حد)، ولا تكمن في أنه ينظر إلى الإسلام على أنه خارج عن التاريخ ومستقل عن مجرى الزمن، بل إن مشكلته الحقيقية هي أنه لا ينسب هذه السمات إلى أسبابها الحقيقية. فليس في إشارة المستشرقين إلى هذه السمات ظلم أو تجن أو مؤامرة (كما يقول نقاد الاستشراق من العرب المعاصرين)، بل إنها بالفعل سمات صحيحة لا زالت تتصف بها الكثرة الغالبة من شعوبنا. ولكن النقد الحقيقي للاستشراق هو أنه يجعلها سمات «متوطنة» أو «ثابتة»، ولا ينسبها إلى ظروف القهر والاضطهاد التي عاناها الإنسان العربي، والشرقي عموما، طوال الجزء الأكبر من تاريخه. ولو اعترفنا بهذه الحقيقة الأخيرة لكان معنى ذلك أن هذه السمات قابلة للتغيير، وأن الإنسان العربي أو الشرقي أو المسلم قادر على أن يتحرر منها إذا استطاع أن يقهر الظروف التي أدت إليها. أما إذا أخرجنا هذه السمات من التاريخ والتطور، وعزلناها عن الظروف الاجتماعية التي أدت إلى ظهورها، فعندئذ يصبح التجاوز والتحرر مستحيلا.
وبعبارة موجزة، فإن أسهل شيء هو أن يخدع الإنسان العربي نفسه، ويستنكر بشدة عملية كشف عيوبه، ويمتشق حسام الكرامة والشرف دفاعا عما يعتقد أنه هويته، فيرفض كل صفة سلبية يكشف عنها الاستشراق بوصفها تزييفا متعمدا. ولكن الطريق الأصعب، الذي هو طريق الشجاعة الحقيقية والتحرر الأصيل، هو أن نقول: نعم، إن فينا كثيرا من هذه العيوب، ولكن هذه لا ترجع إلى طبيعة متأصلة فينا، وإنما هي نتاج ظروف سيئة ينبغي علينا أن نغيرها بأيدينا حتى نستطيع أن نتحرر.
ولكي يدرك القارئ الفرق بين الموقف الناضج من الاستشراق، وبين الموقف المتشنج الذي يعبر عن رضا مفرط عن النفس، ويؤدي في واقع الأمر إلى إلحاق أكبر الضرر بأنفسنا، دعونا نتأمل العبارات التالية لواحد من كبار أساتذة العلوم السياسية. فالحركة الاستشراقية قد نجحت، في نظر هذا الأستاذ، في أمور من بينها: «أن تخلق القناعة في القيادات العربية بأن التراث الإسلامي إن هو إلا تعبير عن التخلف. استطاعت بوعي وحنكة أن تربط التخلف الذي تعيشه الأمة العربية والذي عاشته خلال القرنين 19 و20 بالثقافة الإسلامية لتخلق القناعة بأن هذه الثقافة هي مصدر تخلف ولا سبيل للتخلص من ذلك التخلف إلا بالتخلص من ذلك الانتماء للثقافة الإسلامية ... ولعل أكثر التعبيرات وضوحا في تأكيد نجاح الحركة الاستشراقية هي أنها استطاعت أن تطوع قياداتنا المفكرة لتصير بوقا للنيل من التراث القومي. هل يستطيع أي مؤرخ محايد أن يغفل الدور المخرب الذي قام به أعمدة الثقافة العربية في القرنين 19 و20 من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم دون ذكر لتلك الأسماء الأخرى التي تنتمي إلى الأقليات العربية في سوريا ولبنان. عندما كتب أحد المؤرخين العرب قولته المشهورة: أعداؤنا من الداخل ، إنما عبر عن هذه الحقيقة.»
5
هكذا يؤدي بنا الرضا الزائد عن النفس إلى أن نلحق بأنفسنا أشد الأضرار. فعندما يتحدث الكاتب عن دور مخرب تقوم به «أعمدة الثقافة العربية»، ويؤكد أن أي «مؤرخ محايد» لا بد أن ينسب هذا الدور التخريبي إلى كبار ممثلي تلك الثقافة، ويجعل من الكتاب الكبار «أعداءنا من الداخل» - كل ذلك لأنهم يحاولون إدخال دم جديد إلى جسد الثقافة العربية - فعندئذ نستطيع أن نتبين عمق المأساة التي يؤدي إليها تضخيم الذات والاكتفاء بها والارتياب في كل ما يأتيها من مصدر خارج عنها، والاعتقاد بأن العالم كله متربص بهذه الذات المتضخمة، الخالية من العيوب، وأن الأعداء قد تسللوا إلى صفوفنا وجندوا لصالحهم «أعمدة ثقافتنا» حتى أصبحت الأعمدة تهدم بدلا من أن تدعم! (5)
وهناك عامل أساسي يكمن وراء الحملة على الاستشراق، وإن لم يكن معترفا به صراحة لدى أصحاب هذه الحملة، بل ربما لم يكن يصعد إلى مستوى الحضور الواعي لدى الكثيرين ممن يتأثرون به. هذا العامل هو أن الاستشراق ينبني على صبغ التاريخ والحضارة الإسلامية (والشرقية عامة) بصبغة إنسانية. فالتاريخ يصبح في معالجات المستشرقين تاريخا دنيويا صنعه بشر معرضون للخطأ، ومسار الحضارة الإسلامية ونموها يخضع للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تخضع لها سائر الحضارات. وهذه الطريقة في المعالجة تؤدي ضمنا إلى زعزعة أركان تلك النظرة اللاهوتية أو الميتافيزيقية إلى وقائع التاريخ والمجتمع الإسلامي، وهي النظرة التي أصبحت راسخة في أذهاننا لأنها هي التي سادت على مر الزمن.
إن الاستشراق ينزل التاريخ الإسلامي من السماء إلى الأرض، وهذه في نظر الكثيرين جريمة كبرى يستحيل السكوت عليها؛ لأنها تؤدي ببساطة إلى نزع هالة القداسة عن تاريخ يفترض أن إشعاع النبوة «والخلافة» (وهو في ذاته لفظ مقدس) ظل يضيئه من بدايته إلى نهايته. ولكننا لو تركنا جانبا مسألة الصواب والخطأ، بل حتى لو سلمنا بأن المستشرقين كانوا يبيتون نية الكيد للإسلام عندما جعلوا تاريخه بشريا، فلا بد أن نعترف بأن هذه النظرة تفيد في إحداث «صدمة» يحتاج إليها المسلمون الذين أخرجوا تاريخهم عن نطاق الزمن والتغير وقابلية الفناء. فهي تقدم نموذجا «مختلفا» لم نعتده من قبل، وتتيح لنا أن نتأمل تاريخنا بصورة أعمق لأنها تضيف إليه بعدا جديدا لم نعمل له حسابا من قبل. ولو افترضنا أن المستشرقين أفرطوا في صبغ فترات مقدسة معينة من التاريخ الإسلامي بصبغة بشرية، فنزعوا هالة القداسة مثلا عن فترة صدر الإسلام، وتوسعوا في الحديث عن المنازعات والمناورات والمؤامرات التي كانت تدور فيها، أو فسروا منازعات نتصور أنها دينية أو فكرية بحتة، بأسباب اجتماعية أو اقتصادية، وهو أمر تأباه النظرة التقليدية وتبتعد عنه قدر إمكانها، فإن هذا يظل أمرا مفيدا لأنه يفتح أبواب منظور جديد، حتى لو كان يبدو بعيدا عن الصحة في نظر أولئك الذين يجعلون من فترة صدر الإسلام عصرا ذهبيا سادته القداسة وتنزه عن أطماع البشر ودسائسهم الدنيوية.
وهنا أود أن أؤكد أن مناهج المستشرقين قد لا تكون في جميع الأحيان دقيقة كل الدقة، وقد لا تتابع أحدث التطورات المنهجية في ميدان العلوم الإنسانية. ومع ذلك فإن هذه المناهج الحديثة، حتى في أبسط أشكالها العلمية وأقدمها، كما هي الحال في المنهج التاريخي، تظل شيئا جديدا وغريبا ومخيفا بالنسبة إلى الباحثين الشرقيين الذين يرفعون مفهوم «القداسة» فوق مستوى التشريح والتفسير العلمي، ويظل من يطبق منهجا كهذا - حتى لو كانت التطورات قد تجاوزته - معرضا للاتهام بالكيد للإسلام والتآمر عليه.
وهكذا، فإن جانبا هاما من جوانب الحملة على الاستشراق يمكن تفسيره بالحرص على المقدسات والخوف من أن تؤدي الرؤية الخاضعة لمناهج عقلانية دقيقة إلى إنزالها من عليائها وجعلها كما يقول نيتشه «أمورا إنسانية، إنسانية تماما.»
تحليل لنقاد الاستشراق
إذا تركنا جانبا الفئة التي تنقد الاستشراق من منطلق ديني، وهي فئة تنتمي جذورها إلى التراث التعليمي التقليدي، ويندر أن نجد بينها من ألم بالثقافة الحديثة إلماما كافيا (هناك استثناءات واضحة مثل العقاد، ولكنها قليلة جدا). فسوف يلفت نظرنا أن الأغلبية الساحقة ممن ينقدون الاستشراق من منطلق سياسي وحضاري قد تشبعوا بالثقافة الغربية، وأهم الشخصيات فيهم من العرب الذين يعيشون في الغرب بصورة دائمة (أنور عبد الملك وإدوارد سعيد) ومعظم الباقين قضوا في الغرب سنوات طويلة أو توزعت حياتهم بين بلد غربي وبلدهم الأصلي.
فهل نستطيع أن نستنتج شيئا من هذه الحقيقة؟ هل يمكن القيام بتحليل اجتماعي نفسي للمثقف العربي الذي يعايش الغرب طويلا، ويقود الحملة التي تهدف إلى فضح الدوافع الخفية للاستشراق والتشكيك في موضوعيته؟ لا شك أن هذا ميدان لا يسمح إلا باستبصارات يستحيل أن تأخذ شكل المعرفة المبنية على الدليل والبرهان، ومجال الاجتهاد فيه واسع ومتعدد الاتجاهات إلى أقصى حد. ويكفي أن أشير بكل وضوح إلى أنه لا شيء مؤكد في موضوع كهذا، وكل ما سأقدمه استنتاجات شخصية يستطيع القارئ تعديلها كما يشاء، أو رفضها كلها إذا أراد. (1)
أول ما ينبغي أن نلاحظه هو أن نظرة أمثال هؤلاء المثقفين إلى الاستشراق أعقد بكثير من نظرة أصحاب المنطلق الديني. ففي الحالة الأخيرة هناك مواجهة مباشرة بين نظرة إيمانية ونظرة عقلانية، بين التسليم والتحليل، وتتحدد المواقف بوضوح وبساطة: فالمدافع عن التراث يقف على أرضه الخاصة، ويتكلم لغته الخاصة، ويتبع منهجه (أو لا-منهجه) الخاص، بينما المستشرق يصب التراث في قوالب ثقافته هو، وتتصادم نتائجه حتما مع الصورة التقليدية التي رسمها التراث لنفسه طوال تاريخه.
ولكن المواجهة بين العربي المتشبع بالثقافة والمناهج الغربية، وبين الغربي الذي يوجه بحثه إلى الشرق، أعقد من ذلك بكثير، إنها مواجهة بين شرقي مستغرب وغربي مستشرق. فهنا تتداخل الخيوط وتتشابك العلاقات ويختفي في ذلك التضاد البسيط الواضح الذي رأينا أنه يفصل بين الشرقي المؤمن والغربي الناقد. ومن الطبيعي أن يتساءل العربي الذي يستوطن الغرب، والذي اندمج فيه، عن السبب الذي يجعل المستشرق «غير مندمج» في الشرق، وأن يقارن بين إزالته هو للحواجز مع الثقافة التي أصبح مندمجا فيها، وبين إقامة المستشرق لكثير من حواجز ثقافته الخاصة إزاء الشرق، ونظرته إلى موضوع دراسته بطريقة لا تخلو من الترفع، حتى ولو كان ممزوجا بالتعاطف. (2)
على أن عملية اندماج المثقف العربي في الغرب، لا تخلو من قدر من المقاومة، ومن الرغبة في تأكيد الذات. إن مشكلة الهوية تثار أمامه في كل لحظة من حياته، ومن الطبيعي أن يتجه، وهو يعيش وسط ثقافة غير ثقافته، إلى تأكيد أصوله الأولى كنوع من مقاومة الذوبان في الهوية الجديدة.
إن الشرق، أو الإسلام الحضاري، الذي يدافع عنه العرب المتشبعون بالثقافة الغربية، أو الذين يقيمون في الغرب إقامة دائمة، لا يقل «رومانتيكية» في كثير من الأحيان عن الشرق الخلاب الساحر الغريب
Exotic
الذي يصفه كثير من الرحالة الغربيين. ففي غمرة الحماس من أجل الدفاع عن أصولهم الأولى، ومقاومة الانتماء المتأخر، فضلا عن تأخير الابتعاد الطويل عن الوطن، يلجأ هؤلاء المثقفون إلى تقديم صورة عن «شرق وهمي» لا تقل بعدا عن الواقع الفعلي عن صورة المستشرقين. فالاستشراق متهم بأنه يصور شرقا متخلفا، متحجرا، يظل جوهرا ثابتا خارجا عن التاريخ والزمان. ومعنى ذلك أن نقاد الاستشراق من العرب ينكرون أن يكون الشرق متصفا بهذه الصفات. ولكن لو قدر لهم أن يحيوا طويلا في مجتمعاتهم، ويتأملوا نوع الفكر الذي تنشره جماعات دينية أصبحت الآن تسيطر على أغلبية لا يستهان بها من شباب المجتمع العربي، لوجدوها هي ذاتها تنادي بالثبات عند نقطة واحدة من التاريخ (صدر الإسلام)، ولوجدوا أحكامها على كل مشكلة عصرية، تصدر على أساس حلول تم التوصل إليها منذ ألف وأربعمائة عام، ولوجدوا حرب 1973م تقاس حرفيا بموقعة بدر، ولوجدوا أن القول بوجود أحكام شرعية تتعلق بالإنسان (أكثر الكائنات تغيرا) وتصلح لكل زمان ومكان؛ هذا القول قد أصبح راسخا إلى حد أن أحدا لم يعد يجرؤ على تحديه. هذا هو الواقع العربي والإسلامي كما يتمثل اليوم لدى القطاعات التي تعد نفسها مدافعة أصيلة عن الإسلام، فأين منه تلك الصورة الرومانتيكية التي يتمسك بها النقاد العرب المعاصرون للاستشراق؟ (3)
بل إنني أكاد أقول بأن من وراء هذه الصورة المبالغ فيها للشرق، لدى العرب المغتربين والمستغربين، رغبة في رد الاعتبار إلى مجتمع أصلي متروك ومهجور، واتجاها لا شعوريا إلى التخلص من عقدة الذنب التي ولدها تخليهم عن هذا المجتمع. إن باحثا في وضع كهذا يتجه إلى سداد الدين للثقافة الأصلية التي تركها، عن طريق الهجوم الحاد على الثقافة الجديدة، والدفاع المتطرف، الذي يصل إلى حد فقدان الرؤية الواقعية عن ثقافة المنشأ. ويكاد المرء يلمح في تلك السمات التي يرسمون بها صور الشرق عند المستشرقين - سمات الشرق السلبي، الخاضع، المتحجر، الذي لا يريده أحد لذاته، وإن كان الجميع يطمعون فيه - آثارا للضمير المثقل بالذنب.
والنتيجة الطبيعية التي تؤدي إليها الرغبة في رد اعتبار الموطن الأصلي وتخفيف الشعور بالذنب لدى الشرقي المهاجر، هي أن يتجه إلى طمس الفوارق بينه وبين بيئته الجديدة. وأوضح تعبير عن ذلك هو ما نجده لدى إدوارد سعيد: «إن ما أدافع عنه هو أن «الشرق» ذاته كيان مصنوع
Constituted ، وأن الفكرة القائلة بوجود أماكن جغرافية لها سكان أصليون، «مختلفون» جذريا، يمكن تعريفهم على أساس عقيدة أو ثقافة أو جوهر عرقي خاص بذلك المكان الجغرافي، هي بدورها فكرة مشكوك فيها إلى حد بعيد.»
6
هذا تصور تلعب فيه العوامل النفسية-الاجتماعية دورا يزيد عن دور العوامل المعرفية والعلمية. إنه تصور المغترب العربي الذي يقول لنفسه: إن الوطن الذي أصبحت فيه ليس أفضل من وطني الأصلي، وليس مختلفا عنه جذريا (أما الصورة الحقيقية لوطنه الأصلي فإنها غابت عنه، أو تغيرت بحكم الرؤية عن بعد، أو أصبحت متسامية
Sublimated
على سبيل التعويض).
فمن الطبيعي أن تكون الاختلافات، في نظر الشرقي الذي يعيش في الغرب، مختفية، ومطموسة، وأن ينتقد بشدة من يؤكد له أن الشرق كيان قائم بذاته؛ وذلك على الأقل لأن هذا لو صح لكان هو ذاته كإنسان مختلفا عن الغربيين الذين يعيش بينهم، وهي نتيجة ضارة ومكروهة. ولو عدنا إلى عالم الواقع لوجدنا أن الشرق ذاته يؤكد اختلافه عن الغرب ويحرص في اتجاهاته التراثية التقليدية على إثبات تفرده وتأكيد هويته القائمة بذاتها. كذلك نجد أن الغربي المستشرق يؤكد هذا الاختلاف، بناء على دوافع مختلفة. ولكن الوحيد الذي يريد محو الاختلاف هو الشرقي الذي يعيش في الغرب، وذلك لعدة أسباب منها أنه لا يشعر بأنه أدنى ثقافيا من البيئة التي يعيش فيها، ومنها رغبته في الارتفاع بمكانة الشرق الذي ينتمي إليه، ومنها أن محو الاختلاف بين الشرق والغرب يجعل حياته أيسر، ومنها سداد الدين للشرق الذي ابتعد عنه. وهكذا يبدو الأمر هنا في جانب منه على الأقل كما لو كان إسقاطا من الباحث العربي لحالته الخاصة وسط مجتمع جديد يشعر فيه بالندية، على مجتمعه الأصلي كله.
ولكن، سواء أكانت المسألة مسألة نوايا طيبة تجاه الموطن الأصلي، أم شعور بالذنب ورغبة في التعويض، فإن النتيجة هي أن الشرق لا يعود في نظر هؤلاء مختلفا، ولا متخلفا، ولا راكدا، ولا أسطوريا، بل إن الاسم ذاته لا يصح إطلاقه عليه لأنه ليس إلا «كيانا مصنوعا». وقد يكون هذا التصور مفيدا للعربي المقيم في الغرب، أو الذي أقام فيه أمدا طويلا؛ لأنه يعيد إليه توازنه الداخلي، ولكنه قطعا ضار بموطنه الأصلي في المدى الطويل. فنحن لا نخدم أنفسنا بمثل هذا الدفاع المتحمس، وبإنكار عيوبنا ومهاجمة كل إشارة إلى وضعنا المتخلف، ونحن لا نثبت مكانتنا إزاء الغرب لو قلنا له: إننا لسنا أقل منك، ولا مختلفين عنك. وإنما نكتسب مكانتنا الحقيقية منذ اللحظة التي نقول فيها بشجاعة: نعم، نحن مختلفون، ومتخلفون، ولكن تخلفنا قد فرض علينا، وليس جزءا من تكويننا، وفي استطاعتنا أن نتغلب عليه!
إن المثقف العربي الذي يعيش في الغرب لا يستطيع لأسباب خارجة عن إرادته أن يكون ممثلا حقيقيا للبيئة التي ينتمي في الأصل إليها. فهو لا يعبر فقط، كما قال «العظم»، عن «استشراق معكوس»، وإنما يعاني من «استشراق مزدوج»، يمر بمرحلتين من التوسط
Mediation
لأن الشرق الذي يتحدث عنه رد فعل على رد فعل. فالمرحلة الأولى هي رؤية الغرب للشرق، أما المرحلة الثانية فهي رؤية الشرقي المغترب للشرق من خلال رد فعله على الرؤية الغربية. وهنا تكمن الدراما الحقيقية لتلك النظرة الفريدة إلى الشرق، فلا هي رؤية غربية خالصة تفهم بوصفها تعبيرا عن نظرة ثقافة إلى ثقافة مختلفة عنها، ويمكن تفسير تشوهاتها وانحرافاتها على هذا الأساس، ولا هي رؤية شرقية خالصة منبعثة من معايشة حقيقية للشرق وتاريخه. ومن هنا فإن نقاد الاستشراق من العرب العلمانيين غير مقبولين لدى المستشرقين، ولكن الأهم من ذلك أنهم أيضا غير مقبولين لدى الشرقيين التراثيين. فهم يحاربون تلك النظرة المطلقة، الجامدة والسكونية، إلى الإسلام، وهي النظرة التي يدافع عنها المستشرقون والإسلاميون السلفيون، كل من جانبه الخاص، وبذلك يقفون في تلك الأرض الحرام
No-man’s Land
التي لا يعترف بها الطرفان معا. (4)
ومن النقاط الجزئية التي لا ينبغي أن تفوتنا في هذا التحليل، الوضع الديني لأهم الممثلين العرب في حركة نقد الاستشراق. فأنور عبد الملك وإدوارد سعيد مسيحيان مقيمان في بلاد مسيحية، ومهاجران من أرض إسلامية. ومن المؤكد أن هناك اختلافا واضحا بين جيلهما وجيل المثقفين المسيحيين العرب السابق في الموقف من الحضارة الغربية. فجيل شبلي شميل وسلامة موسى كان يدافع عن الحضارة الغربية إلى حد التعرض للاتهام بممالأة الغرب. ولكن الجيل الذي نتناوله هنا بالبحث قد أثبت قدرا كبيرا من الموضوعية حتى قاد الهجوم على تصور الغرب للشرق والدفاع عن المجتمع والتاريخ الإسلامي. صحيح أنه يتحدث في معظم الأحيان عن «الإسلام الحضاري»، لا عن الإسلام كعقيدة، ولكن هذا هو المتوقع منه، لا لكونه مسيحيا فحسب، بل لكونه علمانيا قبل كل شيء. (5)
وأخيرا، فإن هذا التحليل النفسي الاجتماعي يؤدي بنا إلى عامل آخر ذي طابع أعم، يساعد إلى حد بعيد على تفسير حركة نقد الاستشراق بين العرب المتشبعين بالثقافة الغربية؛ فهم قد أكدوا ذاتهم علميا إلى الحد الذي يشعرون معه أنهم بلغوا سن النضج والاستقلال عن الغرب. وإذا كان شعار الجيل الذي سبقهم من العلمانيين بل ومن بعض أنصار المعسكر الديني هو أننا لا نستطيع أن نلحق بالغرب ثم نتفوق عليه إلا باقتباس أساليب حياته وفكره، فإن الجيل الحالي يشعر بأن هذه التجربة قد أخذت مداها، وأنه آن الأوان لإعلان الاستقلال الفكري عن الغرب، بحيث نكف عن أن نرى أنفسنا من خلال مرآته. بل إن الاتجاه إلى تأكيد الاستقلال يصل إلى حد إلقاء ظل من الشك على مناهج الفكر الغربية بوصفها جزءا لا يتجزأ من نزوع الغرب إلى السيطرة. إنها محاولة بطولية ولا شك. ولكنها، في ضوء النظرة الواقعية، تبدو كما لو كانت سابقة لأوانها، ويبدو أنها تسعى إلى حرق مراحل ما زال من الضروري أن نمر بها. والدليل على ذلك: (أ)
أن محاولة الاستقلال ذاتها تتم من خلال مصطلحات ومناهج غربية خالصة. فبدون الخلفية الثقافية الغربية القوية، كان من المستحيل أن تظهر الانتقادات التي يوجهها هؤلاء المثقفون العرب إلى الاستشراق وإلى الثقافة الغربية، من حيث دوافعها ومناهجها ومضامينها. وهكذا تظل هذه الدعوة إلى الاستقلال دائرة في نفس الفلك الذي تحاول أن تستقل عنه. (ب)
إن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق إلا عن طريق الإتيان بالبديل. أو بعبارة أخرى: إن حركة نقد الاستشراق بين العرب المعاصرين لن تكون مقنعة كل الإقناع إلا إذا صاحبها قيام الثقافة العربية بملء الفراغ الذي كان يسده الاستشراق. ولكن الذي حدث حتى الآن هو أن الاستشراق قد انتقد من كافة الأطراف، دون أن تظهر حركة ناضجة تضمن استغناءنا عنه.
وهكذا تبدو حركة نقد الاستشراق هذه تعبيرا عن حلم النضوج المبكر في ثقافة تمر بأول مراحل الوعي الذاتي. ولكن الموقف الأنضج من ذلك في رأيي هو أن نعترف بحدودنا المعرفية ونبذل قصارى جهدنا من أجل تجاوزها، أي من أجل تقريب اليوم الذي يمكننا فيه أن نستقل برؤيتنا الخاصة لذاتنا، منهجا ومحتوى.
خاتمة
هكذا يبدو أنه، إذا كان الاستشراق قد اتهم ثقافتنا بأنها حالة من حالات النمو الموقوف
Arrested Development
فإن هذه الثقافة، رغبة منها في الرد على هذا الاتهام، قد سارت في طريق النمو المتسارع
Accelerated Development
الذي يحرق كثيرا من المراحل قبل أن يمر بها.
هذا التسارع يسير في اتجاهين، ينبغي أن نكون على وعي بهما حتى نحقق لأنفسنا استقلال الناضجين، لا استقلال المراهقين المتعجلين:
الأول معرفي، ننسب فيه إلى الغرب وحده تطوير المناهج العقلانية والتجريبية الحديثة، وندعو إلى تجاوزها، فتكون النتيجة الفعلية هي أننا نعطي الغرب أكثر مما يستحق؛ لأن الغرب ليس إلا حلقة متأخرة - لن تكون الأخيرة قطعا - في سلسلة طويلة من الثقافات التي أسهمت كلها فيما وصلت إليه المعرفة البشرية. ومن جهة أخرى فإننا حين نبالغ في ربط أي نظام معرفي (كالاستشراق) بالجذور التي نشأ منها (نزعة السيطرة الأوروبية) ننسى قدرة المعرفة على أن تستقل عن أصلها وتكون لنفسها بمضي الزمن مسارها الخاص، بغض النظر عن جذورها الأولى.
أما الاتجاه الثاني، والأخطر، فهو اجتماعي، نعمل فيه على تبرئة أنفسنا من العيوب لمجرد أن خصومنا يؤكدون هذه العيوب، ونخلق لأنفسنا صورة مشوهة لا تقل عن تلك التي يخلقها الاستشراق؛ إذ نؤكد أننا مجتمع تسوده الديناميكية والتغير والتعدد، ونجعل من الثبات والتحجر والطابع الأسطوري مجرد وهم خلقه المستشرقون، وبذلك نتخذ من الاستشراق سلما يوصلنا إلى أخطر أنواع الخداع الذاتي.
إن هذا البحث يبدو في ظاهره منصبا على موضوع متخصص محدود النطاق، هو تقييم حركة نقد الاستشراق بين العرب المعاصرين، ولكنه في حقيقته بحث يمس أهم جوانب الأزمة التي تمر بها الثقافة العربية في علاقتها بالغرب. والواقع أن اتجاه البحث ذاته يؤدي إلى هذا الانتقال من الخاص والجزئي إلى العام والكلي؛ إذ كان من أهم النتائج التي حاولت أن أثبتها، تأكيد أن الاستشراق لا ينبغي أن يبحث من حيث هو ظاهرة منعزلة، تسير في اتجاه واحد (رؤية الغرب للشرق)، بل يجب النظر إليه في إطار أوسع بكثير، هو الإدراك المتبادل بين الثقافات في ظروف تاريخية متباينة ومعقدة، قد تتخذ أحيانا طابع السيطرة، أو طابع الضعف، أو الخوف والحذر ... إلخ.
والفكرة التي أود أن أؤكدها، في ختام هذا البحث، هي أننا قد سرنا في مهاجمة تشويهات الاستشراق إلى حد خلق تشويهاتنا الخاصة عن أنفسنا وعن علاقتنا بالآخرين. وكل من عايش العقل العربي في النصف الثاني من القرن العشرين يعلم جيدا أن هذا العقل ما زال في أكثر تياراته فاعلية وشعبية، يبحث عن ذلك الجوهر المطلق الذي لم يغيره التاريخ، ويرى فيه خلاصه الأوحد.
وكل من عايش هذا العقل يعلم أنه ما زال متعلقا بالنظرة الأسطورية إلى حد أن المحاكم الرسمية تصدر فيه - خلال السنتين الأخيرتين - حكمين قضائيين بإمكان زواج رجل من جنية ... وهو ما زال متعلقا بالخرافة إلى حد أن نسبة كبيرة من طلاب الجامعة - أعلى شريحة تعليمية - تقاوم بشدة من يدعوها إلى التخلي عن الاعتقاد بالسحر والحسد ... وهو ما زال مرتبطا بماض مفقود الصلة بالعصر إلى حد أن معارض الكتب في البلاد العربية ما زالت تضم نسبة طاغية من كتابات تكرر نفسها وتعيد ما قيل من قبلها مئات المرات منذ مئات السنين.
وهو ما زال بعيدا عن العلم إلى حد أن كاتب هذا البحث نفسه تعرض لأوسع هجوم من الصحف والمجلات وخطباء المساجد، لمجرد أنه تجاسر على القول إن الذين حققوا العبور في حرب 1973م لم يكونوا هم الملائكة، وإنما كانوا جنودا مدربين تدريبا عصريا.
1
إن آخر ما أفكر فيه هو تثبيط الهمم؛ فإلى جانب هذه الصور القاتمة هناك صور مضيئة لا شك فيها، وهناك تنوير يسير في طريقه بجدية، حتى ولو كان محدود النطاق. ولكن ما أود أن أحذر منه هو ألا نخدع أنفسنا لمجرد إثبات أن الآخرين يتجنون علينا أو لا ينظرون إلينا بإنصاف.
إن الاستشراق ليس بالقطع معرفة بريئة من الشوائب، ولكن الخطر الأكبر يكمن في أن ننكر عيوبنا لمجرد أن غيرنا يقول بها لأهداف غير موضوعية. إن دورنا الثقافي في المرحلة الراهنة هو أن نمسك ثور التخلف من قرنيه، وأن ننقد أنفسنا قبل أن ننقد الصورة التي يكونها الآخرون عنا، حتى لو كانت هذه صورة لا تستهدف إلا التشويه.
অজানা পৃষ্ঠা