ـ[الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى]ـ
المؤلف: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: ١٣١٥هـ)
المحقق: جعفر الناصري/ محمد الناصري
الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء
سنة النشر:
عدد الأجزاء: ٣
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 1
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الْملك المعبود الرؤوف الرَّحِيم الْوَدُود الْمخْرج لِلْخلقِ من ظلمَة الْعَدَم إِلَى نور الْوُجُود الفاتح عَلَيْهِم بمعرفته والتحقق بوحدانيته كل بَاب مسدود الدَّال لَهُم على باهر حكمته وعظيم قدرته بِالْمَعْنَى الْمَعْقُول والحس الْمَشْهُود فَلَا يرتاب فِي أَنه الْوَاحِد الْقَدِير الْعَلِيم الْخَبِير إِلَّا الكفور الكنود خلق الْعباد وَقدر آجالهم وأحصى أنفاسهم وأمالهم وأوقفهم من شَرعه على نهج سوي وحد مَحْدُود فَمن وقف عِنْده وأطاع فقد فَازَ من ثَمَرَة الإيجاد بِالْمَقْصُودِ وَمن حاد عَنهُ واستكبر فقد أورد نَفسه الردى وَبئسَ الْورْد المورود نحمده تَعَالَى على مَا أَسْبغ من النعم الْبيض وكسا من البرود وأزاح من الْعِلَل وَوقى من النوب السود ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة نتبوأ بهَا من الْجنان السدر المخضود
1 / 57
والطلح المنضود والظل الْمَمْدُود ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أكْرم مَبْعُوث وأشرف مَوْلُود صَاحب الْمقَام الْمَحْمُود واللواء الْمَعْقُود والحوض المورود صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين هم فِي محافل السّلم بدور وَفِي جحافل الْحَرْب أسود وَلَهُم فِي أَتْبَاعه ونصرته الْيَد الْبَيْضَاء والباع الْمَمْدُود وَالدُّعَاء لأمير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا الْحسن ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن كَوْكَب السُّعُود ومنبع الْكَرم والجود والمنير بطلعته الغراء وإمامته الْبَيْضَاء الأغوار والنجود لَا زَالَت بِهِ مِلَّة الْإِسْلَام بحول الله فِي صعُود تردي الْكفْر وتنفي الْبَغي وتذود وتصول على الضلال وَتسود آمين وَبعد فَيَقُول مُؤَلفه أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي عَفا الله عَنهُ هَذَا بعون الله كتاب الِاسْتِقْصَاء لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى كتاب جمعته لنَفْسي وَلمن شَاءَ الله من أَبنَاء جنسي ذكرت فِيهِ دوَل هَذَا الْقطر المغربي من لدن الْفَتْح الإسلامي إِلَى وقتنا هَذَا الَّذِي هُوَ آخر الْقرن الثَّالِث عشر سالكا فِيمَا أنقله من ذَلِك سَبِيل الِاخْتِصَار آتِيَا مِنْهُ بِمَا تسمو إِلَيْهِ النُّفُوس من حوادث الْأَعْصَار ملما بِمَا لَا بُد مِنْهُ من وفيات بعض الْأَئِمَّة المقتدى بهم فِي الدّين متبركا أَولا بِذكر رَسُول الله ﷺ وخلفائه الرَّاشِدين متحريا من القَوْل أَصَحهَا وَمن الْعبارَات أفصحها وَالله تَعَالَى المسؤول فِي بُلُوغ المأمول فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ الْمِنَّة والطول وَبِيَدِهِ تَعَالَى الْقُوَّة والحول
1 / 58
مُقَدّمَة فِي فضل علم التَّارِيخ
اعْلَم أَن علم التَّارِيخ من أجل الْعُلُوم قدرا وأرفعها منزلَة وذكرا وأنفعها عَائِدَة وذخرا وَكَفاهُ شرفا أَن الله تَعَالَى شحن كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه من أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والقرون الخالية بِمَا أفحم بِهِ أكَابِر أهل الْكتاب وأتى من ذَلِك بِمَا لم يكن لَهُم فِي ظن وَلَا حِسَاب ثمَّ لم يكتف تَعَالَى بذلك حَتَّى امتن بِهِ على نبيه الْكَرِيم وَجعله من جملَة مَا أسداه إِلَيْهِ من الْخَيْر العميم فَقَالَ جلّ وَعلا ﴿تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها﴾ وَقَالَ ﴿وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك﴾ وَقَالَ ﴿لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب﴾ وَقد كَانَ رَسُول الله ﷺ كثيرا مَا يحدث أَصْحَابه بأخبار الْأُمَم الَّذين قبلهم ويحكي من ذَلِك مَا يشْرَح بِهِ صُدُورهمْ وَيُقَوِّي إيماناهم ويؤكد فَضلهمْ وَكتاب بَدْء الْخلق من صَحِيح البُخَارِيّ ﵀ كَفِيل بِهَذَا الشَّأْن وَآت من الْقدر المهم مِنْهُ مَا يبرد غلَّة العطشان قَالَ بَعضهم احْتج الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على أهل الْكِتَابَيْنِ بالتاريخ فَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا أهل الْكتاب لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون﴾ وَحكى بدر الدّين الْقَرَافِيّ ﵀ إِن الإِمَام الشَّافِعِي ﵁ كَانَ يَقُول مَا مَعْنَاهُ دأبت فِي قِرَاءَة علم التَّارِيخ كَذَا وَكَذَا سنة وَمَا قرأته إِلَّا لأستعين بِهِ على الْفِقْه
1 / 59
قلت معنى كَلَام الشَّافِعِي هَذَا أَن علم التَّارِيخ لما كَانَ مطلعا على أَحْوَال الْأُمَم والأجيال ومفصحا عَن عوائد الْمُلُوك والأقيال ومبينا من أعراف النَّاس وأزيائهم ونحلهم وأديانهم مَا فِيهِ عِبْرَة لمن اعْتبر وَحِكْمَة بَالِغَة لمن تدبر وافتكر كَانَ معينا على الْفِقْه وَلَا بُد وَذَلِكَ أَن جلّ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَبْنِيّ على الْعرف وَمَا كَانَ مَبْنِيا على الْعرف لَا بُد أَن يطرد باطراده وينعكس بانعكاسه وَلِهَذَا ترى فتاوي الْفُقَهَاء تخْتَلف باخْتلَاف الْأَعْصَار والأقطار بل والأشخاص وَالْأَحْوَال وَهَذَا السَّبَب بِعَيْنِه هُوَ السِّرّ فِي اخْتِلَاف شرائع الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وتباينها حَتَّى جَاءَ مُوسَى بشرع وَعِيسَى بآخر وَمُحَمّد بسوى ذَلِك صلى الله على جَمِيعهم وَسلم تمّ فَائِدَة التَّارِيخ لَيست محصورة فِيمَا ذَكرْنَاهُ بل لَهُ فَوَائِد أخر جليلة لَو قيل بِعَدَمِ حصرها مَا بعد قَالَ الْجلَال السُّيُوطِيّ ﵀ من فَوَائِد التَّارِيخ وَاقعَة رَئِيس الرؤساء الْمَشْهُورَة مَعَ الْيَهُود بِبَغْدَاد وحاصلها أَنهم أظهرُوا رسما قَدِيما يتَضَمَّن أَن رَسُول الله ﷺ أَمر بِإِسْقَاط الْجِزْيَة عَن يهود خَيْبَر وَفِيه شَهَادَة جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب ﵁ فَرفع الرَّسْم إِلَى رَئِيس الرؤساء وعظمت حيرة النَّاس فِي شَأْنه ثمَّ عرض على الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فَتَأَمّله وَقَالَ هَذَا مزور فَقيل لَهُ بِمَ عَرفته قَالَ فِيهِ شَهَادَة مُعَاوِيَة وَهُوَ إِنَّمَا أسلم عَام الْفَتْح سنة ثَمَان من الْهِجْرَة وخيبر فتحت سنة سبع وَفِيه شَهَادَة سعد بن معَاذ وَهُوَ مَاتَ يَوْم بني قُرَيْظَة وَذَلِكَ قبل فتح خَيْبَر فسر النَّاس بذلك وزالت حيرتهم اه قَالَ الْعَلامَة القادري فِي الأزهار الندية وَفِي حُدُود صدر هَذِه الْمِائَة أَعنِي الْمِائَة الْحَادِيَة عشرَة ظهر نَحْو هَذَا الْكتاب المزور بِمَعْنَاهُ وَالرَّفْع على خطوطه بتاريخ سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة
1 / 60
بِالْمُوَحَّدَةِ ثمَّ ظهر أَيْضا بتاريخ سِتّ وَثَمَانمِائَة ثمَّ تعدد ظُهُوره مرَارًا آخرهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف مُسَمّى فِيهِ جمَاعَة مِمَّن شهرتهم بِالدّينِ وَالْعلم قاطعه بالتقول عَلَيْهِم فِي ذَلِك انْظُر بَقِيَّة كَلَامه
قلت وَقد وقفت فِي بعض التقاييد المظنون بهَا الصِّحَّة على كَلَام للأديب أبي عبد الله اليفرني الْمَعْرُوف بالصغير فِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ جرى بِمَجْلِس شَيخنَا قَاضِي الْجَمَاعَة فلَان الْفُلَانِيّ ذكر علم التَّارِيخ فَقَالَ إِن علم التَّارِيخ يضر جَهله وَتَنْفَع مَعْرفَته لَا كَمَا قيل إِنَّه علم لَا ينفع وجهالة لَا تضر قَالَ وَانْظُر مَا وَقع فِي هَذَا الْوَقْت فِي حُدُود عشر وَمِائَة ألف من أَن نَفرا من يهود فاس الْجَدِيد امْتَنعُوا من أَدَاء الْجِزْيَة وأخرجوا ظهيرا قَدِيما مضمنه أَن النَّبِي ﷺ عقد لمُوسَى بن حييّ بن أَخطب أخي صَفِيَّة ﵂ وَلأَهل بَيت صَفِيَّة الْأمان لَا يطَأ أَرضهم جَيش وَلَا عَلَيْهِم نزل وَلَهُم ربط العمائم فعلى من أحب الله وَرَسُوله أَن يؤمنهم وَكتب عَليّ بن أبي طَالب وَشهد عَتيق بن أبي قُحَافَة وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وتاريخ شَهَادَتهم فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع من الْهِجْرَة قَالَ شَيخنَا فَظهر لي ولعلماء الْعَصْر أَن ذَلِك زور وافتراء لَا شكّ فِيهِ وَلَا امتراء لِأَن التَّارِيخ بِالْهِجْرَةِ إِنَّمَا حدث زمن عمر سنة سبع عشرَة لأسباب
1 / 61
اقْتَضَت ذَلِك كَمَا فِي ابْن حجر وَلِأَن أهل التَّارِيخ لم يذكرُوا لصفية أَخا اسْمه مُوسَى وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ فِي الْأَحَادِيث أَنه ﵊ قتل أَبَا صَفِيَّة وَزوجهَا وَلِأَن الظهير الَّذِي استظهروا بِهِ نُسْخَة من الأَصْل الَّذِي فِيهِ خطوط الصَّحَابَة وَقد أَرخُوا الاستنساخ من الأَصْل بِسنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فقد تَأَخّر خطّ الصَّحَابَة بزعمهم إِلَى الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَيف يتَوَصَّل فِي الْمِائَة الثَّامِنَة إِلَى أَن ذَلِك خطّ الصَّحَابَة هَذَا خُلَاصَة مَا كتبه أهل فاس فِي إبِْطَال الظهير وَلما رفع ذَلِك إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل ﵀ عاقب الْيَهُود عقَابا شَدِيدا اه
وَبِالْجُمْلَةِ ففضيلة علم التَّارِيخ شهيرة وَفَائِدَته جليلة خطيرة ومادحه مَحْمُود غير ملوم والْحَدِيث بفضله حَدِيث بِمَعْلُوم وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول
(وَبعد فالتاريخ والإخبار ... فِيهِ لنَفس الْعَاقِل اعْتِبَار)
(وَفِيه للمستبصر استبصار ... كَيفَ أَتَى الْقَوْم وَكَيف صَارُوا)
(يجْرِي على الْحَاضِر حكم الْغَائِب ... فَيثبت الْحق بِسَهْم صائب)
(وَينظر الدُّنْيَا بِعَين النبل ... وَيتْرك الْجَهْل لأهل الْجَهْل)
وَقَالَ الآخر
(لَيْسَ بِإِنْسَان وَلَا عَاقل ... من لَا يعي التَّارِيخ فِي صَدره)
(وَمن روى أَخْبَار من قد مضى ... أضَاف أعمارا إِلَى عمره)
1 / 62
ذكر رَسُول الله ﷺ وخلفائه الْأَرْبَعَة ﵃
أما رَسُول الله ﷺ فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهيميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم ﵉ ابْن تارح وَهُوَ آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح ﵇ ابْن لامك بن متوشلخ بن حنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم ﵉ فَأَما مَا بَين رَسُول ﷺ وَبَين عدنان فمتفق عَلَيْهِ عِنْد عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأما مَا بَين عدنان وَإِسْمَاعِيل فمختلف فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا مَا بَين سَبْعَة آبَاء إِلَى نَحْو الْأَرْبَعين وَالْمُخْتَار مَا ذَكرْنَاهُ تبعا لأبي الْفِدَاء وَأما مَا بَين إِسْمَاعِيل وآدَم ﵉ فمتفق عَلَيْهِ عِنْد أهل الْكتاب وَهِي أَسمَاء أَعْجَمِيَّة يكثر تغييرها لصعوبة النُّطْق بحروفها وَالله أعلم
قَالَ ابْن خلدون ولد رَسُول الله ﷺ عَام الْفِيل لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول لأربعين سنة من ملك كسْرَى أنو شرْوَان وَقيل لثمان وَأَرْبَعين ولثمانمائة واثنتين وَثَمَانِينَ سنة لذِي القرنين وَمَات أَبوهُ عبد الله وَأمه حَامِل بِهِ وكفله جده عبد الْمطلب واسترضع لَهُ امْرَأَة من بني
1 / 63
سعد بن بكر اسْمهَا حليمة بنت أبي ذُؤَيْب السعدية فَكَانَ عِنْدهَا نَحْو أَربع سِنِين وشق صَدره ﷺ وَهُوَ عِنْدهَا فِي السّنة الرَّابِعَة من مولده فخافت عَلَيْهِ وردته إِلَى أمه ثمَّ مَاتَت أمه عقب ذَلِك وَاسْتمرّ فِي كَفَالَة جده عبد الْمطلب إِلَى أَن توفّي أَيْضا لمضي ثَمَان سِنِين من مولده ﷺ فأوصى بِهِ عبد الْمطلب إِلَى ابْنه أبي طَالب فَكَفَلَهُ أَبُو طَالب أحس كَفَالَة وَقَامَ بِشَأْنِهِ أتم قيام وَنَشَأ ﷺ نشأة طيبَة يحفظه ربه ويكلؤه لما يُرِيد بِهِ من كرامته ويهيء لَهُ من نبوته ورسالته وَتزَوج خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَشهد بِنَاء الْكَعْبَة وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة وَوضع الْحجر الْأسود بِيَدِهِ الشَّرِيفَة فِي مَوْضِعه بعد أَن تراضت قبائل قُرَيْش عَلَيْهِ ثمَّ آتَاهُ الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة على رَأس أَرْبَعِينَ سنة من عمره ﷺ
أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَائِشَة ﵂ قَالَت أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله ﷺ من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَلمُسلم الصادقة فِي النّوم فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء يَتَحَنَّث فِيهِ والتحنث التَّعَبُّد اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد قبل أَن يرجع إِلَى أَهله ويتزود لذَلِك ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْي وَفِي رِوَايَة حَتَّى فجئه الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ اقْرَأ فَقَالَ (مَا أَنا بقارىء قَالَ فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ قلت مَا أَنا بقاريء فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ ﴿اقْرَأ فَقلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ﴾ (اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم) فَرجع بهَا رَسُول الله ﷺ ترجف بوادره حَتَّى دخل على خَدِيجَة فال (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة (أَي خَدِيجَة مَالِي) وأخبرها الْخَبَر وَقَالَ (لقد خشيت على نَفسِي) قَالَت لَهُ خَدِيجَة كلا أبشر
1 / 64
فو الله لَا يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم وتقري الضَّيْف وَتعين على نَوَائِب الْحق فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة وَكَانَ امراءا تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فِي كتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمى فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة أَي ابْن عَم اسْمَع من ابْن أَخِيك فَقَالَ لَهُ ورقة يَا ابْن أخي مَاذَا ترى فَأخْبرهُ رَسُول الله ﷺ خبر مَا رأى فَقَالَ لَهُ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي أنزل الله على مُوسَى يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا لَيْتَني أكون حَيا إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله ﷺ (أَو مخرجي هم) قَالَ نعم لم يَأْتِ رجل قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا ثمَّ لم يلبث ورقة أَن توفّي وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي ﷺ فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّك رَسُول الله حَقًا فيسكن لذَلِك جأشه وتقر عينه فَيرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك فيتبدى لَهُ جِبْرِيل فَيَقُول لَهُ مثل ذَلِك ثمَّ نزل عَلَيْهِ بعد فَتْرَة الْوَحْي سُورَة المدثر قَالَ الْعلمَاء كَانَ رَسُول الله ﷺ بعد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ نَبيا فَقَط ثَلَاث سِنِين لم يُؤمر فِيهَا بإنذار ثمَّ أَتَاهُ جِبْرِيل ﵇ برسالة من ربه ﷿ فَكَانَ فِيمَا أنزل عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى ﴿وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين﴾
روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِسَنَدِهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب ﵁ قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة على رَسُول الله ﷺ قَالَ (يَا عَليّ إِن الله أَمرنِي أَن أنذر عشيرتي الْأَقْرَبين فضقت بذلك ذرعا وَعرفت أَنِّي مَتى أباديهم بِهَذَا الْأَمر أرى مِنْهُم مَا أكره فَصمت عَلَيْهَا حَتَّى جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن لَا تفعل مَا تُؤمر يعذبك رَبك فَاصْنَعْ لنا طَعَاما وَاجعَل لنا عَلَيْهِ رجل شَاة واملأ لنا عسا من لبن ثمَّ اجْمَعْ لي بني عبد الْمطلب حَتَّى أبلغهم مَا أمرت بِهِ) فَفعلت
1 / 65
مَا أَمرنِي بِهِ ثمَّ دعوتهم لَهُ وَكَانُوا يَوْمئِذٍ نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا يزِيدُونَ رجلا أَو ينقصونه فيهم أَعْمَامه أَبُو طَالب وَحَمْزَة وَالْعَبَّاس وَأَبُو لَهب فَلَمَّا اجْتَمعُوا دَعَاني بِالطَّعَامِ الَّذِي صنعت فَجئْت بِهِ فَتَنَاول رَسُول الله ﷺ جذبه من اللَّحْم فَشَقهَا بِأَسْنَانِهِ ثمَّ أَلْقَاهَا فِي نواحي الصحفة ثمَّ قَالَ (كلوا باسم الله) فَأكل الْقَوْم حَتَّى مَا لَهُم بِشَيْء من حَاجَة وَايْم الله إِن كَانَ الرجل الْوَاحِد ليَأْكُل مثل مَا قدمت لجميعهم ثمَّ قَالَ (اسْقِ الْقَوْم) فجئتهم بذلك الْعس فَشَرِبُوا حَتَّى رووا جَمِيعًا وَايْم الله إِن كَانَ الرجل الْوَاحِد ليشْرب مثله فَلَمَّا أَرَادَ رَسُول الله ﷺ أَن يكلمهم بدره أَبُو لَهب فَقَالَ سحركم صَاحبكُم فَتفرق الْقَوْم وَلم يكلمهم رَسُول الله ﷺ (فَقَالَ الْغَد يَا عَليّ إِن هَذَا الرجل قد سبقني إِلَى مَا سَمِعت من القَوْل فَتفرق الْقَوْم قبل أَن أكلمهم فاعدد لنا من الطَّعَام مثل مَا صنعت ثمَّ أجمعهم) فَفعلت ثمَّ جمعتهم ثمَّ دَعَاني بِالطَّعَامِ فقربته فَفعل كَمَا فعل بالْأَمْس فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا ثمَّ تكلم رَسُول الله ﷺ فَقَالَ (يَا بني عبد الْمطلب إِنِّي قد جِئتُكُمْ بخيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد أَمرنِي الله ﷿ أَن أدعوكم إِلَيْهِ فَأَيكُمْ يؤازرني على أَمْرِي هَذَا وَيكون أخي ووصيي وخليفتي فِيكُم) فأحجم الْقَوْم عَنْهَا جَمِيعًا وَأَنا أحدثهم سنا فَقلت يَا رَسُول الله أَنا أكون وزيرك عَلَيْهِ فَأخذ برقبتي ثمَّ قَالَ (هَذَا أخي ووصيي وخليفتي فِيكُم فا سمعُوا لَهُ وَأَطيعُوا) فَقَامَ الْقَوْم يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لأبي طَالب قد أَمرك أَن تسمع لعَلي وتطيع
وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين﴾ صعد النَّبِي ﷺ على الصَّفَا فَجعل يُنَادي (يَا بني فهر يَا بني عدي) لبطون قُرَيْش حَتَّى اجْتَمعُوا فَجعل الرجل إِذْ لم يسْتَطع أَن خرج أرسل رَسُولا لينْظر مَا هُوَ فجَاء أَبُو لَهب وقريش فَقَالَ (أَرَأَيْتكُم لَو أَخْبَرتكُم أَن خيلا بالوادي تُرِيدُ أَن تغير عَلَيْكُم أَكُنْتُم مصدقي) قَالُوا نعم مَا جربنَا عَلَيْك كذبا قَالَ (فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد) فَقَالَ أَبُو لَهب تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم أَلِهَذَا جمعتنَا فَنزلت ﴿تبت يدا أبي لَهب وَتب﴾
1 / 66
مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب) ثمَّ مضى رَسُول الله ﷺ على أَمر ربه صَابِرًا محتسبا فِيمَا يَنَالهُ من المحن وضروب الْأَذَى مُعْلنا بالتذكير والإنذار دَاعيا إِلَى الله آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَأسلم مَعَه جمَاعَة من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام كخديجة وَعلي وَأبي بكر وَزيد بن حَارِثَة وَعُثْمَان وَسَائِر الْعشْرَة سوى عمر بن الْخطاب فَإِن إِسْلَامه كَانَ قد تَأَخّر قَلِيلا ونصبت قُرَيْش الْعَدَاوَة لرَسُول الله ﷺ وافترقت كلمتهم عَلَيْهِ وانحاز بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب إِلَى أبي طَالب وتعاهدت قُرَيْش على أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا ينفعوهم بِشَيْء ونال أَصْحَاب رَسُول الله الَّذِي آمنُوا مَعَه من الْأَذَى فَوق مَا يُوصف وَهَاجَر جمَاعَة مِنْهُم إِلَى النَّجَاشِيّ بِالْحَبَشَةِ فِرَارًا بدينهم من الْفِتْنَة وحدب على رَسُول الله ﷺ عَمه أَبُو طَالب وَقَامَ دونه وذب عَنهُ سُفَهَاء قُرَيْش وَمنعه مِنْهُم مَا اسْتَطَاعَ وَكَانَت خَدِيجَة ﵂ توازره على أمره وتسليه وتهون عَلَيْهِ مايلقاه من قومه فَكَانَ ﷺ يرتاح لذَلِك ويخف عَلَيْهِ بعض مَا يجد ثمَّ توفّي أَبُو طَالب فِي شَوَّال سنة عشر من النُّبُوَّة وَتوفيت خَدِيجَة بعد ذَلِك بِيَسِير وَكَانَت وفاتهما قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين فعظمت على رَسُول الله ﷺ الْمُصِيبَة وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ المحن حَتَّى كَانَ يُسَمِّي ذَلِك الْعَام عَام الْحزن ونالت قُرَيْش مِنْهُ مَا لم تكن تطمع فِي نيله قبل ذَلِك فَكَانَ رَسُول الله ﷺ فِي تِلْكَ الثَّلَاث سِنِين إِذا حضر الْمَوْسِم خرج إِلَى قبائل الْعَرَب بمنى وَطَاف عَلَيْهِم قَبيلَة قَبيلَة يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى ويعرض عَلَيْهِم نَفسه ويسألهم النُّصْرَة لَهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يبلغ رِسَالَة ربه فَإِن قُريْشًا قد عَتَتْ على الله وكذبت رَسُوله وَردت عَلَيْهِ كرامته وَيَقُول فِيمَا يَقُول (يَا بني فلَان إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم يَأْمُركُمْ أَن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تخلعوا مَا تَعْبدُونَ من دونه من هَذِه الأنداد وَأَن تؤمنوا بِي وتصدقوني)
وَلَقي ﷺ فِي هَذِه الْمدَّة من الشدائد مَا رفع الله بِهِ فِي عليين دَرَجَته وأجزل بِهِ كرامته وَشرف مَنْزِلَته وَحَازَ بِهِ فِي جوَار الله تَعَالَى أكْرم نزل
1 / 67
وَصَارَ إِمَام أولي الْعَزْم من الرُّسُل صلى الله على جَمِيعهم وَسلم وَلما أَرَادَ الله إِظْهَار دينه وإعزاز نبيه خرج ﷺ فِي بعض المواسم يعرض نَفسه على الْقَبَائِل كَمَا كَانَ يصنع فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الْعقبَة بمنى إِذْ لَقِي سِتَّة نفر من الْخَزْرَج من أهل مَدِينَة يثرب وَأَهْلهَا يَوْمئِذٍ قبيلتان الْأَوْس والخزرج ويجمعهم أَب وَاحِد وهم من عرب الْيمن والنفر السِّتَّة هم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة وعَوْف بن الْحَارِث وَهُوَ ابْن عفراء وَرَافِع بن مَالك بن العجلان وَقُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة وَعقبَة بن عَامر بن نابي وَجَابِر بن عبد الله ﵃ فَقَالَ لَهُم رَسُول الله ﷺ (من أَنْتُم) قَالُوا نفر من الْخَزْرَج قَالَ (أَمن موالى يهود) وَكَانُوا يحالفون قُرَيْظَة وَالنضير قَالُوا نعم قَالَ (أَفلا تجلسون حَتَّى أكلمكم) قَالُوا بلَى فجلسوا مَعَه فَدَعَاهُمْ إِلَى ألله ﷿ وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن قَالَ وَمِمَّا كَانَ صنع الله لَهُم فِي الْإِسْلَام أَن الْيَهُود كَانُوا مَعَهم ببلادهم وَكَانُوا أهل كتاب وَعلم وهم أهل أوثان وشرك وَكَانُوا إِذا كَانَ بَينهم شَيْء قَالُوا إِن نَبينَا الان مَبْعُوث قد أظل زَمَانه سنتبعه ونقتلكم مَعَه قتل عَاد وإرم فَلَمَّا كلم رَسُول الله ﷺ أُولَئِكَ النَّفر ودعاهم إِلَى الله ﷿ قَالَ بَعضهم لبَعض يَا قوم تعلمُوا وَالله إِنَّه النَّبِي الَّذِي توعدكم بِهِ يهود فَلَا يسبقنكم إِلَيْهِ فَأَجَابُوهُ وَصَدقُوهُ وَأَسْلمُوا مَعَه وَقَالُوا إِنَّا قد تركنَا قَومنَا وَبينهمْ من الْعَدَاوَة وَالشَّر مَا بَينهم فَعَسَى الله أَن يجمعهُمْ بك وسنقدم عَلَيْهِم وندعوهم إِلَى أَمرك فَإِن يجمعهُمْ الله عَلَيْك فَلَا أحد أعز مِنْك ثمَّ انصرفوا عَن رَسُول الله ﷺ رَاجِعين إِلَى بِلَادهمْ فَلَمَّا قدمُوا الْمَدِينَة ذكرُوا لَهُم رَسُول الله ﷺ ودعوهم إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى فَشَا فيهم فَلم تبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وفيهَا ذكر رَسُول الله ﷺ حَتَّى إِذا كَانَ الْعَام الْمقبل وافى الْمَوْسِم من الْأَنْصَار اثْنَا عشر رجلا مِنْهُم خَمْسَة من السِّتَّة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ آنِفا عدى جَابر بن عبد الله فَإِنَّهُ لم يحضرها وَسَبْعَة من غَيرهم وهم معَاذ بن الْحَارِث أَخُو عَوْف بن الْحَارِث الْمَذْكُور وذكوان بن عبد الْقَيْس وَيزِيد بن ثَعْلَبَة البلوي وَعبادَة بن
1 / 68
الصَّامِت وَالْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَهَؤُلَاء الْعشْرَة من الْخَوَارِج وَمن الْأَوْس أَبُو الْهَيْثَم مَالك بن التيهَان وعويم بن سَاعِدَة فَلَقوا رَسُول الله ﷺ بِالْعقبَةِ فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء أَن لَا يشركوا بِاللَّه شَيْئا وَلَا يسرقوا وَلَا يزنوا وَلَا يقتلُوا أَوْلَادهم إِلَى آخر الْآيَة فَقَالَ ﷺ (فَإِن وفيتم فلكم الْجنَّة وَإِن غشيتم شَيْئا من ذَلِك فأخذتم بحده فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لكم وَإِن ستر عَلَيْكُم فأمركم إِلَى الله ﷿ إِن شَاءَ الله عذبكم وَإِن شَاءَ غفر لكم) قَالَ وَذَلِكَ قبل أَن تفرض الْحَرْب فَلَمَّا انْصَرف الْقَوْم بعث مَعَهم رَسُول الله ﷺ مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار بن قصي وَمَعَهُ عَمْرو بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى ليعلمهم الْقُرْآن وَشَرَائِع الْإِسْلَام ويفقهم فِي الدّين فَكَانَ مُصعب بِالْمَدِينَةِ يُسمى المقرىء وَكَانَ منزله على أسعد بن زُرَارَة فَأسلم على يَده كثير من الْأَوْس والخزرج مِنْهُم أسيد بن حضير وَسعد بن معَاذ سيدا الْأَوْس وَسعد هَذَا هُوَ الذ ي يَقُول فِيهِ حسان بن ثَابت ﵁
(وَمَا اهتز عرش الله من أجل هَالك ... سمعنَا بِهِ إِلَّا لسعد أبي عَمْرو)
وَلم تبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وفيهَا رجال وَنسَاء مُسلمُونَ إِلَّا مَا كَانَ من دَار بني أُميَّة بن زيد وخطمة وَوَائِل وواقف بطُون من الْأَوْس وَكَانُوا فِي عوالي الْمَدِينَة وَكَانَ فيهم أَبُو قيس بن الأسلت الشَّاعِر سيدا مُطَاعًا فَوقف بهم عَن الْإِسْلَام حَتَّى هَاجر رَسُول الله ﷺ إِلَى الْمَدِينَة وَمضى بدر وَأحد وَالْخَنْدَق فأسلموا كلهم ثمَّ إِن مُصعب بن عُمَيْر رَجَعَ إِلَى مَكَّة من الْعَام الْمقبل وَذَلِكَ سنة ثَلَاث عشرَة من المبعث وَخرج مَعَه من الْأَنْصَار الَّذين أَسْلمُوا ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ بَعضهم من الْأَوْس وَبَعْضهمْ من الْخَزْرَج مَعَ حجاج قَومهمْ من أهل الشّرك فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَّة واعدوا رَسُول الله ﷺ أَن يجتمعوا بِهِ لَيْلًا فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق بِالْعقبَةِ من منى وجاءهم رَسُول الله ﷺ وَمَعَهُ عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهُوَ يَوْمئِذٍ على دين قومه إِلَّا أَنه أحب أَن يتوثق لِابْنِ أَخِيه فَقَالَ يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا
1 / 69
منا حَيْثُ قد علمْتُم وَقد منعناه من قَومنَا مِمَّن هُوَ على مثل رَأينَا وَهُوَ فِي عز ومنعة من قومه وبلده وَأَنه قد أَبى إِلَّا الانحياز إِلَيْكُم واللحوق بكم فَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ ومانعوه مِمَّن خَالفه فَأنْتم وَمَا تحملتم من ذَلِك وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ مسلموه وخاذلوه فَمن الْآن فَدَعوهُ فَقَالُوا قد سمعنَا مَا قلت فَتكلم يَا رَسُول الله وَخذ لنَفسك ولربك مَا شِئْت فَتكلم رَسُول الله ﷺ فَتلا الْقُرْآن ودعا إِلَى الله ﷿ وَرغب فِي الْإِسْلَام ثمَّ قَالَ (أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم ونساءكم وأبناءكم) قَالَ فَأخذ الْبَراء بن معْرور بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا لنمنعنك مِمَّا نمْنَع مِنْهُ أزرنا فَبَايعْنَا يَا رَسُول الله فَنحْن أهل الْحَرْب وَأهل الْحلقَة ورثناهما كَابِرًا عَن كَابر فَاعْترضَ القَوْل والبراء يكلم رَسُول الله ﷺ أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن بَيْننَا وَبَين النَّاس حِبَالًا يَعْنِي عهودا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا فَهَل عَسَيْت أَن فعلنَا ذَلِك ثمَّ أظهرك الله أَن ترجع إِلَى قَوْمك وَتَدعنَا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله ﷺ ثمَّ قَالَ (بل الدَّم الدَّم وَالْهدم الْهدم أَنْتُم مني وَأَنا مِنْكُم أُحَارب من حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ من سَالَمْتُمْ) وَقَالَ رَسُول الله ﷺ (أخرجُوا إِلَيّ مِنْكُم اثْنَي عشر نَقِيبًا يكونُونَ كفلاء على قَومهمْ بِمَا فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابْن مَرْيَم فأخرجوا لَهُ اثنى عشر نَقِيبًا) وَتِسْعَة من الْخَزْرَج وَثَلَاثَة من الْأَوْس
قَالَ عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة إِن الْقَوْم لما اجْتَمعُوا لبيعة رَسُول الله ﷺ قَالَ الْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة يَا معشر الْخَزْرَج هَل تَدْرُونَ على مَا تُبَايِعُونَ هَذَا الرجل إِنَّكُم تبايعونه على حَرْب الْأَحْمَر وَالْأسود فَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ إِذا نهكت أَمْوَالكُم مُصِيبَة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فَمن الْآن فَهُوَ وَالله خزي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ إِنَّكُم وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ على نهكة الْأَمْوَال وَقتل الْأَشْرَاف فَخُذُوهُ فَهُوَ وَالله خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالُوا فَإنَّا نَأْخُذهُ على مُصِيبَة الْأَمْوَال وَقتل الْأَشْرَاف فَمَا لنا بذلك يَا رَسُول الله إِن نَحن وَفينَا قَالَ (الْجنَّة) قَالُوا ابْسُطْ يدك فَبسط يَده فَبَايعُوهُ وَأول من
1 / 70
ضرب على يَده الْبَراء بن معْرور ثمَّ تتَابع الْقَوْم ثمَّ قَالَ رَسُول الله ﷺ (انْفَضُّوا إِلَى رحالكُمْ) فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَئِن شِئْت لنميلن غَدا على أهل منى بأسيافنا فَقَالَ رَسُول الله ﷺ (إِنِّي لم أومر بذلك وَلَكِن ارْجعُوا إِلَى رحالكُمْ) ثمَّ انْصَرف الْقَوْم رَاجِعين إِلَى الْمَدِينَة وَأمر النَّبِي ﷺ أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة فَخَرجُوا أَرْسَالًا وَأقَام رَسُول الله ﷺ بِمَكَّة ينْتَظر الْإِذْن من ربه فِي الْهِجْرَة وَبَقِي مَعَه أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب إِلَى أَن أذن الله لنَبيه فِي الْهِجْرَة فَهَاجَرَ كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي كتب الحَدِيث وَالسير وَلما اسْتَقر رَسُول الله ﷺ بِالْمَدِينَةِ أظهر الْإِسْلَام وَشرع الْأَحْكَام وَبَين الْحَلَال وَالْحرَام وَنزل عَلَيْهِ من الْقُرْآن السَّبع الطول سوى سُورَة الْأَنْعَام فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة وَنزل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى (أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم لقدير الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله) فَكَانَت هَذِه أول آيَة نزلت بِالْإِذْنِ فِي الْقِتَال فَجَاهد رَسُول الله ﷺ فِي الله حق جهاده ونال من نصْرَة الدّين وإعلاء كلمة الله غَايَة مُرَاده وانثالت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب من كل نَاحيَة ولبت دَعوته من أماكنها الدانية والقاصية وَضرب الْإِسْلَام بجرانه فِي جَزِيرَة الْعَرَب كلهَا وَأجْمع على التَّمَسُّك بِدِينِهِ أهل عقدهَا وحلها قَالَ القَاضِي عِيَاض ﵀ فِي كتاب الشفا فتح على رَسُول الله ﷺ فِي حَيَاته بِلَاد الْحجاز واليمن وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب وَمَا دانى ذَلِك من الشَّام وَالْعراق وجبى إِلَيْهِ من أخماسها وجزيتها وصدقاتها مَا لَا يجبى للملوك إِلَّا بعضه وهادته جمَاعَة من مُلُوك الأقاليم فَمَا اسْتَأْثر بِشَيْء مِنْهُ وَلَا أمسك مِنْهُ درهما بل صرفه مصارفه وأغنى بِهِ غَيره وقوى بِهِ الْمُسلمين ﷺ وَلما حصل الْمَقْصُود من بعثته ﷺ وَأظْهر دينه على الدّين كُله أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ نزلت هَذِه الْآيَة يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر يَوْم عَرَفَة وَالنَّبِيّ ﷺ وَاقِف بِعَرَفَات على
1 / 71
نَاقَته العضباء فَكَادَتْ عضد النَّاقة تندق وبركت لثقل الْوَحْي وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة رُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة بَكَى عمر فَقَالَ لَهُ النَّبِي ﷺ (مَا يبكيك يَا عمر) فَقَالَ أبكاني أَنا كُنَّا فِي زِيَادَة من ديننَا فَأَما إِذا كمل فَإِنَّهُ لم يكمل شَيْء إِلَّا نقص قَالَ صدقت فَكَانَت هَذِه الْآيَة نعي رَسُول الله ﷺ عَاشَ بعْدهَا إِحْدَى وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَمَات ﷺ يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلتين خلتا من ربيع الأول وَقيل لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة قَالَ الخازن فِي تَفْسِيره وَهُوَ الْأَصَح سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة فمجموع عمره ﷺ ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة على الصَّحِيح
أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أنزل على رَسُول الله ﷺ وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة فَمَكثَ ثَلَاث عشرَة سنة يُوحى إِلَيْهِ ثمَّ أَمر بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة فَمَكثَ بهَا عشر سِنِين ثمَّ توفّي ﷺ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ ورد فِي عمره ﷺ ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهَا أَنه ﷺ توفّي وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة الثَّانِيَة خمس وَسِتُّونَ سنة وَالثَّالِثَة ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَهِي أَصَحهَا وأشهرها اه وَفضل رَسُول الله ﷺ أشهر من أَن يشْرَح وَيبين فَهُوَ حجَّة الله فِي الأَرْض وشهيده على الْخلق ومصطفاه من الْبشر والمخصوص بمزية النُّبُوَّة وآدَم بَين المَاء والطين وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول
(يَا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح لَهُ أغلاق)
(أيروم مَخْلُوق ثناءك بعد مَا ... أثنى على أخلاقك الخلاق)
1 / 72
خلَافَة أبي بكر الصّديق ﵁
هُوَ أَبُو بكر واسْمه عبد الله وَقيل عَتيق بن أبي قُحَافَة واسْمه عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب التَّيْمِيّ الْمَعْرُوف بِالصديقِ يجْتَمع مَعَ رَسُول الله ﷺ فِي مرّة بن كَعْب ولي الْخلَافَة بعد رَسُول الله ﷺ بِإِجْمَاع من الصَّحَابَة وَمن تَأَخّر عَنْهَا أَولا رَجَعَ إِلَيْهَا ثَانِيًا إِلَّا مَا كَانَ من سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ فَإِنَّهُ توقف عَن بيعَته وَذَلِكَ أَنه لما توفّي رَسُول الله ﷺ اجْتمعت الْأَنْصَار فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة وهموا بمبايعة سعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر لأَنهم الَّذين آووا ونصروا وتبوأوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبل الْمُهَاجِرين وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى أبي بكر وَعمر أفزعهما ذَلِك وبادرا إِلَى السَّقِيفَة ومعهما أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح فوجدوا الْأَنْصَار بهَا على مَا بَلغهُمْ من الْعَزْم على بيعَة سعد فحاجهم أَبُو بكر ﵁ وَقَالَ نَحن أَوْلِيَاء رَسُول الله ﷺ وعشيرته وأحق النَّاس بِالْأَمر بعده فَنحْن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر لَا وَالله لَا نَفْعل منا أَمِير ومنكم أَمِير وَإِن شِئْتُم أعدناها جَذَعَة أَنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب فَقَامَ بشير بن سعد الْأنْصَارِيّ فَقَالَ أَلا إِن مُحَمَّدًا ﷺ من قُرَيْش وَإِن قومه أَحَق وَأولى بِالْأَمر بعده وَنحن وَإِن كُنَّا أولي فضل فِي الْجِهَاد وسابقة فِي الدّين فَمَا أردنَا بذلك إِلَّا رضى الله وَطَاعَة نبيه فَلَا نبتغي بِهِ من الدُّنْيَا عوضا وَلَا نستطيل بِهِ على النَّاس ثمَّ أَشَارَ أَبُو بكر بِأَن يبايعوا أحد الرجلَيْن إِمَّا عمر بن الْخطاب وَإِمَّا أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح فكرها ذَلِك وَبَايِعًا أَبَا بكر وسبقهما إِلَيْهِ بشير بن سعد ثمَّ تناجى الْأَوْس فِيمَا بَينهم وَكَانَ فيهم أسيد بن حضير أحد النُّقَبَاء فكرهوا إِمَارَة الْخَزْرَج عَلَيْهِم ومالوا إِلَى بيعَة أبي بكر فَبَايعُوهُ وَأَقْبل النَّاس من كل جَانب يبايعون أَبَا بكر حَتَّى كَادُوا يطؤون سعد بن عبَادَة وَهُوَ مُضْطَجع بَينهم يوعك فَقَالَ رجل من أَصْحَابه قتلتم سعد بن عبَادَة فَقَالَ
1 / 73
عمر قَتله الله فَقَالَ أَبُو بكر مهلا يَا عمر الرِّفْق هُنَا أبلغ ثمَّ لحق سعد بِالشَّام فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى توفّي أَيَّام عمر رحم الله جَمِيعهم وَكَانَت بيعَة أبي بكر يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي من وَفَاة رَسُول الله ﷺ قبل دَفنه وَلما توفّي رَسُول الله ﷺ ارْتَدَّت عَامَّة الْعَرَب لِأَن كلمة الْإِسْلَام لم تكن رسخت فِي قُلُوبهم على مَا يَنْبَغِي وَمنع آخَرُونَ مِنْهُم الزَّكَاة وَقَالُوا نصلي وَلَا نُؤَدِّي الزَّكَاة ظنا مِنْهُم أَن ذَلِك كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِم فِي حَيَاة النَّبِي ﷺ فَقَط واضطرب أَمر الْمُسلمين عِنْد وَفَاته ﷺ لقلتهم وَكَثْرَة عدوهم قَالَت عَائِشَة ﵂ لما توفّي رَسُول الله ﷺ ارْتَدَّت الْعَرَب وَنجم النِّفَاق واشرأبت الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَنزل بِأبي بكر مَا لَو نزل بالجبال الراسية لهاضها وَصَارَ الْمُسلمُونَ كالغنم الْمَطِيرَة فِي اللَّيْلَة الشَّاتِيَة لفقد نَبِيّهم وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش سَمِعت أَبَا حُصَيْن يَقُول مَا ولد بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر الصّديق لقد قَامَ مقَام نَبِي من الْأَنْبِيَاء فِي قتال أهل الرِّدَّة
وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ لما توفّي رَسُول الله ﷺ واستخلف ابو بكر وَكفر من كفر من الْعَرَب قَالَ عمر يَا أَبَا بكر كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله ﷺ (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فقد عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ وحسابه على الله) قَالَ أَبُو بكر وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَإِن الزَّكَاة حق المَال وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله ﷺ لقاتلتهم على منعهَا قَالَ عمر فو الله مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن قد شرح الله صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ فَعرفت أَنه الْحق
وَحكى ابْن خلدون أَن أَبَا بكر ﵁ لما عزم على قتال أهل الرِّدَّة اسْتخْلف أُسَامَة بن زيد بعد رُجُوعه من بَعثه الَّذِي كَانَ بَعثه رَسُول الله ﷺ فِيهِ قبل وَفَاته فَبَقيَ فِي الْمَدِينَة حَتَّى أنفذه أَبُو بكر بعد
1 / 74
وَفَاته ﷺ فَخرج أَبُو بكر فِي جمَاعَة من الْمُسلمين إِلَى ذِي حسي وَإِلَى ذِي الْقِصَّة موضِعين قرب الْمَدِينَة ثمَّ سَار حَتَّى نزل على أهل الربذَة بالإبريق وَبهَا عبس وذبيان وَبَنُو بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة وثعلبة بن سعد وَغَيرهم فَقَاتلهُمْ أَبُو بكر وَهَزَمَهُمْ وَرجع إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ خرج إِلَى ذِي الْقِصَّة ثَانِيًا فعقد فِيهِ أحد عشر لِوَاء على أحد عشر جندا لقِتَال أهل الرِّدَّة وَأمر كل وَاحِد باستنفار من يَلِيهِ من الْمُسلمين من كل قَبيلَة وَعقد لِلْأُمَرَاءِ على تِلْكَ الأجناد مِنْهُم خَالِد بن الْوَلِيد وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيرهم وَكتب لَهُم عهودهم بِنَصّ وَاحِد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا عهد من أبي بكر خَليفَة رَسُول الله ﷺ لفُلَان حِين بَعثه فِيمَن بَعثه لقِتَال من رَجَعَ عَن الْإِسْلَام وعهد إِلَيْهِ أَن يَتَّقِي الله مَا اسْتَطَاعَ فِي أمره كُله سره وجهره وَأمره بالجد فِي أَمر الله ومجاهدة من تولى عَنهُ وَرجع عَن الْإِسْلَام إِلَى أماني الشَّيْطَان بعد أَن يعْذر إِلَيْهِم فيدعوهم بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام فَإِن أجابوه أمسك عَنْهُم وَإِن لم يُجِيبُوهُ شن غارته عَلَيْهِم حَتَّى يقرُّوا لَهُ ثمَّ ينبئهم وَالَّذِي عَلَيْهِم وَلِذِي لَهُم فَيَأْخُذ مَا عَلَيْهِم ويعطيهم الَّذِي لَهُم لَا ينظرهم وَلَا يرد الْمُسلمين عَن قتال عدوهم فَإِن أجَاب إِلَى أَمر الله تَعَالَى وَأقر لَهُ قبل ذَلِك مِنْهُ وأعانه عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا يُقَاتل من كفر بِاللَّه على الْإِقْرَار بِمَا جَاءَ من عِنْد الله فَإِذا أجَاب الدعْوَة لم يكن عَلَيْهِ سَبِيل كَانَ الله حسيبه بعد فِيمَا استسر بِهِ وَمن لم يجب إِلَى دَاعِيَة الله قوتل وَقتل حَيْثُ كَانَ وَحَيْثُ بلغ مراغمة لَا يقبل الله من أحد شَيْئا مِمَّا أعْطى إِلَّا الْإِسْلَام فَمن أَجَابَهُ وَأقر بِهِ قبل مِنْهُ وأعانه وَمن أَبى قَاتله فَإِن أظهره الله عَلَيْهِ قَتلهمْ فِيهِ كل قتلة بِالسِّلَاحِ والنيران ثمَّ قسم مَا أَفَاء الله عَلَيْهِ إِلَّا الْخمس فَإِنَّهُ يبلغناه وَيمْنَع أَصْحَابه العجلة وَالْفساد وَأَن لَا يدْخل فيهم حَشْوًا حَتَّى يعرفهُمْ وَيعلم مَا هم لِئَلَّا يَكُونُوا عيُونا وَلِئَلَّا يُؤْتى الْمُسلمُونَ من قبلهم وَأَن يقتصد بِالْمُسْلِمين ويرفق بهم فِي السّير والمنزل ويتفقدهم وَلَا يعجل بَعضهم عَن بعض ويستوصي بِالْمُسْلِمين فِي حسن الصُّحْبَة ولين القَوْل اه
1 / 75