فعاد الوكيل إلى الدير مغتبطا بنجاح مسعاه، ولم يكن رئيس الدير بأقل منه اغتباطا بذلك، ثم أشرفا على علاج عماد الدين من جروحه وكسر ساقه، وأعدا غرفة لإقامته بالدير حتى يتم شفاؤه. •••
كان حسن بعد أن وصل إلى الأرض خارج سور المدينة، قد شعر بإفلات الحبل الذي تدلى بوساطته من عماد الدين، فوقع في حيرة، ولم يدر ماذا يفعل، ثم لاح له أن يربط حجرا بأحد طرفي الحبل ويقذف به إلى عماد الدين فوق السور، ولكنه لم يستطع أن يرفع صوته لينبئه بهذه الفكرة مخافة أن يسمعه الحراس. وفيما هو في حيرته هذه، رأى عماد الدين في ضوء النجوم قد دلى جسمه محاولا الهبوط من فوق السور، ثم سمع صوت اصطدامه بالأرض وصرخته متألما، فخف إلى مكانه لنجدته، لكنه ما لبث أن سمع ضجة الحراس وهم يفتحون الباب، وأيقن بأن عماد الدين لن يفيده شيئا أن يبقى بجانبه حتى يقبض عليهما معا، فاستقر رأيه على النجاة بنفسه من أيدي الحراس، وابتعد مسرعا من ذلك المكان، وهو لا يدري أين يتوجه، ولا يكاد يتبين الطريق.
وما زال مجدا في سيره حتى نال منه التعب والخوف بعد حوالي نصف ساعة، فوقف ليستريح، وأخذ يتفرس فيما حوله فوجد أنه في أرض رملية مرتفعة، وقمم جبال لبنان الشامخة تبدو إلى الشرق، تتخللها أضواء متفرقة كأنها فصوص من الماس أو نجوم ترصع الفضاء، ثم رأى القمر بازغا في ربعه الأخير فاستأنس بضوئه، ولبث في جلسته قليلا حتى ارتفع القمر في الأفق، فأدرك على ضوئه أنه بالقرب من المصطبة التي حدثت فيها المقابلة بين الأمير يوسف والجزار، وذكرته الأكمة التي جلس عليها بالليلة التي التقى فيها بعماد الدين قرب الصالحية فساوره القلق عليه وهاجت أحزانه ولم يتمالك عن البكاء.
وبعد قليل، تجلد ونهض فولى وجهه شطر الأضواء المنبعثة من المنازل والمغارات القائمة فوق الجبال الشاهقة الممتدة أمامه، وما زال سائرا في تلك السهول الرملية حتى صادف تلا مرتفعا فصعد إلى قمته وتفرس فيما حواليه، فرأى نورا يبدو قريبا منه، فهبط من التل واتجه إلى مصدر ذلك النور، فلم يبلغه إلا بعد ساعة، فأدرك أنه قرب من البحر؛ إذ سمع هديره، ثم تأمل البناء المنبعث منه ذلك النور، فإذا هو منعزل والسكون يخيم عليه، فدار حوله حتى وجد بابا صغيرا، فدنا منه وقرعه ويده ترتعش قلقا وخوفا، فسمع صوتا من الداخل يقول: «من بالباب؟» فقال: «رجل غريب.»
وبعد قليل، فتح الباب، وظهر خلفه شيخ عجوز في زي القسس وقال له: «مرحبا بك.» ثم أدخله وأغلق الباب وتقدمه إلى غرفة صغيرة بها مصباح زيتي خافت الضوء، وليس فيها من الأثاث سوى حصير فوقه وسادة صغيرة، فترامى عليها متهالكا من فرط التعب، وقال للقس: «عفوا يا سيدي، فأنا في تعب لا مزيد عليه.»
فقال القس: «لعلك في حاجة إلى الطعام.» فسكت عن الجواب، ولكن القس فهم أنه جائع، فغاب عنه قليلا ثم عاد إليه ومعه ما تيسر من الطعام وقلة بها ماء، ثم انصرف وتركه وحده في الغرفة، فأكل وشرب وتمدد على الحصير، فما لبث أن أدركه النوم ولم يستيقظ إلا وقد طلع النهار.
وعلم بعد ذلك أن البناء الذي أوى إليه هو مغارة النبي إيليا، وهي بمثابة كنيسة يؤمها كثير من النصارى اللبنانيين للصلاة والتبرك ، والوفاء بالنذور.
الفصل الثاني عشر
فتح بيروت
تركنا السيد عبد الرحمن وقد اعتزم مغادرة القاهرة قاصدا إلى عكا ومعه علي خادمه الخاص، للبحث عن حسن هناك.
অজানা পৃষ্ঠা