وضمن التحرير المنسوب لإشعيا تصورات لما كان يأمل المحرر في حدوثه قريبا وهو سقوط بابل فريسة للاحتلال من شعب آخر وعودة اليهوذيين المسبيين إلى أورشليم وسيادة يهوذا على ظالميها. ومؤلف الإصحاح 21 يشير ليهوذا مسحوقة، لكنه يتنبأ بأن البابليين الذين سحقوا يهوذا لهم أعداء، وهؤلاء الأعداء يتقدمون لسحق بابل، ويشجعهم المؤلف باسم الإله «اصعدي يا عيلام، حاصري يا مادي» (إشعيا، 21: 2)، وهذا يعني أن العيلاميين والميديين الذين يعيشون في إيران سيقومون باحتلال بابل، ويفرح صاحب النبوءة ويطرب هاتفا: «سقطت سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض.» والطريف أن مطابقة ذلك على خط سير أحداث التاريخ يجعل ما يقوله المتنبئ هنا غير حقيقي بالمرة؛ فالذين احتلوا بابل هم الفرس الذين سيطروا على كل إيران، وخرج ملكهم قورش بجيوشه واحتل بابل، لكنه «أبدا لم يهدم المعابد ولم يكسر تماثيل الآلهة، بل أظهر احترامه لها»، وهذا يعني أن المؤلف لم يعرف كل هذا وكان يتنبأ قبل وقوع بابل بين 549 و538ق.م بل ونجد ضمن الإضافات حشرا من زمن أكثر تأخرا مثل النبوءة «ويكون في ذلك اليوم أن يهوه يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماه ومن جزائر البحر» (إشعيا، 11: 11-12)؛ «لأن هذا الانتشار الواسع لليهود لم يحدث إلا بعد حملة الإسكندر الأكبر في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد».
وبالعودة إلى بدء نبوءات إشعيا يمكن القول إنه في سنة موت الملك اليهوذي عزيا عام 742ق.م قرر اليهوذي «إشعيا بن آموص» أن يكون نبيا وهو يرى خطر هجوم الأعداء قريبا. وكان إشعيا رجلا من العلية على صلة بالكهنة وبالنخبة وبالبلاط وبالملك، إضافة إلى ثقافته الرفيعة وإحاطته بالتقاليد الدينية وبالتاريخ.
وفى عام 744 أي قبل أن يتنبأ إشعيا بسنتين حدث انقلاب في بلاط آشور وجاء الملك تجلات بلاسر الثالث المشهور بفتوحاته، وكي يتقيه الملك الإسرائيلي مناحيم أرسل له جزية كبيرة وأصبح تابعا لآشور (ملوك ثاني، 15: 2)، واقتطع تجلات بلاسر بعض أراضي إسرائيل وهجر سكانها إلى نينوى على الفرات.
وإزاء هذه القوة الكبرى الطامعة شرع ملوك الدول الصغيرة في بلاد الشام بعقد التحالفات للتصدي لهذا الغازي وقد اشتركت مصر في هذه التحالفات، بل تحالف اللدودان إسرائيل ودمشق. وأرسل الملك الدمشقي رصين للملك اليهوذي أحاز لينضم للتحالف فرفض، فشنت دمشق وإسرائيل الحرب على أحاز اليهوذي مما اضطره إلى طلب مساعدة الآشوريين في رسالة ذليلة مهينة تقول «أنا عبدك وابنك، اصعد وخلصني من يد ملك أرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين علي» (ملوك ثاني، 16: 7).
وهنا يبدأ دور إشعيا وتبدأ نبوته ونبوءاته بتحريض ملك يهوذا ضد ملك إسرائيل وأنه لا يجدر بملك يهوذا أن يخشى إسرائيل الشمالية لأن يهوه قد قرر مصير مملكة إسرائيل الشمالية «تخلي الأرض التي أنت خاش مليكها» (إشعيا، 7: 16) ... وأنه في خلال خمسة وستين سنة سوف تنكسر إفرايم/إسرائيل حتى لا يكون شعبا (7: 98). ثم اقترح إشعيا على أحاز أن يطلب من الرب يهوه علامة على ذلك (آية) فرفض أحاز، لكن يهوه يتطوع بنفسه ويعطي الآية، وهو أنه لو كان ثمة طفل رضيع فإن نبوءات إشعيا ستحدث قبل أن يتمكن هذا الطفل من تمييز الخير من الشر.
يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل (معنى عمانوئيل: الله معنا). زبدا وعسلا يأكل، ومتى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير؛ لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التي أنت خاش من مليكها.
وعندما رأى إشعيا خوف الملك اليهوذي قام يوحي له أن ملك دمشق وملك إسرائيل سيطردان من بلديهما قريبا جدا قبل أن يميز هذا الطفل الصغير. ولم ينتظر الآية بل قام يصنعها بالزواج من نبية أنجبت الطفل، لكنه أطلق عليه اسما جديدا هو دمهير شلال حاش، ومعناه: «أي الذي يعجل الغنيمة ويسرع النهب». وقبل أن يعرف هذا الصبي نداءه للأب والأم سيسبى ملك آشور دمشق والسامرة (8: 2-4). والمعلوم لدى العارفين بالتوراة أن تعبير «العذراء» في النص السالف قد ورد في الترجمة السبعينية وقد تمت ترجمة اللفظة العبرية «علما» فيها بمعنى العذراء، بينما كانت في الأصل هي «بارتيتوس» التي منها «بروستيتيوت» أي الداعرة وليس العذراء. وقد وقفت المسيحية بعد ذلك أمام هذا النص لتراه «نبوءة بمجيء المسيح». رغم أن إشعيا لم يفكر في هذا إطلاقا وهو يطلق نبوءاته، فقط كان يتنبأ بسقوط مملكتي دمشق وإسرائيل خلال ثلاث أو أربع سنوات قبل أن يبدأ طفله المولود من الداعرة في التمييز. وسقطت دمشق أمام آشور بعد عامين فقط، وسقطت إسرائيل ليس بعد 65 عاما بل قبل ذلك بكثير، بعد نبوءات إشعيا باثني عشر عاما فقط عندما احتلها سرجون الثاني الآشوري وسبى سكانها إلى نينوى. «لقد كان الغزو متوقعا بين لحظة وأخرى، ووضعه إشعيا بحسبانه نبوءة ووحيا إلهيا».
وعندما كانت إسرائيل تسقط أمام الجيوش الآشورية، هاجم الفلسطينيون والآدوميون يهوذا واحتلوا بعض مدنها (أيوب، 28: 17-19) ومن هنا لجأ ملكها أحاز إلى ملك آشور، بل وأدخل إلى يهوذا عبادة الآلهة الآشورية رشوة لسرجون العاهل الآشوري، مما جعل ديانة يهوه في خطر، وترأس صفوف أنصار يهوه النبي إشعيا، الذي قام يحاول إيجاد تبرير لما يحدث لشعب يهوه. وانتهى إلى نتيجة هي أن آشور بكل جبروتها ليست سوى أداة في يد يهوه ينفذ بها إرادته لتأديب شعبه المختار وتفسخه الأخلاقي خاصة لدى النخبة العليا في المجتمع اليهودي، ولأن شعبه المختار دوما يحب عبادة الآلهة الغريبة والوثنية.
وإذا كان هوشع قد تصور يهوه في صورة الزوج الغيور الذي من حقه تأديب زوجته الزانية، فإن إشعيا تصوره في هيئة ملك حاكم يحق له شرعا تأديب المتمردين، لكن كما أن الملك لا يسمح بإبادة شعبه فكذلك يفعل يهوه ليبقى من الشعب من يتعبد له ويمجد اسمه على الأرض. كان إشعيا يتوقع احتلال آشور ليهوذا وعند ذلك سيغضب يهوه على آشور التي هي أداته التنفيذية، وستظهر بعد ذلك بقية اليهود ليعيشوا في مملكة سلام ورخاء. كما رأى في استعانة أحاز اليهوذي بالأشوريين شكا في يهوه الذي يجب الاعتماد عليه وحده، وعبر إشعيا للملك أحاز عن غضبه من الاستعانة بآشور ضد دمشق وإسرائيل؛ لأن المتوقع لدى أي عارف بالأشوريين أنهم لن يحفظوا عهدهم وأنهم بمجرد احتلالهم لدمشق وإسرائيل سيتجهون من فورهم جنوبا نحو يهوذا، وهو بالفعل ما حدث بعد ستة عشر عاما عندما مات أحاز وانتقل العرش إلى ابنه حزقيا.
وبمجرد تتويج حزقيا قام إشعيا بتدوين قصيدة مديح عصماء في الملك الجديد أملا في اجتذابه لتحقيق مخططاته، وبالفعل تم تقريب إشعيا من البلاط وأصبح شديد التأثير فيه حتى أصبح الملك حزقيا مناصرا غيورا ليهوه، وقام يلاحق العبادات الأخرى بعنف، وفتح معبد أورشليم الذي أغلق أيام أبيه أحاز وانتصر حزب يهوه على بقية الآلهة.
অজানা পৃষ্ঠা