هذا ما كان عن القصور الأول في تاريخ جماعة بني إسرائيل، والذي جعل من الصعب تدقيق الاصطلاح الصادق الدلالة عليهم؛ فمع تاريخ كهذا لن تكون واثقا عن أي شيء تتحدث بالضبط، ولا يبقى لديك سوى مأثرتهم الوحيدة (العهد القديم من الكتاب المقدس) لتتناول التاريخ الوارد فيه بالدرس. لكن الكتاب المقدس نفسه يضعك في حيرة عندما تريد تدقيق الاصطلاح، ما بين العبريين واليهود والإسرائيليين، لكن العجيب في الأمر، والمثير لدهشة الباحث وقلقه معا، هو ذلك التكامل المدهش في ذلك المأثور، الذي يندرج ضمن التاريخ أكثر مما يندرج ضمن الدين؛ فيظهر بمظهر الدقة الصارمة، ويتحدث عن الجماعة الإسرائيلية من البدء، نسبا لنسب، ليرتفع بهم إلى أرومتهم «النبي إبراهيم عليه السلام»، ثم يصعد ليصل إلى شخصية تراثية أبعد هي «النبي نوح عليه السلام»، ثم يغالي دون أن يبالي، فيرتفع بسلسلة الأنساب حتى يصلها مباشرة بشخصية تراثية أخرى هي «آدم» أبو البشر، مع تفصيل لكثير من الدقائق والمنمنمات التي يقدمها كشواهد، إثباتا للمصداقية، هذا علما أن كل هذا المدون الذي يضرب في عمق الزمن السحيق، لم يتم تدوينه إلا في زمن متأخر جدا بما لا يقارب، قياسا على زمن الأحداث التي يرويها؛ حيث لم يبدأ تدوين المقدس الإسرائيلي حسب أبعد الترجيحات، وأكثرها تأولا لصالح بني إسرائيل، إلا مع بداية الألف الأولى قبل الميلاد.
وإزاء هذا التأخير في التدوين، مع التكامل الظاهري، والإصرار على التدقيق في تفاصيل أحداث سحيقة في القدم، فإن أي باحث لا يملك سوى أن يرى في ذلك التاريخ المقدس صنعة وانتحالا واضحين، وريبة مركزية تحيط بها كثير من الظنون، مما يفقده الكثير من المصداقية لأول وهلة، وقبل وضعه على أي ميزان. هذا ناهيك عما تلبس بهذا التاريخ من أساطير ومبالغات لا تخلو منها صفحة من صفحات ذلك المقدس، ملتبسة بأحداث أخرى واقعية، وتتم رواية ذلك المزيج الهجين بحسبانه في مجمله أحداثا تاريخية واقعية ، مما يلقي مزيدا من ظلال الشكوك على الحدث نفسه، الذي يروى كواقعة تاريخية.
أما ما يزيد الأمر تعقيدا، فهو أن تلك الجماعة، وحسب الكتاب المقدس ذاته، قد مرت بعدة أدوار، انتقلت فيها نقلات هائلة ومتغيرة كميا وكيفيا، بحيث لا يمكنك في مرحلة بعينها، الزعم أنك تتحدث دون خلط، وهو ما ألقى بظلاله على تدقيق الاصطلاح المناسب الدال على تلك الجماعة البشرية؛ فاصطلاح العبريين يرتبط أساسا بلغة تلك الجماعة، والمعروفة باللغة العبرية، كما يرتبط من جهة أخرى بتفسير الباحثين للاصطلاح بحسبانه دالا على حدث تاريخي، هو عبور القبيلة الأولى (الإبراهيمية) للنهر، في هجرتها من وطنها الأصلي إلى كنعان، ويتضارب الباحثون التوراتيون - دون الشعور بأي خلل - ما بين كون هذا العبور لنهر الفرات أو لنهر الأردن؛ فالأمر مقدس، ومع المقدس كل شيء جائز. وقد كانت هذه الهجرة من مدينة «أور» المزعوم بالتوراة أنها «أور الكلدانيين»، والواقعة في أقصى الطرف الجنوبي الغربي لبلاد الرافدين حسبما ذهب الباحثون، والتي ذهبنا نحن بها إلى منطقة «أرارات» في جبال «أرمينيا» حول هضبة أرارات وغربها؛ أي المنطقة الواقعة شمالي العراق وسورية الآن، وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول».
ومن جانبنا فقد رأينا اصطلاح «العبريين» غير صادق الدلالة إلى حد بعيد، رغم كونه أكثر الاصطلاحات استخداما في كتابات الباحثين، وموقفنا يتأسس على خطأ نراه أساسيا في مستند هؤلاء؛ لأن الكلمة «عبري» لا تعود بحال إلى عبور نهر، وإعادتها لعبور القبيلة الإبراهيمية للنهر، قصد بها تخريج يتماشى مع سيناريو كاتب هذا الجزء بالكتاب المقدس الذي دون قصة الهجرة الإبراهيمية من «أور» إلى كنعان. بينما الأصل يعود إلى أن القبيلة الإبراهيمية المعنية بهذا الاصطلاح تعود بنسبها إلى الجد المدعو «عابر»، وذلك حسب شجرة الأنساب التوراتية؛ فإبراهيم هو ابن تارح (آذر في الرواية الإسلامية)، ابن ناحور بن سروج بن رعو فالج بن عابر، وعابر هذا هو حفيد سام بن نوح. وتعود أهمية «عابر» في هذا السلسال حسب التعليلات التوارتية، إلى أنه في زمنه وزمن ولده «فالج»، قسمت الأرض حسب ألسنتها إلى شعوب وأجناس، ووزعت على خريطة المنطقة، بحيث تميز العبريون في هذه القسمة عن غيرهم من الشعوب؛ لذلك لا يني الكتاب المقدس يذكر الجد عابرا بشكل متواتر، قاصدا به الدلالة على الشعب الذي تناسل عن النبي إبراهيم تحديدا.
ومكمن الخطأ في استخدام هذا الاصطلاح، هو أنه إلى «عابر» ذاته، تعود مجموعة أخرى من الشعوب، حسب القسمة التوراتية ذاتها، هم أبناء «يقظان» أحد أبناء عابر. وأبناء يقظان هم عرب جزيرة العرب وبخاصة جنوبها «قحطان»؛ لذلك فإن دلالة «عبري» حسب المقدس، تشمل بني إسرائيل، كما تشمل شعوب جزيرة العرب؛ فهي دلالة أوسع وأشمل وأعم من بني إسرائيل وحدهم. وكما تبين دلالتها في الكتاب المقدس، فهي تشير إلى الرعاة وأصحاب نهج البداوة بشكل عام، وحيثما استعملنا التعبير «عبري»، يتبادر إلى الذهن فورا تعبير «عربي» كمصطلح دال على الرعي والبداوي، ولنلحظ أنه بظاهرة الميتاتيز الفونيطيقي (القلب اللساني)، يمكن أن تتبادل «عبري» و«عربي». وعلى مستوى اللسان فإنه من «عبري» يكون التعبير، أو الإفصاح من «عبر» ومن «عربي» يكون الإعراب «أعرب» أي أفصح وعبر وهو يحمل ذات الدلالة، ولا يفوتنا الاقتراب الحميم بين اللغتين العربية والعبرية تحديدا من بين بقية فروع شجرة اللغات السامية. وفي المأثورة «إسماعيل» أبو العربان، هو أخ لإسحاق أرومة بني إسرائيل، وفي التاريخ تحدثت وثائق الرافدين عن مملكة «عريبي»
14
بينما تحدثت وثائق مصر عن البدو باسم «عبيرو»
15
ولنلحظ أمرا لا يخفى مغزاه، وهو اعتماد المؤرخين الإسلاميين على شجرة الأنساب التوراتية، في حال تنسيبهم لشخصيات عربية تاريخية، بحيث تعود تلك الشخصيات دوما في النهاية إلى الشجرة العبرية.
وفي حال احتساب اصطلاح عريبي منسوبا إلى اللغة العبرية، فإنه من المفيد أن نعلم، أن اللغة العبرية نفسها لم تكن لغة بذاتها بهذا الاسم، بل هي «شفة كنعان» (إشعيا، 19: 86)؛ أي لسان الكنعانيين؛ حيث اكتسبتها القبيلة الإبراهيمية بعد نزولها فلسطين؛ حيث سكنت بين سكانها الكنعانيين، وتكلمت بلسانهم اكتسابا؛ وعليه، فإن استخدام اصطلاح عبري سيشمل القبيلة الإبراهيمية الوافدة، والكنعانيين سكان فلسطين، وعرب الجزيرة، وما أبعد ذلك عن الصحة والسلامة، ومن هنا رأينا أن اصطلاح عبري، لا يفي بدقة للدلالة على بني إسرائيل بقدر ما يدل على البداوة عموما.
অজানা পৃষ্ঠা