وسطية الإسلام وسماحته - وهبة الزحيلي
وسطية الإسلام وسماحته - وهبة الزحيلي
প্রকাশক
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
জনগুলি
وسطية الإسلام وسماحته إعداد
أد. وهبة بن مصطفى الزحيلي
جامعة دمشق - كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. . وبعد:
إن مقوِّمات رسالة الإسلام الخالدة إلى يوم القيامة القائمة على النزعة العالمية والخلود والخاتمية تتطلب المنهج الرصين والحكيم والنابع من منطق العقل الحصيف أو العقلانية، والحكمة، والاعتدال، والسماحة والتوازن، ومسايرة الفطرة الإنسانية، والواقع المعيشي، ومراعاة اختلاف الأمزجة والميول والنزعات والرغائب، وإقرار الأمن والسلام، والحرص على تطبيق العدل والمساواة والحرية، وصون الكرامة الإنسانية، وكل ما من شأنه الحفاظ على حقوق الإنسان، والإشادة بالبناء العقدي الراسخ والبعد عن كل عوامل الهدم والضعف والأساطير والخرافات.
1 / 1
والوصول إلى تحقيق هذه الغايات السامية يتطلب إدراك مفاهيم الإسلام في علاقته مع الأفراد والشعوب والأمم والدول على حد سواء، حتى لا تهتز الثقة بشريعة الوحي الإلهي المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة، ويلمس كل إنسان أن المصلحة الحقيقية والتماس النجاح أو النجاة، والاطمئنان والراحة النفسية تتجسد كلها في الخطاب الإلهي التشريعي العقدي والتعبدي والتعاملي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي والإنساني، والفقه الحضاري القويم القائم على التجرد والموضوعية والتعادل في التبادل، والاستقرار والشمول، والواقعية المنسجمة مع المثل العليا القائمة على محبة الخير والإحسان، والتضحية والإيثار، والأخوة الإنسانية، والاعتقاد الحق، وترسيخ معالم المدنية والتحضر، وتوفير الشعور بالطمأنينة والإحساس بالسعادة الغامرة في عالم الدنيا والآخرة، ولا سيما في عصرنا الحاضر حيث يتعرض الإسلام وأهله لتحديات خطيرة، واتهامات مغرضة، وافتراءات وأباطيل في مظلة ما سموه مكافحة الإرهاب والعنف والتطرف، والإسلام منه براء.
وهذا يتطلب إلقاء الضوء على أصول الإسلام الثلاثة في العلاقات الاجتماعية المحلية والدولية وهي:
1 / 2
* وسطية الإسلام.
* وسماحة الإسلام.
* ودعوته للحوار البنَّاء.
وكل ما نريد تحقيقه هو إعلاء كلمة الحق والعدل، وصون حقوق المستضعفين، وقمع الظلم والتسلط، ومقاومة الانحراف وتشويه المفاهيم، بالإصغاء لنداء الوجدان والضمير، والعقل والحكمة، والعدالة المجردة، دون تعصب ولا تشتت، ولا إخفاء لمقاصد خبيثة، أو تبييت لنيات وبواعث نفعية، ولا اعتماد على منطق القهر، والقوة العسكرية، ومحاولة إخضاع الشعوب المستضعفة، وتسخيرها أو تركيعها لهيمنة النفوذ الخطير للصهيونية العالمية.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
1 / 3
وسطية الإسلام مفهومها، منشؤها، آفاقها، مبناها، أبعادها في ميدان الفقه الحضاري والعلاقات المتبادلة بين المسلمين وغيرهم.
مفهوم الوسطية ومنشؤها
الوسطية في اللغة بمعنى التوسيط وهو أن يجعل الشيء في الوسط، والوسط: اسم لما بين طرفي الشيء، وهو المعتدل، أو ما بين الجيد والرديء كما جاء في الصحاح للجوهري، وأوسط الشيء: أفضله وخياره، وأعدله، كما جاء في القاموس المحيط.
1 / 4
ومنه جاء استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ([البقرة: ١٤٣] . أوضح الطبري (١) هذا التشبيه بقوله: كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد ﵇ وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم، ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطًا. والوسط في كلام العرب: الخيار. ثم قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، ووصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم (قولهم) في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم - أي المسلمين- أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها. والخيار من الناس: عدولهم.
_________
(١) تفسير الطبري ٢، ٥.
1 / 5
وقال في الكشاف (١): ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم " أمة وسطًا " أي خيارًا، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء. وقيل: للخيار: وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأوساط محمية محوطة.
وقال الرازي (٢): الوسط: هو العدل في قول جماعة بدليل الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى، أما الآية فهي ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم: ٢٨]، والخبر: ما رواه القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ: «أمة وسطًا» قال: عدلًا) وما رواه ابن السمعاني عن علي مرفوعًا: «(خير الأمور أوسطها) أو (أوساطها)» وفي رواية ابن عباس عند الديلمي مرفوعًا: «خير الأمور أوسطها» (٣) . والشعر قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
والنقل كما قال الجوهري في الصحاح: (أمة وسطًا) أي عدلًا، والمعنى: أن المتوسط في الأخلاق يكون بعيدًا عن طرفي الإفراط والتفريط، فكان معتدلًا فاضلًا.
وأكد القرطبي تفسير الوسط بأنه العدل.
_________
(١) ١ / ٢٤٢.
(٢) تفسير الرازي ٤ / ٩٨.
(٣) حديث علي بسند فيه مجهول، وحديث ابن عباس عند الديلمي بلا سند.
1 / 6
فثبت أن الأمة الإسلامية متصفة بالعدالة، مما جعلها أهلًا لأداء الشهادة على الأمم الأخرى بأن رسلهم بلّغوهم رسالات ربهم، ورسولنا شاهد علينا بأنه بلغنا الرسالة، وأدى الأمانة.
كما ثبت عند القائلين بتفسير الوسط من كل شيء خياره: أن الأمة الإسلامية معتدلة متوسطة في رسالتها وشريعتها، ومبادئها وقيمها، تلتزم الصراط السوي، وتلتزم منهج الاعتدال، وتتجه بإخلاص منقطع النظير لإصلاح الأمم والشعوب والأفراد بما يحقق لهم السعادة والنجاة، ويكفل لهم عز الدنيا، والفلاح في الآخرة، على أساس الجمع بين المثل العليا والواقع المشاهد، وهذا المعنى هو الأنسب لبحثنا.
ثم إن اتصاف الأمة الإسلامية بالعدالة والخيرية يؤهلها لأن تكون أمة القيادة والتوجيه، لالتزامها شرف الكلمة والإحسان والعدل، والتوازن والاعتدال، ولصواب عقيدتها، وإحكام نظامها وشريعتها ومنهجها، بل موقعها في الأرض وتاريخها ومناخها، ولكون مكة المكرمة في مركز وسط الكرة الأرضية للعالم أجمع، فهي أمة الخير، وتملك ناصية الميزان، ورأيها المعتمد على وحي الله - تعالى - هو الرأي السديد في معالجة جميع القضايا والشؤون.
1 / 7
آفاق الوسطية
للوسطية آفاق عديدة تجعل الحياة البشرية مزدانة بأوصاف الحق والخير والاعتدال أو الاتزان في معالجة مشكلات الحياة، ومظاهر الوسطية أو آفاقها ما يأتي:
١ - مسايرة أوضاع الفطرة الإنسانية:
إن أساس مسايرة أوضاع الفطرة الإنسانية أو مراعاتها هو وسطية الشريعة الإسلامية في أحكامها الاعتقادية، والمنهجية والعملية، والخلقية، وممارسة العبادات بما يلائم طبيعة الإنسان وإمكاناته المزدوجة الجامعة بين حق الجسم وحق النفس أو الروح، ويحفظ التوازن دون إلحاق جور أو ضرر أو كبت أو إرهاق لجانب على جانب آخر، حتى وصف الإسلام بأنه " دين الفطرة " كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠] .
٢- الإقرار بوجود النزعات والميول البشرية:
1 / 8
لا ينكر إنسان وجود الواقع النفسي والميول والعواطف والغرائز التي خلقها الله في البشر، وهذا يحتاج إلى الإشباع بالطرق السوية، دون الوقوع في الجوع والنهم أو التحرق والمعاناة، فمن تمتع باللذات المشروعة أو المباحة كان هادئ النفس مرتاح الضمير، ومن كابد الصراعات النفسية ولم يستجب لنداء الذات، كان قلقًا ومعذّبًا، ومن أسرف في اللذات والمشاعر وقع فريسة المرض والاضطراب والقلق.
1 / 9
لذا أباح الإسلام الزينة والتمتع بالطيبات، وحرَّم الفواحش، ورغّب في الزواج، فقال الله تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ . . . . [الأعراف: ٣١ - ٣٣] ففي هذه الآيات إباحة الزينة وتناول الطيبات وتحريم الفواحش.
وقال سبحانه: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ [النور: ٣٢] وهو ترغيب شديد في الزواج والتزويج لكل من لا زوج له، لما فيه من الخير والعفة، وبقاء النوع الإنساني بإنجاب الذرية.
1 / 10
وقد نهى الإسلام عن الترهُّب فلا رهبانية في الإسلام، وندَّد برهبانية بعض النصارى، فقال الله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: ٢٧] .
ويمتاز الإسلام بأنه جمع في الترغيب بين العمل للدنيا والعمل للآخرة لتتحقق المصلحتان، وتتوافر المنفعتان، ولإكمال رسالة الدنيا وجعلها جسرًا للآخرة، لأن متطلبات الحياة الدنيوية كثيرة، وتعمير الدنيا وتقدمها وتحضرها من مقاصد الخلق الإلهي، وذلك مثل الاستعداد بالإيمان والعمل الصالح للآخرة دار الخلود. قال الله تعالى في قصة قارون: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: ٧٧] .
٣- ضرورات بناء قاعدة الإيمان أو العقيدة:
1 / 11
الإيمان الصحيح منطلق كل عمل مثمر، وقاعدة قبول الأعمال الصالحة. وأصول الإيمان الستة: " الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره " تتآزر مع بعضها لتحقيق بناء شخصية المؤمن، وتكامل الذات، والتوصل إلى الغايات السامية والنفعية، في عالم الدنيا والآخرة.
وقمة الإيمان: توحيد الله وتعظيمه، لأنه الخالق الرازق والمهيمن على شئون الكون، ومرجع الحساب والثواب والعقاب في الآخرة، مما يزرع في النفس إجلال الذات الإلهية ووجوب إرضاء الله وطاعته، والخوف من مخالفة أوامره ونواهيه، وكذا محبته وشكره وعبادته.
وتعمل بقية عناصر الإيمان على تزويد الإنسان بطاقات اليقين والهيبة ودفعه إلى العمل الصالح في الدين والدنيا والآخرة.
وعقيدة الإيمان في شريعة الإسلام بسيطة غير معقدة، وسهلة الفهم، وتتقبلها العقول بسرعة، وتريح النفس، وتحقق لها الطمأنينة وتجنّبها القلق والاضطراب، وتعينها على تجاوز مشكلات الحياة وتقلّباتها، بما فيها من خير وشر، وعزّ وذل، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وقوة وضعف، ومتعة أو لذة وحرمان، وسلام أو أمان وحرب وخوف، وغير ذلك من ظواهر الحياة الاجتماعية والإنسانية.
1 / 12
ومن يُحْرَم أصول الإيمان هذه يتعرض لكثير من الهزات والأزمات، فيقدم على الانتحار أحيانًا، أو يتعرض للقلق والاضطراب، والوقوع فريسة الأهواء والجهالة والغموض، والعمل دون هدف نبيل، أو الوصول لغاية شريفة أو مطلب معسول، ويكون أشبه بالهائم في الأرض، لا يدري فهم حقائق البدء والمسيرة والانتهاء.
فيكون الإيمان بحسب أصول الإسلام طريق إسعاد وإنقاذ ونجاة وفلاح وعمران وبناء، وسمعة عالية وأثر عميق في التاريخ، وكل ذلك بفضل بساطة العقيدة الإسلامية ووسطية مفاهيمها ومداركها وغاياتها.
ومن أهم مظاهر عقيدتنا ووسطيتها: تقرير حرية الإنسان في اختيار أفعاله ومسئوليته عن أعماله، في مظلة من القيود أو النواميس الكونية بحيث لا يستطيع اختراقها كالحياة والموت، والإقامة والارتحال، والقوة والضعف، والعز والذل، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له، في نطاق المشيئة والإرادة الإلهية.
فليس الإنسان مجبورًا ظاهرًا وباطنًا، ولا خالقًا لأفعاله، من غير تدخل خلق الله وإيجاده، لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: ٩٦] .
1 / 13
والإنسان فاعل مختار ضمن ظروف وأحوال محيطة به، فهو في شأنه وسط، وهو حر في حدود النظام الكوني العام، وما مثله إلا كمثل من يعيش في حديقة غنّاء واسعة يتمتع بكل ما فيها من خيرات ونعم وثمار وظلال، ويتجنب ما قد يكون فيها من مخاطر ومضار، ولكنه لا يستطيع تجاوز سور الحديقة.
ويوضح ذلك مثال آخر فيما يفعله الإنسان فهو مباشر للفعل بإرادته وحريته، والله يهيئ له أسباب المباشرة، ويحقق له نتائج العمل، وينسب الله له فضيلة هذا العمل، ويمنحه القوة والعون على فعله، وله الثواب في الطاعة، وعليه العقاب في المعصية أو المخالفة، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧]، وقوله ﷿: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: ١٢٦]، وقوله سبحانه: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: ١٦٠] .
وندرك حينئذ معنى العمل وفائدة الدعاء وطلب التوفيق من الله تعالى.
1 / 14
وندرك أيضًا سر العمل وجدواه في الدنيا التي هي دار امتحان واختبار، ثم نهاية العمر أو الموت، وتحمل مسؤولية التكاليف الإلهية، والحساب عليها في الآخرة، وفي ذلك خير للفرد والجماعة، وكل ذلك مرتبط بحكمة إلهية عميقة ودقيقة، وإلا كان الوجود في الدنيا نقمة أو عبثًا أو ضياعًا، والله تعالى منزّه عن العبث، وعن الوجود الإنساني من غير هدف، وهذا ما قرره القرآن الكريم في آية: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] .
٤- تشريع العبادات:
1 / 15
تتميز العبادات المفروضة ونوافلها في الإسلام من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها باليسر والسماحة، وقلة التكاليف، وسهولة الممارسة، والبعد عن التشدد والغلو والتنطع، وكون المشقة فيها معتادة، فضلًا عن فوائدها الجمة، وآثارها التهذيبية والاجتماعية، والتعبير بها عن عبودية الإنسان لله الخالق، فإن لله - تعالى - حقوقًا على عباده، بل إن الغاية الأصلية من الخَلْق الإلهي للبشرية هي عبادة الرب ﵎ كما قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] .
1 / 16
إن الطهارة أول الأسس في حماية البيئة والنفس والتحرز عن المؤذيات والمضارّ. والصلاة بفرائضها الخمس: صلة بين العبد وربه، وتذكير بالواجبات والمسؤوليات واحترام قيمة الوقت وتهذيب النفس. والصوم: صحة وعافية، وتدريب على الصبر، وقوة الإرادة، وشحذ العزيمة، والترفع عن الماديات والتشبه بالملأ الأعلى من الملائكة، وانتصار على الأهواء والشهوات والمغريات. والزكاة لتحقيق التكافل الاجتماعي، والتعاون والتراحم، وعلاج ظواهر البؤس والفقر والعوز أو الحاجة، وتطهير المال وصونه من الضياع والسرقة. والحج يحقق منافع كثيرة أولها جمع المسلمين على قدم المساواة وتوحيد الله ووحدة الاتجاه والالتفاف حول مركز واحد وهو الكعبة المشرفة، وتربية الأخلاق بالاغتراب والسفر والاحتكاك بالآخرين.
وهذه نقاط مضيئة ومثمرة لبناء الفرد والجماعة، والأمة والدولة، وتلك وسطية بنَّاءة أو إيجابية، وتربية ناجعة على الدوام، لا تقتصر على فترة زمنية سرعان ما يتناسى الإنسان آثارها ومراميها.
٥- استقرار نظام الأسرة:
1 / 17
يحرص الإسلام على بناء الأسرة القوية المتماسكة الجادة المتعاونة لكونها الخلية الأولى للمجتمع، فالآباء والأجداد والأولاد والأحفاد يعملون كأنهم في معسكر تدريب فعَّال لتحقيق الكفاية الإنتاجية الذاتية، ورفد المجتمع ببناة الجيل الصاعد، وبقاء النوع الإنساني، وانطلاق هذه المؤسسة الصغيرة نحو تحقيق آفاق الحياة المنضبطة والسخية والقوية في آن واحد.
ونظام الأسرة المسلمة القائم على التعاون والتراحم والتسلح بقيم الأخلاق الفاضلة بدءًا من الزواج حتى انتهاء الرابطة الزوجية بالطلاق الاضطراري أو الموت: نظام وسطي معتدل، يضم بين أجنحته إذا التزمت آداب الإسلام وروعيت ضوابط أحكامه وشرائعه كلَّ ما يحقق الخير والتقدم والسعادة، لقيامه على قواعد العدل والمساواة والحرية المنظمة، والضرورة أو الحاجة أو الحالات الاستثنائية التي لولاها لأصبحت الحياة الزوجية جحيمًا لا يطاق.
1 / 18
ويشير لكل هذا بإيجاز قول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: ٢١] وقوله سبحانه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩] وما المعروف إلا التوسط في المعاملة بحسب العرف والعادة الصحيحة، وضمن موازين الشرع.
1 / 19
وهذا يجعل الزواج من سنن الفطرة، ونظام الاجتماع والتمدن، وأنه مظهر إيجابي فعال للتعاون والعناية المشتركة والنفع المتبادل، ومصدر للسعادة والهناء والاستقرار، مع مراعاة الواقع المرير أحيانًا للتخلص من زيجة تصبح خطرًا أو باعثة على الفساد والشر والضرر والأذى، وذلك مع الحرص الشديد بقدر الإمكان على دوام هذه الرابطة والبعد عن هدمها، لذا سماها الإسلام بالميثاق الغليظ أي الشديد المؤكد الصلة أو العلاقة ووجوب الوفاء بالحقوق والواجبات فيها، في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ (١) ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١] .
٦- تكامل نظام المسؤولية المدنية والجنائية:
المسؤولية عنوان التكريم الإنساني، لأن إهمال الإنسان وتعطيل قواه أمارة على الإهمال والتخلي والنبذ، والتقصير في القيام بالمسؤولية دليل على عدم المبالاة، وتحدي نظام المجتمع، والتجرد من الإنسانية.
_________
(١) أي الصداق أو المهر الممنوح للزوجة.
1 / 20