Islamic Not Wahhabi

إسلامية لا وهابية

প্রকাশক

دار كنوز أشبيلية للنشر ١٤٢٥ هـ

জনগুলি

[المقدمة] مقدمة الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله، ورضي الله عن صحابته الكرام، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك اللهم. وبعد: فقد ثبت في الخبر الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي وعد الله وهم كذلك» (١) وبين أنهم يقاتل آخرهم الدجال (٢) وينزل فيهم عيسى ابن مريم ﵇ عند قيام الساعة. وعُلم يقينًا أن هذه الطائفة هم من كان على منهاج النبوة، فعمل بالسنة ولزم الجماعة وسار على نهج السلف الصالح، وأن هذه الطائفة (أهل السنة والجماعة) لا يحصرهم زمان ولا مكان، لكنهم قد يكثرون في زمان ويقلون في آخر، وقد يكثرون في مكان ويقلون في آخر كذلك. والمتأمل لحال المسلمين في القرون الأخيرة يجد أن أبرز أنموذج لهذه المسيرة الخيِّرة هي تلكم الدعوة الإصلاحية المباركة، ودعوة التوحيد والسنة، التي قام بها الإمام المجدد (محمد بن عبد الوهاب ت ١٢٠٦هـ)، وأيدها الأمير الصالح (محمد بن سعود ت ١١٧٩هـ) (رحمهما الله) التي ظهرت في منتصف القرن الثاني عشر الهجري في قلب نجد، ثم سائر جزيرة العرب، ثم امتدت آثارها الطيبة إلى كل أقطار العالم الإسلامي، بل إلى كل أرجاء المعمورة. ولا تزال بحمد الله كذلك. وقد لوحظ، لا سيما مع الأحداث الأخيرة، حروب الخليج، وسقوط الاتحاد السوفييتي وأحداث (١١ سبتمبر) بأمريكا وما أعقبه من تداعيات، لوحظ بصورة ملفتة ومريبة انبعاث كثير من المفتريات والأوهام والأساطير حول ما يسمونه: (الوهابية) .

(١) رواه البخاري (٣٦٤٠) (٣٦٤١)، ومسلم (١٩٢٠) . (٢) رواه أبو داود (١ - ٣٨٩)، والحاكم (٤)، وأحمد (٤، ٤٣٧)، وكذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (١٩٥٩) .

1 / 5

وشاعت هذه المفتريات وهذه الأكاذيب حول الدعوة وأتباعها وعلمائها ودولتها (الدولة السعودية)، وأسهم في ترويجها الحاسدون والمناوئون والكائدون وربما صدقها الجاهلون بحقائق الأمور. وإن الباحث في حقيقة هذه الدعوة ومفتريات خصومها، وتحفظات بعض ناقديها، والكم الهائل مما قيل في ذلك وكتب، وما حشي في أذهان الناس تجاهها من تنفير وتضليل؛ سيصاب بالذهول والحيرة - لأول وهلة. لكن ما إن يلج المنصف في عمق القضية فسيجد الأمر أيسر وأبين مما يتصوره، وحين يتجرد من الهوى والعصبية ستنكشف له الحقيقة، وهي: أن هذه الدعوة الإصلاحية الكبرى، إنما تمثل الإسلام الحق، ومنهاج النبوة، وسبيل المؤمنين والسلف الصالح في الجملة. كما سيظهر له جليًا أن ما يثار حولها وضدها من الشبهات، إنما هو من قبيل الشائعات والمفتريات، والأوهام والخيالات، والبهتان. ومن الزبد الذي يذهب جفاء عند التحاكم إلى القرآن والسنة، والأصول العلمية المعتبرة، والنظر العقلي السليم. وما أظن حركة من الحركات الإصلاحية واجهت من التحديات، والظلم والبهتان، كما واجهت هذه الدعوة، ومع ذلك علت وانتصرت وآتت ثمارها الطيبة (ولا تزال بحمد الله) في كل مكان. وما ذلك إلا لأنها قامت على ثوابت الدين الحق (الإسلام) لكن هذه الحقيقة خفيت على كثير من الناس، فكان لا بد من تجليتها. لذا فقد لزم الإسهام - في هذا المؤلف - (١) في تجلية الحقيقة، ورفع الظلم، ودفع الباطل ورد المفتريات والمزاعم، بالحجة والبرهان، واستجلاء الحقيقة من خلال الواقع وشهادة المنصفين. فإنه من الحقائق الثابتة الجليَّة أن هذه الدعوة الإصلاحية إنما هي امتداد للمنهج الذي كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ الإسلامي، وهو منهج الإسلام الحق الذي كان عليه النبي ﷺ وصحابته الكرام والتابعون وأئمة الدين من الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم.

(١) وهو ملخص عن كتاب بعنوان: (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - حقيقتها ورد الشبهات حولها) مقدم إلى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.

1 / 6

إذن فهذه الحركة المباركة لم تكن إلا معبرة عن الإسلام نفسه، مستهدفة إحياء ما اعترى تطبيقه من قبل كثير من المسلمين من غشاوة وجهل وإعراض وبدع. وحيث قد اشتهرت عند غير أهلها، وعند الجاهلين بحقيقتها باسم (الوهابية) فإن هذا الوصف انطلق أولًا من الخصوم، وكانوا يطلقونه على سبيل التنفير واللمز والتعيير، ويزعمون أنه مذهب مبتدع في الإسلام، أو مذهب خامس. وهذا ظلم. فهي ليست سوى الإسلام والسنة كما جاء بها النبي ﷺ وسار عليها السلف الصالح. ولم يكن استعمال هذا الوصف مرضيًا ولا شائعًا عند أتباعها، ومع ذلك صار لقب (الوهابية) وتسمية الدعوة الإصلاحية السلفية الحديثة به هو السائد لدى الكثيرين من الخصوم وبعض الأتباع والمؤيدين والمحايدين (تنزلًا) . بل تعدى الأمر إلى التوسع في إطلاق (الوهابية) على أشخاص وحركات منحرفة عن المنهج السليم، وتخالف ما عليه السلف الصالح وما قامت عليه هذه الدعوة المباركة، وهذا بسبب تراكمات الأكاذيب والأساطير التي نسجت حول الدعوة وأهلها بالباطل والبهتان. إن أتباع هذه الحركة لا يرون صواب هذه التسمية (الوهابية) ولا ما انطوت عليه من مغالطات وأوهام، لاعتبارات مقنعة كثيرة شرعية وعلمية ومنهجية وموضوعية وواقعية، تتلخص فيما أشرت إليه من أنها تمثل تمامًا الإسلام الحق الذي جاء به النبي ﷺ ومنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيل الهدى، وإذن فحصره تحت مسمى غير الإسلام والسنة خطأ فادح وبدعة محدثة ومردودة. كما ذكرت أن هذه الدعوة وأتباعها ودولتها (الدولة السعودية في مراحلها الثلاث) قد واجهت، ولا تزال تواجه، تحديات كبرى كلها ترتكز على المفتريات والاتهامات، والشائعات والأكاذيب والأساطير التي لا تصمد أمام البحث الشرعي العلمي الأصيل والمتجرد. وإن كان الناقدون قد يجدون في تجاوزات بعض المنتسبين للدعوة ما يتذرعون به في نقدها، لكن عند التحقيق تزول هذه التهم. إذ إن الناظر في المفردات الجزئية لكل دعوة أو مبدأ، قد يجد فيها الكثير من الأخطاء والتجاوزات والتصرفات الشاذة والأقوال النادة والأحكام الخاطئة، أو الأمور المشكلة والمشتبهة التي تحتاج إلى تثبت أو تفسير أو تدقيق أو استقراء للوصول إلى حكم علمي تطمئن إليه النفس.

1 / 7

لكن أهل العلم وعقلاء الناس لديهم موازين علمية وعقليَّة وقواعد شرعية يزنون بها الأمور. ودعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تخضع لهذه القاعدة، إذ هي دعوة إسلامية محضة وسلفية خالصة، تسير على منهج السلف الصالح، فمردُّ الخلاف بينها وبين مخالفيها: الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وقد بينت أن ما يتهمها به خصومها من الاتهامات على ثلاثة أنواع: النوع الأول: من الكذب الصريح والافتراء والبهتان، وقد ورد ذكر كثير منه في هذا البحث. النوع الثاني: مما يكون من اللوازم غير اللازمة، أو التلبيس، أو التفسير الخاطئ، ونحو ذلك مما يلتبس فيه الحق بالباطل ويجب رده إلى النصوص والأصول الشرعية والقواعد المعتبرة عند العقلاء، والمنهج الذي عليه الدعوة. النوع الثالث: أخطاء وتجاوزات وزلات ليست على المنهج الذي عليه الدعوة، أو اجتهادات خاطئة أو مرجوحة، وقد تصدر من أيٍّ من العلماء أو الولاة أو العامة، والمنتسبين للدعوة. وكثير من الشبهات والاتهامات التي يتعلق بها الخصُوم للطعن في الإمام وأتباعه ودعوته من هذا النوع. وقد عرضت هذا المنهج بشيء من التفصيل في هذا البحث ليكون القاعدة والميزان في تقويم الدعوة، وبيان مدى الظلم والإجحاف الحاصل لها ولأهلها في الاتهامات التي قيلت وذاعت عند الكثيرين، بل ومدى البهتان والكذب من قبل بعض الخصوم الذين ظلموا هذه الدعوة، أو ممن صدقوهم دون تثبت ولا نظر في المنهج والأصول التي عليها المعوَّل في النقد والتقويم، ودون اعتبار للحال والواقع الذي تعيشه الدعوة وأهلها. وقد واجهت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - كسائر الدعوات الإصلاحية - صورًا عديدة من هذا الابتلاء والمواجهة والحرب الظالمة بجميع أنواعها من خصُومها، وما هذا الصراع إلا حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة. كما أن الصراع بين الدعوة وبين خصومها إنما كان صراعًا عقديًا بالدرجة الأولى، ومظاهر الصراع السياسي وغيره جاءت تباعًا؛ لأن الدعوة أعلنت نشر التوحيد والسنة، ومحاربة الشركيات والبدع السائدة، وأعلنت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وتحقيق العدل ورفع الظلم، والعمل بشرع الله في أمور الحياة ونشر العلم، ومحاربة الجهل

1 / 8

والدجل والسحر. وهذا يتصادم مع مصالح أهل الأهواء والمنتفعين من شيوع البدع والجهل والتخلف. هذه هي الحقيقة ولا شك. وكل رسائل الدعوة وكتبها وأعمالها وتعاملاتها تدور على هذا الأصل: العودة للإسلام والسنة، كما هي في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وسيرة السلف الصالح، نقية صافية من شوائب الشركيات والبدع والأهواء والجهالات والطرق والفرق، والدجل. وهذا منبع الخلاف ومنشأ الصراع. نعم، لقد واجهت هذه الدعوة المباركة: إمامها وعلماؤها وقادتها ودولتها، وأتباعها وأنصارها ومؤيدوها حيثما كانوا - ولا تزال تواجه - أصنافًا من الخصوم، وأنواعًا من التحديات والمفتريات والدعايات المضادة والخصومات بالباطل. فهي إذن - كأي دعوة وحركة إصلاحية جادة - قد اصطدمت بقوى وتحديات وعقبات كبرى ومكائد عظيمة، وخصوم أقوياء، وأعداء أشداء من ديانات وفرق ومذاهب، ودول وجماعات، وعلماء ورؤساء وأمراء، بل وغوغاء وجهلة. ومع ذلك كله كانت هذه الدعوة - حين قامت على الحق والعدل - تنتصر وتنتشر، فقد قاوم إمامها وعلماؤها وأتباعها وأمراؤها كل هذه التحديات، بقوة الإيمان واليقين والعلم والحلم، والصبر والثبات. وإن الواقع ليشهد أن هذه الدعوة - رغم التحديات الكبيرة - كانت تظهر وتعلو وتؤتي ثمارها الطيبة حتى في فترات ضعف السلطة، بل وفي البلاد التي لا توجد فيها لها سلطان ولا قوة حين لا تملك إلا قوة الحجة، وما ذلك إلا لأنها تمثل الإسلام الحق الذي كتب الله له البقاء والظهور إلى قيام الساعة؛ ولأنها تملك عوامل البقاء والثبات ومقومات القوة والنصر؛ ولأنها تستمد القوة من نصرها لدين الله دين الحق والعدل، ومن وعد الله تعالى لكل من نصر هذا الدين كما قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٤٠] [سورة الحج، من الآية: ٤٠] . ولأنها كانت تخاطب العقول السليمة والفطرة المستقيمة، والقلوب الواعية المتجردة من الهوى. إن من أقوى الوسائل لفصل النزاع بين المختلفين بعد التحاكم إلى الأصول الشرعية

1 / 9

والبراهين العقلية: شهادات الآخرين، وقد شهد لهذه الدعوة المباركة، وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها كثيرون من أهل العلم والفكر والفضل والإنصاف، من العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والدعاة، وغيرهم. من المؤيدين، والمعارضين، والمحايدين، من المسلمين وغير المسلمين، ومن كل بلاد العالم ومنذ نشأة الدعوة إلى يومنا هذا. وإن كل الذين شهدوا لهذه الدعوة وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها، كانوا يستندون في شهادتهم لها إلى البراهين والدلائل القاطعة التي لا يمكن أن يتجاوزها المنصف إلا معترفًا بها، ولا ينكرها إلا مكابر. فإن فيما قاله أهلها وكتبوه وفعلوه، وفي آثار هذه الدعوة الدينية والدنيوية العلمية والعملية، في العقيدة، والنظام والسياسية، وسائر مناحي الحياة ومناشطها، ما يشهد بالحق ويدحض الشبهات والمزاعم والتخرصات والاتهامات. علمًا بأن الدعوة ودولتها كانت في مراحلها الأولى لا تملك من وسائل الدعاية والإغراء المادي ما يملكه خصومها كالأتراك وأمراء الأحساء، وأشراف مكة والبلاد المجاورة، وغير المجاورة. ولو اقتصرنا في الدفاع عن الدعوة ودولتها على أقوال المحايدين وكثير من الخصوم في إنصافها والدفاع عنها لكان ذلك كافيًا في بيان الحقيقة ورد الشبهات، وإقناع من كان قصده الحق والتجرد من الهوى. أما من كان دافعه الهوى والحسد أو العصبية أو المذهبية أو نحو ذلك من الدوافع الصارفة عن الحق فلا حيلة فيه، كما قال الله تعالى في هذه الأصناف وأمثالهم من أسلافهم: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام: ٤] [سورة الأنعام، الآية: ٤] . فإذا كانت أحوال الدعوة، وأقوالها ومؤلفاتها، ومواقفها، وشهادات عقلاء الناس تشهد لها فهل بعد هذا البيان من بيان؟ والشهادات التي شهد بها كثيرون لهذه الدعوة المباركة كانت صادقة وطوعية، ونابعة من الضمير، فلم تكن نتيجة إغراءات ولا تضليل إعلامي، ولا ضغط سياسي، ولا تهديد ووعيد (لا رغبة ولا رهبة)؛ لأن أتباع الدعوة ورجالها لم يكونوا يملكون شيئًا من ذلك، إلا الحجة والبرهان (الدليل الشرعي والعقلي) لكل من ألقى السمع وهو شهيد. ولذلك جاءت

1 / 10

شهادة المنصفين مفعمة بالصدق والشفافية والحماس البريء، وخالية من أساليب المجاملات وأيٍّ من أشكال التكلف أو دوافع الرغبة أو الرهبة. وكانوا يستندون إلى المنهج الذي قامت عليه وإلى الواقع الذي تعيشه في مجتمعها، لا سيما من البلاد التي تشملها الدولة السعودية المعاصرة، التي تميزت بحمد الله بصفاء العقيدة وظهور شعائر الدين، واختفاء البدع ومظاهرها. - وأنها حققت الغايات التي جاء بها الإسلام: من تعبيد الناس لله وحده لا شريك له، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وإقامة فرائض الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وتطبيق الحدود، وتحكيم الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة، وابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة. - وأنها رفعت المظالم والمكوس، والضرائب التي تثقل كواهل الناس، وسعت إلى تحقيق العدل والأمن، بالتحاكم إلى شرع الله، وتطبيق نظام القضاء بمقتضى الشريعة الإلهية. - وأنها حررت العقول والنفوس من التعلق بغير الله، من التعلق بالبدع والأوهام، والدجل والشعوذة ونحو ذلك. - وأنها هي الرائد الأول في أسباب النهضة العلمية والفكرية والأدبية الحديثة في جزيرة العرب وما حولها، وسائر البلاد العربية والإسلامية. - وأنها تمثل الأنموذج الأسلم لحركات الإصلاح والتحرير الحديثة في العالم الإسلامي، وأنها تمثل الأنموذج الصحيح في الدعوة، في العصر الحديث في تحقيق الدين، وإصلاح الأفراد والمجتمعات، وتخليص الأمة من البدع والأهواء والفرقة ووسائلها، والتقليد والعصبية، والتزام منهج السلف الصالح في الدعوة ووسائله وأهدافه وغاياته. - كما رأى كثير منهم بأن هذه الدعوة بأصولها ومناهجها وتجاربها هي المؤهلة بأن تنهض بالأمة الإسلامية اليوم، وتعيدها إلى سابق مجدها، وتجمع شملها على الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح. - وأوضحت أن من أكبر الردود على المفترين على هذه الدعوة وأتباعها ودولتها تلكم الثمار الطيبة والآثار الحسنة للدعوة حين قامت على أسس الدين الحق، وقواعد الملة الحنيفية واعتمدت على الوحي المعصوم (كتاب الله وسنة رسوله ﷺ) وسلكت سبيل المؤمنين - السلف الصالح أهل السنة والجماعة - فأعلنت راية التوحيد ورسخته في القلوب وأزالت مظاهر الشرك والبدعة، وحكمت بشرع الله تعالى: شاع بذلك الأمن والعدل والألفة، وانتشر العلم، واختفت

1 / 11

مظاهر الظلم والشتات والجهل والبدعة والخرافة. - لقد كانت لهذه الدعوة المباركة آثار عظيمة وكبيرة غيرت معالم التاريخ، وعدلت مسار الحياة في الأمة الإسلامية كلها في جميع نواحي الحياة: الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها. ولم يقتصر أثرها الطيب على جزيرة العرب (ونجد بخاصة)، التي ارتفعت في ربوعها راية التوحيد خفاقة وعلت فيها معالم السنة، وزالت آثار البدعة والفرقة والجهل، وساد فيها الأمن والوفاق. بل تجاوز أثرها إلى بقية أقاليم الجزيرة العربية وإلى سائر أقطار المسلمين، فقام علماء ومصلحون، وقامت دعوات وحركات تسير على نهج هذه الدعوة السلفية النقية الصافية، في الحجاز وعسير واليمن والشام والعراق ومصر، والمغرب والسودان وكثير من البلاد الأفريقية، وفي باكستان وأفغانستان، والهند البنغال وجاوه، وسومطرة، وسائر الجزر الإندونيسية وغيرها. وكان من أبرز ثمار هذه الدعوة قيام دولة إسلامية قوية مهيبة احتلت موقعًا مرموقًا بين دول العالم كله، والعالم الإسلامي بخاصة هي (دولة آل سعود) منذ أن ناصر مؤسسها محمد بن سعود إمام الدعوة وآزره على إعلاء كلمة الله. فقد كتب الله لها التمكين، وأعلنت التوحيد وحكمت بشرع الله تعالى، ومع ما تعرضت له هذه الدعوة والدولة من تحديات كبيرة، وخصوم أشداء إلا أنها كانت تنتصر في النهاية. لقد تعرضت الدعوة والدولة (السعودية) في مراحلها الأولى لضربات موجعة لكنها كانت - حين قامت على التوحيد والدين والعدل والسنة - لا تلبث أن تنهض قوية فتية لأنها كانت تسكن القلوب، وقد ذاق الناس في حكمها طعم الإيمان، والأمن، والعلم والاجتماع. ولا يزال الأنموذج الحي للدعوة ودولتها قائمًا - بحمد الله - تحتله هذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) التي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - على الأسس المتينة: التوحيد والشرع والعلم، وبناء دولة حديثة، تجمع بين الأصالة في تحكيم شرع الله وحمايته والدعوة إليه وتعظيم شعائره وخدمة مشاعره، وبين المعاصرة بالأخذ بأسباب القوة والنهضة والرقي، من غير إخلال بالدين والفضيلة. ونسأل الله لهذه الدعوة وهذه الدولة المزيد من التمكين والنصر والتوفيق في سبيل

1 / 12

الإسلام، وأن يجمع بها كلمة المسلمين على الحق والسنة. إن هذه الآثار الطيبة والثمار اليانعة الممتدة طيلة قرنين ونصف، هي الرد العملي والعلمي، الشرعي والمنطقي، والواقعي على مفتريات الخصوم، ففي الحال ما يغني عن المقال، لكن حين عميت أبصار أهل الأهواء وبصائرهم عن إدراك الحقيقة والاعتراف بها، وحين حجبت الحقائق عن الجاهلين كان لا بد من تجلية الحقيقة، والله المستعان. ولا يزال كثيرون من الذين يجهلون الحقيقة عن المملكة أو يتجاهلونها، أو الذين يلمزونها أو يحسدونها يصفونها بأنها (دولة الوهابية) على سبيل اللمز والطعن. وقبل الدخول في رد هذا اللمز في آخر هذا المؤلف - إن شاء الله - ينبغي أن أؤكد أن وصف هذه الدعوة بالوهابية يعد تزكية لا تقدر بثمن؛ لأن الوهابية التي يعيرونها بها يقصدون بها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، والتي هي في الحقيقة: الإسلام والسنة وسبيل السلف الصالح، والتزام كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. أما الوهابية على الوصف الذي افتراه الخصوم، والتي تعني (بزعمهم) مذهبًا خامسًا، أو فئة خارجة عن السنة والجماعة، أو التي تعني عند أهل الأهواء والبدع والافتراق وأتباعهم من الغوغاء: (بغض النبي ﷺ والأولياء. . .) أو نحو ذلك من المفتريات التي سيأتي ذكرها والرد عليها، فهذه المفتريات لا تعدو أن تكون أكاذيب وأوهامًا في خيالات القوم وعقولهم، أو شائعات صدقوها دون تثبت. وقد ذكرت أن كل الذين أطلقوا هذه المفتريات والبهتان والذين صدقوا هذه الشائعات ليس عندهم من الدليل والبرهان ما يثبت شيئًا من مزاعمهم، بل المنصف والباحث عن الحقيقة يجد الأمر خلاف ما يفترون. فها هي المملكة العربية السعودية (حكومة وشعبًا) كيان شامخ ملأ سمع العالم وبصره، ظاهرة بكيانها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، والدولي وجميع أحوالها وإصداراتها العلمية والإعلامية والأدبية والثقافية، والفكرية وغير ذلك كله (إلا ما شذَّ) ينفي هذه المزاعم؛ إذن فالمثالب التي ينسبونها لما يسمونه (الوهابية) ودولتها وأتباعها لا حقيقة لها. ولا يعني ذلك أننا نزكي أنفسنا مطلقًا، فإن عمل البشر مهما بلغ لا بد أن يعتريه النقص والتقصير والخلل والخطأ، والناقد بصير.

1 / 13

بل يجب أن نعترف أنه حصل في بلادنا ومجتمعنا كثير من التحولات السلبية في كل مناحي الحياة، وأُصبنا بأدواء الأمم في بعض الأمور، لكن مع ذلك لا تزال الأصول والثوابت والمسلمات قائمة ومتينة ومعتبرة بحمد الله. والحق: أن الأمة الإسلامية، مع ما اعتراها من كثرة البدع والأهواء والجهل والإعراض والفرقة والشتات، إلا أنها لا تزال فيها بقايا خير، وولاء للإسلام، وهذا التصور الحق هو الذي دفع هذه الدعوة المباركة إلى السعي الجاد واستنهاض نزعة الخير في الأمة. ولذلك لو أن الأمة الإسلامية سلمت من تضليل الخصوم، ودعايات السوء التي حالت بينها وبين التعرف على طبيعة الحق الذي يحمله منهج هذه الدعوة التي يعيرونها بـ (الوهابية) لاستجاب كثير من المسلمين لداعي الحق، وكان للمسلمين شأن آخر من العزة والقوة والاجتماع والهيبة. ولله الأمر من قبل ومن بعد. هذا. . . وقد حرصت خلال هذا البحث كله أن أركِّز على التأصيل وبيان المنهج الذي سارت عليه الدعوة وأتباعها ودولتها، وتوثيق ذلك من كتبهم وأقوالهم ومواقفهم، والواقع العلمي، والعملي الذي يعيشونه ويعتمدونه؛ لأن هذا أجدى في كشف الحقيقة، وأبلغ في رد الشبهات وكشف الزيوف والمفتريات عليهم. ولذا آثرت الإقلال من المجادلات والتمادي في النقاش، وأحسب أن هذا أبلغ في البيان وأقرب للإقناع، وأجمع للشمل، والله حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق وأهله، وأن يخذل الباطل وأهله، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وما فيه خيرهم وعزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق أجمعين نبينا وحبيبنا محمد وآله، وارض عن صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضل الله ورحمته آمين. كتبه ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

1 / 14

[تمهيد] [حال نجد قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب] [المقصود بنجد] حال نجد قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (١) نجد التي سنتحدث عنها هنا هي نجد وسط جزيرة العرب التي انطلقت منها هذه الحركة الإصلاحية المباركة (لا نجد العراق) وهي أعني (نجد الجزيرة) ما بين الحجاز غربًا والدهناء شرقًا، والربع الخالي جنوبًا والنفود الكبرى شمالًا. وقد استوعبت نجد منذ أيام الجاهلية الكثير من قبائل العرب الكبرى. [حال نجد في عهد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين] حال نجد في عهد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين: لما جاء الإسلام دانت نجد كلها للدين واستجابت لداعي الحق، ومنها اليمامة، وفيها بنو حنيفة، وكانت ذات أهمية اقتصادية وغيرها، إذ هي مصدر من مصادر التموين لمكة والمدينة والطائف، وبخاصة في المنتجات الحيوانية والزراعية، وأهمها الحنطة. اليمامة: ومن أهم حواضر نجد: (اليمامة) وقراها، كالدرعية والعيينة والرياض وحريملاء، وموقع اليمامة في قلب نجد. وكان زعيمها حين هاجر النبي ﷺ إلى المدينة: هوذة بن علي بن ثمامة الحنفي، وهو ممن دعاهم النبي ﷺ إلى الإسلام كسائر الملوك والرؤساء، لكن هوذة لم يستجب لداعي الإسلام. ثم ملك بعده ثمامة بن أثال، وله مع النبي ﷺ قصة عجيبة انتهت بإعلانه للإسلام ونصرته له (٢) . وفي عام الوفود (٩، ١٠هـ) دخلت سائر القبائل والحواضر والبوادي النجدية في الإسلام (٣) .

(١) من مراجع هذا الفصل: تاريخ نجد لابن غنام، وعنوان المجد لابن بشر، والمجاز بين اليمامة والحجاز لابن خميس، وسيرة ابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، وشبه جزيرة العرب (نجد) لمحمود شاكر. (٢) انظر البداية والنهاية لابن كثير (٧، ٢٥٣) . (٣) انظر المصدر السابق (٧) وما بعدها.

1 / 16

ولما انتقل رسول الله ﷺ إلى الرفيق الأعلى، خرجت أحياء وقبائل كثيرة عن الولاء للإسلام، وهم بين مرتد عن الإسلام، وبين مانع للزكاة، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف، وبعض الأفراد والجماعات، ومنهم صاحب اليمامة ثمامة بن أثال ومعه طائفة من قومه، وقد قاتل مسيلمة مع جيوش أبي بكر ﵁ وقبلها. وحين ظهرت دعاوى النبوة الكاذبة، كان في نجد منها، حركة مسيلمة الكذاب، وكان قد ادعى النبوة قبل موت النبي ﷺ لكن بعده قويت شوكته والتف حوله المرتدون والمرتابون من أهل اليمامة وما حولها إلى أن هزمتهم جيوش الصديق ﵁. ثم عادت اليمامة وسائر الأقاليم والقبائل النجدية إلى الإسلام بعد قتال المرتدين، وبقيت نجد كلها في عهد أبي بكر ﵁ وكذلك في عهد عمر ﵁ وما بعدها، تنعم بظل الإسلام الوارف وتخضع للدين كله. [حال نجد في عهد الدولة الأموية] نجد في عهد الدولة الأموية: وفي عهود الدولة الأموية، كانت نجد في خلافة معاوية ﵁ وابنه يزيد وما بعدهما متنازعة بين قوى وسلطات مختلفة، وفي حال تبعيتها لبني أمية كانت غالبًا تتبع البحرين (الأحساء) أو المدينة النبوية (١) . [حال نجد في عهد الدولة العباسية] نجد في عهد الدولة العباسية: وفي عهد دولة بني العباس، كانت تبعية نجد للدولة متفاوت قوة وضعفًا؛ ففي أول العهد العباسي إلى ٢٥١هـ كانت نجد خاضعة للحكم العباسي وتتبع الوالي في الحجاز. وفي سنة (٢٥١هـ) استقلت دويلة بني الأخيضر في الحجاز، وهي دويلة شيعية زيدية اتسمت بالجور وسوء السيرة. ثم لمّا هزمتهم جيوش العباسيين، فروا إلى نجد وأقاموا فيها إمارة لهم في منتصف القرن الثالث الهجري، وامتدت إماراتهم إلى البحرين (الأحساء) إلى أن جاء القرامطة الباطنية

(١) انظر: جزيرة العرب (نجد) محمود شاكر (١٣٩ - ١٤٢) .

1 / 17

وكانت دولتهم قد قامت بالبحرين سنة (٢٨١هـ)، وهم يوافقون بني أخيضر في انتحال التشيع، فلما قويت القرامطة صارت الأخيضرية تتبعها منذ سنة (٣١٧هـ) تقريبًا، وكان لهيمنة هاتين الدولتين على نجد خلال هذه الأحقاب أثر بالغ السوء في انتشار الجهل والبدع والمحدثات والتقاليد الجاهلية، وشيوع البناء على القبور، والمشاهد والآثار واندراس الكثير من السنن، وصرف المسلمين عن إخلاص العبادة لله وحده، إلى التعلق بالمخلوقين، إلى أن جاءت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المباركة فأنقذ الله بها العباد والبلاد من أوضار الشركيات والبدع والجهل والفرقة والضعف والهوان، إلى التوحيد والسنة والعلم والجماعة، والقوة والعزة. وفي الفترة ما بين نهاية الأخيضريين والقرامطة في منتصف القرن الخامس الهجري بقيت نجد ممزقة مشتتة بين زعامات وإمارات صغيرة متنازعة، أو ولاءات رمزية (١) لبعض الولايات المجاورة، ومشيخة القبائل والعشائر المتنافرة. [حال نجد في عهد الأتراك] نجد في عهد الأتراك: وكذلك أمر نجد في عهد العثمانيين، لم يكن أحسن حالًا، إذ لم تكن الدولة العثمانية (الأتراك) تأبه بنجد وأحداثها، وليست عندها ذات شأن؛ ولذلك لم يكن لها على نجد سلطة مباشرة، بل كانت مهملة تتنازعها الإمارات المحلية، أو المجاورة، وكان قد اقتصر وجود الدولة العثمانية في جزيرة العرب على اليمن والحجاز والبحرين (الأحساء) وقد يكون لوالي الأحساء من قبل الأتراك شيء من الإشراف غير المباشر على نجد واليمامة بخاصة. وقد انقطع ذلك باستقلال زعيم بني خالد براك بن غرير بالأحساء عن الدولة العثمانية سنة (١٠٨٠هـ) . وكذلك من جهة الحجاز لم يكن هناك نفوذ فعلي للأتراك على نجد، وإن كان بعض الأشراف قاموا بغزو بعض البلاد النجدية غزوات متفرقة ما بين سنة ٩٨٦هـ وسنة (١١٠٧هـ) لكن لم يكن لهم استقرار يذكر، ولم يكن للأتراك عليهم سيادة فعلية، عدا التبعية الشكلية والرمزية أحيانًا.

(١) انظر السابق (١٧٤) .

1 / 18

ومع ذلك فإن هذه التبعية الشكلية إنما كانت تهدف إلى مجرد الاعتراف بالسيادة وجلب الضرائب، أو تأمين السبل وتوفير المؤن ونحو ذلك، ولم يكن لها تدخل فعلي في الشؤون الداخلية، فكانت ولايات الإمارة والقضاء، والحسبة، والمرافق تتم من قبل أهل الأقاليم أنفسهم وليس للدولة العثمانية وولاتها فيها حل ولا عقد، وهذا مما يُرد به على الذين توهموا أن الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية خرجوا على الخلافة. [السمات العامة بنجد إبان ظهور الدعوة] السمات العامة لنجد إبان ظهور الدعوة: لقد اتسمت البيئة العامة في نجد التي ظهرت فيها دعوة الإمام بسمات خاصة كان لها أكبر الأثر في مسار الدعوة منها: الوضع الاجتماعي والأمني: غلبة السمة القروية والبدوية عليها، ففي نجد عدد كبير من القرى والواحات، ويقطنها عدد أكبر من القبائل التي تعيش في البادية، وليس بين الحاضرة والبادية وئام، وكان العداء والتنافر سائدًا بينهم؛ لعدم وجود السلطان الذي يجمع الشمل ويحفظ الأمن، ويقيم العدل، كانت العلاقات بين البادية والحاضرة في عداء مستمر وسلب ونهب وقتال غالبًا، بل وكذلك الحال بين قرى الحاضرة نفسها، حيث تسودها المنافرة والتشتت والحروب، وكذلك الحياة بين القبائل البدوية تسودها الفوضى والعصبية والحمية الجاهلية، والقتال والسلب والنهب، وتحكمها الأعراف والعادات الجاهلية. تبعًا لذلك نرى نجد في عهد قيام الدعوة مشتتة ومقسمة إلى إمارات ومشيخات صغيرة ومتناحرة. حتى وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتنازعها عدة زعامات! ويكثر بينها التنافر والظلم والجور. الوضع الديني: كما ساد بينهم - من الناحية الدينية - الجهل والإعراض وشيوع البدع، فكان التصوف البدعي سائدًا، بما فيه التصوف الغالي، كمذهب ابن عربي وابن الفارض، والتصوف حيثما حل حلت الخرافة، وساد الجهل، وانتشرت البدع والخرافات والشركيات وشاعت المنكرات.

1 / 19

وإن كان يوجد - في الحاضرة - شيء من العلم الشرعي والعلماء، وقليل من التعليم (قراءة وكتابة)، ولكن كانت اهتمامات العلماء مقصورة على الفقه غالبًا، أما عنايتهم بالعقيدة والحديث والتفسير واللغة فهي قليلة، وكما أن جهود العلماء أمام البدع والمنكرات ضعيفة. وقد بين الشيخ الإمام في إحدى رسائله هذه الأوضاع قائلًا: «وعرفت ما عليه الناس من الجهل والغفلة والإعراض عما خُلِقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير» (١) . إلى أن قال: «فانظر يا رجل حالك وحال أهل هذا الزمان، أخذوا دينهم عن آبائهم ودانوا بالعرف والعادة» (٢) . وهذا عن الحاضرة، أما البادية فقد ذكر ابن غنام وغيره، أنهم: لا يعرفون الدين ولا يقيمون شعائره، وكثيرون منهم يجحدون، أو يجهلون الإيمان بالبعث (٣) .

(١) مجموعة الرسائل والمسائل (١، ٣) . (٢) مجموعة الرسائل والمسائل (١) . (٣) انظر: تاريخ نجد لابن غنام، تحقيق د. ناصر الدين الأسد (١، ١٤٤) .

1 / 20

[حال العالم الإسلامي أثناء قيام الدعوة] حال العالم الإسلامي أثناء قيام الدعوة: لم تكن نجد بأسوأ حالًا من كثير من البلاد الإسلامية الأخرى، فقد كان العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري الذي نشأ فيه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب يعيش أوضاعًا سيئة للغاية من جميع الجوانب، الدينية والدنيوية. وكان الإسلام قد عاد غريبًا كما أخبر بذلك النبي ﷺ قال: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» (١) . وتتجلى غربة الإسلام بمظاهر كثيرة سائدة منها: - كثرة البدع والمحدثات، والأهواء والفرق والطرق. - غربة أهل السنة المستمسكين بالحق، والمجانبين للبدع. - وغلبة الجهل على عامة المسلمين، لا سيما الجهل بالعقيدة، ومهمات الأحكام. - إعراض كثير من الناس عن الدين، لا يتعلمونه، ولا يعملون به، إلا ما يوافق الأهواء. - شيوع التقليد الأعمى والتعصب المذهبي المقيت، إلى أن وصل الحال في المسجد الحرام وقبلة المسلمين أن افترق المسلمون في صلاة الجماعة، فصار أتباع كل مذهب يصلون وحدهم. وضعفت الدولة والسلطان، وأصبح غالب الناس فوضى لا سراة لهم، يسودهم السفلة والطغام، وأهل الأطماع والشهوات. وأعرض الناس عن السنة وقل أهلها، وعاشوا حال الغربة، واستحكمت البدع وأهلها، وزالت مظاهر القوة والعزة والجماعة. وتفرقت الأمة إلى أشلاء من الفرق المتفرقة، والطرق المبتدعة، والشعوب المتنافرة، والبلدان المتقاطعة. مما أدى إلى استحكام العدو بالمسلمين، وتمكنه من تحقيق أغراضه في غزو عقائدهم وعقولهم وأفكارهم وديارهم، وتحكمه في مصالحهم وأحوالهم. وأعظم أدواء المسلمين آنذاك وأخطرها إخلالهم بحق الله تعالى، حيث لم يخلصوا له العبادة، وكثر لدى الغالبية منهم التعلق بغير الله في الدعاء والاستعانة والاستغاثة والذبح

(١) رواه مسلم برقم (١٣٠) .

1 / 21

والنذر لغير الله، وكثرت عندهم الشركيات والبدعيات ووسائلها، من القباب على القبور والمشاهد وتعظيم الأشجار والأحجار، وتقديس الأشخاص الأموات والأحياء. مما جعل الأمة تصاب بحياة الذلة والهوان والشتات، مما مكَّن للأعداء المحتلين من انتهاك أكثر بلاد المسلمين. [ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب] ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: في هذه الظروف الصعبة والأحوال السيئة، والأزمان الحالكة، بدأت أنوار الحق والخير تشع في الأفق، حين شرع الإمام محمد بن عبد الوهاب بالنهوض بدعوة التوحيد والسنة، في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وكان ذلك في حياة والده، وكان والده يشاطره هموم الدين والأمة، لكنه كان بحكم الإشفاق عليه يأمره بالتؤدة والأناة، وبعد أن توفي والده عام (١١٥٣هـ) شرع الإمام في كشف الحقيقة؛ يقرِّر التوحيد، ويعلن السنة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينكر البدع والمحدثات في العقيدة والعبادات والعادات، وينشر العلم، ويفضح أحوال الجاهلين وأهل البدع والأهواء والشهوات، ويقيم الحدود. حينئذٍ اشتهر أمره، وذاع صيته والتف حوله المخلصون والمصلحون، والغيورون، لا سيما حين شرع يقطع الأشجار التي يقدسها الناس في العيينة، ثم هدم القبة التي على قبر زيد بن الخطاب ﵁ ورجم الزانية التي اعترفت عنده بعد أن توافرت عنده شروط الحد. ولما فعل هذه الأمور ذاع صيته، واشتهرت دعوته، وكثر مناصروه وخافه المرتابون، وانقسم الناس عليه. ومن هنا بدأت ردود الأفعال من خصومه من أهل البدع والأهواء والغوغاء، والحسَّاد، وأهل المطامع والمنتفعين مما عليه الحال السيئة الذين شرعوا بالدعاية المضادة، وراسلوا واستعدوا الناس في الداخل والخارج، لا سيما أمراء الأحساء، ثم ولاة الحجاز ونجران الذين استجابوا للمحرضين وبدأت مرحلة المقاومة المباشرة، والتي تمثلت بإعلان المعارضة الجادة للدعوة، وإعلان الحرب ضدها من كل وجه: دينيًا وسياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا واقتصاديًا، مما سنتعرض لشيء منه في هذا الكتاب - إن شاء الله.

1 / 22

[إمام الدعوة وأميرها الدعوة ودولتها] [الإمام المجدد والدعوة] [نشأته وشمائله] الإمام المجدد ودعوته نشأته وشمائله: ظهر الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ المولود سنة (١١١٥هـ) المتوفى سنة (١٢٠٦هـ) بدعوته في قلب نجد، وكانت أحوج ما تكون إلى الإنقاذ من براثن البدع والخرافات والتشتت والجهل والإهمال، وكانت البواعث للإصلاح قوية وضرورية، كما سيأتي بيانه بعد قليل. وقد ولد هذا الإمام ونشأ في بيئة علم وصلاح واستقامة، فكان أبوه وجده وكثيرون من أفراد أسرته من العلماء والوجهاء، ولهم باع في الفتيا والقضاء والتدريس، مما ساعد هذا الناشئ على استغلال مواهبه الفذة وتوجيهها على منهج شرعي متين وأصيل وفي جو علمي مأمون. ولعل من المفيد أن أشير هنا إلى أهم مقومات الصلاح والإصلاح والزعامة والإمامة في شخصية هذا المصلح الكبير: فهو منذ نشأته قد ظهرت عليه سمات العبقرية والمواهب الفذَّة والنبوغ من الذكاء والفطنة والحفظ، والقوة في الفهم، والعمق في التفكير، مما أهّله في وقت مبكر للتلقي والرسوخ في العلم والفقه، مع قوة التدين والإيمان والعبادة والخصال الحميدة من الأمانة والصدق والرحمة والإشفاق والسخاء والحلم والصبر وبُعْدُ النظر وقوة العزيمة، وغيرها من الصفات القيادية التي قَلَّ أن توجد إلا في الأفذاذ والنوادر من رجال التاريخ. وذلك بخلاف ما يشيعه عنه خصومه وما يصورونه به لأتباعهم من الغوغاء والجهلة والمحجوبين عن الحقائق من أنه جاهل وغبي وشرير وعنيف وقليل التدين والورع!، ونحو ذلك من الأوصاف التي يربأ العاقل بنفسه عن ذكرها فضلًا عن اعتقادها أو تصديقها. وهل يعقل من جاهل وغبي أن يقوم بهذه الأعمال الجليلة وأن يثير حفيظة هؤلاء الخصوم ويحرك جيوشهم ويقض مضاجعهم؟ ! وهل يمكن لقليل الورع والتدين أن يقوم بهذه الحركة الإصلاحية التي ملأت سمع العالم وبصره إلى اليوم؟ ! وينصره الله ويؤيده ويعلي به الدين؟ ! .

1 / 23

[ركائز الدعوة] ركائز الدعوة: لقد قامت دعوته على المنهج الإسلامي السليم وأرست قواعد الدين وأصوله التي أهمها: تحرير العبادة لله وحده، والتزام طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وما يستلزمه ذلك من: ١ - ترسيخ التوحيد ونبذ الشرك والمحدثات. ٢ - ومن إقامة فرائض الدين وشعائره بإقامة الصلاة والحسبة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ٣ - وتحقيق العدل (القضاء وغيره) وإقامة الحدود. ٤ - وبناء مجتمع إسلامي يقوم على التوحيد والسنة والوحدة والفضيلة والأمن والعدل. وهذه الركائز كلها تحققت في المواطن التي تمكنت فيها الدعوة أو تأثرت بها تأثرًا كبيرًا، وتتجلى هذه الصورة في البلاد التي شملتها الدولة السعودية المباركة التي حملت لواء الحركة الإصلاحية في مراحلها الثلاث، فكانت كلما حَلَّت في بلاد حلَّ فيها التوحيد والإيمان والسنة والأمن والرخاء، وذلك تحقيقًا لوعد الله تعالى في قوله: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: ٤٠ - ٤١] [سورة الحج، الآيتان: ٤٠، ٤١.]، وقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥] [سورة القصص، آية: ٥.] . [مميزات سيرة الإمام ودعوته] مميزات سيرة الإمام ودعوته: لقد تميزت سيرة الإمام ودعوته بميزات كثيرة منها: نقاء السيرة: إن سيرة الشيخ في شخصه وعلمه وتدينه وأخلاقه وتعامله مع الموافقين والمخالفين، وفي سائر أحواله، ما يجلي الحقيقة في فضله واستقامته وزعامته وإمامته من ناحية، ومن ناحية أخرى إن في سيرته ما يبطل دعاوى الخصوم التي تطعن في شخصه أو دعوته ومنهجه ومنهج أتباعه كذلك.

1 / 24

هذا وقد شرح دعوته ومنهجه ودافع عن ذلك في رسائله وكتبه وسلوكه - هو وأتباعه كذلك - بما فيه الكفاية لكل مريد للحق ومنصف للخلق، وسنتناول في هذا الكتاب جملة من النقول في ذلك. صفاء المشرب: فإن المشارب التي تلقى منها الإمام علمه وأدبه وخلقه مشارب شرعية وفطرية وعرقية صافية تتمثل بالكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، بعيدًا عن الفلسفة والتصوف والكلام، وبالفطرة السليمة التي لم تحرفها المناهج البدعية ولا الشهوات ولا الشبهات، وبالبيئة الأسرية النبيلة ذات الفقه والعلم والحسب والنسب. سلامة المنهج: لقد كان منهج الإمام في نفسه ودعوته وفي أتباعه ومع مخالفيه منهجًا سلفيًا شرعيًا نقيًا خاليًا من الشوائب، يتسم بالأصالة والثبات واليقين والوضوح والشمولية والواقعية والأهلية لإقامة مجتمع مسلم يتسم بالتدين والطهر والأصالة والحيوية والرقي والأمن. كما كان منهج التأليف وتقرير الدين وعرضه عند الإمام وأتباعه منهجًا شرعيًا سلفيًا صافيًا يعتمد على القرآن والسنة والألفاظ الشرعية النقية خاليًا من التخرصات الفلسفية، والمصطلحات الصوفية، والمحاورات الكلامية، والتميُّعات الأدبية. اعتماد منهج السلف الصالح: لقد اعتمد الإمام في دعوته منهج السلف الصالح في كل شيء، وبذلك تميز منهجه بالأصالة والشمول والواقعية والثبات واليقين. وكان من ثمرة اعتماد هذا المنهج، أن قامت شعائر الدين وأصوله على أتم وجه وأكمله من التوحيد والصلاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والقضاء والعدل والأمن، وظهور الفضائل واختفاء الرذائل، وشيوع الدين والعلم في كل بلاد وصلتها الدعوة واستقرت فيها دولتها (الدولة السعودية) .

1 / 25