15
أن الحروب الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر وانتهت في القرن الثالث عشر تعد بالنسبة للغرب نهضة انبعثت من الطبقات النازلة بدعاية بطرس الناسك الذي جند تحت علم الصليب جمهورا من الفلاحين وأبناء الشعب، وهذه الثلاثة القرون التي استغرقت بالحروب الصليبية وانتهت بالقرن الثالث عشر ودعيت بعصور الإيمان كانت الدور الذي خلا في أوروبا النصرانية من عقد ديوان التحقيق الديني بأمر الكنيسة أو بأمر الحكومات.
وفي التاريخ العام أن من الفوائد التي عادت على الغربيين من الحروب الصليبية: تحرير أصحاب الأرضين من رقهم، وتقوية السلطة الملكية، وإدخال تعديل على نظام الإقطاعات، وانتشار الشعر الغنائي واغتناء إيطاليا، وضعف قوة التدين، ووهن سلطة الباباوات إلخ. وربما كان من أهم ما استفادت أوروبا انتقال الثروات من أيدي الأمراء والزعماء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا من أهلها، فباع من باع من الكبراء، وابتاع من عمل بأرضه ومتجره فاغتنى واقتنى الرباع والضياع.
وذكر ميشو أن الفرنسيس والنورمانيين وسائر شعوب شمالي أوروبا المتوحشة في القرن الثاني عشر للميلاد، كانوا في حالة البداوة، وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر وتسربت أولا إلى الملوك، أصبحوا لا يرون الاغتراب عن أوطانهم، ولا الشعوب أن تفارق مساقط رءوسها، وعمت الصناعات، وحسنت الزراعة، وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة، وكل أسرة، ومصطلح كل شعب وقطر، والألقاب والامتيازات، والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غير من أخلاق الفرنج، وبدل من ميلهم لحياة التنقل والارتحال، وجعلها صلات تربطهم بالوطن. وكتب التوفيق للملاحة في القرن التالي بالكشف عن أميركا، واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح، فنشأ من هذه المكتشفات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة، وأنشأت المضاربات الصناعية التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أميركا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية، تسد مطامعهم، وتشبع نهمة التائقين إلى المجد والثروة والمطوحات، فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب إلخ.
هذا ما استفاده الصليبيون من حرب المسلمين في الشام، وهذا ما استفاده المسلمون من مهاجميهم في ديارهم، وبذلك رأيتم أن الصليبيين كانوا ظالمين لأنفسهم ولغيرهم في إثارة تلك الحرب المشئومة، وجنوا بإغراء رجال الدين منهم، فألقوا بهم إلى التهلكة، وأضاعوا من صيت فرسانهم، وفقدوا من شممهم وعزة أنفسهم، لما حلوا غير أرضهم يقتلون كل بريء، ويخالفون القوانين المرعية بين البشر. ومهما كان من النتائج التي نشأت للفريقين من هذه الحروب الطويلة، فإن الخسائر المادية يصعب تقديرها، وتعلم الصليبيون أمورا كثيرة من مدنية العرب، ولكن كانوا يستطيعون أن يدرسوا حضارة هذه الأمة في الأندلس وصقلية، من دون تقتيل مئات الألوف منهم ومن غيرهم، «رجع الآلاف
16
من الغزاة الصليبيين إلى بلادهم وحملوا إلى الناس أخبارا تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة من أن المسلمين جماعة من الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة وأجلوا عنها دين التوحيد، ونفوا منها كل فضيلة وإخلاص، وهم وحوش ضارية وحيوانات مفترسة، فلما قفل الغزاة إلى ديارهم قصوا على قومهم أن أعداءهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة وذوي ود ووفاء وفضل محبة.»
اعتصم المسلمون في هذه الكارثة العظمى بحبل الله، ورضوا بما قدره وقضاه، وخلعوا عنهم ثوب الخمول، وابتعدوا عن كل هزل وفضول، التحفوا شعار الجد والاجتهاد، لخوض غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية غمرة هذا الجهاد، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية
حضارة المدن الإسلامية
অজানা পৃষ্ঠা