بيد أن المسلمين قابلوا بعد حين هذه المذابح بمثلها، فقتل منهم الملك الظاهر في الساحل ألوفا وقتل منهم قلاوون مائة ألف في القدس؛ لأن قومه ما نسوا أن الصليبيين في فتحهم الأول لها، سفكوا الدماء حتى في المسجد الأقصى، بحيث كان الفارس منهم وهو راكب تصل إلى
7
رجليه دماء المسلمين التي قتلت في ذاك الحرم المقدس، وسارت في الحقيقة كالسيل المنهمر.
ما أورثته الحروب الصليبية في أخلاق المسلمين والصليبيين
كان المسلمون مع الصليبيين أيام المهادنات والسلم على غاية اللطف والمياسرة، يضيفونهم ويكرمونهم ويعاملونهم أحسن معاملة يعامل بها الضيف والغريب،
8
مع أن الصليبيين بإقرار مؤرخيهم كانوا مثال الخشونة في الطباع، والجهل في الأوضاع، وأفضت معاملة المسلمين لأعدائهم بالحسنى، إلى أن علق هؤلاء يقلدونهم في لباسهم وعاداتهم، ومنهم من تعلموا العربية فأتقنوها، وجروا على مصطلح المسلمين في كثير من شئون حياتهم.
قال منرو: إن اتهام المسلمين بالجبن قد زال من أذهان الصليبيين، لما التحموا معهم في القتال، ولم يقف تأثير احتكاك الصليبيين بالمسلمين عند حد الإعجاب بشجاعتهم، بل تجاوزه إلى إزالة تحاملات أخرى عليهم، فقد امتزج الصليبيون في سورية وفلسطين امتزاجا دائما متصلا بأهل البلاد، نصاراهم ومسلميهم، ولما كان عدد الصليبيين ضئيلا، اعتمدوا على أهل البلاد في أعمال الزراعة وبناء الكنائس والقلاع، بل وفي التجنيد أيضا، وقلما كانوا يميزون بين المسلمين وملاحدة النصارى، وإذ كانوا يعيشون بالقرب من أشراف المسلمين، كانوا يتبادلون وإياهم فروض المجاملات، ويبرمون معهم عهود الصيد، وأسر المسلمون كثيرا من الإفرنج وظلوا أمدا طويلا في أسرهم، فكانوا في العادة يعاملونهم معاملة حسنة، ويمنحونهم قسطا وافرا من الحرية، فعرف الصليبيون المسلمين عن كثب، وهكذا كان حظ بعض المسلمين في أسرهم عند الصليبيين. وقد نشأت بين الأسر في الأحايين علاقات ود بين الفريقين، وكان اتجار كل فريق في أرض الفريق الآخر من عوامل التعارف مع المسلمين، وتزوج الصليبيون من غير جنسهم من السوريات والأرمنيات أو من العربيات اللواتي قبلن المعمودية، ونشأت صداقات بين أفراد الفريقين، عقبى المعاهدات التي عقدت بين المسلمين والصليبيين؛ بسبب استعانة فريق بآخر ليقاوم منافسا له أو منازعا من أبناء دينه. ا.ه.
ومن أهم ما نفع الصليبيين من احتكاكهم بالمسلمين، أن القابضين على زمام الأمر في الغرب لم يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة التي مضت قبل سقوط القدس بأيدي المسلمين يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة الباباوية، يحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء، يقتلون ويقتلون على غير فائدة محسوسة. وكان الصليبيون يتجرون في غضون المهادنات في بلاد المسلمين أحرارا، لا يؤدون سوى رسم خفيف، وكذلك كان المسلمون في البلاد التي احتلها الصليبيون، وأهم الأمم التي انتفعت من ماديات الحرب الشعوب النازلة على شواطئ البحر المتوسط، ولا سيما البنادقة والبيزيون والجنويون من أهل إيطاليا، وكانوا أصحاب السفن التجارية والمواني البحرية، وكان من وراءهم من سكان أوروبا مضطرا إلى أن يقصد بلادهم في ذهابه إلى الأرض المقدسة وفي عودته منها؛ لأن القوم استطالوا طريق البر وهي غير أمينة، وصاحب الروم يعارض في مقدمهم عليه، لغدرهم ببلاده، وعيثهم فيها، وعبثهم بمقدساتها، وربما خادن المسلمين وعاهدهم، وابتعد عن مخادنة الصليبيين؛ لأنهم يغدرون ويخونون.
أما متعصبة الشعوبيين من الغربيين فما برحوا بعد أن تجلى تاريخ الحملات الصليبية، وعرف معرفة لا مجال للشك فيها، يمتدحون من نظام الصليبيين وحسن إدارتهم وسياستهم، ويحاولون أن يبرئوهم من كل وصمة ألصقت بهم بشهادة مؤرخيهم أنفسهم، وأن يظهروهم بمظهر العطف واللطف، ويظهروا المسلمين في صورة القسوة والخشونة، منكرين أنه كان بين أمم الشرق القريب، وذاك الغرب البعيد، بون شاسع في الحضارة والثقافة على ما أجمع عليه عقلاء الفريقين، إلا من أعمى الغرض قلوبهم وعيونهم.
অজানা পৃষ্ঠা