وكان الغربيون خلال القرون الطويلة التي كان فيها العرب أنجب أمة من أمم الخليقة يترامى إليهم من طريق الأندلس وصقلية وإيطاليا أولا، ثم من طريق الصليبيين، ما تم في بلاد العرب والمسلمين من الرقي، فتصبو نفوسهم إلى تحقيق مثله أو بعضه في ربوعهم، وأنى لهم ذلك وسلطة رجال الدين عندهم تناولت كل فروع الحياة، وفرسانهم وملوكهم كانوا أدوات للتدمير لا للتعمير، تغلب الفظاعة على أعمالهم، والسماجة تقرأ في تضاعيف مجتمعهم، وحضارتهم على حالة ابتدائية، كلما حفزها حافز عادت أدراجها بعوامل التقهقر المغروسة فيها.
رأي لبون في تأثير العرب في الغرب
ولقد أجمل لبون دور الانتقال في الغرب وتأثير العرب فيه في صفحة واحدة، فقال: «كان
17
تأثير العرب في الغرب عظيما، وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا، ولم يكن نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق، ولكنه كان يختلف عنه، أثروا في بلاد المشرق بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون واللغة ضعيفا، وتأثيرهم بتعاليمهم العلمية والأدبية والأخلاقية عظيما، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب، إلا إذا تصور حالة أوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإذا رجعنا إلى القرنين التاسع والعاشر للميلاد، يوم كانت المدنية الإسلامية في إسبانيا زاهرة باهرة، نرى أن المراكز العلمية الوحيدة في عامة بلاد الغرب كانت عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان فقراء جهلة، يقضون الوقت بالتكسب في ديرهم بنسخ كتب القدماء، وليبتاعوا ورق البردي اللازم لنسخ كتب العبادة.» «وطال عهد الجهالة في أوروبا، وعم تأثيره بحيث لم تعد تشعر بتوحشها، ولم يبد فيها بعض الميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت بعض العقول المستنيرة قليلا بالحاجة إلى نفض كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون تحته، طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه؛ لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذاك العهد، ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا. وفي سنة 1130 أنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية ريموند رئيس الأساقفة ، وأخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفي العرب، وعظم نجاح هذه الترجمات، وعرف الغرب عالما جديدا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، ولم تنقل إلى اللاتينية كتب الرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد وغيرهم، بل نقلت إليها كتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطلميوس، وهي الكتب التي كان المسلمون نقلوها إلى لسانهم.»
18
وقد عد لكلرك في تاريخ الطب العربي ثلاثمائة كتاب نقلها الغرب من العربية إلى اللاتينية، وما عرفت القرون الوسطى المدنية إلا بعد أن مرت من لسان أشياع محمد، وبعض هذه المترجمات لكتب القدماء التي فقد أصلها، حفظت هذه الأسفار من الضياع فوصلت إلى الغرب، فإلى العرب وإلى العرب وحدهم، لا إلى رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين. يقول ليتري: «لو حذف العرب من التاريخ لتأخرت نهضة الآداب عدة قرون في الغرب.»
وقال لبون في مكان آخر: تمتعت إسبانيا بمدنية سامية بفضل العرب، بينا كانت بقية أوروبا غارقة في التوحش العظيم، ولو مشى الغرب تحت راية العرب، لتسامت منزلته، ولو رقت أخلاق أهله ما وقعوا في الحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي، وديوان التحقيق وكل ما شاكل ذلك من المصائب التي أغرقت أوروبا بالدماء عدة قرون، وما عرف المسلمون ما يشبهها في أرضهم. وقال أيضا: كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي احتلوها عظيما جدا في الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظا في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها حيثما خفق علم الرسول الذي أظلها بأسرع ما يمكن، وأزهرت فيها العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي إزهار.
تأثير العرب في البلاد المغلوبة
سوء حال بلاد الأكاسرة والقياصرة
অজানা পৃষ্ঠা