ইসলাম শরিকান
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
জনগুলি
ودفعه حبه للغات الغريبة والبعيدة إلى أن يبدأ بدراسة اللغتين الصينية واليابانية، ثم لم يلبث أن تخلى عنهما وانصرف إلى الدراسات العربية والإسلامية في «سيمنار اللغات الشرقية» الذي كان يقدم دروسا لغوية وعملية قبل أن يضم في العهد النازي إلى جامعة برلين القديمة ويدخل في إطار الدراسة الجامعية. وهناك تعرف الطالب الشاب على أستاذه الذي لازمه حتى رحيله، وهو المستعرب الكبير فالتر براونه (1900-1989م) الذي أدى أمامه في نهاية شهر أكتوبر سنة 1941م أول امتحان له في اللغة العربية - وقد كان من حسن حظ المستشرق الشاب أن يعفى من سخرة التجنيد ولعنة القتال في إحدى الجبهات التي فتحتها ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية - غير أن الجيش سرعان ما استدعاه في شهر يناير سنة 1942م للعمل مترجما في قسم البحوث بوزارة الطيران في برلين، واستفاد من فترة وجوده بالعاصمة في مواصلة دراسته للعلوم الإسلامية، وذلك قبل أن ينقل القسم السابق الذكر إلى منطقة بافاريا في الجنوب الألماني.
عايش «شتيبات» تجربة الاستسلام المطلق لبلاده وإعلان انتهاء الحرب (في الثامن من شهر مايو سنة 1945م) وإن لم يذق نعمة الراحة أو السلام ... فقد قضى ثلاثة أشهر في معسكر اعتقال أمريكي، واضطر إلى العمل مترجما في سلاح الطيران الأمريكي لمدة ثلاثة شهور أخرى. وقد نشر الخراب أجنحته السوداء في كل مكان وراح يفرخ صغاره البشعة - الجوع والفوضى والذل والدمار - في العاصمة بوجه خاص وفي سائر المدن والقرى الألمانية. وانكسرت كل الأحلام فلم يستطع حتى أن يفكر في الرجوع إلى برلين للبحث عن مصير المطبعة التي كان يملكها ويديرها أبوه، دع عنك مواصلة دراسته في جامعتها، فلم يكن لطموح الإنسان في ذلك الزمن العصيب أن يتجاوز محاولة البقاء على قيد الحياة.
ولم تكد محاكم الحلفاء تصدر قرارها، في السادس عشر من شهر ديسمبر في المنطقة المحتلة من قبل الأمريكيين، حتى انخرط في العمل الصحافي، وأخذ يكتب منذ ذلك الحين مجموعة من التقارير عن أحوال الشرق الأدنى في مجلة «أرشيف أوروبا»، وذلك بعد حضور بعض التدريبات المؤهلة للعمل الصحافي في جامعة «ميونيخ»، وواصل نشر هذه التقارير في الأقسام الخاصة بالسياسة الخارجية في عدد من الجرائد كالصحيفة الجديدة وميركور وغيرهما - ويكفي أن نذكر بعض عناوين تلك التقارير والتحقيقات التي لم يتوقف بعد ذلك عن كتابتها ونشرها على مدى سنوات طويلة تالية في منابر مختلفة: وضع مصر في الإمبراطورية البريطانية (1946-1947م)، تطور وضع الدردنيل (1947م)، قضية فلسطين أمام الأمم المتحدة (1948م) إيران بين القوى العظمى (من 1941 إلى 1948م) - وغني عن الذكر أن هذه التقارير الصحافية المبكرة قد اتسمت بكل ما يميز كتاباته ودراساته اللاحقة: بالموضوعية العلمية النزيهة، ووضوح الأسلوب وبساطة العرض، والغوص إلى الجذور التاريخية للتطورات الحديثة والمشكلات والقضايا المعاصرة، والتعاطف الشديد مع بلاد وشعوب المشرق العربي والإسلامي، بعيدا كل البعد عن الاستعلاء على «الآخر» الشرقي - والمسلم بوجه خاص - الذي وصم الكثير من بحوث المستشرقين والمستعربين وجعلها تدور في فلك الأطماع الاستعمارية والتوسعية في ذلك الوقت ومنذ بداية حركة الاستشراق الغربي نفسه.
بعد الحصول في سنة 1951م على منحة من الحكومة الأمريكية وقضاء سنة دراسية في مدرسة الصحافة التابعة لجامعة مونتانا، وبعد حضور بعض الحلقات الدراسية والاستماع لمحاضرات بعض مشاهير المستشرقين في جامعة ميونيخ (مثل بابنجر وشبيتالر) قرر شتيبات الرجوع إلى برلين لإتمام دراسته بجامعتها. كانت الأحوال قد تغيرت بعد الاحتلال الروسي لشطر المدينة الذي تقع فيه الجامعة القديمة. وكان على العالم الشاب أن ينتظر حتى تفتح «جامعة برلين الحرة» - التي أسست عام 1948م في الشطر الغربي للمدينة - أبوابها للطلاب ويستكمل بناء «المعهد الشرقي» التابع للجامعة الجديدة. واستأنف شتيبات دراسته للعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي في هذا المعهد، وعلى يد الأستاذ نفسه الذي سبق أن أخذ العلم - مع الحب والرعاية - على يديه (وهو المستعرب فالتر براونه الذي سبق ذكره)، وواصل دراسته حتى أتمها في شهر يوليو 1954م برسالة الدكتوراه الأولى عن «الوطنية والإسلام عند مصطفى كامل - مساهمة في التاريخ الفكري للحركة الوطنية المصرية» (وقد ظهر ملخص لها من مائة صفحة في العدد الرابع من مجلة عالم الإسلام لسنة 1956م، ص241-343).
واستبدت به الرغبة في زيارة الشرق الأدنى والبقاء به فترة طويلة تمكنه من التعرف عن قرب على ثقافته وتراثه وأحواله وناسه. وجاءت الفرصة الثمينة عندما كلفته إدارة «معهد جوته» المركزية في ميونيخ في شهر نوفمبر سنة 1955م بالسفر لمدة أربع سنوات إلى القاهرة على رأس بعثة المعهد لتدريس اللغة الألمانية ببعض مدارسها الثانوية (بالإضافة إلى «مدرسة الألسن» التي كانت الدراسة بها في ذلك الحين دراسة مسائية حرة)، والمشاركة في تأسيس فرع معهد جوته بالعاصمة المصرية. لم يكن من الممكن أن يحلم المستشرق الشاب بفترة أنسب من هذه الفترة التي قضاها بالقاهرة (من 1955 إلى 1959م) ولا أحفل منها بالأحداث الكبرى والطموحات والآمال العظمى في تاريخ المنطقة العربية: من انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس إلى العدوان الثلاثي الغادر في سنة 1956م، ومن تأسيس للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وسقوط الملكية في العراق (1958م) إلى إعلان استقلال المغرب وتونس (1956م) وحرب التحرير الجزائرية التي بدأت بطولاتها ومآسيها في سنة 1954م وانتهت بالتحرر المجيد في سنة 1962م، وكل هذا في ظل المشروع الناصري الطموح لتحقيق الوحدة العربية، وصعود موجات الأمل والاستبشار الموارة بالحلم العربي الكبير الذي لم تكن قد خيمت عليه بعد كوابيس الهزيمة واليأس والإحباط.
كانت سنوات مفعمة بالنشاط والنجاح والرضا الموفور: مشاركة فعالة في تأسيس معهد جوته، وإشراف على بعثة تدريس اللغة الألمانية المكونة من أكثر من أربعة وعشرين عضو هيئة تدريس، ومهمة التفتيش على تدريس اللغة في بعض المدارس المصرية من قبل وزارة التعليم، مع الاهتمام المتزايد بنظام التعليم في مصر وتاريخه وتطوره ، والمشكلات والقضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة به التي صبت بعد ذلك في نهر رسالته الثانية ل «دكتوراه التأهيل» التي خصصها لدراسة نظام التعليم في مصر منذ عصر محمد علي.
لا شك في أن السنوات التي عاشها شتيبات في ظل العهد الناصري كانت من أخصب تجارب حياته كعالم وإنسان. ومن يطلع اليوم على المقالات التي كتبها في تلك الفترة ونشرها في «أرشيف أوروبا» (كالمساعي الأمنية في الشرق الأوسط 1955م، وطريق الأمة الجزائرية 1961م، وثورة عبد الناصر والبداية من جديد 1962م) أو في الكتاب السنوي للجمعية الألمانية للسياسة الخارجية (مثل الدول العربية في الشرق الأوسط، وقضية فلسطين وإسرائيل، وسياسة تركيا والدول العربية، وحركات الاستقلال في المغرب العربي، والدول العربية بين الشرق والغرب، والدول العربية قبل حرب 1967م، وبين الحل السياسي والحرب المدمرة، وقد كتبت كلها ونشرت بين سنتي 1955 و1975م) أقول إن هذه المقالات - التي لخصت بعضها في التمهيد السابق - تقدم الشهادة الصادقة على عمق النظرة العلمية والإنسانية، ففيها نلمس التعاطف الشخصي الذي لا ينفصل عن المنهج العقلي النزيه، والتوثيق الدقيق المقترن بالتحليل التاريخي الأمين. وإذا كانت الأيام والأحداث قد كشفت بعد ذلك عن مصادر لم يتوصل إليها أو مواد تاريخية وشخصية لم يتيسر له الاطلاع عليها؛ فإنها - أي هذه المقالات - تظل محتفظة بقيمتها العلمية العالية، وتبقى مآثر طيبة لإنسان توحد فيه العلم الخالص مع الخلق المثالي الرفيع.
رجع شتيبات إلى برلين في أواخر سنة 1959م وعين في منتصف ديسمبر في وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية بمعهد العلوم الدينية بجامعة برلين الحرة، وقد كلف - على مدى أربع سنوات - بتدريس اللغة العربية، فاستطاع أن يستغل وقت الفراغ الطويل في إنجاز بعض المقالات التي سبقت الإشارة إليها، بالإضافة إلى بحث عن جمال عبد الناصر، نشرته لجنة اليونسكو في فيينا سنة 1964م، وبحث آخر مطول عن العالم العربي في عصر القومية، نشر سنة 1964م أيضا ضمن كتاب للأستاذ فرانز تيشنر عن تاريخ العالم العربي. وأخيرا قدم رسالته الكبرى لدكتوراه التأهيل التي سبقت الإشارة إليها عن «التراث والنزعة العلمانية في نظام التعليم الحديث في مصر حتى سنة 1952م، مساهمة في التاريخ العقلي والاجتماعي للشرق الإسلامي». ومن المؤسف حقا أن هذه الرسالة المهمة لم تنشر قط على صورة كتاب، وإن كان قد نشر منها بعد ذلك فصلان ضمن كتابين بالإنجليزية والألمانية في عامي 1968 و1969م، عن مشروعات التعليم الوطني قبل الاحتلال البريطاني، وعن طه حسين وديموقراطية التعليم في مصر.
وعاوده الحنين للحياة مرة أخرى في العالم العربي. وشاء له حسن الحظ أن يتولى إدارة المعهد الشرقي التابع لجمعية الاستشراق الألمانية في بيروت من شهر أكتوبر 1963 إلى شهر سبتمبر 1968م. أتاحت له بيروت أن يعيش في ظل التعددية السياسية والدينية، والحرية الثقافية والفنية والأكاديمية والصحافية التي لا نظير لها في العالم العربي كله. ولم يكن لجمعية الاستشراق الألمانية أن تجد مكانا في الشرق الأدنى أنسب من هذه المدينة لتأسيس المعهد الشرقي التابع لها والقائم بنشر رسالته الثقافية منذ سنة 1961م إلى اليوم؛ هذه المدينة التي يتجاور فيها الشرق والغرب، ويتعايش المسلم والمسيحي، ويتنافس عدد من أفضل الجامعات العربية على نشر الوعي والمعرفة، وتسري روح الحرية الجسورة المتجددة في كل عقل وكل شارع وكل ركن فيها.
كان هذا المعهد الشرقي قد أسس في سنة 1961م بمبادرة من المستشرق هانز روبرت رومر (1915-1997م) الذي تولى إدارته ورعاية شئونه لمدة عامين، استجاب بعدهما لدعوة من جامعة فرايبورج لشغل كرسي العلوم الإسلامية وتاريخ الشعوب الإسلامية بها، ولم يترك الأستاذ بيروت إلا بعد أن رشح شتيبات لجمعية الاستشراق ليكون خلفا له؛ إذ لم ينس أنه قد أثار إعجابه الشديد بمواهبه الإدارية والعلمية عندما تعرف عليه بالقاهرة في منتصف الخمسينيات. وواجه شتيبات بعد حضوره إلى بيروت أربع مهام جسام كان عليه أن ينهض بها: نقل المعهد من مقره القديم (في الدور الثاني من عمارة الصمدي في شارع مدام كوري في حي رأس بيروت) إلى المبنى الجديد الذي انتقل إليه منذ شهر يونيو 1964م ولم يزل يشغله إلى اليوم الحاضر (في فيلا فرج الله بحي زقاق البلاط)، وشراء وتأثيث مقر صيفي للعاملين بالمعهد (دمر خلال الحرب الأهلية)، وتزويد المكتبة بالمراجع والدوريات والأجهزة والمعدات الضرورية، وتنظيم خطة النشر التي توالى ظهور مجلداتها المهمة في التراث الإسلامي والتاريخ العربي تحت عنوان: «نصوص ودراسات بيروتية»، مع الاهتمام بمواصلة نشر سلسلة المخطوطات الشرقية التي كان قد بدأها المستشرق المعروف «هلموت ريتر» في إسطنبول من سنة 1928 إلى سنة 1949م وعرفت بسلسلة «المكتبة الإسلامية». وليس من قبيل المبالغة أن نشيد بالدور الكبير الذي قام به هذا المعهد وما يزال يقوم به في نشر التراث العربي الإسلامي، وتوثيق العلاقات العلمية والإنسانية بين الباحثين الألمان والعرب، وحفز المستعربين الشبان على المزيد من الاهتمام بالقضايا العربية الحديثة والمعاصرة، وفي مقدمتها قضية الصراع العربي الإسرائيلي وتاريخ حركة القومية العربية، والحوار بين الأديان وغيرها من القضايا والمشكلات التي انعكست على بحوث صاحب هذه السيرة سواء في أثناء وجوده في بيروت أو بعد رحيله عنها بسنوات طويلة.
অজানা পৃষ্ঠা