كتاب
الإسعاف فى أحكام الأوقاف
تأليف
الشيخ الإمام العلامة حسام المعاني النعمان الثاني
برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أبى بكر
ابن الشيخ على الطرابلسي الحنفي
على نفقة
أمين هندية
الطبعة الثانية
طبع بمطبعة هندية بشارع المهدي بالأزبكية بمصر المحمية
سنة ١٩٠٢ - ١٣٢٠
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان فى أحسن تقويم، وهدى من شاء منه إلى الصراط المستقيم، وأمره بالصلاة والصدقة والصيام، والحج إلى بيته الحرام، ليفوز بالنعيم المقيم، وجاد على من وقف فى سبيل الخيرات نفسه وماله، لما علم أن إليه مآله، بالفضل الجسيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له البر الجواد الكريم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الموصوف بالخلق العظيم، الواقف نفسه الزكية للشفاعة العظمى، يوم يفر الحميم من الحميم، والمرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ذلك تقدير العزيز العليم (وبعد)
فإن العلماء الأولين، قد جعلهم الله رحمة للآخرين، لبذل مهجهم فى ضبط أحكام دين الإسلام، من كل واجب مندوب ومباح وحرام، وألهم الخلفاء الماهرين، ترتيبه على أبواب وفصول نعمة للآخرين، وان كتاب أحكام الأوقاف للإمام الهمام أبى بكر أحمد بن عمرو الخصاف بوأه الله دار السلام، لمَّا كان العمدة فى هذا الفن من تأليف الأوائل، وكان مكرر الصور والمسائل، مشحونا بجعل أحكام الوصايا له دلائل، وكان كثير الأبواب، غير خال عن الأطناب، اختصرته إلى كتاب احتوى على ما فيه من المقاصد، وعلى ما فى كتاب هلال بن يحيى من الزوائد، وضممت إليه كثيرًا من المسائل والأصول ورتبته على أبواب وفصول، ليسهل بها الوصول إلى ما فيه منقول، وسميته الإسعاف، فى أحكام الأوقاف، وبالغت فى
1 / 2
تصريح الكلام، حتى صارت مسائله على طرف التمام، والحمد لله على المبدا والتمام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه الغر الكرام، الأئمة البررة العظام، عدد قطر الغمام.
كتاب الوقف
هو فى اللغة الحبس، يقال وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها ومنه الموقف لأن الناس يوقفون أي يحبسون للحساب وفى الشرع هو حبس العين على حكم ملك الواقف أو عن التمليك والتصدق بالمنفعة على اختلاف الرأيين وسنبينه وهو جائز عند علمائنا أبى حنيفة وأصحابه ﵏ وذكر فى الأصل كان أبو حنيفة ﵀ لا يجيز الوقف فأخذ بعض الناس بظاهر هذا اللفظ وقال لا يجوز الوقف عنده وقال الخصاف أخبرني أبى الحسن بن زياد قال قال أبو حنيفة ﵀ لا يجوز الوقف إلا ما كان منه على طريق الوصايا وعن أبى يوسف ﵀ كان يقول يقول أبى حنيفة حتى قيل له أنه كان لعمر بن الخطاب ﵁ أرض تدعى ثمغ فوقفها وسيأتي مسندا فرجع عنه وقال لو بلغ هذا الحديث أبا حنيفة لرجع والصحيح أنه جائز عند الكل وإنما الخلاف بينهم فى اللزوم وعدمه فعند أبى حنيفة ﵀ يجوز جواز الإعارة فتصرف بينهم فى اللزوم وعدمه فعند أبى حنيفة ﵀ يجوز جواز الإعارة فتصرف منفعته إلى جهة الوقف مع بقاء العين على حكم ملك الواقف ولو رجع عنه حال حياته جاز مع الكراهة ويورث عنه ولا يلزم إلا بأحد أمرين إما أن يحكم به القاضي بدعوى صحيحة وبينة بعد إنكار المدعى عليه فحينئذ يلزم لكونه مجتهدا فيه واختلفوا فى قضاء المحكم والصحيح انه لا يرفع الخلاف ولو كان الواقف مجتهدا يرى لزوم الوقف فأمضى رأيه فيه وعزم على زوال ملكه عنه أو مقلدا فسأل فأفتى بالجواز وعزم على ذلك لزم الوقف ولا يصح الرجوع فيه وأن تبدل رأى
1 / 3
المجتهد أو أفتى المقلد بعدم اللزوم بعد ذلك أو يخرجه مخرج الوصية فيقول أوصيت بغَّلة أرضى أو دارى أو يقول جعلتها وقفا بعد موتى فتصدقوا بها على المساكين أو يوصى بأن توقف فإنه يلزم فى رواية عنه والصحيح أنه يصح من الثلث غير لازم اتفاقا لكونه وصية محضة واللزوم إنما هو فى حق ورثته حتى لو مات من غير رجوع يلزمهم التصدق بمنافعه مؤبدا ولا يمكنهم أن يتملكوه بعده لتأبد الوصية فيه بعدم إمكان انقطاع الفقراء بخلاف الوصية بخدمة عبده لإنسان بعينه فإنه إذا مات الموصى له يرجع العبد إلى ورثة الموصى لانتهائها بموت المستحق للخدمة وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله يلزم الوقف بدون هذين الشرطين وهو قول عامة العلماء وهو الصحيح لأن النبى ﷺ تصدق بسبع حوائط فى المدينة وإبراهيم الخليل ﵇ وقف أوقافًا وهى باقية إلى يومنا هذا وقد وقف الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة ﵃ وسيأتي مصرحا به ثم أن أبا يوسف ﵀ قال يصير وقفا بمجرد القول لأنه بمنزلة الإعتاق عنده وعليه الفتوى وقال محمد ﵀ لا يصير وقفا إلا بأربعة شروط وستأتي فى أول الفصول ولأبى حنيفة ﵀ ما روى عن ابن عباس ﵄ أنه قال لما نزلت سورة النساء سمعت رسول الله ﷺ يقول لا حبس بعد سورة النساء وما روى لا حبس عن فرائض الله، وعن شريح ﵀ جاء محمد ببيع الحبس ولأنه عقد على منفعة معدومة فيكون جائزًا غير لازم كما هو الصحيح عنه أو غير جائز كما تقدم والدليل على أنه باق على حكم ملكه بعد الوقف أنه لو قال تصدقوا على فلان فإذا مات فعلى أولاد فلان يفعل كما قال وأنه يجوز الإنتفاع به زراعة وسكنى وأن ولاية التصرف فيه إليه ولهذا عرَّف على قوله بأنه حبس العين على حكم ملك إلى آخره ولأنه لا يمكن أن يزول ملكه عنه لا إلى مالكه مع بقائه لأنه غير مشروع إذ حينئذ يصير
1 / 4
كالسائبة بخلاف الإعتاق لأنه إتلاف لمالية المعتق وبخلاف المسجد لأنه جعله لله تعالى خالصا ولهذا لا يجوز الإنتفاع به وهذا لم ينقطع حق العبد عنه فلم يصر خالصا لله تعالى ولما كان الوقف عندهما إسقاط الملك لا إلى مالك كالمسجد عرفوه بأنه حبس العين عن التمليك والتصدق بالمنفعة وأصل قولهما ما رواه أبو بكر أحمد بن عمرو الخصاف فى كتابه قال حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال أنبأنا صالح بن جعفر عن المسور بن رفاعة قال قتل مخيريق على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من مهاجر رسول الله ﷺ وأوصى أن أصبت فأموالي لرسول الله ﷺ يتصدق بها قال وحدثنا عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن إبراهيم قال حدثني عبد الله بن كعب بن مالك قال مخيريق يوم أحد فأوصى إن أصبت فأموالي لرسول الله ﷺ يضعها حيث أراه الله تعالى فهي عامة صدقات رسول الله ﷺ، وحدثني محمد بن بشر بن حميد عن أبيه قال سمعت عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه يقول فى خلافته بخناصرة سمعت بالمدينة والناس بها يومئذ كثير من مشيخة من المهاجرين والأنصار أن حوائط رسول الله ﷺ السبعة التي وقف من أموال مخيريق وقال إن أُصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله تعالى وقتل يوم أُحد فقال رسول الله ﷺ مخيريق خير يهود، قال وحدثني ابن أبى سبره عن إسماعيل بن أبى حكيم قال شهدت عمر بن عبد العزيز ورجل يخاصم إليه فى عقار حبس لا يباع ولا يوهب ولا يورث فقال يا أمير المؤمنين كيف تجوز الصدقة لمن لا يأتي ولم يدر أيكون أم لا فقال عمر ﵁ أردت أمرا عظيما فقال يا أمير المؤمنين إن أبا بكر وعمر كانا يقولان لا تجوز الصدقة ولا تحل حتى تقبض قال عمر بن عبد العزيز ﵀ الذين قضوا بما تقول هم الذين حبسوا العقار والأرضين على أولادهم وأولاد أولادهم عمر وعثمان وزيد ابن ثابت
1 / 5
فإياك والطعن على من سلفك والله ما أحب أني قلت ما قلت وأن لي جميع ما تطلع عليه الشمس أو تغرب فقال يا أمير المؤمنين إنه لم يكن لي به علم فقال عمر استغفر ربك وإياك والرأي فيما مضى من سلفك أو لم تسمع قول عمر ﵁ للنبي ﷺ ان لي مالا أحبه فقال رسول الله ﷺ احبس أصله وسبل ثمره ففعل فلقد رأيت عبد الله بن عبيد الله يلي صدقة عمر وأنا بالمدينة وال عليها فيرسل إلينا من ثمرته، قال وحدثني أبى سبرة عن المسور بن رفاعة عن ابن كعب القرظي قال كانت الحبس على عهد رسول الله ﷺ سبعة حوائط بالمدينة الأعواف والصافية والدلال والمثيب والبرقة وحسنا والمشربة أم إبراهيم وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم ماريه كانت تنزلها قال ابن كعب وقد حبس المسلمون بعده على أولادهم وأولاد أولادهم وقد حبس أبو بكر ﵁ رباعا له بمكة وتركها فلا نعلم أنها ورثت عنه ولكن يسكنها من حضر من ولد ولده نسله بمكة ولم يتوارثوها فإما ان تكون صدقة موقوفة أو تركوها على ما تركها أبو بكر ﵁ وكرهوا مخالفة فعله فيها وهذا عندنا شبيه بالوقف وهى مشهورة بمكة، وحبس عمر ﵁ قال حدثنا يزيد بن هرون قال حدثنا عبيد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر ﵁ قال أصاب عمر ﵁ مرة أرضا بخيبر فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فقال رسول الله ﷺ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها فجعلها عمر ﵁ لا تباع ولا توهب ولا تورث تصدق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفى الرقاب والغزاة فى سبيل الله والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف وأن يطعم صديقا غير متموّل منه وأوصى به إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر، وقال وحدثنا
1 / 6
محمد بن عمر الواقدي قال حدثنا قدامه بن موسى الجمحى عن بشر مولى المازنيين قال سمعت جابر بن عبد الله يقول لم كتب عمر بن الخطاب ﵁ صدقته فى خلافته دعا نفرا من المهاجرين والأنصار فأحضرهم ذلك وأشهدهم عليه فانتشر خبرها قال جابر ﵁ فلم أعلم أحدا كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالا من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى ولا توهب ولا تورث، قال حدثنا الواقدي قال لي أبو يوسف ﵀ ما عندك فى وقف عمر بن الخطاب ﵁ فقلت أنبأنا أبو بكر بن عبد الله عن عاصم بن عبد الله عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة قال شهدت كتاب عمر ﵁ حين وقف وقفه انه فى يده فإذا توفى فهو إلى حفصة بنت عمر فلم يزل عمر يلي وقفه إلى أن توفى ولقد رأيته هو بنفسه يقسم تمر ثمغ فى السنة التي توفى فيها ثم صار إلى حفصة ﵂ فقال أبو يوسف ﵀ هذا الذي أخذنا به إذا اشترط الذي وقف أنه فى يده فى حياته ثم إذا توفى فهو إلى فلان بن فلان فهو جائز وهذا فعل عمر ﵁ كما ترى، وحبس عثمان بن عفان ﵁ قال حدثنا محمد بن عمر الواقدي الأسلمي قال حدثنا عمر بن عبد الله عن عنبسة قال تصدق عثمان فى أمواله على صدقة عمر بن الخطاب، قال وحدثنا فروة بن اذينة قال رأيت كتابا عند عبد الرحمن ابن ابان بن عثمان فيه بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به عثمان بن عفان فى حياته تصدق بماله الذي بخيبر يدعى مال ابن أبى الحقيق على ابنه ابان بن عثمان صدقة بتله لا يشترى أصله أبدا ولا يوهب ولا يورث شهد على بن أبى طالب ﵁ وأسامة بن زيد وكتب، وحبس على بن أبى طالب ﵁ قال حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال حدثنا سليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد عن أبيه عن على بن أبى طالب ﵁ أن عمر بن الخطاب ﵁ قطع لعلىّ
1 / 7
﵁ بنبع ثم اشترى على ﵁ إلى قطيعته التي قطع له عمر أشياء فحفر فيها عينا فبينما هم يعملون إذ تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء فأتى عليا فبشره بذلك فقال ﵁ فبشره الوارث ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين فى سبيل الله وابن السبيل القريب والبعيد فى السلم والحرب يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ليصرف الله النار عن وجهه بها وبلغ جدادها فى زمن على ﵁ ألف وسق، قال وروى موسى بن داود قال حدثنا القاسم بن الفضل قال حدثنا محمد بن على بن أبى طالب ﵁ تصدق بأرض له بتا بتلا ليقي بها وجهه عن جهنم على مثل صدقة عمر غير أنه لم يستثن منها للوالي شيئا كما استثناه عمر ﵁ قال حدثنا على عن عيينة عن عمرو بن دينار قال فى صدقة على ابن أبى طالب ﵁ أن جبيرا ورباحا وأبا نيزر موالي يعملون فى المال خمس حجج منه نفقاتهم ونفقات أهليهم ثم هم أحرار لوجه الله تعالى، قال وحدثني ابن أبى سبرة عن يحيى بن شبل قال رأيت على بن الحسين يبيع من رقيق صدقة على ويبتاع، قال حدثنا بشر بن الوليد قال أنبانا أبو يوسف قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن على بن أبى طالب عن أبيه عن جده أنه تصدق بينبع فقال أبتغى بها مرضاة الله تعالى ليدخلني بها الله الجنة ويصرفني عن النار ويصرف النار عنى فى سبيل الله ووجهه وذي الرحم والبعيد والقريب لا تباع ولا توهب ولا تورث كل مال لي ينبع غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا أن حدث بي حدث فليس عليهم سبيل وهم محررون موال يعملون فى المال خمس حجج وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق ما كان لي ينبع حيًا أنا أو ميتا ومع ذلك ما كان لي بوادي القرى من مال ورقيق حيا أنا أو ميتا ومع ذلك الأدينة وأهلها حيا أنا أو ميتا ومع ذلك عبد أهلها وان زريعا له مثل ما كتبت لأبى نيزر ورباح وجبير، وحبس الزبير رضي الله قال حدثنا محمد بن عمر الواقدي
1 / 8
قال حدثنا ابن أبى الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام ﵁ أنه جعل دوره على بنيه لا تباع ولا تورث ولا توهب وان للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضى بها فإذا استغنت بزوج فليس لها حق، وحبس معاذ بن جبل ﵁ قال حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال حدثنا النعمان بن معن عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال وحدثنا يحيى بن عبد الله بن أبىّ عن أبيه قالا كان معاذ بن جبل ﵁ أوسع أنصارى بالمدينة ربعا فتصدق بداره التي يقال لها دار الأنصار اليوم وكتب صدقته قالا ثم ان ابن أبى اليسر خاصم عبد الله بن أبى قتادة فى الدار وقال ينبع هي صدقته على من لا ندرى أيكون أولا يكون وقد قضى أبو بكر وعمر ﵄ لا صدقة حتى يقبض فاختصموا إلى مروان ابن الحكم فجمع لهم مروان بن الحكم أصحاب رسول الله ﷺ فرأوا أن تنفذ الصدقة على ما سبل ورأوا حبس بن أبى اليسر فيكون له أدبا فحبسه أياما هم كلم فيه فخلاه فلقد كان الصبيان يضحكون به، وقد حبست عائشة ﵂ وأختها أسماء وأم سلمه وأم حبيبة وصفية أزواج النبى ﷺ، وحبس سعد بن أبى وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعقبة ابن عامر وعبد الله ابن الزبير وغيرهم ﵃ أجمعين وهذا إجماع منهم على جواز الوقف ولزومه ولان الحاجة ماسة إلى جوازه لقول زيد بن ثابت ﵁ لم نرى خيرا للميت ولا للحى من هذه الحبس الموقوفة أما الميت فيجرى أجرها عليه وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها فان زيد بن ثابت ﵁ جعل صدقته التي أوقفها على سنة صدقة عمر بن الخطاب رضي الله وكتب كتابا على كتابه هذا وأما الجواب عن قوله ﷺ لا حبس عن فرائض الله فنقول أنه محمول على أنه لا يمنع أصحاب الفرائض
1 / 9
عن فروضهم التي قدرها الله لهم فى سورة النساء بعد الموت بدليل نسخها لما كانوا عليه من حرمانهم الإناث قبل نزولها وتوريثهم بالمؤاخاة والموالاة مع وجودهن وقول شريح جاء محمد ببيع الحبس محمول على حبس العفرة مثل البحيرة والوصيلة والسائبة والحام عملا بما هو صريح اللفظ متواتر المعنى وحملا للمحتمل عليه توفيقا بين الأدلة والله اعلم.
[باب فى ألفاظ الوقف وأهله ومحله وحكمه]
يتوقف انعقاد الوقف على صدور ركنه من أهله مضافا إلى محل قابل لحكمه لما علم أن قيام ذات التصرف بالأهل وقيام حكمه بالمحل (فركنه) لفظ الوقف وما فى معناه كقوله صدقة محرمة أو صدقة محبسه أو صدقة مؤبدة أو صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث أو صدقة موقوفة (وأهله) أهل التبرع وهو الحر العاقل البالغ غير مرتد ولا مديون محجور عليه فيصح منه لازما عندهما ولو فى مرض الموت إلا أن للورثة إبطال ما زاد على الثلث كالتدبير ولا يصح من العبد إلا إذا أذن له مولاه وكان غير مستغرق بالدين ولو استغرقه لا يصح وقفه وإن أذن له سيده مع الغرماء بناء على قول أبى حنيفة ﵀ ولا من الصبي والمجنون الذي لا يعقل لعجزهما عن التصرف ولا من المرتد وسيأتي بيانه فى آخر الأبواب ولا من المديون (١) المحجور على قول من يرى به وإن لم يكن محجورا عليه يصح وقفه وإن قصد به ضرر غرمائه لثبوت حقهم فى ذمته دون القي (ومحله) المال المتقوم بشرط كونه عقارا أو منقولا أو متعارفا وقفه وسيأتي بيانه فى فصله (وحكمه) ما ذكر فى تعريفه من أنه حبس العين عن التمليك والتصدق بالمنفعة فلو قال أرضى هذه صدقة موقوفة مؤبدة جاز لازما عند عامة
_________
(١) مطلب المديون المحجور عليه
1 / 10
العلماء إلا أن محمدا ﵀ اشترط التسليم إلى المتولي واختاره جماعة وعند أبى حنيفة ﵀ يكون نذرا بالصدقة بغلة الأرض وبيقى ملكه على حاله فإذا مات تورث عنه ولو قال صدقة موقوفة مؤبدة فى حياتي وبعد وفاتي جاز عندهم إلا أن أبا حنيفة ﵀ قال ما دام الواقف حيا كان ذلك نذرا منه بالتصدق بالغلة وكان عليه الوفاء بما نذر ولو رجع عنه جاز ولو لم يرجع حتى مات جاز من الثلث ويكون سبيله سبيل من أوصى بخدمة عبده لإنسان فإن الخدمة تكون للموصى له والرقبة على ملك مالكها حتى لو مات الموصى له بها يصير العبد ميراثا لورثة المالك إلا أن فى الوقف لا يتوهم انقطاع الموصى لهم وهم الفقراء فتتأبد هذه الوصية ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة أو قال وقف ولم يزد على هذا لا يجوز عند عامة مجيزي الوقف قال هلال ﵀ لأن الوقف يكون للغنى والفقير ولم يسم لأيهما هو فلذلك أبطلته وصار كما لو قال أرضى محبوسة ولم يزد على ذلك فإنها لا تكون وقفا ولأن الأرض توقف للدين والوصايا ولحبس الأصل فهذا وقف لم يسم سبيله ووجوهه فلم يتصدق بغلته فقد خرج من أن يكون على ما أمر به النبى ﷺ عمر بن الخطاب ﵁ لأنه إنما ذكر حبس الأصل ولم يذكر الصدقة على ما أمر به عمر بن الخطاب فلذلك أبطلته حتى يجتمع الكلامان الصدقة والحبس فإذا اجتمعا كان الوقف جائزا وقال أبو يوسف ﵀ يجوز ويكون وقفا على المساكين لأن مطلقه ينصرف إلى المساكين عرفا (١) ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة أو موقوفة صدقة ولم يزد على هذا جاز فى قول أبى يوسف ومحمد وهلال الرأي ﵏ ويكون وقفا على الفقراء وقال يوسف بن خالد السهتي ﵀ لا يجوز ما لم يزد قوله وآخرها للفقراء أبدا والصحيح قول أصحابنا لأن محل الصدقة فى الأصل الفقراء فلا يحتاج إلى ذكرهم ولا انقطاع
_________
(١) مطلب لو قال أرضى هذه صدقة موقوفة أو موقوفة صدقة
1 / 11
لهم فلا يحتاج إلى ذكر الأبد أيضا ولو قال أرضى هذه محرمة صدقة جاز ويكون هذا بمنزلة قوله موقوفة صدقة لأن المحرمة بمنزلة قوله موقوفة فى لغة أهل المدينة ولو قال حبست أرضى هذه أو قال أرضى هذه حبس لا تكون وقفا فى قولهم ولو قال حرمت أرضى هذه أو قال أرضى هذه أو قال هي محرمة (قال الفقيه) أبو جعفر هذا على أبى يوسف كقوله موقوفة ولو قال حبيس موقوف أو حبيس وقف فهو باطل قال هلال فى قلنا وقول أبى حنيفة لأن معنى قوله وقف ومعنى قوله حبيس سواء فكأنه قال أرضى وقف وهذا باطل لا يجوز فى قولنا وقال وكذلك لو قال هي محرمة حبيس أو حبيس محرمة لا يجوز لأنه ذكر حبس الأصل ولم يسم لمن الغلة فلذلك أبطلته ولو قال موقوفة حبيس محرمة لا تباع ولا توهب ولا تورث ولم يزد على ذلك لا يجوز إلا أن يجعل فيها معنى الصدقة أو المساكين مع حبس الأصل فيجوز ذلك عندنا ولو قال حبيس صدقة أو صدقة حبيس قال هلال هذا جائز (وقال الفقيه أبو جعفر) هذا ينبغي أن يكون بمنزلة قوله صدقة موقوفة ولو قال هي موقوفة لله تعالى أبدا جاز وإن لم يذكر الصدقة ويكون وقفا على الفقراء لأن فى قوله موقوفة لله تعالى أبدا دليلا على أنه أراد بها المساكين لأن فيه قربة إلى الله تعالى بقوله لله تعالى وخرجت من أن تكون موقوفة للدين بقوله لله تعالى أبدا وكذا لو قال صدقة موقوفة على المساكين ولم يقل أبدا أو قال موقوفة لوجه الله تعالى أو موقوفة لطلب ثواب الله تعالى ولو أوصى بأن يوقف ثلث أرضه بعد وفاته لله تعالى أبدا تكون وصية بالوقف على الفقراء ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة على فلان صح ويصير تقديره صدقة موقوفة على الفقراء لأن محل الصدقة الفقراء إلا أن غلتها تكون لفلان ما دام حيا ومثله لو قال صدقة موقوفة على زيد أبدا أو قال على ولدى أبدا لأنه يصح من غير ذكر الأبد فمع ذكره أولى ولا يصح على قول يوسف بن خالد السهتى وإن ذكر الأبد لأن ذكر لفظ
1 / 12
الأبد مضاف إلى الصدقة على زيد أو ولده وهو لا يتأبد فيلغو هذا اللفظ وكذا لو قال أرضى هذه صدقة موقوفة على وجه الخير والبر أو قال على وجه الخير أو قال على وجه البر يكون وقفا على الفقراء لأن البر عبارة عن صدقة ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة فى الحج عنى أو العمرة عنى يصح الوقف ولو لم يقل عنى لا يصح لأنهما ليسا بصدقة ولو قال أرضى هذه موقوفة على الجهاد أو فى الجهاد أو فى الغزو أو قال فى أكفان الموتى أو فى حفر القبور أو قال فى بناء المساجد أو الحصون أو قال على مرمتها أو قال على عمل السقيات فى الأماكن المحتاج إليها أو غير ذلك مما يتأبد فإنه يصح ويكون وقفا على ذلك السبيل (قال الفقيه) أبو جعفر ﵀ متى ذكر موضع الحاجة على وجه يتأبد فذاك يكفى عن ذكر الصدقة وكذا لو قال موقوفة على أبناء السبيل لأنهم لا ينقطعون ويكون لفقرائهم دون أغنيائهم كخمس الغنيمة وكذا لو قال على الزمني أو على المنقطع بهم لأنهم يتأبدون ويكون لفقرائهم فقط وهذا قول هلال ﵀ وما سيأتي من بطلانه على الزمني قول الخصاف ﵀ قال شمس الأئمة ﵀ إذا ذكر مصرفا فيهم تنصيص على الحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون لأن المطلوب وجه الله تعالى ومتى ذكر مصرفا يستوي فيه الأغنياء والفقراء فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم وإن كانوا لا يحصون فهو باطل إلا أن كان فى لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فالوقف عليهم صحيح ويصرف للفقراء منهم دون أغنيائهم فهذا الضابط يقتضى (١) صحة الوقف على الزمني والعميان وقرَّاء القرآن والفقهاء وأهل الحديث ويصرف للفقراء منهم كاليتامى لإشعار الأسماء بالحاجة استعمالا لأن العمى والاشتغال بالعلم يقطع عن الكسب فيغلب فيهم الفقر وهو أصح مما سيأتي فى باب الوقف الباطل أنه باطل على
_________
(١) مطلب صحة الوقف على الزمني والعميان والفقراء ونحوهم
1 / 13
هؤلاء ولو قال أرضى هذه موقوفة (١) على فقراء قرابتي أو قال على أولادي لا يصح لأنهم ينقطعون فلا يتأبد وبدونه لا يصح إلا أن يجعل آخره للفقراء ولو قال أرضى هذه موقوفة على فقراء بني زيد أو قال على يتامى بني عمرو فإن كانوا يحصون وكان الوقف فى الصحة لا يصح لأنه لا يتأبد وإن كانوا لا يحصون يصح ويصير بمنزلة الوقف على اليتامى الفقراء روى عن محمد ﵀ أن (٢) ما لا يحصى عشرة وعن أبى يوسف ﵀ أنه مائة وهو المأخوذ عنه البعض وقيل أربعون وقيل ثمانون والفتوى أنه مفوّض إلى رأى الحاكم ولو قال أرضى صدقة لا تباع تكون نذرا بالصدقة ولا تكون وقفا لان قوله صدقة عبارة عن النذر فيتصدق بها ولا يجبره القاضي عليها ولو زاد ولا توهب ولا تورث صارت وقفا على المساكين ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة لله ﷿ أبدا على زيد أيام حياته جاز لحصول التأبيد بسبب كونها للفقراء بعده لأن ما لله تعالى يكون للفقراء إلا أن زيدا يقدم عليهم ولو قال هي صدقة موقوفة على زيد ما دام حيا وكان فى صحته فإنه يكون باطلا لكونه غير مؤبد ومن شرط صحة الوقف التأبيد كما نقل عن رسول الله ﷺ أنهم جعلوا أوقافهم مؤبدة فما كان مثل ذلك يصح ومالا فلا ولو قال جعلت غلة دارى هذه للمساكين يكون نذرا بالتصدق بالغلة ولو قال جعلت هذه الدار للمساكين كان نذرا بالتصدق بعين الدار للمساكين للحال ولو قال ضيعتي سبيل أو للسبيل إن كان من ناحية تعارفوا هذا الكلام للوقف صارت وقفا وإلا فيسأل عن نيته فإن نوى وقفا فهو كما نوى وإن نوى صدقة تصدق بعينها أو قيمتها وإن لم يكن له نية تورث عنه إذا مات والله أعلم.
[فصل فى بيان ما يتوقف جواز الوقف عليه]
اتفق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
_________
(١) مطلب الوقف على فقراء القرابة
(٢) مطلب حد ما لا يحصى
1 / 14
على أن الوقف يتوقف جوازه على شروط بعضها فى المتصرف كالملك فإن الولاية على المحل شرط الجواز والولاية يستفاد بالملك أو هي نفس الملك حتى لو وقف ملك الغير بغير إذنه توقف على إجازته وبعضها يرجع إلى نفس التصرف وهو كونه قربة فى ذاته وعند المتصرف حتى لو وقف المسلم أرضه أو داره على البيعة أو الكنيسة أو على دار دعوة للمبتدعة أو على فقراء أهل الحرب لا يجوز لعدم كونه قربة فى نفس الأمر وعند المتصرف وكذا لو كان الواقف ذميا لعدم كونه قربة فى نفس الأمر وسيأتي بيانه فى قف أهل الذمة إن شاء الله تعالى وبعضها يرجع إلى المحل وهو كونه عقارا أو منقولا تبعا للعقار واختلفنا فى كون أربعة أشياء شرطا للجواز (١) الأول التسليم للموقوف ليس بشرط عند أبى يوسف ﵀ لأن الوقف ليس بتمليك وإنما هو إخراج له عن ملكه إلى الوقف فأشبه الإعتاق بخلاف الصدقة المنقدة فإنها إخراج من ملك إلى ملك فتحتاج إلى قبض العين لتملك ولما تقدم من رواية الواقدي فى وقف عمر بن الخطاب أنه فى يده فإذا توفى فهو إلى حفصة ولأن يد المخرج إليه يده حكما لاستفادته الولاية منه فيصير كأنه أخرجه منه إليه فلا تزيد يد الفرع على يد الأصل فى الحكم وشرط عند محمد ﵀ لأنه تقرب إلى الله تعالى بعين من ماله فيتوقف جوازه على التسليم كالصدقة بالعين وقد علم جوابه ثم تسليم كل شئ عنده بما يليق به ففي المقبرة يحصل بدفن واحد فصاعدا بإذنه وفى السقاية بشرب واحد وفى الخان بنزول واحد من المارة هذا فى المقبرة والخان الذي تنزل فيه المارة كل يوم وأما السقاية التي تحتاج إلى صب الماء فيها والخان الذي ينزله الحاج بمكة والقرارة بالثغر فلا بد فيها من التسليم إلى المتولي لأن نزولهم مكون فى السنة مرة فيحتاج إلى من يقوم بمصالحه وإلى من يصب الماء فيها والغنى والفقير فى الخان والسقاية والبئر والحوض سواء
_________
(١) بيان الشروط المختلف فيها
1 / 15
لاستوائهما فى الحاجة وفى المسجد بالصلاة فيه بجماعة بإذن بانيه وسيأتي ما فيه من الاختلاف فى باب بناء المساجد إن شاء الله تعالى وعلى هذا الخلاف ينبني ما إذا استغنى الناس عن الصلاة فى المسجد لخراب ما حواليه فأعاده محمد إلى ملكه وارثه إن كان ميتا لأن التسليم بالصلاة شرط عنده ابتداء فكذا انتهاء وأبقاه أبو يوسف ﵀ مسجدا لعدم اشتراطه التسليم والثاني كونه مفرزا شرط عند محمد ﵀ لتوقف التسليم عليه وليس بشرط عند أبى يوسف ﵀ لما بينا أنه ألحقه بالعتق فلو وقف نصف أرضه يصح عنده ولا يصح عند محمد ﵀ وسيأتي تمامه فى فصل وقف المشاع والثالث ذكر التأبيد أو ما يقوم مقامه كالصدقة ونحوها شرط عند محمد ﵀ وليس بشرط عند أبى يوسف ﵀ فلو قال وقفت أرضى هذه أو قال جعلتها موقوفة ولم يزد عليه جاز عنده وصارت وقفا على الفقراء وبه أفتى مشايخ بلخ وعليه الفتوى لأن قوله وقفت يقتضى إزالته إلى الله تعالى ثم إلى نائبه وهو الفقير وذا يقتضى التأبيد فلا حاجة إلى ذكره كالإعتاق وعند محمد لا يجوز لأن موجبه زوال الملك بدون التمليك وذلك بالتأبيد كالعتق وإذا لم يتأبد لم يتوفر عليه موجبه ولهذا يبطله التأقيت كما يبطل البيع ولو قال وقفت أرضى هذه على عمارة المسجد الفلاني يجوز عنده لأنه لو لم يزد على قوله وقفت يجوز عنده فبالأولى إذا عين جهة ولا يجوز عند محمد لاحتمال خراب ما حوله فلا يكون مؤبدا وعن أبى بكر الأعمش ينبغي أن يجوز على الاتفاق لأن الوقف على عمارة المسجد بمنزلة جعل الأرض مسجدا أو بمنزلة زيادة فى المسجد قال الفقيه أبو جعفر هذا القول أصح إلىّ وقال أبو بكر الإسكاف ينبغي أن لا يصح هذا عند الكل لأن الوقف على المسجد وقف على عمارته والمسجد يكون مسجدا بدون البناء فلا تكون عمارة البناء مما يتأبد فلا يصح الوقف والأول أوجه ولو قال وقفت أرضى هذه على ولدى وولد ولدى ونسلهم أبدا يصح عند أبى يوسف
1 / 16
فإذا انقرضوا تكون الغلة للفقراء ولا يصح عند محمد لاحتمال الانقطاع ولو قال وقفت أرضى هذه على ولد زيد أو ذكر جماعة بأعيانهم لم يصح عند أبى يوسف أيضا لأن تعيين الموقوف عليه يمنع إرادة غيره بخلاف ما إذا لم يعين لجعله إياه وقفا على الفقراء ألا ترى فرق بين قوله أرضى هذه موقوفة وبين قوله موقوفة على ولدى فصحح الأول دون الثاني لأن مطلق قوله موقوفة ينصرف إلى الفقراء عرفا فإذا ذكر الولد صار مقيدا فلا يبقى العرف فظهر بهذا أن الخلاف بينهما فى اشتراط ذكر التأبيد وعدمه إنما هو فى التنصيص عليه أو على ما يقوم مقامه كالفقراء ونحوهم وأما التأبيد معنى فشرط اتفاقا على الصحيح وقد نص عليه محققو المشايخ رحمهم الله تعالى والرابع اشتراط الواقف الإنتفاع بالوقف لا يمنع من صحته عند أبى يوسف ﵀ ويمنع عند محمد ﵀ وسيأتي فى باب الوقف على النفس أن الفتوى قول أبى يوسف وأن معه جماعة والله أعلم.
[فصل فى بيان اشتراط قبول الوقف وعدمه]
قبول الموقوف عليه الوقف ليس بشرط إن وقع لِأقوام غير معينين كالفقراء والمساكين وإن وقع لشخص بعينه وجعل آخره للفقراء يشترط قبوله فى حقه فإن قبله كانت الغلة له وإن رده تكون للفقراء ويصير كأنه مات ومن قبل ما وقف عليه ليس له الرد بعده ومن رده أول مرة ليس له القبول بعده فلو قال وقفت أرضى هذه على أولاد زيد ونسله وعقبه ومن بعدهم على المساكين فقبله بعضهم ورده بعضهم تكون الغلة كلها لمن قبل منهم وإن رده كلهم تكون للمساكين وإن قبل كل واحد منهم بعضه ورد الباقي يكون ما ردوه للمساكين فإن حدث لزيد ولد أو نسل وقبله كلهم أو بعضهم رجع لمن قبله منهم وإن رده كلهم كان للمساكين وهكذا إلى أن ينقرضوا بخلاف ما لو أوصى بثلث ماله لجماعة بأعيانهم فردها بعضهم فأن حصتهم تكون لورثة الموصى وكذلك لو ردها
1 / 17
الكل والفرق بينهما أن الموصى إنما أوصى لهم فقط فما بطل منها يكون لورثته وأما الواقف فإنه قد جعله بعدهم للمساكين فإذا بطل كونه لهم يصير للمساكين ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة لله ﷿ أبدًا على زيد وعمر وما عاشا ومن بعدهما على المساكين ثم مات أحدهما أو رَدّ تكون حصته للمساكين ولا يستحقها الآخر لأنه جعل الوقف لله ﷿ ابتداء ثم أوجبه لهما وما كان لله تعالى فهو للمساكين فمن قبل منهما وبقى حيا تقدم عليهم بحصته فقط بخلاف المسألة الأولى فإنه أوجبه لهم أولا ثم جعله من بعدهم للمساكين فلا يكون لهم شئ ما لم يردّ الكل أو ينقرضوا ولو قال وقفت أرضى هذه على زيد وأولاده ومن بعدهم على المساكين فقال زيد لا أقبل لنفسي ولا لأولادي يصح رده فى حصته فقط وأما أولاده فإن كانوا كبارا فالرد والقبول إليهم وإن كانوا صغارا تكون حصتهم لهم ولو قال وقفت أرضى هذه على زيد ومن بعده على المساكين فقال زيد قبلت غلة هذه السنة ورددت ما بعدها أو قال قبلت ثلثها أو نصفها ورددت الباقي استحق ما قبله وكان الباقي للمساكين ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة لله ﷿ أبدا على زيد وعمرو ما عاشا إن قبلا ومن بعدهما على المساكين فقبل أحدهما ورد الآخر استحق القابل حصته وتكون حصة الراد للمساكين وقد روى عن زفر ﵀ أنه قال إذا أوصى أن يجرى على زيد وعمرو من ثلثه فى كل شهر دراهم لكل منهما ما عاشا إنه إذا مات أحدهما تبطل وصية الآخر لكونه قال ما عاشا والمراد من هذا عنده حياتهما معا وقال سائر أصحابنا ﵏ وصية الباقي منهما على حالها ولا تبطل بموت الآخر ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة لله ﷿ أبدا على زيد وعمرو ومن بعدهما على المساكين وكان أحدهما ميتا تكون الغلة كلها للحى منهما لعدم جواز الوقف على الميت فإذا مات الحي تصير الغلة للمساكين
1 / 18
[باب بيان ما يجوز وقفه وما لا يجوز وما يدخل تبعا وما لا يدخل وإنكار دخول بعض الموقوف فيه ووقف ما يقطعه الإمام]
إذا وقف الحر العاقل البالغ أرضه أو داره أو ما جرى التعارف بوقفه من المنقولات وهو غير محجور عليه ولا مرتد يصح لازما عند عامة العلماء وقال أبو حنيفة يجوز جواز الإعارة أو لا يجوز على ما بينا فى أول الكتاب فلو قال أرضى هذه صدقة موقوفة لله ﷿ أبدا ولم يزد تصير وقفا (١) ويدخل فيه ما فيها من الشجر والبناء دون الزرع والثمرة كما فى البيع ويدخل فيه أيضا الشرب والطريق استحسانا لأنها إنما توقف للاستغلال وهو لا يوجد إلا بالماء والطريق فكان كالإجارة بخلاف ما لو جعل أرضه أو داره مقبرة وفيهما أشجار عظام وأبنية فإنها لا تدخل فى الوقف فتكون له ولورثته من بعده ولو قال أرضى هذه صدقة موقوفة بحقوقها وجميع ما فيها ومنها وعلى الشجر ثمرة قائمة يوم الوقف قال هلال فى القياس تكون الثمرة له ولا تدخل فى الوقف وفى الاستحسان يلزمه التصدق بها على الفقراء على وجه النذر لا على وجه الوقف لأنه لما قال بجميع ما فيها ومنها فقد تكلم بما يوجب التصدق فيلزمه التصدق بالثمرة التي كانت متصلة به يوم الوقف وما يحدث بعده يصرف فى الوجوه التي سماها لكونه غلة الوقف وذكر الناطفي رجل قال جعلت أرضى هذه وقفا على الفقراء ولم يقل بحقوقها يدخل البناء والشجر الذي فيها تبعا ولا يدخل الزرع النابت فيها حنطة كان أو شعيرا أو غيره وكذلك البقل والآس والرياحين والخلاف والطرفاء وما فى الأجمة من حطب يقطع فى كل سنة والورد والياسمين وورق الحناء والقطن والباذنجان وزهر بصل النرجس والرطاب فإنها لا تدخل وأما الأصول التي تبقى والشجر الذي لا يقطع إلا بعد عامين أو أكثر فإنها تدخل تبعا ولو زاد بحقوقها تدخل
_________
(١) بيان ما يدخل فى الوقف وما لا يدخل
1 / 19
الثمرة القائمة فى الوقف وهذا أولى خصوصا إذا زاد بجميع ما فيها منها ولو وقف دارا بجميع ما فيها وفيها حمامات يطرن أو بيتا وفيه كوَّارات عسل يدخل الحمام والنحل تبعا للدار والعسل كما لو وقف ضيعة وذكر ما فيها من العبيد والدواليب وآلات الحراثة فإنها تصير وقفا تبعا لها وإن لم يجز إيصاله كالماء والهواء والأطراف فى بيع الأراضي والعبيد ونفقتهم من غلة الوقف وإن لم يذكرها الواقف ولو زوج الحاكم جارية الوقف يجوز وعبده لا يجوز ولو من أمة الوقف لأنه يلزمه المهر والنفقة ولو ضعف بعضهم عن العمل يجوز للقيم بيعه وشراء غلام بدله وكذلك الدواليب والآلات يبيعها ويشترى بثمنها ما هو أصلح للوقف وليس للقيم قطع الأشجار المثمرة ولا بيعها وله بيع غيرها بعد القطع لا قبله لأنها ما دامت متصلة بالأرض تكون تبعا لها وإذا نبت الفسيل فى أصول النخل إن كان فى تركه ضرر بالنخل يقطع ويباع وثمنه غله للوقف كثمن السعف وإلا يتركه على حاله وإذا صار نخلا خرج من أن يكون غلة وصار وقفا وهكذا حكم سائر ما ينبت من أصول أشجار الوقف ولو كان فى الكرم الوقف شجر يضر ظلها بثمارها إن كان ثمرها يزيد على ما ينقص من ثمره لا يقطع ولا تقطع وهكذا الحكم لو أضرت بالأرض ولو وقف ضيعة له وقال شهرتها تغنى عن تحديدها جاز الوقف ثم لو قال عن بعض قطع من الأرض إنها غير داخلة فى الوقف ينظر إلى حدودها فإن كانت مشهورة وكانت تلك القطع داخلها كانت وقفا وإلا كان القول فيها قوله وهكذا الحكم لو وقف دارا وقال إن هذه الحجرة لم تدخل فى الوقف فإنه ينظر إلى حدودها وتسأل الجيران عنها فإن شهدوا أنها من الدار كانت وقفا وإلا كان القول قوله فيما أشكل كونه وقفا ولو وقف أرضا أقطعه إياها السلطان فإن كانت ملكا له أو مواتا صح وإن كانت من بيت المال لا يصح ولا يصح وقف أرض الحوز وهى ما حازاها السلطان عند عجز أصحابها عن زراعتها
1 / 20