من نزول الملك نزول العسكر، وهذا جلي واضح.
والثاني، أن لفظ النزول قد يستعمل للتلطف والتواضع في حق الخلق كما يستعمل الارتفاع للتكبر، يقال فلان رفع رأسه إلى عنان السماء، أي تكبر، ويقال ارتفع إلى أعلى عليين، أي تعظم؛ وإن علا أمره يقال: أمره في السماء السابعة؛ وفي معارضته إذا سقطت رتبته يقال: قد هوى به إلى أسفل السافلين؛ وإذا تواضع وتلطف له تطامن إلى الأرض ونزل إلى أدنى الدرجات. فإذا فهم هذا وعلم أن النزول عن الرتبة بتركها أو سقوطها وفي النزول عن الرتبة بطريق التلطف وترك العقل الذي يقتضيه علو الرتبة وكمال الاستغناء، فبالنظر إلى هذه المعاني الثلاثة التي يتردد اللفظ بينها ما الذي يجوزه العقل؟ أما النزول بطريق الانتقال فقد أحاله العقل كما سبق، فإن ذلك لا يمكن إلا في متحيز، وأما سقوط الرتبة فهو محال لأنه سبحانه قديم بصفاته وجلاله ولا يمكن زوال علوه، وأما النزول بمعنى اللطف والرحمة وترك الفعل اللائق بالاستغناء وعدم المبالاة فهو ممكن، فيتعين التنزيل عليه، وقيل إنه لما نزل قوله تعالى: " رفيع الدرجات ذو العرش " استشعر الصحابة رضوان الله عليهم من مهابة عظيمة واستبعدوا الانبساط في السؤال والدعاء مع ذلك الجلال، فأخبروا أن الله ﷾ مع عظمة جلاله وعلو شأنه متلطف بعباده رحيم بهم مستجيب لهم مع الاستغناء إذا دعوه، وكانت استجابة الدعوة نزولًا بالاضافة إلى ما يقتضيه ذلك الجلال من الاستغناء وعدم المبالاة، فعبر عن ذلك بالنزول تشجيعًا لقلوب العباد على المباسطة بالأدعية بل على الركوع والسجود، فإن من يستشعر بقدر طاقته مبادئ جلال الله تعالى استبعد سجوده وركوعه، فإن تقرب العباد كلهم بالاضافة إلى جلال الله سبحانه أحس من تحريك العبد أصبعًا من أصابعه على قصد التقرب إلى ملك من ملوك الأرض، ولو عظم به ملكًا من الملوك لاستحق به التوبيخ، بل من عادة الملوك زجر الأرزال عن الخدمة والسجود بين أيديهم والتقبيل لعتبة دورهم استحقارًا لهم عن الاستخدام وتعاظمًا عن استخدام غير الأمراء والأكابر، كما جرت به عادة بعض الخلفاء. فلولا النزول عن مقتضى الجلال باللطف والرحمة والاستجابة لاقتضى ذلك الجلال أن يبهت القلوب عن الفكر، ويخرس الألسنة عن الذكر، ويخمد الجوارح عن الحركة، فمن لاحظ ذلك الجلال وهذا اللطف استبان له على القطع أن عبارة النزول مطابقة للجلال ومطلقة في موضوعها لا على ما فهمه الجهال؛ فإن قيل فلم خصص السماء الدنيا؟ قلنا: هو عبارة عن الدرجة الأخيرة التي لا درجة بعدها، كما يقال سقط إلى
1 / 41