الانتصار لسيبويه على المبرد
لأبي العباس أحمد بن محمد بن ولاد التميمي النحوي المتوفى ٣٣٢ هـ
دراسة وتحقيق
الدكتور
زهير عبد المحسن سلطان
مؤسسة الرسالة
1 / 1
الطبعة الأولى
١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م
1 / 2
كتاب الانتصار، أو كتاب نقض ابن ولاد على المبرد
في رده على سيبويه "في الكتاب"
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو العباس أحمد بن محمد بن ولاد النحوي: هذا كتاب نذكر فيه المسائل التي زعم أبو العباس محمد بن يزيد أن سيبويه غلط فيها، ونبينها، ونرد الشبه التي لحقت فيها، ولعل بعض من يقرأ كتابنا هذا ينكر ردنا على أبي العباس، وليس ردنا عليه بأشنع من رده على سيبويه، فإنه رد عليه برأي نفسه ورأي من دون سيبويه، ومع ردنا عليه فنحن معترفون بالانتفاع به لأنه نبه على وجوه السؤال ومواضع الشك، إلا أنه إذا تبين الحق كان أولى بنا وأعود بالنفع علينا، وبالله التوفيق.
مسألة [١]
قال محمد بن يزيد: من ذلك قوله في باب مجاري أواخر الكلم: قال سيبويه: (وإنما ذكرت ثمانية مجار لا فرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل- وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه- وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل.
قال محمد بن يزيد: هذا تمثيل رديء، وذلك أن الذي يدخله ضرب من هذه الأربعة هو الحرف، نحو الدال من زيد، والذي يبنى عليه الحرف هو الحركة، نحو الضمة التي يبنى عليها ثاء (حيث)، والفتحة التي يبنى عليها نون (أين)، فعدل حركة بحرف، وإنما كان ينبغي أن يعدل الحركة بالحركة والحرف بالحرف.
1 / 43
قال أحمد بن محمد: هذا الرد يحكى عن المازني، وقد رد أيضا مسألة أخرى في هذا الباب، إلا أنا نقتصر على المسائل التي جمعها محمد بن يزيد وألفها في كتابه، وأما الحكايات فنحن نذكرها في مواضع من تفاسير الكتاب.
أما قوله: عدل بين حركة وحرف، فهذا جائز في اللفظ من غير وجه، أحدها، يكون أراد لأفرق بين حركة ما يدخله ضرب من هذه الأربعة وبين ما يبنى عليه الحرف بناء، فحذف/٣/ المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، واجتزأ بذلك لعلم المخاطب بما يعني، وهذا شائع، ومنه قول الله ﷿: ﴿إنه عمل غير صالح﴾، ﴿وسئل القرية﴾، وما أشبه ذلك، وقولك: الفرق بين الحجاز وأهل الشرق كيت وكيت، تحذف أهل من أول الكلام، لأن المخاطب (قد) علم أنك مفرق بين الأهلين، وكذلك إذا قلت: الفرق بين الفرات وماء دجلة، وبين الفرات وطعم دجلة كذا وكذا، علم أنك مفرق بين الطعمين، ولا نعلم أحدا منع من إجازة ذلك ما لم يكن لبس في الحذف، فهذا على وجه المجاز.
ووجه آخر على غير هذا الطريق، وهو أن يكون سمى الحركة حرفا في قوله: (يبنى عليه الحرف)، يريد بالحرف الحركة كما قال النحويون: العربية على أربعة أحرف: على الرفع والنصب فجعلوا وجوه الإعراب حروفا، وكذلك: هو يقرأ بحرف فلان، فأما الحركة
1 / 44
فهي حرف على الحقيقة، لأن الضمة واو صغرى، كأنه قال: لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة يعني الدال من زيد، وبين ما يبنى عليه الحرف، يعني الثاء من (حيث)، فهي التي يبنى عليها الحرف، والحرف الضمة، هذا على حقيقة اللفظ لا على وجه المجاز، لأنه عدل بين حرف الإعراب وحرف البناء في اللفظ وفي المعنى، وفي التأويل الأول فرق بين الحركتين، وحذف أحدهما) من اللفظ.
ووجه آخر، [وهو] أن يكون فرق بين الاسم المعرب والاسم المبني، فكأنه قال: لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة، يعني زيدًا، وما أشبهه من الأسماء المتمكنة، وبين ما يبنى عليه الحرف، يعني (حيث) وما أشبهه من الأسماء المبنية كما في الثاء بنيت بضمتها على حيث.
فهذه ثلاثة أوجه: أولها، أنه فرق بين حركة الإعراب وحركة البناء، وحذف (حركة) من الأول واجتزأ بذكر الثانية، والوجه الثاني، فرق (فيه) بين حرف الإعراب وحرف البناء، كالدال من زيد والثاء من (حيث) على التأويل الذي ذكرناه، والوجه الثالث، فرق فيه بين الاسم المعرب والاسم المبني، وكل هذه الوجوه إلى معنى واحد ترجع، لأن الذي قصده في هذا القول معنى تؤدي هذه الوجوه إليه.
مسألة [٢]
ومن ذلك قوله في هذا الباب: (واعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان: الأولى /٤/ منهما حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب).
قال محمد بن يزيد: فزعم أن الألف والياء في الاثنين، والواو والياء في الجميع حروف
1 / 45
الإعراب، وهذا محال، لأنها لو كانت حروف الإعراب كان الإعراب لازما لها وهو غيرها، نحو دال زيد، لما كانت حرف الإعراب هي وما أشبهها، كان ما يعتورها من الضم والكسر والفتح هو الإعراب، وليست الألف في التثنية وما ذكرنا معها إعرابا، لأن الإعراب حركة في حرف إعراب، ولكنها دلائل على الإعراب، وهذا قول أبي الحسن الأخفش وأبي عثمان المازني، وكذلك تاء مسلمات [...].
مسألة [٣]
[...] إلا بحرف جر، كما أن ذهبت أصله ألا يتعدى إلا بحرف، ويدل على ذلك أن مصدره مصدر ما لا يتعدى، وهو فعلو، تقول: دخل دخولا كما تقول: قعد قعودا، وجلس جلوسا، وذهب ذهوبا، ففعول مصدر ما لا يتعدى من الأفعال، ألا ترى أن سيبويه قال في باب بناء الأفعال التي هي أعمال تعداك إلى غيرك ومصادرها: إن فعولا إنما يكون لما لا يتعدى نحو: قعد قعودا، وجلس جلوسا، وثبت ثبوتا، وذهب ذهوبا، وقد قالوا: الذهاب
1 / 46
والثبات، قال: وأما قولهم: دخلته دخولا، وولجته ولوجا، فكان الأصل ولجت فيه ودخلت فيه، إلا أنهم حذفوا (في) كما قالوا: نبئت زيدا، يريدون عن زيد، فحذفوا (عن) ها هنا.
هذا معني قول سيبويه: إن ذهبت الشام مثل دخلت البيت، أراد به أن حرف الجر حذفت مع ذهبت كما أنه حذف مع دخلت، وليس بين واحد من الأمرين وغيره فرق في الأصل، إلا أن العرب ربما استعملت الحذف في بعض الأشياء أكثر من بعض، فيتوهم بذلك المتوهم أن ما استعمل فيه الحذف أكثر أصله التعدي، وليس الأمر كذلك، وإنما يكون كثرة الحذف على قدر كثرة الاستعمال، وربما استعمل الشيء محذوفا، ولم يتكلم بالأصل البتة، فأما ذهب ودخل فقد استعمل معهما الوجهان، أعني حذف حرف الجر وإثباته كقولهم: دخلت في الدار، [ودخلت الدار]، وذهبت إلى الشام، وذهبت الشام واستعمالهم /٥/ حرف الجر في جميع المواضع مع فعلت وأنه غير ممتنع معها على حال يدل على أنه الأصل وأن الحذف فرع.
وأما قوله: إن كل ما كان مثل البيت فهو بيت، وليس كل ما كان مثل الشام فهو شام، فلا وجه له، لأن تعدي الفعل يأتي في النكرة والمعرفة سواء بكرف أو بغير حرف، تقول: دخلت مكة، ودخلت في مكة، ودخلت بيتا حسنا، ودخلت في بيت حسن،
1 / 47
وكذلك ما كان مثله.
مسألة [٤]
قال: ومن ذلك قوله في باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين ويقتصر على أحدهما إن شاء، قال: ومما حذف فيه حرف الجر قول المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
قال: يريد، على حب العراق)
قال محمد بن يزيد: وهذا خطأ، إنما هو آليت أطعم حب العراق، أي لا أطعم حب العراق، كما تقول: والله أبرح من هنا، أي: لا أبرح.
وقال في هذا الموضع: (نبئت زيدا، أي: عن زيد)، وليس كذلك، لأن نبأت زيدا معناه أعلمت زيدا ونبئت زيدا أعلمت زيدا، وإن قال قائل: نبئت عن زيد قائما، وضع موضع حدثت، فمبني على ضربين لا يحمل الكلام إلا على وجهه.
قال أحمد بن محمد بن ولاد، آليت وحلفت وأقسمت أفعال تتعدى إلى المحلوف عليه بحرف الجر، فتقول: حلفت على زيد لا أكلمه، وإن شئت قلت: حلفت على زيد، ولم
1 / 48
تأت بجواب، لأن حلفت جملة مكتفى بها غير محتاجة إلى سواها، وإذا قلت: حلفت لا أفعل، فهو كقولك: والله لا أفعل، إلا أنك إذا قلت: والله، فلا بد من جواب القسم، وإلا لم يكن كلاما، فلو جاز أن تقول: إذا حذفنا حرف الجر من حلفت وآليت وما أشبههما، إن الاسم الذي يليهما انتصب أو ارتفع بفعل يفسره جواب القسم، وجواب القسم مع هذه الأفعال لا يلزم الإتيان به، لأنه جملة تامة غير الجملة الأولى، لأن الكلام قد تم دونه، لكان الإضمار مع ما يلزم الكلام أوجب، فيلزمه على هذا في المجازاة أن نقول إذا حذف حرف الجر للضرورة: إن تمرر أخوك يكرمك/٦/. فرفع الأخ بفعل يفسره جواب المجازاة، كأنه قال: إن تمرر يكرمك أخوك، ويكون يكرمك مفسرا، وهو يريد (معنى) إن تمرر بأخيك يكرمك، فيبطل عمل يمرر ومفعوله يليه، ويرفع مفعوله بفعل مضمر.
ويلزمه أن يقول فيما يتعدى بغير حرف كما يلزمه فيما يتعدى بحرف، فيجوز، إن تضرب زيد ينته، وإن تزر عمرو يكرمك، فيبطل عمل تضرب وتزور، ولا تعملها في مفعوليهما وهما يليانهما بغير حائل، وتضمر لهما فعلين يرفعانهما، لأن لهما في آخر الكلام ضميرين فاعلين، وهذا لا يجوز من قول آخر.
ويجوز أيضا على قوله، رأيت زيد يضرب، على أن ترفع زيدا بفعل يفسره (يضرب)، ولا تنصبه برأيت، وتبطل عمل (رأيت) كما أبطل عمل (آليت)، ونصب (حب العراق) بفعل يفسره لا أطعم، ولا فرق بينهما، إلا أن هذا فعل يتعدى بحرف، وذاك بلا حرف، فإذا حذفنا الحرف استويا جميعا وتعدى الفعل، فنصب ما كان مجرورا.
وكذلك لو اضطر شاعر إلى أن يقول مثل: مررت زيدا يضربه عمرو للزم على قوله أن ينصب زيدا بفعل مضمر يفسره (يضرب)، فإن قال: ليس بمنساغ في اللفظ أن تقول: مررت يضرب زيدا عمرو، قيل له: وهو منساغ في المجازاة أن تقول: في مثل: إن تمرر بزيد يكرمك، أن تقول: إن تمرر يكرمك زيد، فأجز إن تمرر زيد يكرمك، على أن ترفع
1 / 49
زيدا بفعل يفسره (يكرمك)، لأنه منساغ.
وجميع ما يجوز من هذا الباب فيما ينتصب ويرتفع على إضمار فعل يفسره الظاهر مبني من جملة واحدة، كقولك: أزيدا ضربته؟ فول حذفت الهاء لتسلط الفعل فعمل فقلت: أزيدا ضربت؟ ولا يكون ذلك من جملتين، ولو جاز إعمار الاسم الآخر في الاسم المعرض للفعل الأول لجاز إدخال عامل على عامل، ولجاز على هذا أن تقول: حلفت بزيد لأمرن، على أن تكون "الباء" معلقة بـ (لأمرن) وهذا خطأ من غير وجه، ولا يكون حينئذ ها هنا فرق بين المحلوف به والمحلوف عليه، لأن الباء يحتمل أن تكون متعلقة بحلفت، فيكون /٧/ ما يليها مقسما به لا عليه، ألا ترى أنك تقول: حلفت على زيد وحلفت بزيد، فيختلف المعنى.
ومن الدليل على أن الباء متعلقة بحلفت لا بمررت، قولك: حلفت بزيد (لأمرن به)، وحلفت على زيد لأمرن به، فلو كانت الباء معلقة بمررت لم تقل: به، لأن الفعل لا يتعدى بباءين، ألا ترى أنك إذا قلت: بزيد مررت، استغنيت عن أن تقول: به، وكذلك إذا قلت: أزيدا مررت به؟ لم تأت بالباء في زيد.
قال أحمد: وأما قول أبي العباس: إن معنى نبئت عن زيد غير معنى نبئت زيدا، وقال: لأن نبأت زيدا معناه أعلمت زيدا.
(قال أحمد): فهذا المفعول إذا رد الفعل إلى ما لم يسم فاعله قام مقام الفاعل، وتعدى عن أن يدخل في المفعول الثاني إذا سميت الفاعل، وفي المفعول الأول إذا لم يسم الفاعل، فتقول: نبأت زيدا عن عمرو وبكذا وكذا، ونبئت عن زيد بكذا وكذا.
1 / 50
وكذلك إذا عديتها، وحذفت (عن) قلت: نبئت زيدا كذا وكذا، ونبأت زيدا عمرا يفعل كذا وكذا، وأعلمت زيدا يفعل كذا وكذا.
فإن كان دخول الحرف مع أعلمت يجعل لها وجها غير وجهها إذا تعددت بغير حف، كان الأمر كذلك في نبئت، لأنه قد زعم أن معناها واحد، وإن كان معناهما واحدا في وجهيهما، أعني في دخول الحرف وخروجه منهما، فكذلك هو في نبئت، فلا تجد لها معنى غير ما ذكره سيبويه، لأن الإنباء هو الإخبار ونحوه، ولم يوجدنا محمد غير قوله في معنى حدثت إذا جئت بالحرف، أعني حرف الجر، فهل حدثت وأخبرت وخبرت وأنبئت وأعلمت، إلا متقاربة المعاني، وإن كانت العرب قد خالفت بين ألفاظها، وعدت بعضها بغير حرف وبعضها بحرف، وكيفما صرفت هذه الكلمة، أعني نبئت، فلا وجه للإنباء غير الإخبار والإعلام، فقولك: نبئت زيدا يفعل، ونبئت عن زيد أ، هـ يفعل، واحدا في المعنى وإن اختلف اللفظ والتقدير، وكذلك أعلمت عن زيد أن يفعل /٨/ وأعلمت زيدا يفعل.
مسألة [٥]
[قال محمد:] ومن ذلك قوله في باب كان وأخواتها، قال سيبويه: (وقد يكون لكان موضع آخر يقتصر فيه على الاسم، فتقول: قد كان عبد الله، أي: خلق، وقد كان الأمر، أي: وقع.
قال محمد بن يزيد: واحتج بقوله:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
1 / 51
ولا حجة له في هذا لو رفع، لأن أشنعا يكون خبرا، وتكون (كان) متعدية.
قال أحمد: روى سيبويه هذا البيت على وجهين:
إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
أضمر اليوم في (كان)، كأنه قال: إذا كان اليوم يوما ذا كواكب، وزعم أ، بعضهم يرويه:
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
ومعنى (كان) في الوجهين معنى وقع، و(يوما) منصوب على الحال، لأن الاسم المنكور لما كان يجوز أن يكون حالا صلح أ، يقع في موضع الحال، تقول: جاء زيد رجلا صالحا، ومثله قول الله ﷿: ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم﴾، التقدير، كبرت الكلمة كلمة خارجة.
والوجه الآخر الذي وقع فيه يوم ذو كواكب، فهو أيضا على وقع، وأشنع حال.
فأما قول محمد: إنه ينصب (أشنع) على [أنه] خبر كان فهو غلط، لأنه لم يخبر بكان ها هنا عن أمر ثابت مستقر به، ألا ترى أنك إذا قلت: كان اليوم الذي تعلم عظيما، فقد أخبرت عن يوم (واقع) معلوم، قال: والشاعر لم يرد هذا، إنما أراد به، إذا وقع يوم هذه حاله فعل وصنع، ولم يخبرنا عن أمر واقع، لأن (إذا) في معنى الجزاء، ويوم زمان يحدث.
ولم يخالفه محمد في أن هذا الوجه قسم من أقسام كان، ولا في أن الشاهد يحتمل ذلك، وإنما فسر البيت على ما رآه محتملا غيره، وعلى أنه ليس بشاهد قاطع على المعنى الذي أراده سيبويه دون غيره، لما رأى (أشنعا) منصوبا، وكان غيره محتملا أن يكون خبرا
1 / 52
لا حالا، ولعمري لو أخبر به عن أمر مستقر ثابت، ولكنه أخبر به عن أمر يمكن حدوثه وفيه حرف الشركة، فمن ها هنا جعله سيبويه حالا ولم يجعله خبرا.
مسألة [٦]
ومن ذلك قوله في باب ما يخبر فيه عن النكرة بالنكرة، قال سيبويه: (ولا يجوز لأحد أن تضعه في موضع واجب، لأن وقع /٩/ في كلامهم نفيا عاما.
قال محمد: وليس كما قال، إنما خلا أحد أن يقع موقع الجميع، فإن كان في الإيجاب موضع يكون الواحد فيه على معنى الجميع وقع أحد فيه كما يقع في النفي نحو قولك: جاءني اليوم كل أحد، وأول أحد لقيت زيد، وعلى هذا قال الأخطل:
حتى بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا
قال أحمد: قول محمد: إن أحدا يقع في الإيجاب إذا كان واحدا في معنى جميع يلزمه أن يقول: جاءني مئة أحد، ولقيت عشرين أحدا، فهذا واحد في معنى جميع، وليس يجيزه أحد، فقد دل (ذلك) على فساد قوله.
فأما ما استشهد به في الجوار، وهو أول أحد لقيت زيد، فلا يجوز هذا الكلام إلا أن يجعل أحدا في معنى واحد كما قال الله: ﴿قل هو الله أحد﴾ وليس أحد ها هنا هو
1 / 53
الذي يقع في النفي، وإن كان اشتقاقهما واحدا، لأن العرب وضعتهما وضعا مختلفا لمعنى، وكذلك قول الأخطل، معناه إلا على واحد لا يعرف القمر.
هذا الوجه الجيد، وقد يجوز فيه وجه آخر، وهو أن يضع لفظ الإيجاب على لفظ النفي، لأنه إيجاب لذلك المنفي، وهذا تقابل اللفظ، ولو ابتدأه موجبا على غير نفي يقدمه لم يجز، ألا ترى أنه لو قال: خفيت على أحد لا يعرف القمر لم يجز.
وكذلك المسألة الأخرى، جاءني اليوم كل أحد، لا يجوز هذا الكلام إلا أن يكون جوابا لقول قائل: ما جاءني اليوم أحد، فيقول المخبر: بل جاءني اليوم كل أحد، فيفسر القائل لفظه، والتفسير الأول الذي جاء به القرآن أجود.
مسألة [٧]
ومن ذلك قوله في باب (ما): إن الخبر جاء في التقديم منصوبا في قول الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذا ما مثلهم بشر
قال محمد: وليس هذا موضع ضرورة، والفرزدق لغته الرفع في التأخير، ومن نصب الخبر مؤخرا رفعه مقدما، ولكنه نصبه على قوله: فيها قائما رجل، وهو قول أبي عثمان المازني، والخبر مضمر.
قال أحمد: قول محمد: (وليس هذا موضع ضرورة)، لا حجة فيه على سيبويه، إنما هي رواية عن العرب، والمحاجة في [مثل] هذا على العرب، أن يقول لهم /١٠/: لم أعربتم
1 / 54
الكلام هكذا من غير ضرورة لحقتكم؟ أو يكذب سيبويه في روايته، وهو عنده بخلاف هذه الحال، وإذا كان غير مكذب عنده فيما يرويه، وكانت العرب غير مدفوعة عما تقوله مضطرة بالوزن أو غير مضطرة، فعلى النحوي أن ينظر في علته وقياسه، فإن وافق قياسه وإلا رواه على أنه شاذ عن القياس، ولم يكن للاحتجاج بالضرورة وغيرها معنى، إذا كان الناقل ثقة.
فأما قوله: والفرزدق لغته رفع الخبر مؤخرا فكيف ينصب مقدما؟ فليس ذلك بحجة، لأن الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها، وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها، ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد، ألا ترى أن سيبويه قد يستشهد ببيت واحد لوجوه شتى، وإنما كذلك على حسب ما غيرته العرب بلغاتها، لأن لغة الراوي من العرب شاهد كما أن قول الشاعر شاهد إذا كانا فصيحين، فمن ذلك ما أنشده سيبويه لزهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
ورواه أيضا، ولا سابقا شيئا، في مواضع أخر، وكذلك أنشد قول الأعور الثني:
فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها
1 / 55
بالرفع والجر، وهذا كثير.
وأما قول أبي عثمان، إنه على الحال المقدمة على النكرة، فلا يجوز، والذي ذهب إليه شر مما هرب منه، لأنه ليس بجائز عند النحويين: قائما رجل، على إضمار الخبر، ولأن يكون الخبر منصوبا مقدما كما كان مؤخرا أقرب إلى الجواز على ضعفه مما قال المازني، لأنه أتى بحال ولم يأت بعامل فيها، وأتى بمبتدأ ولم يأت بخبر له، وحذف في موضع لا يعلم المخاطب به ما حذف منه، ولا دلالة فيه على المحذوف، وهذا لا يجوز، لأن فيه إلباسا، وذلك وإن كان ضعيفا فلا إلباس فيه، أعني تقدم الخبر منصوبا، وما كان (ضعيفا) ولا لبس فيه فهو أجود مما جمع الضعف والإلباس.
قال محمد بن يزيد: واحتج أبو الحسن الأخفش في هذا الباب في /١١/ جواز العطف على عاملين بآيتين ليس في واحدة منهما عطف على عاملين، وذلك قوله ﷿: ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة﴾ وقوله: ﴿لعلي هدى أو في ضلال مبين﴾، قال فعطف على (في) وعلى اللام، واللام ليست عاملة، ولكن قرأ بعض القراء: ﴿واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات﴾ فنصب آيات، وعطف على عاملين.
قال أحمد: القول في هاتين الآيتين ما قال محمد بن يزيد، ليس فيهما عطف على
1 / 56
عاملين، ولكن الشاهد في الآية التي جاء بها محمد بن يزيد، وهو قوله ﷿: ﴿وتصريف الرياح آيات﴾، لأن (آيات) عطف على اسم إن، وتصريف عطف على ما عملت فيه (في) وهو مخفوض، فقد عطف بالواو على منصوب ومخفوض، والعاملان (إن) و(في)، والمعطوفان (تصريف) و(آيات).
فأما قول الأخفش: إنه عطف على (في) وعلى اللام في قوله ﷿ ﴿لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ فظاهر الفساد، لأن (في) لم يعطف علها شيء يلي حرف العطف، وهي معطوفة على ما قبلها.
مسألة [٨]
ومن ذلك قول سيبويه في باب ما يجرى مما يكون ظرفا مجرى زيد ضربته، قال: ويجوز في الشعر، زيد ضربت، وهو ضعيف، ثم احتج بأبيات ليس في واحد منها ضرورة، والجواز فيها بمنزلته في الكلام، لأنه لا يكسر الشعر، وذكر في الكلام مثل ذلك ووثقه، على أن الشعر في هذا والكلام واحد، والأبيات:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
وقوله:
فأقبلت زحفا على الركبتين ... فثوبا نسيت وثوبا أجر
وقوله:
1 / 57
ثلاث كلهن قتلت عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود
وفي الكلام، شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى، وخبرنا أبو عمر الجرمي بهذا كله منصوبا، وسمعنا بعض ذلك منصوبا من الرواة.
قال أحمد: لم يزد محمد في هذه /١٢/ المسألة على أن حكى قول سيبويه، وجعل حكايته لقوله ردا عليه، ذلك أن سيبويه قال في إثر بيت أبي النجم: (وهو ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر، لأن النصب لا يكسر البيت، ولا يخل به ترك إظهار الهاء).
وهذا الذي قاله محمد ورأى أنه رد عليه إذ قال: وليس في هذه الأبيات ضرورة، وإنها في الكلام والشعر واحد، هو قول سيبويه، وإنما زعم سيبويه أنه سمع ذلك مرفوعا في الشعر، ولم يقل: إنه لا يجوز إلا في الشعر، وسماعه إياه مرفوعا في الشعر من الرواة كسماعه شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى، مرفوعا في الكلام الذي جاء مثلا، وإنما يحتج لمثل هذا الشاذ بمثل مشهور أو شعر مروي، ولو جاء به مسألة محكية لم تقبل، بل قد رد عليه محمد بن يزيد ومعه هذه الشواهد المشهورة، والشعر قبيح به في الضرورة وغير الضرورة.
1 / 58
وأما قول محمد بن زيد: إن الجرمي سمع ذلك نصبا، فقد قال سيبويه: إن النصب أكثر وأعرف، وأغنى بذلك عن الاحتجاج عليه بقول الجرمي، ألا ترى إلى قوله: إن الرفع ضعيف، إلا أنه سمعه من العرب، شبهوه بالذي رأيت زيد، في حذف الهاء من الصلة، وحذفها من الصلة أجود، ويتلوها في الجودة حذفها من الصفة كقولك: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت، وحذفها من الخبر وهي تنوي أضعف الوجوه، وقد روى أهل الكوفة والبصرة هذه الشواهد رفعا كما رواها سيبويه، فهذا وجه الرواية.
وأما طريق المقايسة، فإذا أجازت العرب أن تنصب المفعول إذا تقدم وقد شغلت الفعل عنه بالهاء كقولهم: زيدا ضربته، فعديل هذا في الحاشية الأخرى أن تجيز زيد ضربت، فترفعه ولم تشغل الفعل عنه بالهاء في اللفظ كما نصبته وقد شغلت الفعل بالهاء، لأنهما حاشيتان متحاذيتان في الجواز، وإن كانت إحداهما أكثر في كلام العرب من الأخرى.
فأما في المقايسة فهما سواء، لأن سبيل الكلام ووجهه أن يرفع المفعول إذا تقدم وقد شغلت عنه الفعل، ونصبه ليس بالوجه، وكذلك وجه /١٣/ الكلام أن تنصب المفعول المقدم إذا لم تشغل عنه الفعل، ورفعه ضعيف على نية الهاء.
مسألة [٩]
ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب يحمل فيه الاسم على اسم يبنى عليه الفعل
1 / 59
مرة ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل، قال: تقول: زيد ضربته وعمرو كلمته، إن حملت عمرا على زيد، وإن حملته على الهاء نصبته، قال: وعلى هذا يقول: القائل: من رأيت؟ فتقول: زيدا رأيته، تحمله على كلام المبتدئ ليكون العمل من وجه واحد، واحتج بأن القائل يقول: من رأيت؟ فتقول: زيدا، على كلامه، فهذا ها هنا نظير العطف فيما صدر به، وزعم أن القائل إذا قال: من رأيته؟ لم يجز أن تقول في الجواب إلا بالرفع، فتقول: زيد رأيته، إلا في قول من قال في الابتداء: زيدا رأيته، وقد نقض قوله في العطف: إن حملته على الهاء نصبت، والقول إن حملته على الهاء أن تقول: زيدا رأيته كما قلت: زيد ضربته وعمرا كلمته حين حملته على الهاء، وهذا قول أبي الحسن الأخفش، وهذا قياس قول سيبويه في العطف.
وقال سيبويه: قولك: من رأيته؟ إنما هو بمنزلة قولك: من منطلق؟ ومن رسول؟ فلذلك أجري ما بعده مجرى ما ليس قبله مفعول، وهذا يلزمه في الأول، لأن قولك: زيد ضربته وعمرو كلمته، ضربته في موضع منطلق وما أشبهه، وقد طعن في هذا الموضع أبو إسحاق الزيادي وأبو الحسن الأخفش، وزعما أنه لا يجوز زيد ضربته وعمرا كلمته، ولا يكون في عمرو إلا الرفع، لأن قوله: زيد ضربته جملة لها موضع، ويريد إذا أضمر قبل عمرو فعلا أن يعطفه، وهي جملة لا موضع لها على تلك، وإنما صار لقولك: ضربته موضع، لأنها في موضع خبر الابتداء، فموضعها الرفع، والمعطوف لا موضع له، لأنه بمنزلة زيد لقيته، ولا موضع للجملة، والقياس الذي لا يجوز غيره ما قالا، لأنه لا يجوز أن تعطف جملة لا
1 / 60