إهداء
طلاق على الجبل
من القاتل؟
انفجار الديناميت
خطأ في الإرسال
انتقام بعد الموت
على ممر ستيلفيو
الساعة والرجل «والانضباط في اللعب»
قصة بروملي جيبرتس
ليس وفقا للقواعد
شمشون العصر الحديث
اتفاق على التغيير
التحول
شبح الأوراق النقدية
البديل
الخروج من تون
لحظة درامية
شرفتان في فلورنسا
فضح أمر اللورد ستانسفورد
التطهير
إهداء
طلاق على الجبل
من القاتل؟
انفجار الديناميت
خطأ في الإرسال
انتقام بعد الموت
على ممر ستيلفيو
الساعة والرجل «والانضباط في اللعب»
قصة بروملي جيبرتس
ليس وفقا للقواعد
شمشون العصر الحديث
اتفاق على التغيير
التحول
شبح الأوراق النقدية
البديل
الخروج من تون
لحظة درامية
شرفتان في فلورنسا
فضح أمر اللورد ستانسفورد
التطهير
انتقام!
انتقام!
تأليف
روبرت بار
ترجمة
نبيل العدلي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إهداء
إلى دكتور جيمس سامسون.
طلاق على الجبل
في بعض الطبائع البشرية، تختفي درجات الألوان؛ فلا تتبقى إلا الألوان الأولية الخام. لقد كان جون بودمان دائما عند أحد طرفي النقيض. ولم يكن ذلك على الأرجح ليعني الكثير لو لم يتزوج من امرأة ذات طابع مطابق لطبعه تماما.
لا شك أن في هذا العالم زوجة مناسبة تماما لكل رجل، وزوجا مناسبا تماما لكل امرأة؛ لكن المرء لا يتسنى له الاختلاط إلا مع بضع مئات من البشر، ولا يعرف منهم عن قرب إلا دزينة أو أقل، ولا يصادق في الأغلب إلا واحدا أو اثنين ممن يعرفهم عن قرب، ولو أخذنا في الحسبان أيضا أن في هذا العالم ملايين من البشر، لبات من اليسير أن ندرك أن أغلب الظن أنه منذ خلقت هذه الأرض لم يجتمع الرجل المناسب بالمرأة المناسبة له قط. الاحتمالات الرياضية لحدوث لقاء كهذا ضئيلة، وإلا لما وجدت محاكم الطلاق. الزواج - في أفضل الأحوال - يقوم على التنازل من جانب الطرفين، وإذا جمع الزواج بين شخصين ليس من طبعهما التنازل، جاءت المتاعب تحث الخطى.
في حياة هذين الزوجين الشابين لم يكن هناك مجال للتنازل. وكانت النتيجة الحتمية إما الحب أو الكره، وفي حالة السيد بودمان وقرينته كانت النتيجة كرها من النوع المرير والمتغطرس جدا.
في بعض أرجاء العالم، يعد عدم توافق الطابع بين الزوجين مبررا كافيا لاستصدار الحكم بالطلاق، لكن إنجلترا لا تعتد بهذا المبرر الدقيق؛ لذا يرتبط الزوجان برابطة لا يكسرها - بخلاف الموت - إلا ارتكاب الزوجة لجريمة، أو ارتكاب الزوج لجريمة وتعامله معها بقسوة. لا يمكن أن يوجد ما هو أسوأ من هذا الوضع، وما فاقم الأمر بشدة أن حياة السيدة بودمان لم يكن فيها ما يؤخذ عليها، كما لم يكن زوجها أسوأ حالا، بل كان أفضل حالا، من أغلب الرجال. لكن ربما انطبق عليهما هذا الوصف إلى حد كبير، قبل أن ينتفي عنهما في مرحلة ما؛ فقد وصل جون بودمان إلى حالة عقلية قرر فيها التخلص من زوجته مهما كلفه الأمر. لو كان فقيرا لكان الأرجح أنه سيهجرها، لكنه كان ثريا، وليست تعاسة الحياة الزوجية سببا كافيا لدفع الرجل إلى التخلي بإرادته عن تجارة رائجة.
عندما يفرط عقل الرجل في التفكير في موضوع واحد بعينه، لا يمكن لأحد أن يتخيل المدى الذي قد يذهب إليه. العقل أداة هشة، وحتى القانون يقر بسهولة فقدانه للاتزان. يزعم أصدقاء بودمان - إذ كان له أصدقاء - أن عقله لم يكن متزنا؛ بيد أن أحدا لم يشكك في حقيقة ما حدث، لا أصدقاؤه ولا أعداؤه، وباتت تلك الواقعة أبرز أحداث حياته، وأكثرها شؤما.
لن يعرف أبدا إن كان جون بودمان في كامل قواه العقلية أم مسه الجنون عندما عقد العزم على قتل زوجته، بيد أن الوسيلة التي ابتكرها لجعل الأمر يبدو كحادث كانت تنم عن مكر لا مراء فيه. لكن المكر غالبا ما يكون صفة في عقل غاب عنه صوابه.
كانت السيدة بودمان تعرف كيف أن وجودها يزعج زوجها بشدة، إلا أنها كانت - مثله - عنيدة، وكان كرهها له أشد مرارة من كرهه لها، هذا إن كان لمرارة الكره درجات. لقد كانت تصاحبه أينما ذهب، وربما لو لم تفرض عليه وجودها طوال الوقت وفي كل المناسبات، لما خطرت له قط فكرة قتلها. لذا عندما أخبرها باعتزامه قضاء شهر يوليو في سويسرا، لم تقل شيئا، وأخذت تعد العدة للرحلة. وفي هذه المناسبة لم يبد هو اعتراضا، بخلاف عادته، وهكذا انطلق الزوجان الصامتان إلى سويسرا.
يوجد بالقرب من قمم الجبال فندق يقوم على رف صخري يعلو أحد الأنهار الجليدية الكبرى. يبلغ ارتفاع الفندق عن سطح البحر ميلا ونصف الميل، ويوجد بمفرده في ذلك المكان، ويجري الوصول إليه من خلال طريق مرهق ومتعرج يمتد عبر الجبل لمسافة ستة أميال. تطل شرفات الفندق على منظر رائع للقمم المكسوة بالجليد والأنهار الجليدية، وتحيط بالفندق عدة مسارات جميلة تؤدي إلى وجهات تتباين درجة خطورتها.
كان جون بودمان يعرف الفندق جيدا، وكان قد تعرف جيدا على محيطه في أيام أسعد من هذه الأيام. والآن، عندما خطرت له فكرة القتل، ظلت بقعة محددة تبعد عن هذا الفندق بميلين تلح على عقله. كانت بقعة تطل على كل شيء، ويحيط بها سور منخفض متداع. وذات صباح استيقظ في الساعة الرابعة وانسل من الفندق من دون أن يلاحظه أحد؛ قاصدا تلك البقعة التي يعرفها أهل المنطقة باسم هانجنج أوتلوك. أرشدته ذاكرته إلى المكان الصحيح. وخاطب نفسه بأن هذا هو المكان المقصود بالضبط. كان الجبل ينحدر من ورائها انحدارا مخيفا. ولم يكن بالجوار أي سكان يشرفون على المكان. وكان نتوء صخري يحجب الفندق البعيد عن تلك البقعة. وكانت الجبال التي تحف الوادي من الناحية الأخرى أبعد من أن تسمح لأي سائح عابر أو ساكن مقيم برؤية ما كان يجري في هذه البقعة. وبدت البلدة الوحيدة الموجودة بعيدا في الأسفل في الوادي كمجموعة من لعب الأطفال التي على شكل منازل.
كانت نظرة واحدة من فوق السور المتداعي صعبة بوجه عام حتى على أكثر الزوار تمالكا لأعصابه. لقد كان المطل من فوق السور لا يرى إلا هوة تنحدر إلى الأسفل لمسافة تتجاوز الميل، وكان القاع يتكون من صخور حادة وأشجار قصيرة بدت من بعيد - ومن وراء الغمام الأزرق - كشجيرات.
خاطب نفسه قائلا: «هذا هو المكان المناسب، وصباح الغد هو الموعد المناسب.»
خطط جون بودمان لجريمته ببرود وثبات وإصرار كتخطيطه لأي صفقة كان قد أبرمها في البورصة يوما. ولم تأخذه بضحيته الغافلة عما خطط لها أي رحمة. وقد حمله كرهه لها إلى مدى بعيد.
وفي صباح اليوم التالي، قال لزوجته بعد أن تناولا الإفطار: «سأتمشى وسط الجبال. أتودين مرافقتي؟»
أجابت باقتضاب: «نعم.»
قال: «حسنا، إذن، سأكون جاهزا للانطلاق في الساعة التاسعة.»
كررت كلامه قائلة: «سأكون جاهزة للانطلاق في الساعة التاسعة.»
وعند الوقت المحدد، خرجا من الفندق معا، وكانت خطته أن يعود إليه وحده بعد وقت قصير. لم يتحدث أحدهما إلى الآخر بكلمة واحدة في طريقهما إلى هانجنج أوتلوك. كان الطريق الذي يحيط بالجبال مستويا تقريبا؛ إذ لم يتجاوز ارتفاع بقعة هانجنج أوتلوك عن سطح البحر ارتفاع الفندق عنه بفارق كبير.
لم يكن جون بودمان قد وضع خطة محددة لما سيفعله عندما يصلان إلى المكان المقصود. قرر أن يدع ذلك للظروف. ومن حين إلى آخر كان يراوده هاجس مخيف بأنها قد تتمسك به وربما تأخذه معها إلى الهاوية. ووجد نفسه يتساءل ما إذا كانت تراودها هي أي هواجس عن المصير الذي ينتظرها، وكان أحد أسباب التزامه الصمت خشيته أن تظهر ارتعاشة في صوته فيثير هذا ريبتها. اعتزم أن يكون تصرفه حادا ومفاجئا بحيث لا تتمكن من إنقاذ نفسها ولا من سحبه معها. لم يساوره قلق من صراخها في هذه البقعة النائية. لم يكن لأحد أن يصل إلى تلك البقعة إلا من الفندق، ولم يغادر الفندق أحد هذا الصباح، ولم يخرج أحد حتى لمشاهدة النهر الجليدي، رغم أنها إحدى أكثر النزهات سهولة وجاذبية من هذا المكان.
ومن الغريب أنه عندما أصبحت هانجنج أوتلوك على مرأى منهما، توقفت السيدة بودمان وارتعدت. نظر إليها السيد بودمان بجانب عينيه، وتساءل مجددا عما إذا كان الشك قد تسرب إليها. لا يمكن لأحد أن يفقه الرسائل اللاشعورية المتبادلة بين عقلي شخصين يتمشيان معا.
سألها بغلظة: «ما الخطب؟» ثم أردف: «هل تشعرين بالتعب ؟»
ردت وهي تلهث، منادية إياه باسمه الأول لأول مرة منذ سنوات: «جون، ألا تعتقد أن الأمور كانت ستختلف لو كنت أكثر لطفا معي منذ البداية؟»
رد دون أن ينظر إليها: «يبدو لي أن أوان مناقشة ذلك قد فات.»
قالت مرتعشة: «أنا نادمة على الكثير من الأشياء.» ثم أردفت: «ألديك أنت ما تندم عليه؟»
رد: «كلا.»
قالت زوجته وقد عادت إلى صوتها القسوة المعتادة: «رائع للغاية.» ثم أضافت: «كنت أحاول فقط أن أمنحك فرصة. تذكر ذلك.»
نظر إليها بارتياب.
وقال: «ماذا تعنين بمنحي فرصة؟ لا أريد منك فرصة ولا أي شيء آخر. الرجل لا يقبل شيئا ممن يكره. أعتقد أن مشاعري تجاهك لا تخفى عليك. نحن عالقان معا، وقد فعلت كل ما في وسعك لجعل الرابطة التي تجمعنا لا تطاق.»
ردت وعيناها تنظران إلى الأرض: «نعم، نحن عالقان معا ... عالقان معا!»
كررت هذه الكلمات همسا وهما يخطوان الخطوات القليلة المتبقية قبل أن يصلا إلى المكان المراد. وجلس بودمان على السور المتداعي. في حين تركت هي عصا التسلق الخاصة بها على الصخر، وظلت تسير بعصبية ذهابا وإيابا وتقبض يديها وتبسطها. نظم زوجها أنفاسه بينما اقتربت اللحظة الرهيبة.
خاطبها صائحا: «لماذا تمشين هكذا كحيوان بري؟» ثم أردف: «تعالي واجلسي بجواري واهدئي.»
رمقته بنظرة لم يرها من قبل في عينيها؛ نظرة تنم عن جنون وكره.
وقالت له: «أنا أمشي كحيوان بري لأني حيوان بري بالفعل. تحدثت منذ قليل عن كرهك لي، لكنك رجل، وكراهيتك لا تضارع كراهيتي. رغم سوء حالك وشدة رغبتك في كسر الرابطة التي تجمعنا، ثمة أشياء أعرف أنك لا تزال تربأ عنها. أعرف أن فكرة القتل لم تخالجك، لكنها خالجتني. سأريك يا جون بودمان إلى أي حد أكرهك.»
قبض الرجل على الحجر الذي كان بجواره متوترا، وجفل على نحو ينم عن شعوره بالذنب عندما ذكرت القتل.
مضت تقول: «نعم، لقد أخبرت كل أصدقائي في إنجلترا أنني أعتقد أنك تنوي قتلي في سويسرا.»
صاح: «يا إلهي!» ثم أضاف: «كيف أمكنك قول شيء كهذا؟» «أقول لك ذلك لأريك إلى أي حد أكرهك، وما أنا على استعداد لفعله في سبيل الانتقام منك. لقد أبلغت القائمين على الفندق بمخاوفي، وعندما غادرنا تبعنا اثنان منهم. حاول صاحب الفندق إثنائي عن مرافقتك. ولن يلبث الرجلان أن يصلا إلى حيث يمكنهما رؤية بقعة أوتلوك هذه بعد لحظات قليلة. أخبرهما، إن اعتقدت أنهما سيصدقانك، أن الأمر كان مجرد حادث.»
طفقت المرأة المجنونة تمزق من مقدمة فستانها بعض الشرائط التزيينية وتبعثرها في المكان. وهب بودمان واقفا على قدميه وهو يصيح: «ماذا تفعلين؟» وقبل أن يتحرك نحوها تسلقت الجدار وتدلت منه ثم قفزت إلى الهاوية مطلقة صيحة حادة.
وبعد لحظة ظهر رجلان بسرعة من جانب الصخر، فوجدا السيد بودمان واقفا وحده. ورغم ارتباكه أدرك أنه حتى لو قال الحقيقة ما كان سيصدقه أحد.
من القاتل؟
لم تكن السيدة جون فوردر تتوقع أي شر. عندما سمعت ساعة الردهة تدق معلنة تمام التاسعة، كانت تغني بابتهاج وهي تتجول في أنحاء المنزل لتقوم بواجباتها الصباحية، ولم تتخيل أن الساعة التي دخلت للتو ستكون أكثر ساعات حياتها شؤما، وأن كارثة مزلزلة ستصيبها قبل أن تدق الساعة مرة أخرى. كان زوجها الشاب يعمل في الحديقة كعادته كل صباح قبل أن يتوجه إلى مكتبه. توقعت أن يكون مستعدا للانطلاق إلى وسط المدينة في أي لحظة. سمعت قرقعة فتح البوابة الأمامية، وبعدها مباشرة سمعت بعض الكلمات الغاضبة. وساورها القلق، وهمت بتفقد ما يجري عبر الستائر المفتوحة للنافذة الناتئة الموجودة في مقدمة المنزل، عندما سمعت صوت إطلاق نار حادا من مسدس، فهرعت نحو الباب وقد انقبض قلبها بشدة. ولما فتحت الباب، رأت شيئين؛ أولا: زوجها ملقى على وجهه على العشب دون حراك، وقد انثنت ذراعه اليمنى تحته؛ وثانيا: رجلا يحاول فتح قفل البوابة الأمامية باضطراب شديد، ويحمل في يده مسدسا لم يزل الدخان ينبعث منه.
كثيرا ما تغير أبسط الأمور مسار حياة البشر. كان القاتل قد أحكم غلق البوابة الأمامية خشية من أي تطفل محتمل. وكان ارتفاع السور يحجب رؤية المارة للحديقة، غير أن هذا الارتفاع الذي صعب أي تطفل جعل أيضا هروب الرجل مستحيلا. لو كان قد ترك البوابة مفتوحة لكان من الممكن أن يهرب دون أن يراه أحد، لكن ما جرى فعلا هو أن الصرخات التي أطلقتها السيدة فوردر أثارت أهل الحي، فاحتشدوا قبل أن يتمكن القاتل من الهرب، وكان في وسط المحتشدين شرطي، فتعذر الهرب. كانت رصاصة واحدة فقط قد أطلقت، لكن ضيق المساحة جعلها تخترق جسد الضحية. لم يلق جون فوردر حتفه، لكنه كان ملقى على العشب مغشيا عليه. حمل إلى داخل المنزل، واستدعي طبيب الأسرة. واستدعى الطبيب متخصصا آخر ليعاونه، وتشاورا معا في الأمر. هدأ الرجلان قليلا من روع الزوجة الذاهلة. لقد كان تطور الحالة غير مؤكد وكان ثمة أمل في التعافي الكامل، لكنه كان أملا ضعيفا.
وفي الوقت ذاته كان القاتل قيد الاحتجاز، وتعلق مصيره على نحو كبير بمصير ضحيته. إذا مات فوردر، فسيرفض إطلاق سراحه بكفالة؛ أما إذا ظهرت عليه بوادر تعاف، فسيحظى مهاجمه بحرية مؤقتة على الأقل. لم يكن أحد في المدينة كلها - باستثناء الزوجة - يتمنى تعافي فوردر أكثر من الرجل الذي أطلق النار عليه.
كان وراء الجريمة تناحر سياسي بائس؛ مجرد صراع على المناصب. كان يرى القاتل، والتر رادنور، أن له الحق في المطالبة بأحد المناصب، وعزا إخفاقه في مسعاه، سواء أكان هذا صحيحا أم لا، إلى دسائس جون فوردر الخفية. وعندما غادر منزله ذلك الصباح لم تكن نيته دون شك قتل خصمه، لكنهما ما إن التقيا حتى تشابكا في معركة كلامية، وكان المسدس جاهزا في جيب بنطاله الخلفي.
كان رادنور يحظى بدعم سياسي قوي؛ لذا لم يتخيل أن يهجر تماما هكذا بعد ذيوع الخبر في المدينة بأنه أسقط ضحيته على أرض الحديقة. لم تكن الحياة مصونة عندما حدثت تلك الواقعة بقدر ما صارت بعدها، وكان الكثير من الرجال الذين يمشون في الطرقات في حرية تامة قد سبق لهم إطلاق النار على ضحاياهم. إلا أن هذه الواقعة انتهكت القواعد المتعارف عليها في الاغتيال. لقد أطلق رادنور النار على رجل أعزل في حديقة منزله الأمامية وعلى مرأى من زوجته تقريبا. ولم يمنح ضحيته فرصة للنجاة. لو كان فوردر يحمل في أي من جيوبه مسدسا ولو كان فارغا من الطلقات، لما بدا وضع رادنور بهذا السوء؛ لأنه في هذه الحالة كان من الممكن أن يدفع أصدقاؤه بأنه أطلق النار دفاعا عن النفس، كما كانوا بلا شك سيدعون أن الرجل المحتضر أبرز سلاحه أولا. لذا أدرك رادنور وهو في سجن المدينة أن تقارير حزبه السياسي هي أيضا لم تكن في صالحه، وأن أهل المدينة كانوا مذعورين مما اعتبروه جريمة ارتكبت بدم بارد.
مع مرور الوقت بدأ بصيص من الأمل يلوح من جديد لرادنور وأصدقائه القليلين. لم يزل فوردر بين الحياة والموت. وبات من المؤكد في نظر الجميع أنه سيموت متأثرا بإصابته، لكن القانون كان يشترط أن يموت الرجل بعد مهاجمته بوقت محدد ليحاكم مهاجمه بتهمة القتل. وشارفت المدة التي حددها القانون على الانقضاء ولم يمت فوردر بعد. كما خدم الوقت رادنور بطريقة أخرى. لقد هدأ السخط الشديد الذي أثارته الجريمة. وقد وقعت أحداث فظيعة أخرى استحوذت على الاهتمام الذي كان منصبا على مأساة فوردر، فمنح ذلك أصدقاء رادنور المزيد من التشجيع.
مرضت السيدة فوردر زوجها بعناية فائقة، وحداها الأمل في تعافيه. كان قد مر أقل من عام على زواجهما، ولم يزد مرور الوقت كلا منهما إلا حبا للآخر. أصبح حبها لزوجها الآن شبيها بالهوس، وخشي الأطباء إخبارها بأن الحالة ميئوس منها تماما؛ فقد توقعوا انهيارها عصبيا وجسديا إذا علمت بالحقيقة. كان كرهها للرجل الذي سبب كل هذا البؤس عميقا وشديدا للغاية، حتى إنها عندما تحدثت ذات مرة مع أخيها، المحامي البارز في المنطقة، رأى في عينيها نظرة الجنون، وتخوف من الأمر بشدة. أصر الأطباء، خوفا من اعتلال صحتها، على أن تمارس المشي كل يوم لبعض الوقت، لكنها رفضت الخروج من البوابة، وظلت تتمشى وحدها ذهابا وإيابا في ممر طويل في الحديقة المهجورة. وذات يوم سمعت من وراء السور محادثة أفزعتها.
سمعت صوتا يقول: «هذا هو المنزل الذي يسكنه فوردر، الذي أطلق والتر رادنور النار عليه. حدثت الجريمة وراء هذا السور مباشرة.»
سأل صوت آخر: «حقا؟» ثم أردف: «أعتقد أن قلق رادنور سيكون بالغا هذا الأسبوع.»
رد الأول: «بالتأكيد، لا شك أن القلق يؤرقه منذ البداية.»
قال الثاني: «هذا صحيح. لكن إذا انقضى هذا الأسبوع وفوردر على قيد الحياة، فسيفلت رادنور من حبل المشنقة. أما إذا مات فوردر هذا الأسبوع، فسيتعقد الأمر بالنسبة إلى قاتله؛ لأن هذه القضية سينظر فيها القاضي برنت في هذه الحالة، وهو معروف في جميع أنحاء الولاية بإصدار أحكام الإعدام. وهو لا يتهاون مع الجرائم المرتكبة بدوافع سياسية، ولا شك أنه سيحكم على رادنور بالإعدام، وأنه سيقنع المحلفين بذلك. أقول لك إن الرجل المحتجز سيكون أسعد من في هذه المدينة صباح الأحد القادم إذا ظل فوردر حيا، وأعتقد أن أصدقاءه مستعدون لدفع الكفالة، وأنه سيطلق سراحه في وقت مبكر من صباح الإثنين.»
مضى الشخصان الخفيان في سبيلهما بعد أن أشبعا فضولهما بتفقد المنزل، وتركا السيدة فوردر واقفة مكانها تحدق في الفراغ، ويداها مقبوضتان بشدة من فرط التوتر.
وبعد أن تمالكت نفسها أسرعت إلى المنزل وأرسلت رسولا يستدعي أخاها. ولما وصل وجدها تذرع الغرفة جيئة وذهابا.
قال أخوها: «كيف حال جون اليوم؟»
أجابته: «لم يزل كما هو، لم يزل كما هو.» ثم أضافت: «يبدو لي أنه يضعف كلما مر الوقت. ولم يعد باستطاعته التعرف علي.»
سألها: «وما رأي الطبيبين؟»
ردت: «أوه، كيف لي أن أخبرك؟ أعتقد أنهما يخفيان الحقيقة عني، لكن عندما يأتيان في المرة القادمة سأصر على معرفة رأيهما. لكن أخبرني: هل سيفلت قاتل جون من العقاب حقا إذا مر هذا الأسبوع وهو لم يزل على قيد الحياة؟»
سألها: «ماذا تعنين بإفلاته من العقاب؟»
قالت: «وفقا لقانون الولاية، إذا عاش زوجي حتى نهاية هذا الأسبوع، فلن يحاكم الرجل الذي أطلق النار عليه بتهمة القتل، أليس كذلك؟»
رد المحامي: «لن يحاكم بتهمة القتل، لكنه قد لا يحاكم بتهمة القتل حتى لو مات جون الآن. لا شك أن أصدقاءه سيحاولون إظهار القضية كقضية قتل غير متعمد، أو سيحاولون إنقاذه منها بحجة الدفاع عن النفس. ومع ذلك لا أعتقد أن فرصة نجاحهم في ذلك كبيرة؛ خاصة أن قضيته سينظر فيها القاضي برنت، لكن إذا ظل جون على قيد الحياة بعد الساعة الثانية عشرة يوم السبت القادم، فقانون الولاية يقضي بأن رادنور لا يمكن أن يحاكم بتهمة القتل العمد في هذه الحالة. وعندئذ ستكون أقصى عقوبة قد يحكم عليه بها هي عقوبة السجن لعدد من السنوات في أحد سجون الولاية، ولكن لن يضره ذلك كثيرا. إن وراءه دعما سياسيا قويا، وإذا فاز حزبه بانتخابات الولاية القادمة - وهو ما يبدو مرجحا - فلا شك أن الحاكم سيعفو عنه وسيطلق سراحه قبل انقضاء العام.»
قالت الزوجة بانفعال: «هل من الممكن أن يحدث عوار بهذه الفداحة في تطبيق أحكام العدالة في ولاية تدعي التحضر؟»
هز المحامي كتفيه. وقال: «لا أعول كثيرا على تحضرنا.» ثم أضاف: «هذه الأشياء تحدث كل عام، بل عدة مرات في العام.»
أخذت الزوجة تذرع الغرفة مجددا، في حين حاول أخوها أن يهدئ من روعها.
صاحت: «إنه لأمر فظيع ... إنه لأمر مخز أن ترتكب جريمة بشعة كهذه ثم لا يعاقب الفاعل!»
قال المحامي: «أختي العزيزة، لا تتركي الثأر يسيطر على عقلك هكذا. وتذكري أنه مهما حدث للمجرم الذي سبب كل هذا البؤس، فلن يمكن أن يجلب ذلك لزوجك نفعا ولا ضررا.»
التفتت إلى أخيها فجأة وصاحت: «الثأر! أقسم بالله إني سأقتل هذا الرجل بيدي إذا أفلت من العقاب!»
أمسكت حكمة المحامي لسانه عن قول أي شيء آخر لأخته وهي في حالتها المزاجية الراهنة، وبعد أن فعل ما كان بوسعه للتهدئة من روعها، انصرف.
وعندما أتى صباح يوم السبت، واجهت السيدة فوردر الطبيبين.
قالت: «أريد أن أعرف بالتحديد إن كانت هناك فرصة ولو ضئيلة لتعافي زوجي أم إن الفرصة معدومة. إن الترقب يقتلني ببطء، ويجب أن أعرف الحقيقة، ويجب أن أعرفها الآن.»
نظر كل من الطبيبين إلى الآخر. ثم قال أكبرهما: «أعتقد أنه لم يعد هناك جدوى من تركك في هذا الترقب. ليس هناك أي أمل في تعافي زوجك. ربما يعيش لأسبوع أو لشهر، أو قد يموت في أي لحظة.»
قالت السيدة فوردر بهدوء أذهل الرجلين اللذين كانا يعرفان مدى انفعالها الشديد خلال الفترة الماضية: «شكرا لكما أيها السيدان.» ثم أضافت: «أشكركما. أعتقد أنه كان من الأفضل أن أعرف.»
جلست طوال فترة ما بعد الظهيرة بجوار سرير زوجها الغائب عن الوعي الذي يتنفس بصعوبة بالغة. كانت معركته الطويلة مع الموت قد غيرت بشدة ملامح وجهه. استأذنت الممرضة لمغادرة الغرفة لدقائق قليلة، فوافقت في صمت الزوجة التي كانت تنتظر هذا الطلب. وعندما انصرفت الممرضة، قبلت السيدة فوردر زوجها والدموع تسيل من عينيها.
همست: «جون، أنت تعرف الوضع، وستتفهم الأمر.» ثم ضمت وجه زوجها إلى صدرها، وعندما عاد رأسه إلى الوسادة، كان قد اختنق.
استدعت السيدة فوردر الممرضة وأرسلت في طلب الطبيبين اللذين كانا يتوقعان ما حدث. •••
نزل خبر موت فوردر على الرجل القابع في سجن المدينة كالصاعقة. وأدرك كل من كانوا في قاعة المحكمة أن الرجل هالك لا محالة فور أن فرغ القاضي برنت من مواجهة القاتل بتهمته الشنيعة. ولم يلبث المحلفون أكثر من عشر دقائق في المداولة، وأسهم إعدام والتر رادنور أكثر من أي حدث آخر وقع في الولاية في جعل الحياة في هذا الكومونولث أكثر أمنا من ذي قبل.
انفجار الديناميت
جلس دوبريه إلى إحدى الطاولات المستديرة في مقهى فيرنون، وأمامه كأس من مشروب الأفسنتين الذي كان يرتشف منه بين الفينة والأخرى. ونظر إلى الجادة من الباب المفتوح فرأى شرطيا يرتدي زيه الرسمي ويمشي ذهابا وإيابا بانتظام كالبندول. انطلقت منه ضحكة خفيفة لمرأى ذلك المظهر من مظاهر القانون والنظام. كان هذا المقهى مشمولا بحماية الحكومة. وكان دوبريه ينتمي إلى فئة من الأشخاص أقسمت على إخفاء هذا المقهى من الوجود؛ لذا كان الشرطي الذي يشبه الضباط العسكريين يذهب ويئوب على الرصيف لمنع حدوث هذا، بحيث يرى كل المواطنين الشرفاء أن الحكومة تحمي رعاياها. من وقت لآخر كان بعض الأشخاص يعتقلون لإطالة تسكعهم حول المقهى؛ كان هؤلاء أبرياء بالطبع، وكانت الحكومة لا تلبث أن تدرك ذلك فتطلق سراحهم. من النادر أن يتصرف أي مجرم حقيقي على نحو يلفت النظر. وكان معظم المعتقلين ممن جذبهم الفضول إلى المكان. وكان يقول أحدهم للآخر: «هناك ألقي القبض على هيرتسوج الشهير.»
المجرم الحقيقي يدلف إلى المقهى في هدوء، ويطلب مشروب الأفسنتين، كما فعل دوبريه. ويظل الشرطي يمشي ذهابا وإيابا يراقب الأبرياء. وهكذا يكون الحال.
كان في المقهى القليل من الزبائن؛ إذ كان الناس يخشون انتقام أصدقاء هيرتسوج. وتوقعوا أن يفجر المقهى في أحد الأيام العادية، ففضلوا أن يحتسوا القهوة أو الكونياك الخاص بهم في مكان آخر عندما يأتي اليوم المنتظر. وكان من الواضح أن إم سون، مالك المقهى، قد جلب على نفسه وعمله المتاعب عندما أدلى للشرطة بمعلومات حول مكان هيرتسوج، رغم أن المقهى أصبح أشهر مقاهي المدينة فجأة، وأنه بات الآن يتمتع بحماية الحكومة.
قلما نظر دوبريه إلى مالك المقهى الجالس إلى مكتبه، وهكذا الحال بالنسبة إلى النادل الذي ساعد في إخضاع هيرتسوج منذ أسبوع. وبدا أكثر اهتماما بمراقبة الشرطي الذي ظل يذرع المكان أمام الباب، ومع ذلك فقد ألقى نظرة خاطفة ذات مرة على الشرطي الآخر الذي كان يجلس في مؤخرة المقهى حيث لا يكاد أحد يراه، يدقق في كل من يدخلون، خاصة إذا كانوا يحملون طرودا من أي نوع. كان المقهى محميا جيدا، وبدا السيد إم سون الجالس إلى مكتبه راضيا عن الحماية التي يحظى بها.
عندما كان الزبائن يفدون إلى المقهى كان من النادر أن يجلسوا إلى الطاولات المعدنية المستديرة، بل كانوا يقصدون البار المغطى بالزنك مباشرة، ويطلبون مشروباتهم ويشربونها وهم واقفون، ويبدون متعجلين للانصراف. وكانوا يحيون السيد إم سون بالإيماء برءوسهم، وكانوا على ما يبدو من قدامى المترددين على المقهى الذين يخشون أن يظنهم قد تخلوا عنه في محنته، ومع ذلك، كان الجميع مرتبطين بمهام ترغمهم على سرعة المغادرة. ابتسم دوبريه ابتسامة فاترة وهو يراقب ذلك كله. كان هو الرجل الوحيد الجالس إلى طاولة. ولم يخش الانفجار. لقد كان يعلم أن رفاقه معتادون على كثرة الكلام وقلة الفعل. إنه لم يحضر الاجتماع الأخير، فقد كانت لديه أسباب قوية للشك في أن الشرطة دست عملاء لها بين ظهرانيهم، كما أن صديقه وقائده هيرتسوج لم يحضر اجتماعات قط هو الآخر. لذا صعب على الشرطة الإيقاع به. كان هيرتسوج رجل أفعال لا أقوال. قال لدوبريه ذات مرة إن رجلا واحدا ثابت العزم كتوما يمكنه أن يفعل بالمجتمع أكثر مما يمكن لكل الجمعيات السرية التي سبق أن تكونت، وكانت مسيرته الحافلة دليلا حيا على صحة هذا القول. لكنه الآن في السجن، ولم ينته به المطاف فيه إلا بغدر إم سون. دارت بذهن دوبريه هذه الأفكار، فرمق مالك المقهى وصر أسنانه.
قام الشرطي الجالس في مؤخرة منطقة الاستقبال - ربما لشعوره بالوحدة - واتجه إلى الباب، وأومأ إلى رفيقه الذي يمشي ذهابا وإيابا بلا انقطاع. توقف الآخر للحظة وتحدثا. وبينما كان الشرطي يعود إلى مكانه، خاطبه دوبريه قائلا: «تعال لتشرب معي.»
أجابه الشرطي وهو يغمز بعينه: «ليس أثناء العمل.»
قال دوبريه في هدوء: «أيها النادل، أحضر لي إناء من البراندي. من نوع «فين شامبين».»
وضع النادل الإناء الصغير الموسوم على الطاولة وكأسين. ملأهما دوبريه. ونظر الشرطي حوله سريعا ثم ابتلع محتوى أحدهما سريعا وتمطق. في حين أخذ دوبريه يحسو من الكأس الأخرى على مهل وسأل الشرطي: «هل تتوقعون حدوث أي متاعب هنا؟»
أجاب الشرطي بنبرة واثقة: «لا نتوقع شيئا.» ثم أردف: «كل ما في الأمر أن هناك كلاما يدور.»
قال دوبريه: «هذا ما ظننت.»
قال الشرطي وهو يبتسم ابتسامة خفيفة: «لقد عقدوا اجتماعا منذ عدة أيام؛ اجتماعا سريا.» ثم أضاف: «تحدثوا كثيرا. وسيفعلون أشياء رائعة. وقد كلف رجل منهم بتنفيذ مهمة معينة.»
سأل دوبريه: «وهل قبضتم عليه؟»
رد الشرطي: «أوه، كلا. إننا نراقبه فقط. إنه أكثر رجال هذه المدينة رعبا الليلة. نتوقع أن يأتي إلينا ويخبرنا بكل شيء عن المهمة، لكننا نأمل ألا يفعل ذلك. فنحن نعلم عن المهمة أكثر مما يعلم.»
قال دوبريه: «أظن ذلك؛ لكن لا بد أن هذا كله أضر بعمل إم سون كثيرا.»
رد الشرطي: «لقد قضى عليه تماما في الوقت الراهن. الناس جبناء. لكن الحكومة ستعوضه من صندوق مالي سري. ولن يخسر شيئا.»
سأل دوبريه: «هل يمتلك المبنى بأكمله أم المقهى فقط؟»
رد الشرطي: «المبنى بأكمله. إنه يؤجر الغرف العلوية، لكن كل المستأجرين تقريبا تركوا المكان. ومع ذلك أعتبر هذا المكان الأكثر أمنا في المدينة كلها. كلهم جبناء، أعني مفجري الديناميت هؤلاء، ولا شك أنهم سيضربون ضربتهم في مكان ليس عليه حراسة شديدة. إننا نعرفهم جيدا جميعا، وفور أن يأتي أحدهم للتسكع حول المكان ومعاينته خلسة سيقبض عليه. إنهم أكثر جبنا من أن يخاطروا بحريتهم بالاقتراب من هذا المكان. الأمر يختلف عن محاولة أحدهم ترك علبة من صفيح متصلة بفتيل إشعال في ركن مظلم دون أن يراه أحد. إن أي أحمق يمكنه فعل ذلك.»
قال دوبريه: «أتعتقد إذن أن الوقت مناسب لاستئجار غرفة هنا؟ إنني أبحث عن غرفة في الحي لاستئجارها.»
رد الشرطي: «أفضل ما يمكنك فعله أن ترتب ذلك مع إم سون. يمكنك إبرام صفقة جيدة معه الآن، وستكون في أمان تام.»
قال دوبريه: «يسعدني أنك قلت ذلك؛ سأتحدث إلى إم سون الليلة وأعاين الغرف غدا. ما رأيك في كأس أخرى من البراندي؟»
رد الشرطي: «لا، شكرا لك، علي العودة إلى مكاني. فقط أخبر إم سون بحديثنا هذا إن استأجرت غرفة عنده.»
قال دوبريه: «سأفعل. طابت ليلتك.»
دفع دوبريه فاتورته، وأعطى النادل إكرامية كبيرة. كان المالك سعيدا بأن يسمع برغبة أحدهم في استئجار إحدى غرفه. فقد كانت هذه بادرة لبدء انتعاش سوقه من جديد، وتحدد بينهما موعد في اليوم التالي.
جاء دوبريه في الموعد المحدد، وأخذه القائم على المكان في جولة بالمبنى. كانت الغرف الخلفية مظلمة للغاية ، والنوافذ على بعد أقدام قليلة من الحائط المقابل. وكانت الغرف السفلية الأمامية مليئة بالضجيج. قال دوبريه إنه يحب الهدوء لأنه طالب. ولاقت غرفة أمامية في الطابق الثالث إعجابه، فاستأجرها. كان يعلم أهمية الحفاظ على ود القائم على المكان الذي سيتجسس عليه في كل الأحوال، فدفع له مبلغا أكثر مما ينبغي بقليل حتى لا يثير الريبة. فالإفراط ليس أقل سوءا من التقتير، وكان دوبريه يعرف ذلك جيدا.
حرص على أن تكون لنافذته إطلالة مباشرة على الباب الأمامي للمقهى، ولكنه بعد أن أصبح وحده الآن وأغلق عليه بابه، تفقد الموقع بدقة أكبر. كانت فوق الباب الأمامي للمقهى مظلة تحجب رؤيته للرصيف والشرطي الذي لا يفتر عن المشي ذهابا وإيابا عليه. عقد ذلك الأمر. لكنه تذكر أنها ترفع عند غروب الشمس. كانت فكرته الأولى عند استئجار الغرفة أن يسقط الديناميت من نافذة الطابق الثالث إلى الرصيف، لكنه كلما فكر في هذه الخطة قل اقتناعه بها. كانت كالأشياء التي يمكن لأي أحمق فعلها كما قال الشرطي. كان الأمر يتطلب بعض التفكير. كما أن أسوأ ما قد ينتج عن إسقاط الديناميت على الرصيف أن ينفجر أمام المقهى وربما يقتل الشرطي المتجول أو أحد المارة الأبرياء، لكنه لن يقتل العجوز سون ولا النادل الذي تطوع بالمساعدة في القبض على هيرتسوج.
كان دوبريه رجلا منظما. كان صادقا إلى حد كبير في قوله إنه طالب. وهو الآن قد عكف على دراسة الحالة كما لو كانت مسألة رياضية.
أولا: لا بد من تفجير الديناميت داخل المقهى. ثانيا: ينبغي تنفيذ المهمة ببراعة تمنع إثارة الشكوك حول الفاعل الحقيقي. ثالثا: لن يكون الانتقام انتقاما بحق إذا تسبب في مقتل الرجل الذي أشعل فتيل الانفجار أو خلف دليلا يؤدي إلى القبض عليه.
جلس دوبريه إلى طاولته، ووضع يديه في جيبيه، ومد ساقيه، وقطب حاجبيه، واستعد للتفكير في حل للمعضلة. من السهل أن يحمل إلى المقهى حقيبة يد مليئة بالمواد المتفجرة. كان معروفا في المكان، لكن ليس بوصفه صديقا لهيرتسوج. لقد كان زبونا ومستأجرا، ولهاتين الصفتين كان مأمون الجانب. لكنه لا يستطيع ترك الحقيبة هناك، وإذا ظل معها فسيرتد انتقامه عليه. يمكنه أن يسلم الحقيبة للنادل ويخبره أنه سيأخذها في وقت لاحق، لكن النادل سيتساءل حينئذ حول سبب عدم تركه الحقيبة للقائم على المبنى ليرسلها إلى غرفته، هذا إلى جانب أن النادل كان شديد الارتياب. لقد كان يدرك وضعه المؤسف. ولم يكن يجرؤ على ترك مقهى فيرنون الآن بعد أن أصبح رجلا مستهدفا. فهو في مقهى فيرنون يتمتع بحماية الشرطة، أما إذا غادره إلى أي مكان آخر فلن يتمتع بأي حماية تفوق حماية أي مواطن عادي؛ لذا ظل في مقهى فيرنون باعتباره أهون الشرين. لكنه كان يراقب كل من يدخله بتمحيص فاق فيه الشرطي نفسه.
أدرك دوبريه أيضا وجود صعوبة أخرى في خطة حقيبة اليد. إن الديناميت يجب إشعاله بفتيل أو بآلية كآلية الساعة. والفتيل يصدر دخانا، ولن يلبث من يلمس بيده حقيبة بها آلية كآلية الساعة أن يشعر بحركة بداخل الحقيبة. ومن يسمع لأول مرة صوت اهتزاز ذيل الأفعى ذات الجرس الذي يشبه صوت اهتزاز حبات البازلاء الجافة في قرنها يبتعد من فوره بالغريزة، ولو لم يعرف شيئا عن الأفاعي. إلى أي مدى إذن قد يتسبب نادل شديد الارتياب، أعصابه متحفزة للاستجابة إلى الصوت الهادئ القاتل الذي تصدره آلية الديناميت، في إفساد كل شيء فور لمسه الحقيبة بيده؟ نعم، أقر دوبريه في نفسه على مضض بأن فكرة الحقيبة ليست عملية. وكان يرى أن نتيجتها الموت أو السجن.
ما العمل إذن بعد أن استبعد فكرتي الفتيل وآلية الساعة؟ هناك نوع من القنابل ينفجر بالاصطدام، وكان دوبريه قد صنع عددا منها بنفسه. يمكن لأي رجل أن يقف في منتصف الشارع ويقذفها إلى داخل المقهى من الباب المفتوح. لكنه قد يخطئ المدخل. كما أن الشارع حتى ساعة إغلاق المقهى يكون مضاء تماما كما في النهار. ثم إن الشرطي كان يراقب كل المارة في منتصف الطريق بعناية. فسلامته الشخصية هي أيضا تعتمد على ذلك. وكيف يمكن أن يهرب الرجل الذي سيقذف القنبلة من منتصف الشارع عند تحقيق النتيجة المرجوة؟ لو لم تكن الجادة بهذا الاتساع لأمكن لأي شخص أن يطلق قنبلة مزودة بديناميت من غرفة أمامية على الجانب الآخر من الشارع إلى المقهى كما يفعلون باستخدام المدافع، لكن هناك ...
فجأة صاح دوبريه: «يا إلهي!» ثم أضاف: «وجدتها!»
ضم ساقيه الممدودتين، وتوجه إلى النافذة وفتحها، وحدق في الرصيف بالأسفل لوهلة. عليه أن يقيس المسافة أثناء الليل، بل في وقت متأخر منه؛ هكذا خاطب نفسه. اشترى بكرة سلك لونه أشبه ما يكون بلون واجهة المبنى. وفتح نافذته، وبعد منتصف الليل أخرج السلك ودلاه، فقدر أنه يصل إلى أعلى باب المقهى تقريبا. انسل إلى الأسفل بهدوء وخرج من المبنى دون أن يغلق الباب بالمزلاج. كان الباب المؤدي إلى الغرف عند أقصى طرف المبنى، في حين كان باب المقهى في المنتصف بين نافذتين كبيرتين. وعندما وصل إلى مقدمة المبنى، أوشك خفقان قلبه على التوقف عندما جاء من عند باب المقهى صوت يقول: «ماذا تريد؟ وماذا تفعل هنا في هذه الساعة المتأخرة؟»
كان الشرطي قد أصبح جزءا لا يتجزأ من الرصيف في ذهن دوبريه حتى نسي أنه يمكث عليه ليلا ونهارا. شهق دوبريه دون صوت، ثم عاد قلبه إلى الخفقان.
وقال في هدوء: «كنت أبحث عنك.» وضيق عينيه فلاحظ أن السلك كان يتدلى فوق رأس الشرطي على بعد قدم واحدة تقريبا وهو يقف في المدخل المظلم.
واصل دوبريه كلامه: «كنت أبحث عنك. ألا تعرف أي ... أي صيدلية مفتوحة في هذه الساعة المتأخرة؟ لدي ألم حاد في أسناني يمنعني النوم، وأريد أن أشتري شيئا يسكنه.»
رد الشرطي: «أوه، الصيدلية التي عند المنعطف تظل مفتوحة طوال الليل. اقرع الجرس الموجود على اليمين.»
قال دوبريه: «يؤسفني أن أزعجهم لسبب تافه كهذا.»
رد الشرطي متفلسفا: «هذا هو ما خلقوا لأجله.»
قال دوبريه: «هل تمانع في الوقوف عند الباب الآخر حتى أعود؟ سأعود بأقصى سرعة. لا أريد أن أترك الباب مفتوحا بلا حماية، ولا أريد غلقه لأن القائم على المبنى يظنني في الداخل، ويخشى فتح الباب لأي شخص يقرع الجرس في وقت متأخر. أنت تعرفني بالطبع؛ رقم غرفتي هو 16.»
رد الشرطي: «نعم، تذكرتك الآن، على الرغم من أني لم أعرفك في أول الأمر. سأقف عند الباب حتى تعود.»
ذهب دوبريه إلى الصيدلية عند المنعطف واشترى قنينة من قطرات تسكين ألم الأسنان من الشاب الناعس الذي كان خلف المنضدة. أيقظه وطلب منه توضيح كيفية استخدام العلاج. ثم عاد وشكر الشرطي وصعد إلى غرفته. وبعد ذلك بلحظات كان السلك قد قص من عند النافذة وسحب إلى الداخل في هدوء.
جلس دوبريه يلتقط أنفاسه لعدة لحظات.
وخاطب نفسه: «يا لك من أحمق! خطأ آخر كهذا أو خطآن يكفيان للقضاء عليك. هذه نتيجة تركيز التفكير كله على جزء واحد من المهمة. لو كان السلك قد انخفض قدمين إضافيتين للامس أنفه. أنا متأكد أنه لم يره؛ فأنا نفسي لم أكد أراه وأنا أبحث عنه. من الجيد أني ألهمت أن أطلب منه حراسة الباب الجانبي. لكن علي فيما بعد أن أفكر جيدا في كل خطوة قبل تنفيذها. كان هذا درسا قيما.»
ومع مواصلته للتجهيزات هاله عدد الأشياء التي عليه أن يفكر فيها لتنفيذ خطته التي بدت له بسيطة، وأدرك أن إغفال أي منها قد يهدد المهمة بالكامل بالفشل. كانت خطته بسيطة جدا. كل ما كان عليه فعله هو ربط عبوة ديناميت في طرف سلك طوله مناسب، ثم، ليلا وقبل أن يفتح المقهى أبوابه، إلقاؤها من نافذته بحيث تدخل العبوة من الباب المفتوح وترتطم بسقف المقهى وتنفجر. فكر في بداية الأمر أن يمسك طرف السلك بيده من النافذة المفتوحة، ولكنه عندما أنعم التفكير أدرك أنه إذا حدث في خضم الارتباك الطبيعي لحظة التنفيذ أن سحب السلك أكثر من اللازم أو مال به إلى الأمام أكثر من اللازم، فقد تصطدم العبوة بواجهة المبنى فوق باب المقهى، أو بالرصيف. لذا ثبت مسمارا متينا في عتبة النافذة وربط به طرف السلك. كان قد جعل العبوة المتفجرة حساسة للصدمات لدرجة كبيرة حتى أدرك أنه إذا ربط السلك حولها وألقاها في ظلمة الليل فقد تنفجر عند شد السلك بعنف، أي أن يحدث الانفجار في الهواء فوق الشارع. لذا، ثبت زنبركا لولبيا بين العبوة والسلك ليمتص الصدمة الناتجة عن اندفاع العبوة عندما يشتد السلك وبهذا يمنع انفجارها قبل الأوان. رأى أن أصعب ما في المهمة هو اعتماد كل جزء فيها على ثبات أعصابه هو ودقة توجيهه في اللحظة الحاسمة، وأن أبسط خطأ في الحساب قد يسبب انحراف العبوة إلى اليمين أو اليسار وعدم دخولها من الباب. لم تكن لديه إلا فرصة واحدة، ولا مجال للتدريب قبل التنفيذ. ومع ذلك، قال دوبريه المتفلسف في نفسه بأن الناس لو سمحوا للتفاصيل الفنية الصغيرة بإعاقة مساعيهم، لما تحقق في هذا العالم شيء يستحق العناء. كان متيقنا بأنه سيرتكب خطأ ما صغيرا يفسد كل خططه، لكنه قرر أن يبذل قصارى جهده ويقبل النتائج وأن يتمالك نفسه بقدر المستطاع.
وبينما وقف أمام النافذة في الليلة المشئومة ممسكا بالعبوة حاول أن يتذكر هل أغفل أي شيء أو ترك أي أدلة دون أن يخفيها أم لا. لم ينبعث من غرفته ضوء، لكن نار المدفأة كانت مشتعلة، وألقت بظلال مهتزة على الحائط المقابل.
تمتم قائلا: «ثمة أربعة أشياء علي فعلها؛ أولا: سحب السلك، ثانيا: إلقاؤه في نار المدفأة، ثالثا: نزع المسمار، رابعا: غلق النافذة.»
أسعده أن لاحظ أن نبض قلبه لم يتسارع عن المعدل الطبيعي. وخاطب نفسه وهو يتنهد: «أعتقد أني متمالك لأعصابي، لكن علي ألا أبالغ في ذلك عندما أنزل إلى الأسفل. ثمة الكثير من الأشياء التي ينبغي أن أفكر فيها في الوقت ذاته.» أجال نظره في الشارع لأعلى ولأسفل. كان الرصيف خاليا. انتظر حتى مر الشرطي من أمام الباب. سيأخذ عشر خطوات قبل أن يعكس اتجاه مشيه في المنطقة التي يحرسها. وبينما كان ظهر الشرطي لباب المقهى، ألقى دوبريه بقنبلته في ظلمة الليل.
ثم تراجع على الفور وراقب المسمار. تماسك المسمار عندما شد السلك. وبعد لحظة اهتز المبنى بأكمله كرجل ثمل يترنح، ويهز كتفيه. فزع دوبريه عندما سقطت على طاولته قطعة كبيرة من الجص محدثة دويا عاليا. وجاء من الأسفل صوت كالرعد المكتوم. اهتزت الأرض تحت قدميه بفعل الانفجار. وتهشم زجاج النافذة، وشعر بأن بالهواء يصطدم بصدره كما لو كان أحدهم قد ضربه عليه.
نظر إلى الخارج للحظة. ووجد أن الانفجار أطفأ مصابيح الشارع في الجهة المقابلة. وعم أمام المقهى ظلام دامس، بعد أن كانت الجادة كلها مليئة بالضوء منذ لحظة. وارتفعت من أسفل المبنى سحابة من الدخان.
قال دوبريه في نفسه، بينما كان يسحب السلك بسرعة: «أربعة أشياء.» لقد وجد طرفه مهترئا. ونفذ الأشياء الثلاثة الأخرى بسرعة أيضا.
عم صمت غريب، لكن صوت الانفجار لم يزل يرن في أذنه رنينا ثقيلا. انسحق الجص تحت حذائه مصدرا صوتا واضحا وهو يمشي نحو باب الغرفة ويمد يده نحوه. شد الباب لفتحه فوجد في ذلك بعض الصعوبة. كان محكم الغلق بشدة لدرجة أنه ظنه كان مغلقا بالقفل، ثم ارتعد من الخوف عندما تذكر أن الباب لم يكن مغلقا بالقفل طوال وقوفه أمام النافذة ممسكا بالعبوة.
خاطب نفسه: «لا بد أني أغفلت شيئا آخر كهذا وسيؤدي إلى انفضاح أمري، يا ترى ماذا يكون؟»
وفي النهاية تمكن من فتح الباب. كانت أضواء الردهة مطفأة، فأشعل عود ثقاب، ونزل إلى الأسفل. ظن أنه سمع بعض الأنين. وعندما نزل وجد القائم على المبنى مكوما في إحدى الزوايا.
سأله دوبريه: «ما الخطب؟»
صاح الرجل: «أوه، يا إلهي! يا إلهي! كنت أعلم أنهم سيفعلونها. لقد ابتلع الانفجار المكان كله!»
قال دوبريه: «انهض، أنت لم يصبك مكروه، وتعال معي ولنر هل يمكننا تقديم أي مساعدة.»
قال الرجل وهو يئن: «أخشى أن يقع انفجار آخر.»
قال دوبريه: «هذا هراء! لا يقع انفجاران متتاليان أبدا. هيا بنا!»
وجدا صعوبة في الخروج، وفي النهاية خرجا من فتحة في الجدار وليس من الباب. كانت الردهة السفلية قد دمرت.
توقع دوبريه أن يجد حشدا من الناس، لكنه لم يجد أحدا. لم يدرك قصر الوقت الذي انقضى منذ وقوع الكارثة. كان الشرطي جاثيا على يديه وركبتيه في الشارع يحاول النهوض ببطء كمن يفيق من حلم ما. هرع دوبريه إليه وساعده في النهوض.
سأله دوبريه: «هل أصبت؟»
رد الشرطي وهو يفرك رأسه مرتبكا: «لا أعلم.»
قال دوبريه: «كيف حدث ذلك؟»
رد الشرطي: «أوه، لا تسألني. فجأة صدر صوت كالرعد، ولا أتذكر بعد ذلك إلا أني كنت ملقى على وجهي في الشارع.»
سأل دوبريه: «هل رفيقك في الداخل؟»
رد الشرطي: «نعم؛ هو وإم سون وزبونان.»
قال دوبريه بنبرة إحباط: «ماذا عن النادل؟ ألم يكن في الداخل؟»
لم يلاحظ الشرطي نبرة الإحباط، فأجابه: «أوه، والنادل بالطبع.»
قال دوبريه بنبرة رضا: «حسنا، لندخل لمساعدتهم.» بدأ الناس الآن يحتشدون، لكنهم ابتعدوا بعض الشيء عن المقهى. وقالوا بأصوات ذاهلة: «ديناميت! ديناميت!»
جاءت فرقة من الشرطة فجأة من مكان ما. وأبعدوا المحتشدين إلى الوراء لمسافة أكبر.
سأل رئيس الشرطة: «ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟»
أجاب الشرطي: «إنه صديق لنا، إنه يسكن في المبنى.»
قال رئيس الشرطة: «حسنا.»
قال دوبريه: «كنت على وشك الدخول للبحث عن صديقي الضابط الذي كان في المقهى يمارس عمله.»
قال رئيس الشرطة: «حسنا، تعال معنا.»
وجدوا الشرطي فاقد الوعي تحت الركام وقد انكسرت إحدى ساقيه وكلتا ذراعيه. وساعد دوبريه في حمله إلى عربة الإسعاف. وكان إم سون يتنفس عندما وجدوه، لكنه مات في الطريق إلى المستشفى. أما النادل فقد مزقه الانفجار إلى أشلاء.
شكر رئيس الشرطة دوبريه على مساعدته.
اعتقل كثيرون، لكن مفجر مقهى فيرنون لم يعرف قط، ورجح في النهاية أن أحد الأوغاد ترك حقيبة مملوءة بمادة متفجرة مع النادل أو المالك.
خطأ في الإرسال
انتصر الرأي العام وثبتت وجاهته. لقد تهافتت حجة الجنون، وحكم على ألبرت بريور بالإعدام شنقا حتى الموت، وليتغمده الرب برحمته. اتفق الجميع على أن الحكم كان عادلا، ومع ذلك فقد صار الجميع يذكرونه بعد الحكم عليه ويقولون: «يا له من مسكين!»
كان ألبرت بريور شابا انساق بشدة وراء نزواته حتى أهلكته. كانت أسرته بالكامل - أبوه وأمه وأخوه وأختاه - قد تركته يفعل ما يحلو له حتى ظن أن العالم كله سيكون على المنوال نفسه. بيد أن العالم كان له رأي آخر. ولسوء الحظ كان أول من عارض إرادته العنيدة امرأة؛ بل فتاة. لقد رفضت أن يكون بينها وبينه أي صلة، وأخبرته بذلك. فثارت ثائرته بالطبع، ولكن لم يأخذ رفضها له على محمل الجد. فما من فتاة عاقلة يمكنها الإصرار على رفض شاب مثله بكل ما يحمل المستقبل له. لكنه عندما سمع بخطبتها لعامل التلغراف الشاب بوين، تخطت ثورته كل الحدود. وقرر أن يهدد بوين حتى يجعله يترك المكان، وذهب إلى مكتب التلغراف لهذا الغرض، غير أن بوين كان يعمل في المناوبة الليلية، فلم يكن موجودا. ابتسم عامل المناوبة النهارية وقال - دون أن يعرف تبعات قوله - إن بوين على الأرجح سيكون موجودا في باركر بليس، حيث تعيش الآنسة جونسون مع عمتها؛ إذ كان والداها متوفيين.
صر بريور أسنانه وانصرف. ووجد الآنسة جونسون في المنزل، لكنها كانت بمفردها. كان المشهد كله عاصفا، وانتهى بمأساة. أطلق عليها النار أربع مرات، وترك الرصاصتين المتبقيتين لنفسه. لكنه كان جبانا ووغدا، وعندما حان الوقت لإطلاق الرصاصتين على نفسه، تراجع وآثر الهرب. وعندئذ وجهت إليه الكهرباء ضربتها الأولى. لقد ساعدت في إرسال أوصافه إلى أرجاء البلاد، فألقي القبض عليه على بعد خمسة وعشرين ميلا من منزله. واقتيد إلى بلدته في المقاطعة، ثم ألقي به في السجن.
حزم الرأي العام أمره، ودائما ما يثبت رجحانه ووجاهته. وكان أول مظهر واضح من مظاهره تجمعا مخيفا من المواطنين الساخطين خارج السجن. تهامس المحتشدون مصرين على موقفهم بدلا من رفع عقيرتهم بالعبارات الغاضبة، ولكن هذا بالتحديد ما جعلهم أكثر خطورة. رفع رجل من بين الحشد قبضته نحو السماء، وتدلى منها حبل. ولما رآه المحتشدون أصدروا صيحة متزامنة تشبه عويل قطيع من الذئاب، وانقضوا على بوابات السجن يطرقون عليها بقوة. وأخذوا يصيحون: «أعدموه! أعطنا المفاتيح يا مدير السجن!»
كان رئيس الشرطة المهتاج يعرف واجبه، لكنه تردد في أدائه. فمن الناحية النظرية، كان قوام الحشد مجموعة من الغوغاء الخارجين عن القانون، لكن الواقع العملي كان يقول إنهم كانوا من أهل بلدته وجيرانه وأصدقائه، وقد أثار ارتكاب جريمة نكراء سخطهم. كان يمكنه أن يأمر بإطلاق النار عليهم، وأغلب الظن أن الأمر كان سيطاع. كان من الممكن أن يقتل واحد أو اثنان أو دزينة منهم، وكانوا يستحقون هذا المصير من الناحية النظرية، لكن من أجل ماذا كانت مذبحة قانونية تماما كهذه ستقع؟ لإنقاذ، لبعض الوقت فقط، حياة لا قيمة لها لبائس يستحق أي مصير قد يحمله له المستقبل. لذا، كف رئيس الشرطة يديه، وتأسف لوقوع أزمة كهذه خلال مدة توليه لمنصبه، ولم يفعل شيئا؛ بينما تعالى الطرق الصاخب الذي أحدثه المحتشدون بشدة حتى سمعه السجين المرتجف في زنزانته، وتفصد منه عرق بارد عندما أدرك مطلب المحتشدين. كانت جرعة من القصاص في صورته الخام.
سأل مدير السجن: «ماذا أفعل؟» ثم أضاف: «أأعطيهم المفاتيح؟»
رد رئيس الشرطة بيأس: «لا أعلم ما العمل.» ثم أردف: «هل تعتقد أنه سيجدي الحديث معهم؟»
رد مدير السجن: «على الإطلاق.»
قال رئيس الشرطة: «يتعين علي أن أطالبهم بالتفرق، وإذا رفضوا ذلك، علي أن آمر بإطلاق النار عليهم.»
قال مدير السجن بتجهم: «هذا هو القانون.»
سأل رئيس الشرطة: «ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني؟» وكان من الواضح أن ذلك المسئول الصارم لم ينتخب بالتصويت الشعبي في هذه المقاطعة.
رد مدير السجن: «أنا؟» ثم أضاف: «كنت سأسلمهم المفاتيح وأتركهم يشنقونه. سيريحك هذا من المتاعب. أما إذا أمرت بإطلاق النار عليهم، فمن المؤكد أنك ستقتل الرجال الذين يحثونهم على العودة إلى المنزل الآن. دائما ما يكون وسط الغوغاء رجل بريء، ويكون هو الشخص الذي يتعرض للأذى في كل مرة.»
قال رئيس الشرطة: «حسنا إذن، يا بركنز، أعطهم أنت المفاتيح، لكن أرجوك لا تخبرهم أني من أخبرك بذلك. سيندمون غدا على ما يفعلون. تعرف أني منتخب، أما أنت فمعين، وليس عليك أن تقلق حيال ما يقوله الناس.»
قال مدير السجن: «لا تقلق، سأتحمل المسئولية.»
لكنه لم يعطهم المفاتيح. كان الطرق والصياح قد توقفا. لقد وقف شاب ذو وجه شاحب وعينين حمراوين فوق الحائط الحجري المحيط بالسجن. ثم رفع يده فعم الصمت على الفور. أدرك الجميع أنه بوين، عامل التلغراف الليلي، خطيب الضحية.
قال بصوت واضح وصل إلى أبعد أذن في الحشد: «يا سادة، لا تفعلوا هذا. لا تلطخوا اسم بلدتنا الطاهر بوصمة لا تنمحي أبدا. لم يسبق قط أن تعرض أحد في هذه المقاطعة ولا في هذه الولاية للتنكيل الجماعي حتى الموت، حسب علمي. لو ظننت أن ذلك الوغد البائس القابع وراء هذه الأسوار سيهرب، أو أن أمواله ستنجيه، لسبقتكم أنا إلى تحطيم هذه الأبواب وإخراجه لشنقه على أقرب شجرة؛ وأنتم تعرفون عني ذلك.» وهنا علت الصيحات والهتافات. ثم واصل: «لكنه لن يهرب. ولا يمكن لأمواله أن تنقذه. سيعدم شنقا بالقانون. لا تظنوا أنني أطلب الرحمة به؛ بل أطلب القصاص منه!» وهز بوين قبضته ملوحا نحو السجن. وقال: «منذ سمع هذا الوغد صيحاتكم، استحالت حياته جحيما. وسيبقيه جبنه في هذا الجحيم إلى أن تحمله أرجله المرتعشة إلى المشنقة. أريده أن يبقى في جحيمه هذا إلى أن يهوي إلى الجحيم الآخر، إن وجد. أريده أن يعاني بعض الشقاء الذي سببه. إذا شرعنا في التنكيل به فسينتهي أمره ويموت في لحظة. لكني أريد أن يموت هذا القاتل ببطء بحكم القانون وعذابه الذي لا رحمة فيه.»
ارتعد لهذه الكلمات حتى أغلظ المحتشدين قلبا، وأدركوا جميعا من رؤيتهم لوجه بوين الذي ارتسمت عليه ملامح غضب كاد يتخطى حدود الآدمية أن تعطشه للانتقام يفوق تعطشهم له بكثير. فانفض الجمع تأثرا بكلماته. وألقى حامل الحبل الحبل من فوق سور السجن ليستقر في ساحته ونادى على رئيس الشرطة قائلا: «اعتن بهذا الحبل أيها العجوز، فستحتاج إليه.»
تفرق المحتشدون، وتوجه رئيس الشرطة إلى بوين ووضع يده على كتفه بحنو.
وقال: «بوين، يا بني، أنت شخص يعتمد عليه. وأنا مدين لك. لقد أخرجتني من مأزق عصيب. إذا وقعت في مأزق في أي وقت يا بوين، فالجأ إلي، وإذا كان ما ستحتاج إليه عندئذ هو الأموال أو النفوذ، فيمكن أن تحصل منها على كل ما يكفيك.»
رد بوين باقتضاب: «شكرا.» ولم يكن هذا الكلام يناسب المزاج الذي كان فيه.
وجرت الأمور كما توقع بوين، فلم تفلح كل أموال عائلة بريور ونفوذها في إنقاذ القاتل، وحكم عليه بالإعدام شنقا في السادسة من صباح الحادي والعشرين من سبتمبر، وهكذا هدأ سخط الرأي العام.
غير أنه ما إن أعلن الحكم وبات مصير الشاب محتوما، حتى طرأ على الرأي العام تغير غريب. فبدا أنه انحرف عما كان عليه. وظهر بالطبع الكثير من التعاطف مع عائلة الجاني. ثم كان هناك تعاطف كبير مع الجاني نفسه. وعاب الناس على فكرة إعدام أي رجل من الأساس. وبدأت السيدات يرسلن الزهور إلى زنزانة الجاني المدان. ففي نهاية المطاف لن تعود السيدة جونسون إلى الحياة بشنق هذا الشخص البائس. وغابت السيدة جونسون من ذاكرة الجميع ولم يعد أحد يتحدث عنها سوى رجل واحد ظل يصر أسنانه غيظا من سرعة تقلب الرأي العام.
ثم أرسلت عرائض الالتماس، وتولت الكنيسة الزعامة في تنسيقها. وتوسلت النساء من أجل أن يوقع الناس عليها، وقد كان. فوقع كل رجل وامرأة عليها. وفعل الجميع هذا فيما عدا رجل واحد، وحتى هذا الرجل نفسه ذرفت إحداهن أمامه دموعها تستجدي توقيعه، وتذكره بأن الانتقام الحقيقي هو انتقام الرب.
قال بوين كامدا: «لكن للرب أدواته، وأقسم لك يا سيدتي إنكم إن نجحتم في استصدار العفو عن هذا القاتل، فسأكون أنا الأداة التي ينفذ بها الرب انتقامه.»
قالت السيدة متوسلة: «أوه، لا تقل هذا.» ثم أردفت: «سيكون لتوقيعك أثر كبير. لقد كنت كريما مرة عندما أنقذته من تنكيل المحتشدين به حتى الموت، فلتكن كريما مرة أخرى بإنقاذه من حبل المشنقة.»
رد عليها: «لن أوقع أبدا. وإذا سمحت لي، أود أن أخبرك أن طلب توقيعي في حد ذاته إهانة. إذا استصدرتم العفو عنه فستحولونني أنا إلى قاتل؛ لأني سأقتله عند إطلاق سراحه ولو بعد عشرين عاما. تتحدثون عن التنكيل الجماعي به حتى الموت، ولكن ما تفعلونه الآن هو الذي يدفع إلى ارتكاب ذلك الجرم. يبدو أن الناس كلهم مؤيدون لك الآن، عار عليهم، لكن جريمة القتل التالية سيتبعها تنكيل جماعي حتى الموت إذا نجحتم اليوم في مسعاكم.»
تنهدت السيدة وهي تترك بوين، وبث فساد الطبيعة البشرية في نفسها كآبة متوقعة.
كانت عائلة بريور ثرية وذات نفوذ. وكان وراء ابنها الحي كثير من الداعمين، في حين لم يكن وراء ضحيته القتيلة من طالبي القصاص إلا قلة. انهالت على الحاكم عرائض التماس العفو من كل أرجاء الولاية. ورغم صلاح الرجل، كانت عيناه ترنوان إلى إعادة انتخابه، ولم يعرف ما عليه فعله. لو كان لأحد أن يخبره بدقة رياضية عدد الأصوات التي سيكتسبها أو سيفقدها إذا أقدم على هذا الأمر أو ذاك، لاتضح له المسار الذي سيسلكه، لكن مستشاريه أنفسهم لم يكونوا متيقنين مما يجب فعله. خطأ واحد في أمر بسيط كهذا يكفي لخسارته الانتخابات. دارت بعض الشائعات بأنه سيخفف الحكم إلى السجن مدى الحياة، ثم دحضت تلك الشائعات.
دفع الناس بأن السجن مدى الحياة عقاب كاف للشاب، وبدا دفعهم هذا عادلا، لكنهم جميعا كانوا يعرفون في صميم قلوبهم أن تخفيف الحكم لن يكون سوى بداية لمعركة، وأن الحاكم الجديد سيتعرض لضغوط كبيرة للعفو عن الشاب.
لم يبدر عن الحاكم أي رد فعل حتى العشرين من سبتمبر. وعندما كان بوين ذاهبا إلى عمله في ليل هذا اليوم، صادف رئيس الشرطة.
وسأله: «هل صدر أمر بالعفو عنه؟» هز الرجل رأسه نافيا وحزينا. لم يكن قد سبق له إعدام رجل شنقا، ولم يرد أن تكون هذه هي البداية.
وقال: «كلا.» ثم أردف: «وحسبما سمعت بعد ظهيرة اليوم من غير المحتمل أن يصدر أي عفو. قرر الحاكم في نهاية المطاف أن القانون لا بد أن يأخذ مجراه.»
قال بوين: «يسعدني سماع ذلك.»
قال الآخر: «لكنه لا يسعدني.»
بعد الساعة التاسعة ، انقطعت البرقيات تقريبا، وجلس بوين يطالع صحيفة المساء. وفجأة وردت برقية إلى المكتب وتسلمها بوين. واستخدم آلية الكتابة الميكانيكية ليدونها دون أن يفهم مفادها، لكنه ما إن قرأها حتى هب واقفا وأخذ يطلق اللعنات. أجال نظره بغضب في الغرفة ثم أطلق تنهيدة ارتياح عندما أدرك أنه لم يكن فيها سواه هو والساعي الذي كان يغط في النوم في إحدى أركانها واضعا قبعته على عينيه. رفع البرقية مجددا وقرأها وهو يصر أسنانه:
إلى رئيس شرطة مقاطعة برنتنج، برنتنجفيل
لا تمض قدما في إعدام بريور. لقد خفف الحكم. وأرسلت المستندات الخاصة بذلك بالبريد المسجل الليلة. يرجى الرد على هذه الرسالة وتأكيد فهمها.
جون داي، الحاكم
ذرع بوين الغرفة مقطبا حاجبيه. لم يساوره شك فيما عليه فعله، لكنه أراد التفكير جيدا فيه. دقت آلة التلغراف فالتفت إليها، ونقر مجيبا. كانت البرقية الجديدة موجهة إليه هو من زميله العامل في العاصمة، وكانت تطلب منه أن يوصل البرقية إلى رئيس الشرطة دون تأخير، ثم يؤكد ذلك لمكتب العاصمة؛ إذ إن حياة رجل تعتمد على ذلك، وهنا انتهت البرقية. وأجاب بوين بأن البرقية ستوجه إلى رئيس الشرطة على الفور.
سحب ورقة تلغراف فارغة وكتب الآتي:
إلى رئيس شرطة مقاطعة برنتنج، برنتنجفيل
امض قدما في إعدام بريور. لن يرسل أمر بالعفو عنه. يرجى الرد وتأكيد فهم هذه الرسالة.
جون داي، الحاكم
من المؤسف أن ضمير بوين لم يؤنبه ولو قليلا على ما فعل. قد نميل إلى الظن أنه عندما يتعمد رجل ارتكاب جريمة، ينبغي أن يتردد وأن يشعر بندم مؤقت على الأقل، حتى لو مضى في تنفيذ جريمته. أما بوين فقد انصبت أفكاره على الفتاة المقتولة، وليس على الرجل الحي. وأيقظ الساعي النائم.
وقال له: «خذ هذه إلى السجن وابحث عن رئيس الشرطة. وإذا لم تجده هناك فاذهب إلى مسكنه. وإذا وجدته نائما فأيقظه. وأخبره أن هذه البرقية تستوجب رده. وأعطه ورقة خالية، وعندما يملؤها أحضرها لي، واحذر أن تعطي الرسالة لأحد غيره.»
رد الفتى: «لقد فهمت يا سيدي»، وانطلق تحت حجب الليل. وعندما عاد سريعا أدرك بوين دون أن يسأله أنه وجد رئيس الشرطة المسهد في السجن. وجاء رده على الحاكم مكتوبا بيد مرتعشة كالآتي: «أفهم أن الإعدام سيمضي حسبما تقرر. إذا غيرت رأيك فأرسل إلي سريعا رجاء. سأرجئ التنفيذ حتى آخر لحظة يسمح بها القانون.»
لم يرسل بوين هذه الرسالة، لكنه أرسل غيرها. وبينما انهمك في ذلك أطلق ضحكة، فانتبه لنفسه وتوقف عن ذلك؛ لأن ضحكته بدت غريبة. وخاطب نفسه قائلا: «أتساءل هل ما زلت في كامل قواي العقلية.» ثم أردف: «أشك في ذلك.»
مضت ساعات الليل ثقيلة. وبعد منتصفه جاء رجل يمثل مؤسسة صحفية لإرسال رسالة طويلة. تولى بوين إرسالها وهو يخشى أن يذكر متلقيها لمرسلها العفو الصادر في العاصمة. كان يعلم كيف تنتشر الأخبار الهامة على نحو ميكانيكي في خطوط التلغراف على يد رجال اعتادوا تولي تلك المهمة منذ سنين. على أي حال، لن يستطيع كل ما في العالم من نحاس وزنك إرسال الرسالة إلى برنتنجفيل إلا من خلاله، إلى حين مجيء عامل المناوبة النهارية، وعندئذ سيكون الأوان قد فات.
أطال ممثل المؤسسة الصحفية البقاء، وسأله عما إذا كان عامل تلغراف واحد فقط سيكون في المكتب بعد تنفيذ الإعدام.
وأضاف: «سأود إرسال الكثير من الأشياء وأريد أن يحدث هذا بسرعة شديدة. بعض الصحف قد تصدر أعدادا استثنائية. كنت سأجلب معي عاملا إضافيا، لكننا ظننا أن العفو سيصدر، ولو لم يعتقد رئيس الشرطة ذلك.»
قال بوين دون أن يرفع رأسه عن الآلة: «عامل المناوبة النهارية سيكون هنا في السادسة، وسأعود أنا لمعاونته بعد أن أحتسي كوبا من الشاي، وسنتولى إرسال كل ما تريد.»
قال الرجل: «شكرا لك. إن هذا أمر يبعث على الكآبة، أليس كذلك؟»
رد بوين: «بلى.»
قال الرجل: «ظننت الحاكم سيرضخ للضغوط؛ ألم تظن ذلك؟»
رد بوين: «لا أعرف.»
قال الرجل: «إنه داهية عجوز. كان سيخسر في الانتخابات القادمة إذا أصدر عفوا عن هذا الرجل. لا يريد الناس أن يروا حادثة تنكيل برجل حتى الموت، والحاكم الضعيف المتردد هو صديق القاضي لينتش. حسنا، طابت ليلتك، وأراك في الصباح.»
رد بوين: «وليلتك.»
طغى نور الصباح تدريجيا على النور المنبعث من مصابيح غرفة التلغراف، وبدأ بوين يلتقط أنفاسه مع قرع جرس الكنيسة.
جاء زميل بوين، عامل المناوبة النهارية، بعد السادسة بعشر دقائق.
وقال: «حسنا، لقد أعدموه.»
كان بوين يبحث عن بعض الأوراق ضمن الأوراق الموجودة على مكتبه. وطوى اثنتين منها ووضعهما في جيب معطفه الداخلي. ثم قال: «سيأتي رجل يعمل بالصحافة إلى هنا ومعه الكثير من الرسائل التي يود إرسالها. أرسلها بأقصى سرعة ممكنة وسأعود لمساعدتك قبل أن ينال منك التعب.»
بينما كان بوين يمشي باتجاه السجن صادف بعضا ممن حظوا بفرصة مشاهدة الإعدام بأنفسهم. كانوا يتناقشون حول عقوبة الإعدام، وتساءل بعضهم وهم يتثاءبون عن سبب اختيار هذا التوقيت الغريب لتنفيذ الحكم الذي شاهدوه لتوهم. وبينما كان بوين بين البوابة الخارجية وباب السجن التقى برئيس الشرطة، الذي بدا وجهه مكفهرا وشاحبا في نور الصباح الوليد.
قال بوين قبل أن يحييه الآخر: «جئت لتسليم نفسي.»
رد رئيس الشرطة: «تسلم نفسك؟! لأي جرم؟»
رد بوين: «القتل، حسبما أفترض.»
قال رئيس الشرطة بحزم: «ليس هذا وقتا مناسبا للمزاح، أيها الشاب.»
رد بوين: «أيبدو أني أمزح؟ اقرأ هذا.»
قرأ الرجل الرسالة مرتين، وبدت على وجهه المبتئس وهو يقرؤها ملامح عدم التصديق أولا، ثم الرعب. ترنح متراجعا إلى الجدار، واستند إليه بذراعه اتقاء للسقوط أرضا من الصدمة.
وقال لاهثا: «بوين، هل ... هل تقصد أن ... أن تخبرني ... أن تلك الرسالة قد وردت إلي الليلة الماضية؟»
رد بوين: «نعم.»
قال الرجل: «وأنك ... أنك منعت وصولها؟»
رد بوين: «نعم ... وأرسلت إليك رسالة مزيفة.»
سأل رئيس الشرطة: «وأني قد شنقت رجلا معفوا عنه؟»
قال بوين: «لقد شنقت قاتلا ... نعم.»
صاح رئيس الشرطة: «يا إلهي! يا إلهي!» واستدار نحو الجدار وأسند إليه ذراعه، ثم وضع وجهه عليه وأجهش بالبكاء. انهارت أعصابه تماما. لم يكن قد ذاق طعم النوم في الليلة الماضية، ولم يسبق له على الإطلاق إعدام أي شخص.
وقف بوين مكانه حتى أفاق رئيس الشرطة من وقع الصدمة. والتفت إليه ساخطا يحاول ستر خجله من انهياره وراء عباءة من الغضب.
قال رئيس الشرطة: «وجئت إلي الآن أيها الماكر لأني قلت لك إني سأساعدك إذا وقعت في مأزق يوما ما؟»
رد الشاب: «لا يهمني المأزق أو غيره، لقد جئت إليك لأسلم نفسي. أنا مصر على موقفي. أنا لا أتذمر. ولن ترسل عرائض لالتماس العفو عني. ماذا ستفعلون بي؟»
قال رئيس الشرطة بتلعثم وهو على وشك على الانهيار مجددا: «لا أعرف يا بوين، لا أعرف». لم يكن يريد إعدام رجل آخر، ولا سيما إذا كان صديقا له. ثم أردف: «علي استشارة الحاكم. سأغادر على متن أول قطار. لا أظنك ستحاول الهرب.»
قال بوين: «سأحضر إلى هنا عندما تحتاج إلي.»
عاد بوين لمساعدة العامل المناوبة النهارية، وغادر رئيس الشرطة إلى العاصمة على متن أول قطار.
ثم حدث أمر غريب. لأول مرة حسبما نتذكر، أجمعت الصحف على امتداح تصرف حاكم الولاية، وكال له أعضاء حزبه المديح، وأقرت صحف المعارضة على مضض بأنه كان أكثر حزما مما ظنوا. وتغير الرأي العام تماما.
قال الحاكم مرتبكا: «أستحلفك بكل ما توقره، أخبرني يا رئيس الشرطة، من الذين وقعوا على كل هذه العرائض؟ إذا كانت الصحف تريد إعدام الرجل، فلماذا إذن لم تكتب ذلك من قبل وتجنبني كل هذا القلق؟ والآن كم عدد من يعرفون بأمر هذه الرسالة التي منع وصولها؟»
قال رئيس الشرطة: «أنت وموظفوك هنا و...»
قال الحاكم: «لن ننبس بكلمة عن الأمر.»
واصل رئيس الشرطة كلامه: «وأنا وبوين في برنتنجفيل. لا يوجد أي أحد آخر.»
قال الحاكم: «حسنا، لن يفصح بوين بشيء خوفا على نفسه، وأنت لن تقول شيئا.»
رد رئيس الشرطة: «بكل تأكيد.»
قال الحاكم: «إذن، فلنبق الأمر في طي الكتمان. سيظل السر مصونا ما لم يحاول الصحفيون نبشه. لم يوثق شيء في السجلات، وسأحرق أي مستند يؤدي إلى كشفه.»
وهكذا سار الأمر. وثبتت وجاهة الرأي العام مجددا. وأحرز الحاكم نصرا مؤزرا بإعادة انتخابه، واعتبره الناس رجل حزم وحسم.
انتقام بعد الموت
من المؤسف أن يموت رجل قبل أن يروي عطش انتقام كان يتملك روحه. مات ديفيد ألين وهو يصب لعناته على برنارد هيتون والمحامي جراي؛ وكان للمحامي الذي ربح القضية نصيب من كراهية ديفيد يفوق نصيب الرجل الذي سينتفع بربح القضية. لكن لو كان للعنات أن تصب، لكان الأحرى أن يصبها ديفيد على عناده هو وغبائه.
لنعد بالزمن عددا من السنوات، حتى نعرف ما جرى. خالف الابن الوحيد للإقطاعي هيتون عادات عائلته. واستشاط الإقطاعي غضبا لذلك، كما كان متوقعا. فقد كان سليلا لعائلة من الإقطاعيين كان من عاداتهم الإفراط في شرب الخمر، وركوب الخيل، وبذاءة اللسان، فجن جنونه عندما رأى ابنه الوحيد ينكب بمحض اختياره على قراءة الكتب وشرب الماء البارد، وتفتر همته عن المشاركة في أي رياضة رجولية تمارس في الريف، ويعزف عن معاقرة خمر معتق مخزن في القبو. قبل ذلك الوقت كانت هذه البلايا تقع على رجال يستحقونها، وكانوا يحاولون التعامل معها قدر استطاعتهم. لكن الإقطاعي هيتون لم يحسن التعامل مع بليته، وعندما ابتعث ابنه في رحلة استكشاف علمي حكومية حول العالم، أفرط الإقطاعي في الشرب أكثر من ذي قبل، وازداد لسانه بذاءة، وامتنع عن ذكر اسم ابنه.
وبعد عامين عاد ابنه الشاب، لكن الأبواب كانت موصدة أمامه. ولم تكن له أم لتدافع عنه، ولم يكن وجودها ليحدث فارقا يذكر على الأرجح؛ إذ لم يكن الإقطاعي رجلا تجدي مناقشته نفعا أو يمكن إثناؤه قيد أنملة عن رأي حزمه. لقد رسم لحياته مسارا ثابتا ولم يحد عنه، متخذا من خمره رفيقا. سافر الشاب إلى الهند، وهناك تعرض لحادث غرق. لكنه نجا وعاد في نهاية المطاف إلى إنجلترا، على عادة الكثيرين ممن يتعرضون لحوادث مشابهة في العودة لتكدير صفو الأبرياء الذين يحلون محلهم. ولم يزل الخلاف محتدما حول ما إذا كان الاختفاء المفاجئ لرجل يعد مصدرا أكبر للإزعاج أو ظهوره من جديد بعد مضي السنين.
إن كان الحزن قد عرف طريقه إلى قلب الإقطاعي العجوز على الوفاة المفترضة لابنه الوحيد، فهو لم يبده. وقد تضاعف كرهه الذي كان يضمره لابنه ذي الطباع الغريبة، وانتقل لابن أخته ديفيد ألين، الذي أصبح الآن الوريث الشرعي لممتلكاته وما تدره من دخل. كان ألين الابن المعوز لأخت الإقطاعي التي تزوجت زيجة غير موفقة. ومن غير المعقول أن يتضور جوعا من هو وريث لتركة كبيرة، لكن هذا ما كانت عليه حال ديفيد، وهذا ما حز في نفسه. ولم يقبل المقرضون اليهود إقراضه بضمان التركة التي كان من المتوقع أن يرثها، تحسبا لوصول الابن، فلم يسع ديفيد ألين إلا انتظار وفاة الرجل، وهو يرزح في الفقر ويشعر بالمرارة.
وأخيرا جاءت اللحظة التي كان ينتظرها. لقد مات الإقطاعي العجوز، كما ينبغي لرجل نبيل، نتيجة سكتة دماغية وهو جالس في كرسيه ذي الذراعين ممسكا بمرفقه قنينة شراب. وتسلم ديفيد ألين إرثه المنتظر، وكان أول ما أقدم عليه تسريح جميع الخدم، الذكور والإناث على حد سواء، وتعيين بدائل لهم يدينون له وحده بالولاء. وندم المقرضون اليهود على عدم ثقتهم به في السابق.
أصبح ديفيد ألين الآن ثريا، لكن صحته كانت متدهورة وكتفاه محنيتين، ولم يكن له صديق على وجه الأرض. وكان يرتاب في العالم كله، وكان قلقا طوال الوقت وكأنه كان يتوقع أن ينزل به القدر ضربة مفاجئة في أي لحظة؛ وهذا ما جرى فعلا.
في يوم صحو من أيام شهر يونيو، مر بغرفة الحارس رجل صبغت حرارة الشمس وجهه بلون برونزي، ومضى في الجادة المؤدية إلى المدخل الرئيسي للمنزل. وطلب محادثة صاحب المنزل، فطلب منه الانتظار في إحدى الغرف.
وبعد بعض الوقت جاء ديفيد ألين بكتفيه المحنيتين ليستقبل ضيفه، ولما رآه ظل يحدق فيه من تحت حاجبيه الكثين. وما إن دخل الغرفة، حتى هب الغريب واقفا ومد يده ليصافحه.
قال الغريب: «أنت لا تعرفني بالطبع. أعتقد أنه لم يسبق أن جمعنا لقاء. أنا ابن خالك.»
تجاهل ألين اليد الممدودة للمصافحة.
ورد قائلا: «ليس لي ابن خال.»
قال الغريب: «أنا برنارد هيتون، ابن خالك.»
قال ديفيد: «لقد مات برنارد هيتون.»
قال الغريب: «أستميحك عذرا، إنه لم يمت. كنت سأعرف؛ فأنا هو.»
قال ديفيد: «أنت تكذب!»
جلس هيتون ثانية بعد أن كان واقفا منذ دخول ابن عمته، وظل ألين واقفا.
قال الوافد الغريب: «اسمع.» ثم أضاف: «لا يكلف التهذيب شيئا، و...»
قاطعه ألين: «لا يمكنني أن أكون مهذبا مع مدع.»
قال هيتون: «أنت محق. يصعب ذلك. ومع ذلك، إذا كنت مدعيا، فلن يضيرك التهذيب، أما إذا تبين أني لا أدعي شيئا، فقد تجعل تلك اللهجة التي تخاطبني بها الترتيبات المستقبلية أكثر صعوبة عليك. والآن، هلا تتكرم بالجلوس؟ فأنا لا أحب أن أتحدث إلى شخص واقف وأنا جالس.»
رد ألين: «هلا تتكرم أنت وتخبرني بما تريد قبل أن آمر خدمي بطردك؟»
قال هيتون: «يبدو لي أنك ستصعب الأمر على نفسك. لكني سأحاول تمالك أعصابي، وإذا أمكنني ذلك فسيكون هذا بمنزلة إنجاز بالنسبة إلى عائلتنا. أتطلب مني أن أخبرك بما أريد؟ حسنا، سأفعل. أريد الغرف الثلاث التي في الطابق الأول من الجناح الجنوبي لي؛ تلك الغرف الثلاث المتجاورة. لاحظ أني على الأقل أعرف المنزل. كما أريد أن تقدم لي وجباتي هناك، ولا أريد أي إزعاج في أي وقت. وفوق ذلك أريد منك أن تدفع لي كل عام مبلغا من المال، لنقل خمسمائة أو ستمائة، من إيرادات التركة. أعمل حاليا على بحث علمي فريد من نوعه. يمكنني العمل لجني المال بالطبع، لكني لا أريد أن أنشغل على الإطلاق بالمسائل المالية. ولن أتدخل بأي نحو في استمتاعك بالتركة.»
رد ألين: «أنا متأكد من أنك لن تفعل. هل تخالني أحمق لدرجة أن أوافق على إيواء وإطعام أول متشرد لا يجد عملا يأتي إلي مدعيا كونه ابن خالي المتوفى؟ الجأ إلى القضاء واقصص قصتك هذه لتودع في السجن كأمثالك من المحتالين.»
قال هيتون: «بالطبع لم أتوقع أن تصدق ما أقول على الفور. لو كنت تجيد الحكم على الأشخاص لعرفت أني لست متشردا . لكن هذا ليس المهم. اختر ثلاثة من أصدقائك. وسأعرض عليك أمامهم ما لدي من براهين وألتزم بقرارهم. ما من حل أكثر عدلا من هذا، أليس كذلك؟»
قال ألين: «قلت لك الجأ للقضاء.»
رد هيتون: «سأفعل بكل تأكيد. لكن إذا فشلت السبل الأخرى. ليس من الحكمة أن ألجأ إلى القضاء إذا كانت هناك وسيلة أخرى متاحة. لكن ما جدوى اتخاذ هذا الموقف السخيف؟ فأنت تعلم أني ابن خالك. يمكنني التعرف على كل غرفة في المكان وأنا معصوب العينين.»
رد ألين: «أي خادم مطرود يمكنه ذلك. لقد ضقت ذرعا بك. أنا لست رجلا يمكن ابتزازه. هل ستغادر المنزل بنفسك أم ستجعلني أطلب من الخدم طردك؟»
قال هيتون وهو يهم بالوقوف: «أعتذر عن إزعاجك.» ثم أردف: «لكن أهذا ردك الأخير؟»
قال ألين: «قطعا.»
فقال هيتون: «إلى اللقاء إذن. أراك في فيليبي.»
راقبه ألين وهو يبتعد في الجادة، وخطر له أنه لم يتصرف على نحو دبلوماسي.
توجه هيتون من فوره إلى المحامي جراي، وعرض عليه الموقف. وأخبر المحامي بمطالبه المتواضعة، وطلب منه أن يتخذ التدابير التي تحول دون إذاعة خبر الخلاف إذا رضخ ابن عمته لمطالبه قبل بدء إجراءات الدعوى.
قال المحامي: «اعذرني فيما سأقول، لكن هذا يبدو ضعفا.»
رد هيتون: «أعرف ذلك.» ثم أضاف: «لكن دفوعي قوية إلى درجة تجعل هذا الضعف الظاهري مقبولا بالنسبة إلي.»
هز المحامي رأسه رافضا. إذ كان يعرف أن لا شيء مضمون في القانون. وسرعان ما أدرك أن التسوية محالة في هذه القضية.
وصلت القضية إلى المحكمة، وجاء الحكم لصالح برنارد هيتون تماما.
امتقع وجه ديفيد ألين وشحب كالمحتضر، وأدرك أنه بات مرة أخرى مفلسا تماما لا يمتلك قدما مربعة واحدة من الأرض. وغادر قاعة المحكمة مطأطئا رأسه، ولم ينبس بكلمة لمن كانوا يدافعون عنه. وهرع هيتون في أثره، حتى لحق به على الرصيف.
وقال لخصمه المهزوم: «كنت أعلم أن النتيجة ستكون كذلك.» ثم أضاف: «لم يكن ثمة نتيجة أخرى ممكنة. ولا أريد أن ألقي بك في الشارع صفر اليدين. سأمنحك ما منعته عني. وسأخصص لك راتبا سنويا قيمته ألف جنيه.»
كان ألين يرتعش، ورمق ابن خاله بنظرة واحدة أودع فيها كل ما كنه له من كراهية مريرة.
وصاح فيه: «لقد نجحت أيها المخادع!» ثم أضاف: «أنت ومحاميك الشرير جراي. أقول لك إن ...»
وفجأة قطع حديثه دم اندفع من جوفه إلى فمه، ثم سقط على الرصيف صريعا. لقد فقد أرضه وحياته في اليوم ذاته.
أسف برنارد هيتون لما حدث بشدة، لكنه واصل أبحاثه في المنزل، وصب تركيزه على شئونه الشخصية. لم يكن له من الأصدقاء تقريبا سوى المحامي جراي الذي ذاع صيته بعد أدائه اللافت في القضية الشهيرة. أفصح له هيتون عن بعض آماله، وأخبره بما تعلمه خلال السنوات التي غاب فيها عن العالم عندما كان في الهند، وقال إنه إذا نجح في الجمع بين غيبيات الشرق وعلم الغرب، فسيخلد اسمه في التاريخ ولن يخبو صيته أبدا.
وحاول المحامي - الذي كان رجلا عمليا - أن يثني هيتون عن مواصلة أبحاثه الفريدة، لكن دون جدوى.
قال جراي: «ليس من وراء هذا طائل.» ثم أضاف: «لقد أفسدتك الهند. من يخض في هذا المجال باستفاضة يفقد صوابه. العقل أداة هشة. فلا تعبث بها.»
رد هيتون مصرا: «لكن ستكون الاكتشافات العظيمة في القرن العشرين في هذا المجال، كما كانت أعظم اكتشافات القرن التاسع عشر متعلقة بالكهرباء.»
قال جراي: «ليس هذا كذاك. فالكهرباء مادة لها وجود مادي.»
قال هيتون: «حقا؟ أخبرني إذن مم تتكون؟ كلنا نعرف كيف تولد، ونعرف بعضا مما تفعل، لكن ما كنهها؟»
قال المحامي ضاحكا: «سأطلب منك ستة شلنات وثمانية بنسات نظير الإجابة عن هذا السؤال.» ثم أردف: «على أي حال، هناك الكثير مما لم يكتشف بعد عن الكهرباء. فلتلتفت إلى ذلك ودعك من ترهات الهند هذه.»
ورغم غرابة ذلك، نجح برنارد هيتون في أبحاثه نجاحا مبهرا بعد عدة محاولات فاشلة كاد بعضها يودي بحياته. يجب أن يخاطر المخترعون والمكتشفون بحياتهم كالجنود، لكنهم لا ينالون المجد الدنيوي مثلهم.
في البداية، لم تتجاوز مساعيه غير المرئية حدود منزله وممتلكاته في أول الأمر، لكنها بعد ذلك امتدت إلى حدود أكبر، وكانت دهشته بالغة عندما التقى ذات يوم بروح الرجل الذي كان يكرهه.
قال ديفيد ألين: «آه، يبدو أن عمرك لم يطل كثيرا لتستمتع بما ربحته بالطرق الملتوية.»
رد هيتون: «لقد أخطأت في هذا العالم كما كنت مخطئا في العالم الآخر. أنا لم أمت.»
سأل ألين: «لماذا أنت هنا وفي هذه الهيئة إذن؟»
رد ألين: «أعتقد أن إخبارك لن يضير. ما كنت أريد اكتشافه، عندما رفضت الإنصات لي، هو كيفية الفصل بين الروح وحاملها، الجسد؛ أعني، بصورة مؤقتة وليست دائمة. جسدي يقبع الآن على ما يبدو نائما في غرفة مغلقة في منزلي؛ إحدى الغرف التي توسلت إليك أن تمنحني إياها. وخلال ساعة أو ساعتين سأعود وأسترده من جديد.»
قال ألين: «وكيف لك أن تسترده أو تتركه؟»
سعد هيتون لملاحظة اختفاء الضغينة التي كانت أكثر ما ميز ألين فيما مضى، ولم ير خطرا في إعطاء أي معلومات لروح انفصلت عن جسدها من وجهة نظر العالم، فمضى يشرح الموضوع الذي تملك من عقله كله.
وبعد أن فرغ هيتون من الشرح، قال ألين: «هذا مثير جدا.»
ثم افترقا.
انطلق ديفيد ألين من فوره إلى المنزل الذي لم يكن قد رآه منذ اليوم الذي غادره فيه لحضور المحاكمة. ومر بالغرف التي كان يألفها بسرعة حتى دخل الغرفة المغلقة الموجودة في الطابق الأول من الجناح الجنوبي. وكان جسد هيتون على السرير، وقد خلا وجهه من أي لون تقريبا، لكنه كان يتنفس بانتظام، ولو كانت الأنفاس ضعيفة تصعب ملاحظتها، كحركة ميكانيكية داخل تمثال من الشمع.
لو كان في الغرفة حينئذ مشاهد، لرأى عودة اللون ببطء إلى الوجه النائم وهو يبدأ في الاستيقاظ تدريجيا، ثم الجسد وهو ينهض من على السرير.
شعر ألين وهو في جسم هيتون بعدم ارتياح شديد في أول الأمر، كما يشعر الرجل إذا ارتدى بذلة مقاسها لا يناسبه. كما أزعجته الحدود التي فرضتها عليه سكنى جسم بشري من جديد. أجال نظره في الغرفة متفحصا. ووجد أثاثها بسيطا. ووجد على مكتب في زاوية الغرفة مخطوطة كتاب معد للطباعة، مسطور بدقة وتنظيم يميزان رجل العلم. ووجد أعلى المكتب ورقة ملصقة على الحائط معنونة كالتالي: «ما يجب عليك فعله إذا وجدتني هنا في حالة تشبه الموت.» وكانت تحت العنوان تعليمات مكتوبة بوضوح. كان من الواضح أن هيتون لم يضع ثقته في أحد.
إذا عزمت على الانتقام، فيجدر بك أن تجعل انتقامك كاملا بقدر الإمكان. أخذ ألين المخطوطة ووضعها في المدفأة، وأشعل النار بعود ثقاب. وبذلك قضى على فرصة غريمه في ذيوع صيته بعد وفاته، وتخلص أيضا من دليل كان من الممكن في ظروف معينة أن يثبت جنون هيتون.
فتح ألين الباب، وهبط الدرج، فصادف خادما أخبره أن الغداء جاهز. ولاحظ أن الخادم كان واحدا ممن كان قد سرحهم، فأدرك أن هيتون كان قد أعاد تعيين كل الخدم القدامى الذين تقدموا لاستعادة وظائفهم بعد أن ذاعت نتيجة المحاكمة. وقبل أن يفرغ من تناول الغداء لاحظ أن بعضا من خدمه هو أيضا ما زالوا في وظائفهم.
قال ألين للخادم: «استدع حارس حيوانات الصيد للقائي.»
حضر براون الذي كان يعمل في الضيعة لعشرين عاما لم تنقطع إلا في الأشهر القليلة التي طرده فيها ألين من عمله.
سأله ألين: «ماذا لدي من المسدسات يا براون؟»
أجابه براون: «سيدي، لديك مسدسا المنازلة اللذان يخصان الإقطاعي العجوز، وهما قديمان بعض الشيء يا سيدي، ولديك مسدساك أنت، وذلك المسدس الأمريكي الدوار.»
قال ألين: «وهل يعمل المسدس الدوار جيدا؟»
رد براون: «أوه، نعم، سيدي.»
قال ألين: «أحضره لي إذن ومعه بعض الطلقات.»
عندما عاد براون حاملا المسدس الدوار، أخذه سيده وتفحصه.
قال براون متوترا: «توخ الحذر يا سيدي.» ثم أضاف: «تعلم سيدي أنه ينطلق بسهولة.»
سأل ألين: «أنه ماذا؟» «مسدس دوار ينطلق بسهولة يا سيدي.» هكذا رد براون، وحاول أن يكتم اندهاشه من سؤال سيده عن سلاح من المفترض أنه كان يعرفه جيدا.
قال ألين: «أرني ما تعني »، وأعاد إليه المسدس.
وشرح براون أن المسدس يطلق النار بمجرد سحب الزناد.
قال ألين: «والآن أطلق النار على النافذة الخلفية، ولا تأبه للزجاج.» ثم أردف: «لا تقف فاغرا فاك هكذا، افعل ما أطلبه منك.»
أطلق براون النار من المسدس، وانكسرت من زجاج النافذة قطعة صغيرة على شكل الماسة.
سأل ألين: «كم مرة يمكن إطلاق النار من المسدس دون إعادة تلقيمه؟»
رد براون: «سبع مرات يا سيدي.»
قال ألين: «جيد جدا. لقمه بطلقة بدلا من التي أطلقتها، واتركه معي. واعرف موعد القطار المتجه إلى المدينة وأخبرني.»
سيستشهد بواقعة غرفة الطعام هذه في المحاكمة لإثبات جنون برنارد هيتون، لكنها لن تفلح. وسيشهد أيضا براون بأن طباع سيده ذلك اليوم كانت غريبة.
وجد ديفيد ألين في جيوب برنارد هيتون كل ما احتاج إليه من نقود. واستقل القطار حتى وصل إلى محطته، ومنها استقل عربة أجرة مباشرة إلى مكتب محاماة السادة جراي وليسون وجراي، متعجلا للحاق بالمحامي قبل أن يغادر المكتب.
أبلغ موظف الاستقبال بأن السيد هيتون يود مقابلة السيد جراي الأكبر للحظات قليلة. ثم طلب من ألين الدخول إليه.
قال الموظف: «أنت تعرف الطريق يا سيدي.»
تردد ألين.
ثم قال: «فلتتقدمني، رجاء.»
كان الموظف مدربا تدريبا جيدا، فلم يظهر مفاجأته، بل تقدمه إلى باب السيد جراي.
قال المحامي مرحبا: «كيف حالك يا هيتون؟» ثم أردف: «تفضل بالجلوس. أين كنت كل هذا الوقت؟ وكيف تسير تجاربك الهندية؟»
قال ألين: «بخير حال، بخير حال.»
ما إن سمع المحامي صوته حتى رفع رأسه يحدق فيه فجأة، ثم بدا عليه الاطمئنان فواصل كلامه قائلا: «لا تبدو كما كنت في السابق. أعتقد أنك أبقيت نفسك في المنزل وقتا أطول من اللازم. ينبغي أن توقف أبحاثك وتخرج للصيد هذا الخريف.»
قال ألين: «هذا ما أنوي فعله، وأرجو أن ترافقني.»
قال المحامي: «يسعدني ذلك، على الرغم من أني لا أجيد الصيد.»
قال ألين: «أود أن أتحدث معك للحظات قليلة على انفراد. هل تمانع في غلق الباب حتى لا يقاطعنا أحد ؟»
قال المحامي وهو يدير المفتاح في الباب لغلقه: «لن يقاطعنا أحد هنا.» ثم عاد إلى مقعده وأضاف: «ليس هناك أمر خطير، أليس كذلك؟»
قال له ألين وهو يسحب كرسيه ليكون بين جراي والباب، والطاولة تفصل بينه وبين جراي: «بل الأمر خطير، هل تمانع إن جلست هنا؟» وكان المحامي يراقبه في قلق، لكن لم يساوره تخوف جدي بعد.
قال ألين: «والآن، هلا أجبتني عن سؤال بسيط؟ إلى من تتحدث الآن؟»
بلغت دهشة المحامي المدى وكرر مستفهما: «إلى من ...؟»
قال ألين: «نعم، إلى من تتحدث؟ اذكر الاسم.»
قال المحامي: «هيتون، ما خطبك؟ هل أنت مريض؟»
قال ألين: «ها قد ذكرت اسما لتوك، لكن نظرا إلى كونك وغدا ومحاميا، لا يمكنك تقديم إجابة مباشرة عن سؤال بسيط جدا. أنت تظن أنك تتحدث إلى ذلك البائس برنارد هيتون. صحيح أن الجسم الذي أمامك هو جسم هيتون، لكن الرجل الذي يحدثك الآن هو ديفيد ألين، الذي احتلت عليه ثم قتلته. اجلس. إذا تحركت فستكون في عداد الأموات. لا تحاول الاقتراب من الباب. هناك سبع رصاصات مميتة في هذا المسدس يمكنني إطلاقها كلها في أقل من سبع ثوان؛ لأن هذا المسدس لا يتطلب أكثر من سحب الزناد. وستحتاج إلى عشر ثوان على الأقل للوصول إلى الباب؛ لذا اثبت مكانك ولا تحرك ساكنا. سيفاجئك مدى حكمة هذه النصيحة، حتى لو أتت ممن قد تعتقده رجلا مجنونا. سألتني منذ دقيقة عن سير التجارب الهندية، وأجبتك أنها سارت على خير حال. وبالفعل غادر برنارد هيتون جسده هذا الصباح، وسكنته أنا ديفيد ألين. هل تفهم ذلك؟ أعترف بأن وضعا كهذا قد يصعب على عقل قانوني فهمه.»
رد جراي بنبرة عدم تصديق: «آه، إنه ليس كذلك على الإطلاق.» ثم أضاف: «أفهم الوضع جيدا. الرجل الذي أراه أمامي هو شبح ديفيد ألين، أو روحه أو حياته، أو أيا ما تود أن تطلق عليه، في جسم صديقي برنارد هيتون. روح صديقي تهيم الآن في بحث غير مجد عن جسدها المفقود. ربما كانت موجودة في هذه الغرفة الآن، لا تعرف كيف لها أن تستصدر أمرا قانونيا روحانيا بطردك.»
قال ألين: «أنت تظهر سرعة في الفهم لم أتوقعها منك.»
رد عليه جراي: «شكرا»، رغم أنه خاطب نفسه قائلا: «لقد مس الجنون هيتون! الجنون التام، كما توقعت. وهو مسلح. الوضع أصبح خطيرا. لا بد أن أسايره.»
ثم خاطبه مجددا: «شكرا. والآن هل لي أن أعرف ماذا تريد أن تفعل؟ إنك لم تأت إلى هنا للحصول على مشورة قانونية. لم تكن أحد عملائي قط، لسوء حظي.»
قال ألين: «كلا. لم آت لتقديم المشورة أو لتلقيها. أنا هنا معك وحدنا - تذكر أنك أمرت بعدم مقاطعتنا - فقط للانتقام لنفسي منك ومن هيتون. اسمع، سيدرك عقلك الفذ وجاهة الخطة. أنا سأقتلك في هذه الغرفة. ثم سأسلم نفسي. وسأغادر هذا الجسد في سجن نيوجيت ثم سيعود إليه صديقك، أو لا يعود، حسبما يريد. قد يترك الجسم الخالي من الروح ليموت في الزنزانة أو يسكنه فيعدم شنقا بتهمة القتل. هل ترى الآن كمال خطة انتقامي منكما؟ هل تعتقد أن صديقك سيريد سكنى جسده مرة أخرى؟»
قال المحامي: «هذا سؤال وجيه»، وكان في الوقت ذاته يزحزح كرسيه بحركات غير ملحوظة ويحاول مد يده وراءه محاولا الوصول إلى زر كهربائي على الحائط دون أن يلحظه زائره. ثم واصل كلامه قائلا: «هذا سؤال وجيه، وأريد بعض الوقت للتفكير فيه من كل جوانبه قبل أن أعطيك إجابة.»
قال ألين: «يمكنك الحصول على الوقت الذي يكفيك. لست في عجلة من أمري، وأود منك أن تدرك موقفك قدر الإمكان. اسمح لي أن أخبرك بأن الزر الكهربائي على اليسار قليلا وأعلى قليلا من مكان يدك الآن. أقول لك ذلك لأن علي أن أضيف - من واجبي ناحيتك - أن لحظة لمسك إياه سينتهي الزمن بالنسبة إليك. سأطلق النار فور لمسك للزر العاجي.»
أسند المحامي ذراعيه أمامه على الطاولة، وبدت في عينيه للمرة الأولى نظرة قلق وارتباك سرعان ما تبددت منهما بعد لحظة أو لحظتين من الخوف الشديد عندما استعاد زمام أعصابه مجددا.
قال في النهاية: «أود أن أسألك سؤالا أو سؤالين.»
قال ألين: «اسأل ما تريد. لست في عجلة من أمري، كما قلت من قبل.»
قال جراي: «أشكرك على تكرارك لذلك. إذن، السؤال الأول هو: هل أثرت سكناك لعالم آخر بصورة مؤقتة على قدرتك على التفكير المنطقي؟»
رد ألين: «لا أظن ذلك.»
قال جراي: «آه، كنت آمل أن يكون تقديرك للمنطق قد تحسن خلال ... دعنا نسمه مدة غيابك؛ لم تكن منطقيا جدا ... لم تكن قابلا للدخول في نقاش منطقي في السابق.»
قال ألين: «كنت أعلم أن هذا رأيك.»
قال جراي: «كان هذا رأيي؛ ورأي مستشارك القانوني نفسه، بالمناسبة. حسنا، والآن دعني أسألك لماذا تكن لي هذا البغض المرير؟ لم لا تقتل القاضي الذي حكم ضدك، أو أعضاء هيئة المحلفين الذين أجمعوا على إصدار الحكم لصالحنا؟ لم أكن سوى أداة، وهم أيضا.»
قال ألين: «حيلي الشيطانية هي التي أدت إلى ربحك للقضية.»
قال جراي: «هذا قول فيه إطراء لكنه غير صحيح. كانت القضية سهلة جدا. لكنك لم تجبني. لم لا تقتل القاضي وأعضاء هيئة المحلفين؟»
قال ألين: «سيسعدني ذلك إذا تمكنت منهم. أترى الآن أني منطقي تماما؟»
قال المحامي: «تماما، تماما.» ثم أردف: «أود أيضا أن أسألك سؤالا آخر. ماذا سلبتك حيلي الشيطانية؟»
رد ألين: «سلبتني ممتلكاتي، ثم حياتي.»
قال جراي: «أنا أنكر التهمتين، لكني سأقر بهما مؤقتا. أولا دعنا نتحدث عن مسألة ممتلكاتك. فقد كانت مهددة أصلا بعودة برنارد هيتون في أي وقت.»
قال ألين: «بعودة برنارد هيتون الحقيقي، نعم.»
قال جراي: «حسنا إذن. ها أنت قد استعدت ممتلكاتك الآن، ونظرا إلى أن لديك الآن شكل هيتون الخارجي، فلا يمكن أن يشكك أحد في حقوقك. وأصبحت ممتلكاتك الآن مضمونة لك في وضعك الآن، أما في السابق فكان وضعك لا يضمنها لك. هل تفهمني؟»
قال ألين: «أفهمك تماما.»
قال جراي: «دعنا ننتقل الآن إلى مسألة حياتك. كان جسدك في السابق ضعيفا ومحنيا ومريضا، جسدا انهار بفعل انفعال استثنائي كما اتضح. أما جسدك الآن فهو قوي ومعافى، ويبدو أن سنوات عمره لم يزل يبقى منها الكثير. هل تقر بصحة كل ما قلت في المسألتين؟»
قال ألين: «أقر بذلك.»
قال جراي: «إذن للتلخيص، فوضعك الآن فيما يتعلق بحياتك وممتلكاتك أفضل، من كافة النواحي، من الوضع الذي سلبك إياه خبثي ... أم قلت عبقريتي؟ ... بل قلت حيلي. لماذا تنهي كل هذا بسرعة؟ لماذا تود قتلي؟ لم لا تعيش حياتك في ظروف أفضل، وفي ترف وصحة، وبذلك تنتقم من برنارد هيتون أشد انتقام؟ إذا كنت منطقيا حقا، فلتظهر ذلك الآن.»
قام ألين ببطء ممسكا بالمسدس بيمناه.
وصاح: «أيها المحتال البائس!» ثم أردف: «أيها المحامي الحقير ... المخادع إلى النهاية! إنك تتخلى عن صديقك بكل بساطة لتطيل عمرك البائس! أتظن نفسك تخاطب الآن قاضيا منحازا أو محلفين سذجا لا عقل لهم؟ أنتقم من هيتون؟ قد انتقمت منه بالفعل. لكن لم يتبق في انتقامي إلا موتك. هل أنت مستعد له؟»
صوب ألين المسدس على جراي، ووقف جراي هو الآخر وقد شحب وجهه. وركز عينيه على الرجل الذي كان يظنه مجنونا. زحفت يده على الحائط. وعم صمت مشوب بالتوتر بينهما. لم يطلق ألين النار. تحركت يد المحامي ببطء إلى الزر الكهربائي. وأخيرا شعر بالحافة المصنوعة من الأبنوس وضغطت أصابعه على الزر بسرعة. وفي وسط الصمت، جاء الرنين المهتز للجرس الكهربائي من الأسفل. وقطع الصمت فجأة الصوت الحاد لإطلاق رصاصة من المسدس. وجثا المحامي على ركبة واحدة رافعا إحدى ذراعيه أمامه كمن يحاول اتقاء هجوم وشيك. ثم انطلق صوت إطلاق النار من المسدس مرة أخرى، فوقع جراي على وجهه. واخترقت الرصاصات الخمس المتبقية جسما فارقته الحياة.
علت في الغرفة طبقة من الدخان الأزرق كما لو كانت الروح الراحلة من الرجل الذي استلقى على الأرض بلا حراك. وكثرت الأصوات المنفعلة خارج الغرفة، وحاول أحد المحتشدين بالخارج كسر الباب بثقل جسده ولكنه أخفق في ذلك.
مشى ألين إلى الباب، وأدار المفتاح وفتحه. وقال: «لقد قتلت رئيسكم.» وسلم المسدس إلى أقرب رجل موجها أخمصه إليه . وقال: «أنا أستسلم! اذهبوا وأحضروا ضابطا.»
على ممر ستيلفيو
الأمر واضح لا لبس فيه؛ لقد كانت تينا لينز فتاة لعوبا، وكان هذا الأمر يليق بها تماما؛ فقد كانت تعيش على سواحل كومو الرومانسية التي احتفت بها الأغاني والقصص والدراما بوصفها بحيرة العشاق الزرقاء. كان لتينا الكثير من المعجبين، لكن عبثها جعلها تفضل من بينهم أكثر من كان والدها يعترض عليه. كان بيترو - كما صدق والد تينا في وصفه له - سائقا إيطاليا بائسا تسعده الفرنكات القليلة التي يتقاضاها من المسافرين الذين كان يقلهم من مالوجا الفقيرة إلى إنجاداين، أو من ممر ستيلفيو المرتفع إلى ممر تايرول، وهما أكثر الممرات في أوروبا ارتفاعا وأكثرها انخفاضا. كانت ضربة قوية لآمال لينز العجوز ولكبرياء العائلة أيضا عندما تحدته تينا بإعلان تفضيلها لسائق العربة التي يجرها حصانان. كان لينز العجوز يتحدر من عائلة عريقة من أصحاب الفنادق السويسريين الذين يعرفون بقدرتهم الفريدة على استخلاص آخر سنت من المسافرين المترددين في الدفع. وقد ساءه كثيرا أنه لم ينجب ابنا يرث منه فندقه الصغير الذي كان محل احتفاء كبير عن استحقاق (إذ كان يقدم أسعارا خاصة للإقامة لفترة ثماني ليال أو أكثر)، لكنه كان يرجو أن يكون له صهر، ويأمل أن يكون صهره من أصل سويسري، بحيث يتمكن بعد أن تقدم به العمر أن يورثه المهنة المربحة التي تمكنه من استنزاف أموال الرجال الإنجليز الأثرياء باحترام. لكن تينا قد اختارت الآن بمحض إرادتها إيطاليا متهورا حياته غير مستقرة لن يلبث أن يضيع الأموال التي جمعها بعناية أبيها طوال حياته.
صاح العجوز غاضبا، متحدثا بالإيطالية، لكونه يتحدث عن إيطالي: «بيترو، الوغد، لن يحصل على قرش واحد من أموالي.»
قالت الفتاة: «لا، سأحرص أنا على ذلك.» ثم أضافت: «سأتولى الأمور المالية، وألزمه بكسب ما ينفق.»
قال لها: «لكن إذا تزوجته، فلن أمنحك أي أموال.»
ردت: «لا، بل ستفعل، يا أبي، أنت ليس لديك أي شخص آخر تترك له أموالك. كما أنك لست عجوزا، وستبارك زواجنا قبل أن يأتي وقت توريث الأموال بكثير.»
رد صاحب الفندق العجوز، وقد هدأت نبرة صوته كثيرا؛ لأنه كان بالفعل عجوزا وسمينا وفي وجهه بعض الحمرة: «لا تكوني واثقة من ذلك هكذا.»
شعر بأن لا قبل له بمواجهة ابنته، وأنها ستنفذ إرادتها في نهاية المطاف، لكنه تذمر عندما فكر في ملكية بيترو لفندقه الرائج يوما ما. أكدت تينا على أنها ستطبق مبادئ أجدادها بحذافيرها في إدارة الفندق، وأنها ستترك بيترو يتجول حول المكان كزينة جميلة تجذب الزوار المرهفي الإحساس الذين يبدو أنهم يرون في البحيرة ومحيطها جمالا غير مفهوم.
وفي تلك الأثناء أقدم مالك الفندق لينز فجأة على طرد بيترو، وندم على اليوم الذي تعرف فيه على بيترو وعلى ساعة توظيفه له. وقال للشاب الوسيم إنه إذا وجده يحدث ابنته يوما فسيرتب للقبض عليه بتهمة سرقة بعض المقتنيات الصغيرة من المسافرين، على الرغم من أنه كان قد غض الطرف عن هذه السرقات عند اكتشافها، ربما لشعوره ببعض التعاطف معه في ذلك الحين، ولأنه رأى في سائق العربة أمارات قد تجعل منه مالك فندق ناجحا يوما ما. وما جعل الأمر أكثر سوءا أن بيترو أقسم إنه سيغمد في البطن المتدلي لمالك الفندق سكينا طوله ست بوصات حالما تسنح الفرصة، على أمل أن يصل السكين إلى مكان حساس. شحبت حمرة وجه لينز العجوز عندما سمع هذا التهديد، فالسويسريون محبون للسلام، وأخبر ابنته في حزن بأنها ستدفع بشعره الشائب إلى القبر بخنجر حبيبها. فقالت مازحة إن هذا الأمر يصعب تحقيقه؛ فقد كان رأس أبيها أصلع كقمة جبل أورتلر المستديرة الناعمة، ومع ذلك تحدثت مع حبيبها في الأمر، وقالت له على نحو واضح إنه إن كان سيستخدم السكين بأي نحو في الجوار، فلن تلتقي به مرة أخرى أبدا. فلم يسع الشاب ذا الشعر الأسود المجعد والوجه الملائكي إلا أن يكتم امتعاضه ممن يرجو مصاهرته، وأن يتعهد بحسن التصرف. وتمكن من العمل سائقا في فندق آخر؛ فقد كان العمل رائجا ذلك الموسم، والتقى بتينا كلما أمكنه، في نهاية الحديقة المطلة على البحيرة الهادئة، من وراء حائط حجري.
لم يتدخل مالك الفندق لينز عندما كان يعرف بأمر أي من هذه اللقاءات، ربما منعه خوفه من خنجر بيترو، أو من لسان ابنته، ومع ذلك وقفت الأقدار في صف العجوز. كانت تينا بطبيعتها متقلبة المزاج، وبعد أن خبت معارضة أبيها لعلاقتها ببيترو تماما، بدأ اهتمامها بالشاب يخبو كذلك. لم يجد الحديث في أي موضوع سوى الجياد، ورغم ما في هذا الموضوع من إثارة، فهو مضجر بالنسبة لفتاة في الثامنة عشرة تميل على حائط حجري في نور الأمسيات الذهبي الذي يعم سماء كومو. إن في الحياة موضوعات أخرى، لكنه لم يهتم بها، لم يدرك وجودها حتى، ومن سوء حظه أن فردا آخر من جحافل المتعطلين عن العمل ظهر في المشهد، وكان يهتم بتلك الموضوعات الأخرى.
جاء في الوقت المناسب تماما، ورغم فخر العجوز لينز بفندقه وبوضعه، لم يكن ما استوقف ذلك الشاب المنظر الطبيعي الذي لا مثيل له الذي ذكر في دعاية الفندق. لقد استوقفه منظر الفتاة الساحرة الجمال وهي تميل على الحائط الحجري في نهاية الحديقة وتحدق في البحيرة وتسلي نفسها بالغناء الرقيق.
قال الشاب ستانديش: «يا إلهي! إنها تبدو كأنها تنتظر حبيبها.» وهو بالضبط ما كانت تينا تفعله، ومن سوء حظ الحبيب الغائب أن تأخيره كان في صالح غريمه.
تمتم ستانديش: «الحبيب الغائب عنصر مفقود في المشهد ينبغي تعويضه.» ووضع عنه حقيبة الظهر التي كان يحملها كحقيبة المناضل الراحل جون براون. ثم دخل الفندق وسأل عن أسعار الإقامة. وما إن رأى العجوز لينز البنطال القصير الذي كان الشاب يرتديه حتى قرر أن يطلب ضعف السعر الذي يطلبه من أهل المنطقة. غير أن الافتقار إلى الحصافة في الأمور المالية الذي ميز أهل الجزيرة التي كان ستانديش ينتمي إليها جعله يوافق على شروط العجوز، فتمنى العجوز لو كان قد طلب منه ثلاثة أضعاف السعر.
خاطب العجوز نفسه في حين كان النزيل الجديد يتوجه إلى غرفته: «لا عليك، سأعوض ذلك في التكاليف الإضافية.»
لا بد هنا من أن نقر آسفين بأن ستانديش الشاب كان فنانا. يكثر ذكر الفنانين في الأعمال الأدبية لدرجة أن ذكرهم في سرد للوقائع الفعلية يبعث على الحزن، لكن يجدر بنا أن نتذكر أن الفنانين يفدون بطبيعتهم إلى بحيرة كومو كما يفد سماسرة الأوراق المالية إلى البورصات، ومن سوء حظ الكاتب وهو يسرد الأحداث الفعلية التي جرت في هذه المنطقة أن يزخر سرده للأحداث بسيرة الفنانين. كان ستانديش بارعا في الرسم بالألوان المائية، ولا يعرف كاتب هذه السطور إن كانت معرفة القارئ لذلك ستهون من الجريمة الأساسية في نظره أم ستجعلها أكثر شناعة. شرع ستانديش من فوره يرسم تينا وهي محاطة بالبحيرة والجبال والعناصر الأخرى التي تكون منها المشهد. لقد رسم تينا وهي عند سور الحديقة، كما رآها للمرة الأولى، ثم وهي تحت قوس من الورود، ثم وهي على متن أحد قوارب البحيرة المهترئة التي تبدو جميلة في الصور. رسم ستانديش فأبدع في الرسم. وكان المالك العجوز لينز يحتقر مهنة ستانديش بشدة، كما ينبغي لأي رجل ذي عقلية عملية، لكنه ذهل عندما عرض أحد المسافرين العابرين مبلغا طائلا يستعصي على التصديق مقابل إحدى اللوحات التي كانت على الطاولة في منطقة الاستقبال. لم يكن ستانديش في الجوار، لكن العجوز أراد أن يسدي إلى نزيله معروفا فباعها. وبدلا من أن يمتلئ الشاب بالابتهاج بحظه، أخبر مالك الفندق بجرأة وثبات يميزان أمثاله من الفنانين بأنه سيتغاضى عما حدث هذه المرة لكنه يجب ألا يتكرر ثانية. وأضاف ستانديش أن المالك باع اللوحة بثلث قيمتها الحقيقية. وكان لشيء ما في لهجة الشاب المؤكدة الهادئة وقع أقنع العجوز لينز بصدق ما قال أكثر من كلماته نفسها. إذ يمكن للمرء إقناع محدثه بأكاذيبه المتقنة بطريقة حديثه. ازداد احترام مالك الفندق للشاب إلى أعلى درجة ممكنة، وكان أيضا قد رأى الكثير من الفنانين. لكن إذا كان من الممكن الحصول على مبالغ كهذه ثمنا للوحة لا يستغرق رسمها أكثر من بضع ساعات، فليس امتلاك الفنادق وإدارتها إذن نشاطا مربحا إلى الحد الذي كان يظنه.
يجب أن نقر بصدمة ستانديش الشديدة عند معرفته بأن تينا التي تشبه الحوريات هي ابنة مالك الفندق العجوز الغبي البغيض. كم كان سيكون جميلا جدا لو تبين أنها إحدى الأميرات بدلا من ذلك، وكان ذلك سيليق تماما بالشرفة المكسوة بالرخام التي تطل على البحيرة. بدا متنافرا مع المشهد كله أن تربطها أي علاقة بالعجوز لينز المنشغل بجمع المال. وبالطبع لم تدر بخلده فكرة الزواج من الفتاة؛ بل كانت تلك الفكرة بعيدة عن عقله كبعد فكرة شراء بحيرة كومو ثم تجفيفها، ومع ذلك كان من المؤسف ألا تكون كونتيسة على الأقل، كالكونتيسات الكثيرات في إيطاليا، وبالطبع كان الممكن أن تسكن إحداهن في هذا الفندق الصغير؛ لأن التكلفة تنخفض عند الإقامة به لمدة ثمانية أيام. وكانت تينا مع ذلك تبدو جميلة في اللوحات المرسومة بالألوان المائية. لكن إذا بدأ رجل في الانزلاق على تل مثل التلال المحيطة بكومو، فلا سبيل إلى معرفة الحد الذي سيتوقف عنده. قد يتوقف في منتصف الطريق أو يتدحرج حتى يسقط على رأسه في البحيرة. لو كتب هنا أنه خلال وقت معين لم يهتم ستانديش ولو لدرجة بسيطة بكون تينا أميرة أو خادمة، لما صدق القارئ ذلك؛ لأننا جميعا نعرف برود أعصاب الرجل الإنجليزي وعقله الذي لا يفتأ يضع المخططات، وسالفيه الطويلين، وقبعته التي تحجب وجهه أثناء ترحاله.
من الخطير أن يرسم شاب بالألوان المائية فتاة تضارع في جمالها الساحر الكائنات الخيالية البديعة المنظر في العديد من الأماكن الآسرة، ومن الكارثي أن تعلمه هي لغة يسترسل اللسان في نطقها كالإيطالية، أما الأدهى والأمر فهو أن يعلمها هو الإنجليزية ويشاهد شفتيها الجميلتين تحاولان نطق كلمات لم تخلق لها مخارج صوت لأجنبية مثلها. أثرت كل هذه الأمور في والتر ستانديش، فأي فرصة للنجاة كانت أمامه حينئذ؟ بالتأكيد كانت قليلة كفرصة من يتسلق جبل ماترهورن دون حبال وقد زلت قدمه عن موطئها.
ماذا عن تينا؟ كانت تلك الشابة المسكينة على وشك تلقي انتقام الأقدار منها على كل القلوب الإيطالية أو الألمانية أو السويسرية التي كسرتها. لقد وقعت في حب ذلك الإنجليزي الموفور الحيوية ولم يكن لها حيلة لها في ذلك، وأدركت أنها لم تعرف المعنى الحقيقي للحب من قبل. لقد ندمت ندما مريرا على المعارك التافهة التي خاضها قلبها قبل ذلك الحين. ولم ينتب ستانديش أدنى شك في أنه أول من لامست شفتاه شفتيها (واعترفت هي بتكون هذه الفكرة لديه)، وأرقها في كل يوم وساعة خوف من أن يعرف الحقيقة. وفي ذلك الحين كان بيترو يزيح عن روحه ألم الهجر بالتلفظ بلعنات غريبة لو سمعها ستانديش الذي لم ينل قسطا كافيا من التعليم لظنها صلوات ميمونة، رغم التقدم الذي كان يحرزه في تعلم الإيطالية على يد تينا. ومع ذلك كان لدى بيترو علاج واحد لكل ما يؤرقه، فطفق في ذلك الحين يشحذ هذا العلاج بعناية استعدادا لاستخدامه.
وذات مساء كان ستانديش يتجول شارد الذهن وسط الضباب الخفيف القرمزي اللون، وهو منشغل البال بالطبع بتينا ويتساءل كيف سيستقبل ذووه الرزينون مزيج الغلظة الملحوظ والجمال الجنوبي الذي تتمتع به. كانت تينا سريعة البديهة وتجيد التكيف، ولم يساوره أدنى شك في قدرتها على إتقان أي دور يطلب منها أداءه، وتردد أيقدمها بوصفها فتاة تربطها بالعائلة الإيطالية الحاكمة صلة بعيدة، أم بوصفها كونتيسة. إذ سيكون من السهل جدا إضافة «دي» أو «دا» أو أي مقطع صوتي إلى اسم عائلتها يجعل من يسمعه يظنها عائلة من النبلاء. كل ما عليه هو أن يختار الأحرف الصحيحة، وكان يعرف يجب أن تبدأ بحرف «د». ثم كان عليه أن يعطي الانطباع بأن الفندق الصغير هو: «قلعة مطلة على البحيرات الإيطالية»، وفي واقع الأمر كانت نيته أن يغلق الفندق فور تمكنه من السيطرة على المكان، أو يحوله إلى قلعة. كان يعلم أن معظم قلاع تايرول والعديد من قصور إيطاليا قد تحولت إلى فنادق صغيرة، فسأل نفسه لم لا يعكس اتجاه التحول؟ وكان متأكدا أن بعض شركات الأثاث في لندن يمكنها تولي هذه المهمة إذا استأجرها لهذا الغرض . وكان يعرف صحيفة صباحية رائجة كانت تنشر إعلانات شخصية، وخطر بباله أن الإعلان الآتي سيبدو لافتا ويستحق تكلفة نشره:
يقضي السيد والتر ستانديش ابن سان جونز وود، وقرينته الكونتيسة دي لينزا هذا الصيف في مقر أسلاف السيدة دي لينزا، قصر دي لينزا، المطل على بحيرة كومو.
أسعده تخيل ذلك للحظة، حتى خطر بباله احتمال أن يتذكر أحد المعارف قصر لينزا عندما كان فندق لينز الذي يفصح عن أسعاره عند طلب الإقامة فيه. وتمنى لو يحمل انهيار صخري المباني والأراضي وكل شيء إلى مكان مجهول على بعد بضع مئات من الأقدام من الجبل.
وهكذا ظل الشاب ستانديش يهيم شاردا بفكره إلى عنان السماء ويؤرجح عصاه في الهواء، ثم حدث ما أعاده إلى أرض الواقع فجأة. ظهر شخص من وراء شجرة مسرعا، فرفع الفنان ذراعه اليسرى يحتمي بها في حركة غريزية لم يقصدها. ثم أمسك بالسكين المغروز في الجزء اللحيم منها، وكان الألم شبيها بلدغة شديدة ساخنة من دبور ضخم. خطر بباله سريعا في تلك اللحظة أن الأحرى أن يرتبط الفولاذ في الأذهان بالحرارة وليس البرودة. وفي اللحظة التالية كانت يده اليمنى قد أنزلت المقبض الثقيل لعصاه المتينة على رأس بيترو المغطى بالشعر المجعد، فسقط ذلك الإيطالي عند قدميه كقطعة من الحطب. صر ستانديش أسنانه، وسحب الخنجر من ذراعه برفق بالغ، ومسح نصله في ملابس الرجل الجاثي أمامه. وفضل أن يلطخ ملابس بيترو بدلا من ملابسه هو التي كانت أجدد وأنظف، واعتبر أنه من العدل أن يتحمل الإيطالي المعتدي أي تبعات تنتج عن اعتدائه. وفي النهاية وضع الخنجر في جيبه وهرع إلى الفندق وهو يشعر ببلل كوعه.
تراجعت تينا واستندت إلى الجدار وصرخت فور أن رأت الدماء. وكادت تفقد الوعي لولا أن انتابها هاجس دفعها إلى الانتباه وشحذ حواسها تلك اللحظة.
قال ستانديش وهو يكشف ذراعه لتضميده: «لا يمكنني تصور سبب يدفعه إلى مهاجمتي.» ثم أضاف: «لم ألتق به من قبل قط، ولم أتشاجر مع أي شخص. يبدو أن السرقة لم تكن الغرض من الهجوم، فقد كنت قريبا جدا من الفندق. لا يمكنني فهم الأمر.»
قال العجوز لينز: «أوه، بل من السهل تفسير ما حدث. إنه ...»
وحينئذ رمقت تينا أباها بنظرة اخترقته كما اخترق النصل ذراع ستانديش. فأغلق فمه كما يغلق فخ فولاذي.
ثم قالت لأبيها بلطف: «اذهب لإحضار الدكتور زاندورف رجاء يا أبي»، فذهب أبوها. ثم خاطبت ستانديش قائلة: «هؤلاء الإيطاليون لا يكفون عن التعارك. لا بد أنه ظنك شخصا آخر ولم يرك جيدا بسبب الغسق.»
قال ستانديش: «نعم، هذا مرجح جدا. إذا كان هذا الوغد قد استعاد وعيه، فعلى الأرجح أنه يندم الآن على التهجم على الشخص الخطأ.»
عندما بحثت السلطات عن بيترو لم يجدوا له أثرا، لقد اختفى كما لو كانت ضربة ستانديش قد قذفته إلى حدود الصين. فعندما استعاد وعيه، وفرك رأسه، وجد على الطريق دماء، فاعتقد أن ضربته قد أصابت مكانا حساسا. ورأى أن السكين المفقود سيكون دليلا ضده، فآثر السلامة وعبر الحدود إلى النمسا. واختفى من على ممر ستيلفيو، وعمل سائقا لعربات الخيول في مكانه الجديد.
ستظل مدة مكوث ستانديش يتجول حول تلك الحديقة الغناء وذراعه محمولة في حمالة الكتف في حين ترعاه تينا بعناية وإخلاص من الذكريات الذهبية التي لن ينساها ذلك الإنجليزي طوال حياته. لكنها لم تكن لتستمر إلى الأبد، فتزوجا بعد نهاية تلك الفترة. وكان مالك الفندق العجوز يفضل أن يكون صهره مالك فندق سويسريا، لكن هذا الإنجليزي كان في نظره أفضل من ذلك الإيطالي البائس، وربما أفضل من الألماني الذي انشغلت به تينا قبل ظهور الإيطالي في المشهد. يعد هذا المزيج المحير من الجنسيات من المتاعب المرتبطة بإدارة فندق دولي.
فضل ستانديش ألا يعود إلى إنجلترا على الفور؛ إذ لم يكن رأيه قد استقر بعد على الطريقة المثلى للتخلص من الفندق الصغير وتحويله إلى قصر. كان يعرف قلعة جميلة وعالية في تايرول بالقرب من ميران يقبل القائمون عليها استقبال المارة دون لفت الأنظار، وقرر أن يضع خطته هناك. جهز لهما العجوز عربة عظيمة ليعبروا بها الممر، وأمر سائقها سرا بأن يقل أحد الأشخاص من ميران ليعوض تكاليف العودة، ولو جزئيا. كانت خمسة خيول تجر العربة، واحد على كل جانب وثلاثة في المقدمة. في الليلة الأولى استراحوا في بورميو، واستيقظوا في وقت مبكر من صباح اليوم التالي؛ إذ كانوا يخططون لتناول العشاء في فرانتسينشوهي حيث يمكنهم رؤية جبل أورتلر المكسو بالجليد.
كان فصل السنة يشارف على الرحيل والطقس متقلبا بعض الشيء، لكنهما قضيا ظهيرة إيطالية جميلة يصعدان الطريق المتعرجة الخلابة التي تقع على الجانب الغربي من الممر. كان الجليد يتساقط خفيفا على قمة الطريق، والسحب تعانق قمم أورتلر العالية. ثم أمطرت السحب مطرا مستمرا بوتيرة ثابتة بينما بدآ يهبطان، وسعدا بأن وجدا في الحانة الصخرية المستطيلة الشكل في فرانتسينشوهي مأوى دافئا وعشاء دسما. وبعد العشاء صفا الجو بعض الشيء لكن ظلت السحب تحجب قمم الجبال والطرق زلقة. أسف ستانديش لذلك؛ إذ كان يريد أن يري عروسه المناظر الطبيعية الخلابة التي تظهر في الأميال الخمسة القادمة التي يتعرج فيها طريق الهبوط إلى تريفوي وتظهر من تحت كل زاوية في الطريق التي تبعث على الدوار هاوية سحيقة. كان ذلك الجزء من الطريق خطيرا يتطلب سائقا شجاعا هادئ الأعصاب حتى لو كان يقود حصانين فقط. كانا النزيلين الوحيدين في الحانة، ولم يكن من الصعب على الناظر إليهما أن يدرك أنهما عروسان تزوجا لتوهما. ذاع خبرهما، وشاهدهما كل من كانوا في المكان يركبان عربتهما وتأخذهما بعيدا، ولو انزلقت عجلة خلفية واحدة من مكانها، لانهار كل شيء.
عند أول منحنى شعر ستانديش ببعض الذعر لانعطاف العربة فيه بسرعة خطيرة. وظل السوط يقرقع كطلقات نارية متتالية، وهو ما لم يكن معتادا عند هبوط الجبل. لكنه لم يقل شيئا حتى لا يفزع عروسه، وظن أن السائق أفرط في شرب النبيذ في الحانة. وعند المنحنى الثاني انزلقت بالفعل العجلة اتجاه الحاجز الصخري الذي لم يقف سواه حائلا بين العربة والهاوية السحيقة، واصطدمت به. وبعث صوت الاصطدام والصدمة التي رافقته الرعب في نفس ستانديش؛ إذ كان يعرف الطريق جيدا وكانت لا تزال به بعض الأماكن الأكثر خطورة. وكان يطوق زوجته بذراعه، وحينئذ سحب ذراعه من حولها برفق كي لا يفزعها. وبينما كان يفعل هذا، رفعت نظرها ورأت ما جعلها تطلق صرخة حادة. فنظر ستانديش إلى النافذة الأمامية التي تمكن منها رؤية ظهر سائق عربتهما المغلقة حيث كانت تنظر زوجته، فإذا به يرى على الزجاج وجها مشوها لشبح مخيف. كان السائق جاثيا على مقعده بدلا من أن يجلس عليه، وكان يحدق إليهما، وزمام العربة على كتفه وظهره موجها إلى الخيول. بدا لستانديش أن علامات الجنون كانت تظهر في عينيه، أما تينا فرأت فيهما نظرة انتقام غاضبة لعاشق خاب مسعاه.
لم يتعرف ستانديش على الرجل الذي حاول قتله ذات مرة، لكنه صاح قائلا: «يا إلهي! هذا ليس سائقنا.» وهب واقفا يحاول فتح النافذة الأمامية، فصاح فيه السائق: «افتح هذه النافذة إذا كنت تجرؤ على ذلك، وسألقي بكما من هنا قبل أن تصلا إلى منتصف الجبل. اجلسا هادئين، وسآخذكما إلى فايس نوت. ثم سألقي بكما من هناك. ستسقطان هناك من ارتفاع ميل.»
صاح ستانديش: «أدر وجهك لتقود الخيول أيها الوغد، وإلا فلن أترك في جسمك عظمة واحدة سليمة!»
قال الرجل: «الأحصنة تعرف طريقها، سيدي الإنجليزي، وكل عظامنا ستكسر؛ عظامك، وعظام عروسك الجميلة، وعظامي معكما.»
أمسك السائق بالسوط وضرب به عدة ضربات بجانب الأحصنة وتحتها وفوقها. فانطلقت الأحصنة بسرعة جنونية تهبط المنحدر، وكادت تلقي بالعربة من المنحدر عند المنعطف التالي. نظر ستانديش إلى زوجته. ووجدها كالغائبة عن الوعي، لكنها كانت قد أغلقت عينيها فحسب كي لا ترى وجه بيترو المرعب. مد ستانديش ذراعه من النافذة المفتوحة، وفتح قفل الباب وقفز إلى الخارج مخاطرا بحياته. صرخت تينا عندما فتحت عينيها فوجدت نفسها بمفردها. وضرب بيترو إطار النافذة الأمامية فسقطت النافذة، وأصبح هو وتينا وجها لوجه دون أن يحول بينهما أي زجاج. وقال لها: «الآن بعد أن رحل حبيبك الإنجليزي يا تينا، سأتزوجك أنا، لقد تعهدت بذلك.»
ردت بصوت خفيض: «أيها الجبان، أفضل الموت وأنا زوجته على الحياة زوجة لك أنت.»
قال لها: «جريئة أنت أيتها الصغيرة تينا، كما كنت دائما. لكنه تركك. لو كنت أنا مكانه لما تركتك. أنا لن أتركك. سنتزوج في كنيسة ثري هولي سبرنجز، أسفل فايس نوت بميل، سنقفز إليها من الهواء يا تينا، وسيكون سريرنا أسفل نهر ماداتسي الجليدي. سنذهب معا بالقرب من المكان الذي ألقى فيه الرجل زوجته. لقد وسموا تلك النقطة بقطعة من الرخام، ولكنهم سيضعون قطعة أكبر لتخليد ذكرانا يا تينا؛ فنحن شخصان لا شخص واحد.»
تراجعت تينا إلى ركن العربة وشاهدت وجه الإيطالي وهي لا تصدق ما يحدث. أرادت أن تقفز كما فعل زوجها، لكنها خشيت الحركة، وكانت متأكدة من أنها إذا حاولت الهرب فسيقفز بيترو ويمسك بها. بدا كوحش كاسر يتأهب للوثوب على فريسته. وفجأة رأت شيئا يهبط من السماء ليستقر على مقدمة العربة. وسمعت تينا صوت زوجها يصرخ: «خذ أيها الأبله الصغير، لقد سئمنا من هذا الهراء.»
وفي اللحظة التالية سقط بيترو على الطريق بفعل ركلة قوية. لم يمكنه وضعه على العربة من التماسك. وارتجت العربة وهي تدهس ساقه، وظنت تينا أنها فقدت الوعي حينئذ؛ لأن الشيء الوحيد الذي كانت تتذكره بعد ذلك هو توقف العربة، وفرك ستانديش ليديها وهو يتحدث إليها بلطف. وابتسمت هي له ابتسامة خفيفة.
سألته بفضول المرأة: «كيف تمكنت من اللحاق بالعربة وهي تسير بهذه السرعة؟»
قال ستانديش: «أوه، نسي ذلك الأحمق الطرق المختصرة. كنت قد حذرته من إهمال ما يحدث حوله. سأعود إليه الآن لأتحدث معه. إنه ملقى على الطريق أعلى هذا المنحدر.»
لملمت تينا شتات نفسها سريعا.
وقالت بلطف: «كلا يا عزيزي، لا تعد. فأغلب الظن أن بحوزته سكينا.»
قال ستانديش: «لست خائفا.»
قالت: «لكني خائفة، لا تتركني وحدي.»
قال ستانديش: «أود أن أوثقه بقوة وأهبط به إلى البلدة مسحوبا وراء العربة كالأمتعة. أعتقد أنه هو من طعنني، وأريد أعرف ما خطبه.»
وحينئذ للأسف بدأت تينا تفقد الوعي من جديد. وطلبت بعض النبيذ بصوت خافت، فنسي ستانديش أمر السائق الشرير تماما. وركب العربة وأمسك بزمامها بنفسه. وحصل على النبيذ من حانة صغيرة عند فايس نوت، على بعد ميل أو ميلين. استفاقت تينا تماما بفعل اهتزاز العربة على الأغلب، وارتعدت عندما نظرت من فوق الجبل فرأت في العتمة خمسة منازل بدت في حجم ألعاب الأطفال أسفل منها بميل تقريبا.
قال ستانديش: «هذه كنيسة ثري هولي سبرنجز. يمكننا أن نذهب إليها الليلة من تريفوي، إذا أردت.»
صاحت، وهي ترتجف: «كلا، كلا!» ثم أضافت: «لنبتعد عن الجبال على الفور.»
وفي تريفوي وجدا سائقهما الأصلي في انتظارهما.
سأل ستانديش بانفعال: «ماذا تفعل هنا بحق الجحيم؟ وكيف وصلت إلى هنا؟»
رد السائق المرتبك: «سلكت الطرق المختصرة.» ثم أردف: «طلب سائق، كان يعمل لدى سيدي في الماضي، ويدعى بيترو - لا أعلم لماذا - أن يوصلكما إلى تريفوي. أين هو يا سيدي؟»
قال ستانديش: «لا أعرف.» ثم أردف: «لم نره. لا بد أن الرجل المجنون دفعه من فوق العربة. اركب ودعنا نمض في طريقنا.»
استعادت تينا أنفاسها من جديد. وانتهت الأزمة.
وعاشا معا في هناء، وأصبحت تينا امرأة شديدة اللباقة.
الساعة والرجل
وقف الأمير لوتارنو على قدميه بحركة بطيئة، ورمق السجين الماثل أمامه بنظرة حادة.
وقال: «لقد سمعت ما يدعى عليك. فهل لديك شيء تقوله دفاعا عن نفسك؟»
ضحك قاطع الطريق السجين.
وقال: «مضى وقت الكلام.» ثم أضاف: «كانت هذه محاكمة هزلية ولم تكن عادلة. لم يكن من الضروري أن تهدر كل هذا الوقت في استقصاء ما تدعوه بالأدلة. فقد كنت أعرف مصيري منذ وقعت بين يديك. لقد قتلت أخاك، وأنت ستقتلني. لقد أثبت أني قاتل وسارق، ويمكنني إثبات التهم ذاتها عليك إذا كنت في مخيمي مكبل اليدين والقدمين كحالي الآن وأنا في قلعتك. لن أستفيد شيئا إن قلت لك إني لم أكن أعرف أنه أخوك، وإن ما حدث ما كان ليحدث لو كنت أعرف ذلك؛ لأن السارق التافه يحترم اللص الأكبر والأكثر نفوذا دائما. وإذا سقط ذئب تتجمع حوله الذئاب الأخرى وتفترسه. وها قد سقطت، وستأمر بضرب عنقي أو بتمزيق أوصالي في ساحتك، حسبما يفضل سموك. هذه غنيمة حربك، وليس لي أن أتذمر. عندما قلت إني آسف على قتلي أخاك لم أعن بذلك إلا أني آسف لأنك لم تكن مكانه عندما انطلقت الرصاصة. أنت تتفوق علي في عدد الرجال؛ لذا تمكنت من تفريق أتباعي وأسري. ويمكنك أن تفعل بي ما تشاء. ما يهون علي وطأة كل ذلك هو أن قتلي لن يعيد الرجل الذي أطلق عليه الرصاص؛ لذا، فلتنه هذه المهزلة التي امتدت كل هذه الساعات الطوال. أصدر الحكم علي. أنا مستعد.»
سادت لحظة صمت بعد توقف قاطع الطريق عن الكلام. ثم قال الأمير بنبرة هادئة لم تحل دون وصول كلماته إلى كل جنبات قاعة المحاكمة: «يحكم عليك بأنك، في الساعة الرابعة من يوم الخامس عشر من يناير، ستقتاد من زنزانتك إلى غرفة الإعدام، وهناك سيقطع رأسك.»
تردد الأمير للحظة وهو ينطق بالحكم، وبدا أنه أراد إضافة شيء لكنه تذكر على ما يبدو أن تقريرا بمجريات المحاكمة سيرفع إلى الملك، الذي كان مندوبه حاضرا، وحرص على ألا يوحي أي شيء مما ستضمه السجلات بعداوة قديمة؛ إذ كان من المعروف عن جلالته أنه معارض لصنوف التعذيب القديمة التي كانت تطبق في مملكته في الماضي. تذكر الأمير ذلك فجلس.
ضحك قاطع الطريق مجددا. إذ من الواضح أنه كان يتوقع حكما أكثر تنكيلا. كان رجلا عاش عمره كله في الجبال، ولم يكن يعرف باستحداث تدابير أكثر رحمة في سياسة الحكومة.
وقال هازئا: «سألتزم بالموعد، ما لم يكن لدي التزام أكثر إلحاحا.»
اقتيد قاطع الطريق إلى زنزانته. وقال الأمير: «أتمنى أن تكون قد لاحظت لهجة التحدي التي يتحدث بها السجين.»
رد المندوب: «بالفعل لم تفتني ملاحظتها، يا صاحب السمو.»
قال الأمير: «أعتقد في هذه الظروف أن المعاملة التي لاقاها كانت رحيمة للغاية.»
قال المندوب: «أنا متأكد يا صاحب السمو أن جلالته سيكون له الرأي نفسه. فقطع الرأس ميتة أكثر رحمة مما يستحق هذا المجرم.»
سعد الأمير بتطابق رأي المندوب تماما مع رأيه.
أخذ قاطع الطريق المدعو توزا إلى زنزانة في البرج الشمالي، حيث يمكنه إذا وقف على مقعد فيها أن يرى الوادي العميق الذي تقوم القلعة عند مدخله. كان يعرف منعة موقعها في طرف الوادي جيدا. كما كان يعلم أنه لو تمكن من الهرب من القلعة، لوجد نفسه محاصرا بين جبال لا يمكن عمليا تسلقها، وكانت القلعة تحرس مدخل الوادي حراسة يتعذر معها الوصول إلى العالم الخارجي منه. وعلى الرغم من معرفته الجيدة بالجبال، أدرك، بعد تفرق شمل عصابته ومقتل الكثير من أفرادها ولواذ آخرين بالهروب، أن احتمال موته جوعا في الوادي أرجح من احتمال هروبه منه. جلس على المقعد وأخذ يفكر في الأمر. سأل نفسه: ما السبب الذي دفع الأمير إلى التحلي بكل هذه الرحمة؟ فقد توقع أن يعذب، فإذا به في انتظار أسهل ميتة قد يلقاها أي رجل. استقر في ذهنه أن في الأمر شيئا غير مفهوم. ربما كانت نيتهم تجويعه حتى الموت بعد أن اكتملت مسرحية المحاكمة العادلة. ففي زنازين القلاع تجري أمور لا يعرف عنها العالم الخارجي شيئا. لكن قلقه من احتمال تجويعه حتى الموت سرعان ما تبدد عندما ظهر سجانه حاملا له وجبة أفضل من الوجبات التي كان قد تناولها منذ مدة طويلة؛ فقد قضى الأسبوع الماضي كله هاربا بين الجبال حتى أوقع به رجال الأمير، الذين كان واضحا أنهم تلقوا أوامر بالإتيان به حيا. لماذا إذن كان حرصهم الشديد على ألا يقتلوه في معركة عادلة إذا كان كل ما في جعبتهم له الآن الإعدام بقطع الرأس؟
سأل توزا سجانه: «ما اسمك؟»
أجابه: «اسمي باولو.»
قال توزا: «هل تعرف أن رأسي سيقطع في الخامس عشر من هذا الشهر؟»
رد الرجل: «هذا ما سمعت.»
سأل توزا: «وهل ستلازمني حتى ذلك الحين؟»
رد الرجل: «سألازمك في المدة التي أومر بها بذلك. وإذا أكثرت الحديث فقد يستبدلون بي غيري.»
قال قاطع الطريق: «إذن أنت تلمح لي بالصمت يا باولو الطيب .» ثم أردف: «وأنا دائما أكافئ من يحسنون إلي؛ لذا يؤسفني ألا تكون معي الآن أي نقود لأتمكن من مكافأتك على إحسانك لي.»
رد باولو: «ليس هذا ضروريا.» ثم أضاف: «أنا أتلقى أجري من المدير المسئول.»
قال توزا: «آه، لكن الأجر الذي تتلقاه لا صلة له بالمكافأة التي ستتلقاها من زعيم قطاع الطريق. هل يدر عليك منصبك أرباحا تكفي لجعلك ثريا، يا باولو؟»
رد باولو: «كلا، أنا رجل فقير.»
قال توزا: «حسنا، يمكنني أن أجعلك ثريا إذا تم ما أريد.»
لمعت عينا باولو، لكنه لم يرد ردا مباشرا. وفي النهاية همس خائفا: «لقد مكثت عندك لأطول مما ينبغي. أنا أخضع للمراقبة. لكنها ستخفف بعد مدة، ويمكننا حينئذ الحديث عن الثراء.»
ثم انصرف السجان، وضحك قاطع الطريق ضحكة خافتة في نفسه. وقال: «يبدو أن باولو يقبل الرشوة. سيتجدد حديثنا في الموضوع بعد أن تخفف المراقبة.»
أصبح الأمر بعد ذلك مسألة ثقة. أكد قاطع الطريق أن لديه ذهبا وجواهر مخبأة في الجبال، وأنه سيمنحها لباولو إذا استطاع أن يجعله يهرب من القلعة.
قال توزا: «بمجرد أن أهرب من القلعة، يمكنني بعدئذ الخروج من الوادي على الفور.»
رد باولو: «لست متأكدا من أن ذلك ممكن.» ثم أردف: «على القلعة حراسة شديدة، وعندما يكتشف هروبك، سيقرع جرس الإنذار، وحالما يقرع لن يتمكن فأر من الخروج من الوادي دون معرفة الجنود.»
فكر قاطع الطريق في الموقف لبعض الوقت، ثم قال في النهاية: «أعرف الجبال جيدا.»
قال باولو: «هذا صحيح، لكنك رجل واحد، وجنود الأمير كثر. ربما، إذا تلقيت المقابل المناسب، يمكنني أن أريك أني أكثر علما بالجبال منك.»
سأل قاطع الطريق هامسا في حماس: «ماذا تعني؟»
سأل باولو وهو ينظر بقلق نحو الباب: «هل تعرف النفق؟»
قال توزا: «أي نفق؟ لم أسمع بنفق قط.»
قال باولو: «لكن هناك نفقا؛ نفق يخترق الجبال إلى العالم الخارجي.»
صاح قاطع الطريق: «نفق يخترق الجبال؟ هذا هراء!» ثم أردف: «لو كان له وجود، لعلمت بأمره. فأعمال حفره أكبر من تتم في الخفاء.»
قال باولو: «لقد حفر قبل أن تولد، وقبل أن أولد أنا أيضا. الهدف منه أن يستطيع الفرار منه من في القلعة إذا سقطت. لا يعرف مدخله إلا قليلون، إنه بالقرب من الشلال الموجود عند الطرف الآخر من الوادي، وتغطيه أجمة. ماذا ستعطيني نظير إيصالك إلى مدخل ذلك النفق؟»
نظر قاطع الطريق إلى باولو في جدية بضع لحظات، ثم أجاب ببطء: «كل ما أملك.»
قال باولو: «وكم يبلغ كل ما تملك؟»
رد توزا: «أكثر مما كنت ستجنيه إذا أمضيت باقي عمرك في خدمة الأمير.»
قال باولو: «هل ستخبرني بمكان هذه الثروة قبل أن أساعدك في الهرب من القلعة وأرشدك إلى مكان النفق؟»
قال توزا: «نعم.»
قال باولو: «أيمكنك أن تخبرني الآن؟»
قال توزا: «كلا، اجلب لي ورقا في الغد وسأرسم لك خريطة توضح كيفية الوصول إليها.»
عندما ظهر السجان بعد أن أعطاه توزا الخريطة بيوم، سأله قاطع الطريق بحماس: «هل وجدت الكنز؟»
رد باولو بهدوء: «نعم.»
قال توزا: «وهل ستفي بوعدك؟ هل ستخرجني من القلعة؟»
قال باولو: «سأخرجك من القلعة وأرشدك إلى مدخل النفق، لكن بعد ذلك سيكون عليك تدبر أمرك بمفردك.»
قال توزا: «بكل تأكيد، كان هذا اتفاقنا. بعد أن أخرج من هذا الوادي اللعين، يمكنني تحدي كل أمراء الأرض. ألديك حبل؟»
قال السجان: «لن نحتاج إليه.» ثم أضاف: «سآتي إليك في منتصف الليل وسأخرجك من القلعة عبر ممر سري، هكذا لن يعرف هروبك إلا في الصباح.»
وعند منتصف الليل جاء السجان وقاد توزا عبر الممر المحفوف بالمخاطر، وأخذا الرجلان يتوقفان بين الفينة والأخرى ويكتمان أنفاسهما عندما وصلا إلى ساحة مفتوحة كان حارس يذرعها. وأخيرا خرجا من القلعة بعد منتصف الليل بساعة.
تنهد قاطع الطريق تنهيدة ارتياح عميقة فور أن اشتم الهواء الطلق لأول مرة منذ مدة طويلة.
سأل بنبرة هامسة لا تخلو من الشك في دليله: «أين نفقك؟»
أجابه بصوت خفيض: «صه!» ثم أردف: «إنه على بعد مسافة قصيرة من القلعة، غير أن كل بوصة في هذه المسافة تحت الحراسة، ولا يمكننا سلك الطريق المباشرة إليه، يجب أن نصل إلى الطرف الآخر من الوادي أولا ثم نتجه إلى النفق من الشمال.»
صاح توزا مذهولا: «ماذا؟! نقطع الوادي كله للوصول إلى نفق على بعد ياردات قليلة؟»
قال باولو: «هذه هي الخطة الوحيدة الآمنة.» وأضاف: «إذا أردت أن تسلك الطريق المباشرة، فسأتركك وشأنك.»
قال توزا متنهدا: «أنا طوع أمرك.» ثم أردف: «خذني إلى حيث تريد، ما دمت ستوصلني في النهاية إلى مدخل النفق.»
ظلا يهبطان المرتفعات التي تقوم عليها القلعة، وعبرا جدول المياه الصغير على بعض الأحجار التي تناثرت بين مياهه الرقراقة. وسقط توزا في المياه فجأة فانتشله دليله. وحتى تلك اللحظة لم يكن جرس الإنذار قد انطلق في القلعة رغم ظهور تباشير نور الصباح. ولما زاد النور زحفا إلى كهف كانت فتحته منخفضة يصعب العثور عليها، وهناك أخرج باولو من حقيبة صغيرة كان يعلقها على كتفه وجبة إفطار وقدمها لتوزا.
سأل توزا: «ماذا ستفعل للحصول على الطعام إذا كنا لن نصل إلى النفق إلا بعد عدة أيام؟»
رد باولو: «أوه، لقد وضعت ترتيباتي لذلك، وتركت لنا كمية من الطعام حيث يرجح أن نحتاج إليه فيه. سأذهب لإحضاره ريثما تحظى أنت بقسط من النوم.»
قال توزا: «لكن ماذا سأفعل لو قبض عليك؟» ثم أردف: «ألا يمكنك أن تخبرني الآن كيف أعثر على النفق كما أخبرتك بكيفية العثور على الكنز؟»
فكر باولو في ذلك بعض الوقت، ثم قال: «بلى، أعتقد أن هذا سيكون أكثر أمانا. عليك تتبع النهر حتى تصل إلى موضع التقاء تيار الشرق به. وهناك ستجد بين التلال شلالا وفي منتصف ارتفاعه رف صخري عليه عصي وشجيرات. أزح هذه الأشياء وستجد مدخل النفق. اسلك النفق حتى تصل إلى باب مغلق من الداخل. وعندما تمر منه تكون قد وصلت إلى نهاية رحلتك.»
بعد طلوع النهار بمدة قصيرة بدأ الجرس الكبير الخاص بالقلعة يقرع، وقبل الظهر كان الجنود يوكزون كل الشجيرات المحيطة بهم. اقترب الجنود منهما لدرجة أنهما سمعا أصواتهم من مخبئهم الذي كمنا فيه وقد ابتلت ملابسهما، وكتم الاثنان أنفاسهما وتوقعا أن يعثر عليهما في أي لحظة.
ودار بين الجنديين الأقرب منهما حديث كاد يوقف نبض قلبيهما.
سأل الأول: «ألا يوجد كهف بالقرب من هنا؟» ثم أردف: «لنبحث عنه!»
رد الثاني: «هراء!» ثم أضاف: «أستطيع القول لك إنهما ما كانا ليصلا إلى هذه المسافة في هذه المدة.»
قال الأول بإصرار: «ولم لا تفترض أنهما هربا عندما تسلم الحارس مناوبته في منتصف الليل؟»
قال الثاني: «لأن باولو شوهد يعبر الساحة في منتصف الليل، ولم تكن أمامهما فرصة أخرى للهرب إلا قبيل طلوع النهار.»
بدا أن هذه الإجابة أقنعت رفيقه، وتوقفت عملية البحث عندما كان الإيقاع بالهاربين وشيكا. كان هروبا صعبا، وبدا اللص شاحب الوجه رغم جسارته المعتادة، أما باولو فكان على شفا الانهيار.
وفي الليالي والأيام التالية كاد قاطع الطريق ودليله يقعان في أيدي رجال الأمير عدة مرات. بدأت وطأة البؤس بفعل عوامل الطبيعة، والحرمان، والإيشاك على الموت جوعا، والأسوأ من ذلك، تناوب الأمل والخوف، تشتد على قلب قاطع الطريق المقدام. وقد زاد من هذا البؤس سقوط مطر الشتاء البارد في بعض الأيام والليالي. ولم يجرؤا على البحث عن مأوى آخر؛ فكل مكان يصلح للسكنى كان يخضع للمراقبة.
عندما طلع عليهما نور الصباح بعد انقضاء آخر ليالي تسللهما عبر الوادي، كانا قد وصلا إلى نقطة لا تفصلها عن الشلال إلا مسافة قصيرة، وتناهى إلى سمعهما ترقرق مياهه في هدوء.
قال توزا: «لا تقلق حيال نور النهار، لنواصل التقدم حتى النفق.»
قال باولو متذمرا: «لا يمكنني المواصلة، أنا منهك.»
صاح توزا: «دعك من ذلك، لقد اقتربنا.»
قال باولو: «المسافة أكبر مما تظن، إضافة إلى ذلك نحن على مرأى من القلعة. هل ستخاطر بكل شيء الآن وقد اقتربت لحظة الخلاص؟ عليك ألا تنسى أن ثمن الفشل رأسك، وتذكر أيضا في أي يوم نحن.»
التفت قاطع الطريق إلى دليله وسأله: «في أي يوم نحن؟»
قال باولو: «الخامس عشر من يناير، اليوم الذي كان من المفترض أن تعدم فيه.»
التقط توزا أنفاسه بصعوبة. فت الخطر والعوز في عضده، فسربا الجبن إلى نفسه، وارتعد رغم أنه لم يرتعد أثناء محاكمته ولا عند الحكم بإعدامه.
سأل توزا في النهاية: «وكيف عرفت أنه الخامس عشر؟»
رفع باولو عصاه، فكانت عليها علامات محفورة لاحتساب الأيام على طريقة روبنسون كروزو.
قال باولو: «أنا لست بنفس قوتك، وإذا تركتني أستريح هنا حتى ما بعد الظهيرة، فأنا مستعد لعمل محاولة أخيرة للوصول إلى مدخل النفق.»
قال توزا باقتضاب: «حسنا.»
استلقيا مكانهما في تلك الظهيرة لكنهما لم يتمكنا من النوم إطلاقا. شنف هدير مياه الشلال آذانهما وبشرهما بقرب انتهاء رحلتهما الشاقة.
وفجأة سأل توزا: «ماذا فعلت بالذهب الذي وجدته في الجبال؟»
فوجئ باولو بالسؤال، فأجاب دون تفكير: «تركته حيث كان. وسآخذه في وقت لاحق.»
لم ينبس قاطع الطريق بكلمة، لكن رد باولو هذا كان بمنزلة حكم بموته. لقد قرر توزا قتله فور خروجهما من النفق، ليحتفظ هو بذهبه.
خرجا من مكمنهما بعيد الثانية عشرة، وكان تقدمهما مذ ذاك بطيئا جدا، واضطرا إلى الزحف على منحدر الجبل تحت غطاء من الشجيرات والأشجار، وعندما وصلا إلى الشلال كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة، حيث عبراه بصعوبة على الأحجار وفروع الشجر.
قال توزا وهو يهز جسمه: «كان هذا آخر تيار مائي نخوضه. والآن إلى النفق!»
حجبهما جانبا الشلال الصخريان عن مرأى الناظرين من القلعة، لكن باولو لفت انتباه قاطع الطريق إلى حقيقة إمكانية سهولة رؤيتهما من الجانب الآخر للوادي.
قال توزا: «هذا ليس مهما الآن، أسرع بنا إلى مدخل النفق قدر استطاعتك.»
كابد باولو بعض المشقة حتى وصل إلى رف صخري في منتصف ارتفاع الشلال تقريبا، وأزاح الشجيرات والفروع والنباتات الشائكة بسرعة حتى ظهرت فتحة كبيرة بما يكفي لينفذ منها رجل.
تنحى باولو وقال: «ادخل أنت أولا.»
رد توزا: «كلا، أنت من يعرف الطريق، ويجب أن تدخل أولا. لا يمكن أن تظن أني أريد بك شرا، فأنا أعزل تماما.»
قال باولو: «ومع ذلك لن أدخل قبلك . لم أطمئن إلى نظرتك إلي عندما أخبرتك أن الذهب لم يزل مكانه في التلال. أعترف بأني لا أثق بك.»
ضحك توزا وقال: «أوه، حسنا، هذا لا يهم حقا.» وزحف إلى داخل الفتحة التي في الصخور وتبعه باولو.
وسرعان ما اتسع النفق بما يسمح بوقوف رجل على قدميه.
فقال باولو: «توقف! ها هو الباب قد اقترب.»
قال اللص: «نعم، أتذكر أنك تحدثت عن باب.» ثم أضاف: «لكن ما الغرض منه؟ ولماذا هو مغلق؟»
أجاب باولو: «إنه مغلق من هذا الجانب، لكن لن يصعب علينا فتحه.»
كرر اللص: «ما الغرض منه؟»
أجاب الدليل: «الغرض منه منع تيار الهواء من الاندفاع في النفق والعصف بالحاجز الذي يخفي طرفه من هذا الاتجاه.»
قال توزا وهو يتحسس طرفه بحثا عن المزلاج الذي يغلقه: «ها هو.»
انسل المزلاج بسهولة، وانفتح الباب. وفي اللحظة التالية دفع قاطع الطريق بغلظة إلى داخل غرفة، وسمع صوت المزلاج يعود إلى مكانه في نفس لحظة غلق الباب تقريبا. أبهر الضوء القوي عينيه للحظة. ووجد نفسه في حجرة يعمها ضوء مشاعل يحملها اثنا عشر رجلا واقفين.
وكان في منتصف الحجرة قالب من الحجر مغطى بقماشة سوداء، وبجانبه جلاد مقنع يسند الطرف الحاد لفأس على القالب المغطى بالقماشة السوداء، ويمسك الطرف الآخر للفأس بيديه.
وكان الأمير واقفا هناك يحيطه مساعدوه. وفوق رأسه ساعة تشير إلى تمام الرابعة.
قال الأمير في تجهم: «وصلت في وقتك تماما! كنا في انتظارك!»
«والانضباط في اللعب»
عاد السيد سوندرز العجوز إلى المنزل مطأطئ الرأس عاقد الحاجبين غاضبا. لم يكن يعلم أن ديك كان معتادا على التأخر، ولكنه بات الآن يعلم ذلك علم اليقين. كان السيد سوندرز يخلد إلى النوم في وقت مبكر وينام بعمق، كما ينبغي لرجل ذي ضمير حي. لكن أم الفتى كانت بلا شك تعلم ساعات عودته ولم تقل شيئا، وهو ما زاد الأمر سوءا. شعر الأب أن الأم وابنها كانا متحالفين ضده. لقد كان مفرطا في اللين، وأراد الآن أن يتيقظ لما يدور حوله. يجب أن يغير ذلك الشاب سلوكه بسرعة أو يستعد لمواجهة العواقب. لم تعد أنصاف الحلول مجدية.
ما إن رأت السيدة سوندرز العجوز المسكينة زوجها يدخل المكان حتى أدركت أن عاصفة على وشك الهبوب، واعتمل في قلبها خوف شديد؛ لعلمها أن ابنها هو المتسبب في كل ما سيجري. حسمت الكلمات الأولى التي نطق بها العجوز الأمر.
قال السيد سوندرز: «متى وصل ريتشارد ليلة أمس؟»
أجابت مترددة: «لا ... لا أعرف.» وكان زوجها يسمي أسلوبها هذا في الحديث «مراوغة». كانت على الدوام تمثل حاجزا بين الأب وابنه منذ أن كان ديك طفلا.
سألها: «كيف لا تعرفين؟ من الذي أدخله؟»
تنهدت. كان هذا السر يؤرقها منذ وقت طويل، وكانت تعلم أنه سينكشف في لحظة مشئومة ستأتي يوما ما.
وقالت أخيرا: «لديه مفتاح.»
حدق العجوز فيها في ذهول عقد لسانه. لم يدر بخلده قط شيء سيئ كهذا حتى في أشد غضباته.
قال: «مفتاح! منذ متى يمتلك مفتاحا؟»
قالت السيدة سوندرز: «منذ ستة أشهر تقريبا. أراد تجنب إزعاجنا.»
قال السيد سوندرز: «هذا لطف شديد منه! وأين يقضي لياليه؟»
ردت السيدة سوندرز: «لا أعرف. قال لي إنه منتسب إلى أحد النوادي، ويمارس فيه نشاطا ما.»
قال السيد سوندرز: «هل قال لك إنه يمارس لعب الورق؟ هل قال لك إنه ناد للقمار؟»
قالت السيدة سوندرز: «أنا لا أصدق ذلك، أنا متأكدة أن ديك لا يقامر. فهو فتى طيب.»
قال لها: «يبدو أنك تعرفين الكثير إذن. هل تعتقدين أن المصرفي هاموند، مديره في العمل، لديه أدنى فكرة عن انتساب موظفه إلى ناد للقمار؟»
أجابت: «بالتأكيد لا أعلم ذلك. أهناك خطب ما؟ هل قال لك أحد شيئا عن ديك؟»
أجابها: «نعم، ولم يكن شيئا في صالحه.»
صاحت الأم في قلق: «يا إلهي!» ثم أردفت: «أهو السيد هاموند؟»
قال العجوز مهدئا نبرته قليلا بعد أن لاحظ مدى قلق زوجته: «لم أتحدث إلى هاموند في حياتي قط.» ثم أضاف: «أرى أن يتوقف عن ارتياد ذلك النادي قبل أن يتناهى إلى سمع المصرفي أن أحد موظفيه يرتاد ذلك النادي كل ليلة. إنك سترين ريتشارد عندما يعود إلى المنزل هذا المساء، أخبريه حينئذ أني أريد أن أتحدث إليه الليلة. اطلبي منه انتظاري هنا. سأكون هنا بعد أن يتناول عشاءه بقليل.»
قالت السيدة سوندرز: «لا تقس عليه. تذكر أنه أصبح شابا الآن؛ لذا، اتبع معه أسلوب النصيحة لا التهديد. الكلمات الغاضبة لا تفيد.»
قال العجوز بحزم: «سأؤدي واجبي.»
تنهدت السيدة سوندرز الرقيقة؛ إذ كانت تعرف ما يعني بتأدية واجبه. كانت العبارة بلا شك تمهيدا لمشكلة عائلية. كشف العجوز عما يخطط له عندما أعلن أنه سيؤدي واجبه.
قال العجوز وهو يهم بالانصراف: «أكدي عليه أن ينتظرني الليلة.» ثم أغلق الباب وراءه.
كانت السيدة سوندرز قد مرت في حياتها بالكثير من المتاعب، شأنها في ذلك شأن أي امرأة تعيش مع رجل غليظ الطباع. لم تتردد يوما في تجنيب ابنها كلمة قاسية أو ضربة وتلقي أيهما بدلا منه بلا تذمر. كانت قسوة العجوز قد وقفت حائلا بينه وبين ابنه. وكره ديك أيام صباه والخوف الدائم الذي وسمها. أما في السنوات الأخيرة التي تضاءل فيها الخوف حتى اختفى، فقد هاله أن اكتشف أن الحميمية الطبيعية بين الأب وابنه اختفت مع اختفاء الخوف. كان قد أقدم عدة مرات على محاولات حيية لمد جسور التفاهم بينهما، لكنها لسوء الحظ كانت تأتي في أوقات غير مناسبة لم يكن فيها الرجل العجوز على وفاق مع العالم بوجه عام، أما في الآونة الأخيرة فقد كان الصمت سيد الموقف بينهما. وكان الشاب يتجنب أباه قدر استطاعته؛ فلولا أمه لما مكث في المنزل. ارتبط الفتى بأمه برابطة ناعمة كالحرير وصلبة كالفولاذ؛ فقد كانت محبتها له ثابتة لا تتزعزع، وإيمانها به راسخا، ولم ينس لها وقوفها في صفه دائما حتى لو كان مخطئا. كان كثيرا يشعر بمتعة في الحيد عن جادة الصواب، لا لشيء سوى لتفنيد أفكار أبيه عن الطريقة التي ينبغي تربية الأطفال بها. غير أن ديك كان يكن للعجوز نوعا من الإعجاب، ولو طغى مزاجه الحاد بعض الشيء على مناقبه العديدة.
عندما عاد ريتشارد إلى المنزل ذلك المساء تناول عشاءه وحده كعادته. سحبت السيدة سوندرز كرسيا إلى الطاولة وجلست، وأخذت تحدثه عن عدة أمور وهو يتناول الطعام، لكنها تجنبت إثارة الموضوع الذي كان يشغل الحيز الأكبر من تفكيرها وأرجأته إلى اللحظة الأخيرة. فقد يمكث في المنزل من تلقاء نفسه ولا تضطر إلى أن تطلب منه ذلك. وكانت تراقبه عن كثب وهي تحدثه، وساورها القلق من التوتر الذي بدا على وجهه. كان قلقا من أمر ما، وكانت تأمل أن يبثها مكنون صدره، ومع ذلك مضت تتحدث عن أشياء أخرى. لاحظت أنه كان يتظاهر بالأكل فحسب، وأنه كان يتركها تتحدث كثيرا ولا يرد إلا لماما وبذهن شارد. وأخيرا أبعد كرسيه عن الطاولة وهو يطلق ضحكة بدت مفتعلة.
ثم قال: «حسنا يا أمي، ما الخطب؟ هل هناك مشكلة أم إنها لم تزل تلوح في الأفق؟ هل أقدم الرب الخالق على ...»
قاطعته: «صه يا ديك، لا يجب أن تتحدث هكذا. أرجو ألا تكون هناك مشكلة. أريد أن أتحدث معك عن النادي الذي تذهب إليه.»
رمق ديك أمه بنظرة حادة للحظة، ثم قال: «حسنا، ماذا يريد أبي أن يعرف عن النادي؟ هل يرغب في الانضمام إليه؟»
قالت: «لم أذكر أباك ...»
قال: «لا، أنت لم تذكري اسمه، لكن يا أمي العزيزة أنت شفافة كالزجاج. ويمكنني أن أرى بوضوح ما تخفين. والآن، لقد تحدث أحدهم إلى أبي عن النادي، وقد أعد العدة للحرب. حسنا، ماذا يريد أن يعرف؟»
قالت: «قال إنه ناد للقمار.»
قال: «أصاب، لأول مرة.»
سألت: «أوه، يا ديك، أهو كذلك؟»
أجابها: «بالتأكيد. معظم النوادي تعتمد على المقامرة والشراب. لا أعتقد أن المقامرة في نادي ترو بلو أكثر من غيره من النوادي، لكنها بالتأكيد ليست أقل.»
قالت: «أوه، يؤسفني أن أعرف ذلك يا ديك. ولكن، يا ابني العزيز، هل ...»
قاطعها: «هل أقامر؟ لا يا أمي، أنا لا أقامر. أعرف أنك ستصدقينني، رغم أن العجوز لن يصدقني. ومع ذلك، فهذه هي الحقيقة . ليست لدي أموال تكفي للمقامرة، ولست ثريا مثل هاموند العجوز بعد.»
قالت، وهي لم تود إخافة الفتى من احتمال طرده من العمل الذي كانت متأكدة من حدوثه إذا اكتشف أمره: «لقد ذكرني كلامك هذا بشيء يا ديك. أحد الأشياء التي كان أبوك يخشاها هو أن يعرف السيد هاموند بأنك منتسب إلى النادي. قد يضر ذلك بفرص تطورك المهني في المصرف.»
أراح ديك رأسه إلى الخلف وأطلق ضحكة عالية. واختفى تقطيب حاجبيه الموحي بشعوره بالقلق لأول مرة في تلك الأمسية. ولما رأى على وجه أمه علامات عدم الفهم استعاد جديته وكتم ضحكه بصعوبة نسبية.
وقال في النهاية: «يا أمي، تغيرت الأمور عما كانت عليه عندما كان أبي شابا، أخشى أنه لا يفهم ذلك جيدا. لم يعد الخوف هو الحاكم لعلاقة صاحب العمل والموظف، أو هذه تجربتي أنا على الأقل.»
قالت: «ومع ذلك، فإذا نمى إلى علم السيد هاموند أنك تقضي أمسياتك في ...»
قاطعها: «أمي، اسمعيني للحظة. السيد جوليوس هاموند، مديري، هو من رشحني لعضوية النادي! ما كنت لأفكر في الانضمام إليه أبدا لولاه. هل تتذكرين الزيادة الأخيرة في راتبي؟ اعتقدت بالطبع أنها كانت على أساس الكفاءة، وظن أبي أن الحظ حالفني للحصول عليها. لكن سببها لم يكن هذا ولا ذاك، أو ربما حصلت عليها للسببين معا. ما سأقوله لك الآن أريده أن يظل سرا بيننا. ولن أكشفه لأحد غيرك. استدعاني هاموند إلى مكتبه الخاص في عصر أحد الأيام، وكان البنك مغلقا، وقال لي: «سوندرز، أريدك أن تنضم إلى النادي الرياضي، سأرشحك له.» اندهشت وأخبرته أني لا يمكنني تحمل تكلفته. فقال: «لا، يمكنك.» ثم أردف: «سأزيد راتبك بضعف رسوم الاشتراك والتجديد السنوي. وإذا لم تنضم إلى النادي فسأخفض راتبك.» فانضممت إلى النادي. كان من الحمق ألا أفعل.»
قالت: «ديك، لم أسمع بشيء كهذا قط! أي سبب قد يجعله يريد منك الانضمام؟»
أجابها وهو يتفقد ساعته: «حسنا، هذه قصة طويلة يا أمي. سأخبرك بها مساء يوم آخر. ليس لدي وقت كاف اليوم. علي أن أنصرف.»
قالت له: «أوه، لا تخرج الليلة يا ديك. ابق في المنزل، أرجوك.»
مسد ديك شعر أمه الشائب وقبل جبهتها. ثم قال: «ألن يكون مساء الغد مناسبا يا أمي؟ لا يمكنني البقاء هنا الليلة. لدي موعد في النادي.»
قالت: «أبرق إليهم لتأجيله. ابق هنا الليلة أرجوك يا ديك. لم أطلب منك ذلك من قبل.»
عادت إلى وجهه ملامح القلق.
وقال: «أمي، هذا مستحيل حقا. أرجوك لا تطلبي ذلك مني مجددا. على أي حال، أعلم أن أبي هو من يريدني أن أظل هنا وليس أنت. أخمن أنه يريد أداء واجبه. لكني أعتقد أن ما يريد قوله يمكن أن ينتظر إلى الغد. إذا أراد أن يفرغ بعض ما يشعر به بشأن المقامرة، فليوجه جهوده إلى المكان الصحيح، ليتحدث إلى جول هاموند، لكن خارج ساعات العمل.»
قالت: «لا يمكن أن يكون ما تقصده أن رجل أعمال ومصرفيا موقرا مثل السيد هاموند يقامر؟»
قال: «أهكذا تظنين؟ بل السيد هاموند مقامر عتيد. إنه أفضل رجال الأعمال وأكثرهم حزما في المدينة من التاسعة إلى الثالثة. وإذا حدثته عن نادي ترو بلو الرياضي خلال تلك الفترة، فلن يعرف عم تتكلمين. لكنه بعد الثالثة سيراهن على أي شيء يخطر بالبال، بدءا من لعبة مطابقة البنسات وحتى المراهنة على فرس سباق مجهول.»
تنهدت السيدة سوندرز. وشعرت أن من الواضح أن ابنها يخوض غمار عالم شرير لكسب عيشه.
واصل الابن كلامه: «والآن يا أمي، علي أن أنصرف. سأمكث في المنزل ليلة الغد وأتلقى التوبيخ كالرجال. طابت ليلتك.»
قبلها وانصرف على الفور قبل أن تقول شيئا آخر، وتركها جالسة وقد عقدت يديها وتنتظر مجيء زوجها بصبرها المعتاد وشيء من التوجس. ثم جاء وقع أقدام ثقيل لم تخطئه السيدة سوندرز. فابتسمت في أسى وهي تسمعه، وتذكرت قول ديك ذات مرة إنه حتى ولو كان على أبواب الجنة لظل وقع أقدام أبيه يبعث في نفسه الرعب. وتذكرت أنها وبخته حينئذ على الشطط في هذا القول، لكنه علق بذاكرتها، وظلت تسترجعه كلما أوشكت رياح المتاعب على الهبوب، ولم تفتأ رياحها تهب.
قال العجوز أول ما قال: «أين ريتشارد؟ ألم يعد إلى المنزل بعد؟»
قالت: «كان في المنزل، لكنه اضطر إلى الخروج ثانية. كان مرتبطا بموعد.»
قال: «ألم تقولي له إني أردت الحديث معه؟»
ردت: «بلى، وقال إنه سيظل في المنزل ليلة الغد.»
قال: «هل علم أني قلت الليلة؟»
قالت: «لست متأكدة من أني أخبرته أنك ...»
قال: «لا تراوغي الآن. إما أن يكون قد علم وإما أنه لم يعلم. هل علم أم لا؟»
قالت: «نعم، علم بذلك، لكنه ظن أن الأمر قد لا يكون عاجلا؛ ولذا ...»
قال: «هذا يكفي. أين موعده؟»
قالت: «في النادي، على ما أظن.» «آهههه!» أصدر العجوز صوت تعجب طويل يوحي بأنه اكتشف أخيرا أن أسوأ ما توقع قد حدث بالفعل. وقال: «هل قال متى سيعود؟»
قالت: «لا.»
قال: «رائع للغاية. سأنتظره لمدة نصف الساعة، وإن لم يعد خلالها فسأذهب إلى ناديه وأتحدث إليه هناك.»
جلس السيد سوندرز العجوز في تجهم ولم يخلع قبعته، وشبك أصابع يديه على مقبض عصاه القوية، وأخذ يتابع دقات ساعة الحائط وهي تدق ببطء. وتحت وطأة هذا الظرف الموتر فقد عقل السيدة العجوز بوصلة الصواب، فأقدمت على أسوأ ما كان يمكن أن تفعل. كان عليها مجاراته فيما أراد، لكنها بدلا من ذلك عارضت خطته فزادته إصرارا عليها حتى باتت حتمية. قالت إن من القسوة أن يوبخ الرجل ابنهما أمام أصدقائه ويجعله أضحوكة بين معارفه. وأضافت أن كل ما أراد أن يقوله يمكن أن يقال ليلة الغد بدلا من اليوم وذلك في منزلهم حيث على الأقل لا يسمعهم غريب. لكن الرجل العجوز لم يرد، وجلس يراقب الساعة في صمت، فأثار ذلك سخطها عليه. وشعرت بتأنيب الضمير فقط لإحساسها بهذا الشعور تجاه زوجها المخلص، ومع ذلك بدا لها أنه لا يتصرف مع ديك بحكمة. وتمنت لو تحول اتجاه غضبه إلى نفسها بدلا من أن يصب جامه على ابنها، وكانت سترحب بانفجار غضبه فيها وحدها. وفي غمرة هذا الانفعال الذي بدا الفكاك منه الآن محالا، تجاسرت على القول: «لقد أخطأت في شيء واحد، وربما تكون قد أخطأت أيضا في ظنك أن ديك ... في ... في ظنك بديك.»
رمقها العجوز بنظرة حادة، ورغم ارتعادها منها فقد رحبت بها واعتبرت أنها نجحت في صرف انتباهه عما أراد.
وقال لها: «فيم أخطأت؟»
قالت: «لقد أخطأت، فالسيد هاموند يعرف أن ديك عضو في النادي. وهو نفسه عضو فيه أيضا، وقد أصر أن ينضم ديك إليه. ولهذا رفع راتبه.»
قال: «قصة معقولة! من أخبرك بها؟»
قالت: «ديك أخبرني بها بنفسه.»
قال لها: «وصدقته بالطبع!» وأطلق ضحكة اختلطت فيها السخرية والريبة، ثم عاد لمراقبة الساعة. فتوقفت السيدة سوندرز عن الجدال وطفقت تنتحب في صمت وهي ترجو أن تسمع خطى ابنها الخفيفة تقترب من الباب، لكن ذلك لم يحدث. وأعلنت الساعة انتهاء المهلة، فهب العجوز واقفا دون أن ينبس بكلمة، وعدل وضع قبعته على جبينه، وغادر المنزل.
حتى اللحظة الأخيرة لم تصدق السيدة سوندرز أن زوجها سينفذ تهديده. أما الآن وقد أدركت عزمه على المضي فيه، خطرت ببالها فكرة جامحة وهي أن تسرع إلى النادي وتحذر ابنها. ولكنها طردت هذه الفكرة بعد لحظة تدبر سريعة. ثم استدعت الخادمة فصور لها توترها أن خادمتها تلكأت في الاستجابة إلى حد أثار سخطها.
صاحت: «جين، هل تعرفين أين النادي الرياضي؟ هل تعرفين مكان شارع سنتر ستريت؟»
لم تكن تعرف جين موقع النادي ولا الشارع.
واصلت السيدة سوندرز كلامها: «أريد أن أرسل رسالة إلى ديك هناك، ويجب أن تصله بسرعة. ألا تعتقدين أنه يمكنك الإسراع إلى هناك ...»
لم تكن جين مستعدة للإسراع إلى أي مكان، فقالت: «الأسرع أن ترسلي إليه رسالة تلغرافية يا سيدتي.» ثم أضافت: «هناك ورق تلغراف في غرفة السيد ريتشارد، والمكتب في أول الشارع.»
قالت السيدة سوندرز: «هذا هو الحل يا جين، من الجيد أنك فكرت في ذلك. أحضري لي نموذج تلغراف. أسرعي.»
كتبت بيد مرتعشة وحاولت الإيضاح قدر استطاعتها حتى لا تصعب على ابنها قراءة الرسالة:
ريتشارد سوندرز، النادي الرياضي، شارع سنتر ستريت
أبوك قادم إليك. سيكون في النادي في غضون نصف الساعة.
قالت السيدة سوندرز وهي تسلم الرسالة والنقود لجين: «لا حاجة إلى التوقيع، سيعرف خط أمه»، ولم تعلق جين؛ إذ لم يكن علمها بنظام التلغراف أكثر من علم سيدتها. وبعد أن فعلت السيدة العجوز كل ما في وسعها أخذت تصلي أن تصل الرسالة قبل زوجها، واستجيبت صلواتها، فالكهرباء أسرع من قدمي الرجل العجوز.
وفي غضون ذلك، كان السيد سوندرز في طريقه من الضاحية إلى المدينة. وظلت عصاه المتينة تنقر الرصيف الحجري مصدرة صوتا حادا كان أشبه بطلقات نارية تقطع سكون الليل البارد. كان عازما على أن يثبت لابنه ولزوجته أن تقدم عمره لا ينتقص من دوره القيادي في إدارة شئون بيته. كان يخاطب نفسه غاضبا أثناء مشيه، وأزعجه هدوء غضبه كلما اقترب من وجهته. يجب أن تقاوم نار الغضب الهواء البارد العليل الذي يهب أثناء هذه التمشية المسائية.
خالج السيد سوندرز بعض الحرج عندما وجد مبنى النادي صرحا أكثر وقارا مما توقع. لم يكن في مظهر نادي ترو بلو الرياضي انحطاط أو ابتذال. بل كانت إضاءته جيدة من أعلاه إلى أسفله. وكان جمع من الرجال يقفون على حافة الرصيف واضعين أيديهم في جيوبهم وكأنهم في انتظار شيء ما. كان هناك ما يوحي بإقامة فعالية ما في المكان. وسأل العجوز أحد الواقفين أمام المكان للتأكد من أنه النادي الرياضي بالفعل.
فجاءه الرد: «نعم، إنه هو، هل ستدخل؟»
قال السيد سوندرز: «هذا ما أنتويه.»
سأل الرجل: «هل أنت عضو؟»
رد السيد سوندرز: «كلا.»
فقال الرجل: «ألديك دعوة؟»
رد السيد سوندرز: «كلا.»
قال الرجل: «إذن فلن تتمكن من الدخول على الأرجح. لقد حاولنا فعل ذلك بشتى الطرق.»
لم يدر بخلد العجوز قط احتمال عدم تمكنه من الدخول ومكوث ابنه آمنا داخل مبنى النادي في تحد له، وهو ما أجج نار غضبه من جديد وزاده إصرارا.
قال السيد سوندرز، وهو يصعد الدرج الحجري: «سأحاول على الأقل.»
راقبه الواقفون مبتسمين . وشاهدوه يضغط الجرس الكهربي، فانفتح الباب بعض الشيء. ودار حديث مقتضب لم يسمعه أحد، ثم انفتح الباب على اتساعه، ودخل السيد سوندرز، ثم أغلق الباب.
قال الرجل الواقف على حافة الرصيف: «يا إلهي! يا ترى كيف نجح العجوز في الدخول؟ ليتني سألته.» ولم يعلق أي من الآخرين، فقد عقدت صدمة تمكن الرجل العجوز من الدخول ألسنتهم، رغم أنه كان قد اضطر أن يسأل ما إذا كان هذا هو النادي.
عندما فتح الحارس الباب كرر أحد الأسئلة التي كان الرجل الواقف على حافة الرصيف قد سألها منذ لحظة: «ألديك دعوة يا سيدي؟»
فأجاب السيد سوندرز: «كلا»، ودفع عصاه برفق إلى الداخل بحيث يتعذر غلق الباب قبل أن يسحبها. ثم واصل كلامه: «أريد مقابلة ابني، ريتشارد سوندرز. أهو بالداخل؟»
ففتح الحارس الباب على الفور.
وقال: «نعم سيدي. إنهم في انتظارك، يا سيدي. رجاء تعال من هنا يا سيدي.»
تبع العجوز الحارس مستغربا حفاوة استقباله له. لا بد أن في الأمر خطأ ما. في انتظاره؟ كيف ذلك؟! أرشده الرجل إلى قاعة استقبال بالغة الفخامة يتدلى من سقفها عدد من المصابيح الكهربية فملأها بنور هادئ.
قال الحارس: «تفضل بالجلوس يا سيدي. سأخبر السيد هاموند بوصولك.»
قال السيد سوندرز: «مهلا لحظة. أنا لا أريد مقابلة السيد هاموند. أنا لا علاقة لي به. أريد رؤية ابني. هل تقصد السيد هاموند المصرفي؟»
قال الحارس: «نعم سيدي. لقد كلفني بإدخالك إلى هنا عندما تأتي ثم إخباره على الفور.»
مرر العجوز يده على جبينه، وقبل أن يرد كان الحارس قد اختفى. فجلس على أحد الكراسي الجلدية الوثيرة وأخذ يحدق في الغرفة متحيرا. كل اللوحات الجميلة المعلقة على الحائط لها صلة شديدة بالرياضة. هناك يخت صغير ذو صوار عالية رفيعة، وشراع كبير يميل بزاوية تبدو خطيرة، ويبدو كأنه يبحر نحو من ينظر إليه مباشرة. وهناك ملاكمون عراة الصدور يرفعون قبضاتهم في تحفز. وهناك أيضا خيل سباق بعضها مستثار وبعضها هادئ هنا وهناك. وفي وسط الغرفة توجد قاعدة تمثال من الرخام الأسود عليها مزهرية فضية ضخمة مزخرفة. لم يكن الرجل العجوز يعرف أن هذه القطعة الفنية البديعة من الفضة كانت تسمى «الكأس». وكان أحدهم قد علق عليها لافتة تحمل العبارة الآتية، التي كانت مكتوبة على عجل:
دعيني أودعك، وإن لم أرك ثانية،
فدعيني أقل لك للأبد وداعا.
وبينما كان العجوز يتساءل عن معنى ذلك، انفتحت فرجة في الستار فجأة ودخل عجوز يرفل في بذلة مسائية مهندمة في فتحة زر سترتها وردة. فأدرك سوندرز على الفور أنه المصرفي وانزعج مما اعتبره مظهره المبهرج، وأدرك في الوقت ذاته تواضع ملابسه هو؛ فقد كان يرتدي بذلة عادية لا تبدو عليها الفخامة ولو كانت جديدة.
قال المصرفي: «كيف حالك يا سيد سوندرز؟» ومد يده بحرارة لمصافحته. ثم واصل كلامه: «يسعدني لقاؤك كثيرا. وصلتنا رسالتك التلغرافية، ورأينا أن من الأفضل ألا نعطيها لديك. تجرأت وفتحتها بنفسي. فالانتباه إلى هذه التفاصيل الدقيقة واجب. أمرت الحارس باستقبالك وإخباري فور وصولك. لا شك أنك قلق على ابنك بشدة.»
قال العجوز بحزم: «نعم.» ثم أردف: «ولهذا أنا هنا.»
قال السيد هاموند: «بالتأكيد، بالتأكيد. وكذلك نحن جميعا، أعتقد أني أكثرهم قلقا. هل تريد معرفة ما إذا كانت أموره تجري على ما يرام؟»
قال السيد سوندرز: «نعم، أريد معرفة الحقيقة.»
قال السيد هاموند: «في الواقع، يؤسفني إخبارك أن الحقيقة أسوأ ما يمكن. فهو ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ويؤسفني ذلك أكثر من أي شخص آخر.»
قال السيد سوندرز: «هل تعني ذلك حقا؟»
رد السيد هاموند: «نعم. لا جدوى من خداع أنفسنا. انقطع أملي فيه بصراحة. لا فرصة له في استعادة ما خسر.»
نظم العجوز أنفاسه، واستند إلى عصاه. وأدرك الآن عدم جدوى غضبته السابقة. لم يدر بخلده قط أن ابنه كان يحيد عن الصواب. وكان وراء غلظته حب شديد لابنه وإيمان راسخ به. أدرك أنه ترك عادته في فرض السيطرة تتملك منه، ثم ها هي الحقيقة المرة تصدمه أثناء مطاردته للسراب.
قال المصرفي بعد أن لاحظ انفعاله: «اسمع، اشرب معي بعضا من مشروب السكوتش الذي نتميز به. إنه الأفضل من نوعه. إننا نخلع قبعاتنا دائما عند الحديث عن مشروبنا المميز في هذا النادي. وبعد ذلك يمكننا أن نذهب لتفقد الوضع.»
وعندما التفت لطلب المشروب، لاحظ لأول مرة اللافتة المعلقة على الكأس.
وقال بغضب: «من الذي وضع هذه هنا؟» ثم أردف: «لا فائدة من الاستسلام قبل الهزيمة.» ثم أخذ اللافتة ومزقها ورماها في سلة المهملات.
وسأل العجوز بصوت مبحوح وهو يتذكر ثناء الرجل على السكوتش: «هل يشرب ريتشارد الخمر؟»
رد السيد هاموند: «كلا. ولا يدخن أيضا. والأغرب أنه لا يقامر أيضا. من الطبيعي للشيوخ من أمثالي وأمثالك أن يشربوا السكوتش - فليباركه الرب - لكن إذا أراد شاب أن يحافظ على اتزان أعصابه فعليه أن يعيش كراهب. أعتقد أنه يعيش قصة حب. ولا جدوى بالطبع من أن أسألك عن ذلك، إذا صح الأمر فستكون آخر من يعلم. عندما جاء الليلة لاحظت أنه قلق من أمر ما. سألته ما الأمر، لكنه قال إن كل شيء على ما يرام. تفضل الشراب! ستلاحظ أن له مفعولا واضحا.»
جرع العجوز بعضا من المشروب المميز، ثم قال: «هل صحيح أنك حضضت ابني على الانضمام إلى النادي؟»
قال السيد هاموند: «بالتأكيد. لقد سمعت من أحد الثقات عما يمكن لسوندرز الشاب فعله، فقلت في نفسي بأنه يجب ضمه إلى عضوية النادي.»
قال السيد سوندرز: «ألا تعتقد إذن أن الخطأ إلى حد كبير خطؤك؟»
رد السيد هاموند: «أوه، أنت محق إلى حد ما. ولكني أيضا الخاسر الأكبر. إنني أخسر عشرة آلاف بسببه.»
صاح الأب مصدوما: «يا إلهي!»
نظر المصرفي إلى العجوز ببعض العصبية، وبدا أنه يخشى ألا يكون في كامل وعيه. ثم قال: «لا شك في أنك تتوق لمعرفة إلى أين سيصل الأمر. تعال معي، ولكن احذر أن يراك الفتى. فقد يفزعه ذلك. سأهيئ لك مكانا في الخلف يمكنك أن تراه منه دون أن يراك.»
وقفا، وتقدم المصرفي متسللا بين الستائر حتى دخلا غرفة كبيرة بها جمع من الرجال الصامتين يشاهدون لاعبا على طاولة بلياردو في وسط الغرفة. كانت قد أعدت حول الغرفة مقاعد مؤقتة متراصة في مستويات، ولم يكن أيها شاغرا. لاحظ سوندرز ابنه واقفا بالقرب من الطاولة يرتدي قميصه ويسند الطرف السميك لعصا البلياردو على الأرض. كان وجهه شاحبا وشفتاه مزمومتين وهو يشاهد خصمه في انبهار. كان من الواضح أنه كان في ورطة يحاول أن يخرج منها لكن بلا جدوى، لكنه أصر على المنافسة إلى النهاية.
لم يفهم العجوز سوندرز الموقف بالكامل، لكنه تعاطف مع ابنه تماما، وشعر بكراهية غريزية لخصمه الواثق الذي كان يسقط الكرات في الفتحات بدقة شديدة كان من الواضح أنها أرعبت نصف المشاهدين على الأقل.
وفجأة علا تصفيق المتابعين، ونصب اللاعب قامته ضاحكا.
قال المصرفي: «يا إلهي! لقد أخطأ. لم يضرب الكرة بقوة كافية. ربما بسبب شعوره باللوم الموجه إليه. لن أستغرب إن انعكس الحظ. يبدو أنك قد تجلب الحظ لابنك يا سيد سوندرز.»
نقل العجوز إلى كرسي مرتفع في مؤخرة الغرفة. وعلا صخب الحديث بين المتابعين في حين وقف الشاب سوندرز يكسو طرف عصاه بالطبشور وبدا عليه التردد في اللعب.
اختلط هاموند بالجمهور، وأخذ يتحدث إلى بعضهم بحماس. في حين سأل العجوز سوندرز الرجل المجاور له: «ما كل هذا؟ أهي مباراة مهمة؟»
أجابه الرجل: «مهمة؟! بالطبع. أعتقد أن المراهنات عليها تفوق كل المراهنات على أي مباراة بلياردو جرت في السابق. جول هاموند وحده راهن على سوندرز بعشرة آلاف.»
تنهد العجوز في ارتياح. وبدأ يفهم الأمر. ليست العشرة آلاف أموالا اختلسها ابنه إذن.
واصل الرجل: «إنها مباراة مهمة على الكأس. لقد أقيم عدد من المباريات، وهذه هي المباراة الحاسمة. فاز بروجنور بمباراة وسوندرز بمباراة، وهذه هي المباراة الفاصلة. ينتمي بروجنور إلى نادي هاي فلايرز. وهو لاعب بارع. أما سوندرز فقد فاز بالكأس لهذا النادي العام الماضي؛ لذا فلن يمكنهم التذمر كثيرا إذا خسروا الآن. لم يجدوا أحدا قط في براعة سوندرز منذ تأسيس النادي. وأشك أن في هذا البلد كله هاويا يضاهيه براعة. إنه رجل يستحق الفخر به، على الرغم من أنه يبدو أنه سيتلقى هزيمة ساحقة الليلة. سينكلون به جميعا في الغد إذا خسروا أموالهم، على الرغم من أنه لم يغير شيئا في أسلوبه. أعتقد أن كثرة المراهنات أقلقته وأثرت بالسلب على براعته في اللعب.»
وفجأة تهامس المتابعون في الغرفة: «صه! صه!» ثم هم الشاب سوندرز باللعب. ووقف بروجنور وهو يبتسم في تعال. كان واثقا من تفوقه عندما يحين دوره ثانية.
لعب سوندرز بحرص بالغ، ولم يخاطر، وانهمك أبوه في متابعته حابسا أنفاسه في اهتمام. لم يكن يعرف عن اللعبة شيئا لكنه سرعان ما فهم كيف تحرز النقاط. أما الشاب فلم يرفع عينيه من على الكرات والغطاء الأخضر للطاولة. ظل يأخذ مواضع مختلفة حول الطاولة بتأن لم يبالغ فيه. وكانت كل الأعين معلقة بلعبه، ولم تصدر في الغرفة الكبيرة كلها نأمة سوى قرقعة الكرات من وقت لآخر. وتابع الأب براعة اللاعب في التحكم في الكرات العاجية التي بدت له ضربا من السحر. فقد تدحرجت الكرات ذهابا وارتدت وتصادمت على نحو بدا معه أن الرجل يفرض إرادته على الكرات لتذهب في هذا الاتجاه أو ذاك. كانت اللمسات بارعة والدقة في استخدام القوة متناهية، فضلا عن حسن تقدير الزوايا، والنظرة الثاقبة والتحكم في العضلات، فانبهر العجوز باجتماع كل هذه المهارات الفريدة في شخص واحد هو ابنه.
وفي النهاية كانت هناك كرتان متقاربتان، وبدا أن الشاب كان من البراعة بحيث أبقاهما في هذا الوضع كما لو كان سيواصل إحراز النقاط بلا انقطاع. واصل اللعب بعض الوقت، حتى كسر بروجنور الصمت فجأة وصاح: «لا أسمي هذا بلياردو حقيقيا. إنه لعب أطفال.»
وفجأة علا الضجيج. ووضع سوندرز عصاه على الأرض ووقف بهدوء وسط عاصفة الهتاف، وتركزت عيناه على الطاولة المكسوة بالغطاء الأخضر. وعلت هتافات منها: «لم يقاطعك أحد»، و«القرار للحكم»، و«العب يا سوندرز»، و«لا تنخدع». ووقف العجوز مع الواقفين وحدت به روح المنافسة الطبيعية لديه أن يشارك في الهتاف ويدعو إلى الإنصاف في اللعب. وقف الحكم وطالب بالنظام . وعندما هدأت عاصفة الهتافات جلس. لكن بعضا من المنتمين لنادي هاي فلايرز هتفوا قائلين: «القرار! القرار!»
قال الحكم في حزم: «ليس هناك ما ينبغي اتخاذ قرار بشأنه.» ثم أردف: «واصل اللعب يا سيد سوندرز.»
ثم أقدم السيد سوندرز على فعل شيء حبس أنفاس أصدقائه. لقد تعمد ضرب الكرات بالكرة البيضاء ليشتتها في أرجاء الطاولة. فأطلق المنتمون لنادي ترو بلو شهقات متزامنة.
قال الرجل المجاور لسوندرز العجوز: «هذا رائع، لكنها ليست حربا.» ثم أضاف: «لا يحق له تفويت أي فرصة وهو متأخر هكذا.»
وتدخل رجل من ناحية اليمين قائلا: «أوه، إنه ليس متأخرا كثيرا. انظر إلى النتيجة.»
جمع سوندرز الكرات بعناية من جديد، ثم أحرز بعض النقاط بإسقاط بعضها، ثم ضرب الباقي من جديد لتنتشر حول الطاولة. وكرر ذلك ثلاث مرات. وبدا عليه الإصرار على إظهار سيطرته على الطاولة تماما. وفجأة انطلقت هتافات تشجيع صاخبة، وتوقف سوندرز الابن عن اللعب كما حدث في السابق دون أن يرفع عينيه عن الطاولة.
صاح العجوز متحمسا وبشفتين جافتين: «ماذا يعني ذلك؟»
قال الشخص المجاور له: «ألا ترى؟ لقد حقق التعادل. أعتقد أن هذا لم يحدث من قبل. أعتقد أنه يتلاعب ببروجنور كيف يشاء.»
نهض هاموند والحماس ظاهر على وجهه، وأمسك بذراع العجوز بقوة آلمته.
وقال بين تصفيق صعب سماع صوته: «هل رأيت ما هو أكثر إبهارا من ذلك من قبل؟» ثم أردف: «أصبحت مستعدا لخسارة العشرة آلاف الآن بلا تذمر. لقد جلبت له الحظ حقا.»
عقد حماس العجوز الشديد لسانه، لكنه أمل ألا يقدم ابنه على أي مخاطرة أخرى. ومن جديد جاءت قرقعة الكرات. وسعد الأب لملاحظة عودة الحرص والعناية إلى أسلوب لعب ابنه. وعم صمت مشوب بالتوتر الشديد. ومال الجميع إلى الأمام وحبسوا الأنفاس.
وفجأة تقدم بروجنور إلى طاولة البلياردو ومد يده فوقها. وانطلقت صيحة تشجيع هزت سقف الغرفة. ستظل الكأس على قاعدتها الرخامية السوداء. لقد فاز سوندرز. وصافح يد خصمه الممدودة، وماج المبنى بالهتاف.
اخترق المصرفي هاموند حشود المهنئين وربت على كتف الفائز بحرارة.
وقال: «لقد كانت مباراة رائعة يا ديك. لقد جلب لك أبوك الحظ يا بني. فقد تغير حظك فور دخوله. علق أبوك عيناه بك طوال الوقت.»
صاح ديك متفاجئا: «ماذا؟!»
علت الحمرة وجهه الشاحب ما إن التقت عيناه بعيني أبيه، على الرغم من الحنو البادي في نظرة العجوز.
قال الأب عندما وصل إليه في النهاية: «أنا فخور بك للغاية يا بني.» ثم أردف: «يتطلب الفوز بمباراة كهذه مهارة وشجاعة وقوة أعصاب. سأنصرف الآن لإخبار أمك بما حدث.»
قال ديك: «انتظر لحظة يا أبي، وسنمشي إلى المنزل معا.»
قصة بروملي جيبرتس
لم تكن الغرفة التي كان جون شورلي يحرر فيها صحيفة ذا ويكلي سبونج مفروشة بأثاث فخم، لكنها كانت مريحة. وكانت تزين حوائطها بعض اللوحات التي كان أغلبها باللونين الأبيض والأسود، التي رسمها فنانون اضطرهم حظهم العثر إلى الرسم لصحيفة ذا سبونج لقاء مقابل بخس. وتناثرت في أرجاء الغرفة مجلات وصحف كثيرة، معظمها أمريكية؛ إذ كان شورلي من المدرسة التحريرية التي تعلم المنتسبين إليها التوفير بالسرقة من المنشورات الأجنبية بدلا من إنفاق الأموال على الإسهامات الأصلية. كل ما عليك فعله هو سرقة القصة، واستبدال لندن بنيويورك، ومانشستر أو ليفربول ببوسطن أو فيلاديلفيا، وبهذا ينتهي الأمر.
كان شورلي يؤمن بنظرية مفادها أن العامة حمقى لا يجيدون التمييز. وزعم أن الكثير من قصص النجاح العظيمة في مجال الصحافة في لندن تثبت ذلك، ومع ذلك فقد كانت صحيفة ذا سبونج كثيرا ما تشتري القصص من الكتاب البارزين، وتفتخر بذلك بشدة.
تناثرت المخطوطات على طاولة شورلي، لكن اهتمام المحرر العظيم لم يكن منصبا عليها. بل جلس في كرسيه الخشبي ذي الذراعين يحدق في نار المدفأة وهو مقطب الجبين. لم يكن حال صحيفة ذا سبونج على ما يرام، وكان يخشى أن يضطر إلى اللجوء إلى بعض الخطط الترويجية التي كثيرا ما ساعدت الأعمال الأدبية الأصلية في أماكن أخرى، أو عرض تأمين قيمته ألف جنيه، على نحو يبدو للقارئ المداوم سخاء كبيرا، وفي الوقت ذاته يستحيل دفعه إذا وقعت كارثة بالفعل.
وبينما هو منغمس في تأملاته، دخل عليه أحد الموظفين وقال: «السيد بروملي جيبرتس يريد لقاءك.»
قال المحرر، وقد اشتد عبوسه وتقطيب جبينه: «قل له إني مشغول الآن ... أخبره بأنني منشغل.»
غير أن هذه الرسالة لم تشغل بال الموظف قط؛ إذ لم يكد يسمعها حتى دخل جيبرتس يرفل في معطف طويل فضفاض تحتك أهدابه بكعبي حذائه.
قال جيبرتس مشيرا إلى الفتى الذي وقف فاغرا فاه مستنكرا هذا التطفل: «لا عليك.» ثم واصل جيبرتس كلامه: «لقد سمعت ما قاله السيد شورلي. إنه منشغل. لا تدع أحدا يدخل علينا. واخرج أنت.»
انصرف الفتى وأغلق الباب وراءه. وأدار جيبرتس المفتاح في قفل الباب، ثم جلس.
وقال: «الآن يمكننا الحديث بلا إزعاج يا شورلي. أعتقد أنك تنزعج كثيرا من كل صنوف الحمقى الذين يدخلون عليك ويقاطعونك.»
قال المحرر باقتضاب: «هذا صحيح.»
قال جيبرتس: «إذن اسمع نصيحتي، وأغلق الباب. وتواصل مع المكتب الخارجي بأنبوب حديث. أرى أنك مهموم، وقد جئت لإسعادك. لقد جئت إليك بقصة يا فتى.»
زمجر شورلي.
وقال: «عزيزي جيبرتس، لدينا الآن ...»
قاطعه جيبرتس: «أعلم، أعلم الأمر كله. لديكم ما يكفي من مادة لتشغيل الصحيفة خمسة عشر عاما قادمة. وإذا كان ما جئتك به قصة كوميدية، فستقول لي إنكم لا تنشرون إلا الأمور الجدية. وإذا كانت قصة مأساوية، فستقول لي إنكم بحاجة إلى بعض الدعابة. أما الحقيقة الأكيدة فهي أنكم يعوزكم المال، ولا يمكنك دفع السعر الذي أطلبه. صحيفة ذا سبونج تنهار، والجميع يعرف ذلك. لم لا يمكنك قول الحقيقة يا شورلي على الأقل لي؟ إذا تدربت ساعة كل يوم، وتعلمت بعض الدروس - مني أنا على سبيل المثال - فستتمكن من التلفظ بالكثير من الجمل الصادقة المتتابعة في غضون شهر واحد.»
ضحك المحرر في مرارة.
وقال: «أنت تجيد المجاملة.»
رد جيبرتس: «غير صحيح. جرب مرة أخرى يا شورلي. قل إنني أبله وقح.»
قال المحرر: «حسنا، أنت كذلك.»
قال جيبرتس: «أرأيت كم كان ذلك سهلا؟! التدريب سر النجاح. أما فيما يتعلق بهذه القصة، فهل ...»
قال المحرر: «كلا. بما أنك لست معلنا، فأنا لا أخشى أن أعترف لك بأن الصحيفة تنهار. النتيجة واحدة مهما كانت الأسباب. ليس لدينا المال كما تقول، فما الفائدة إذن من الحديث؟»
قرب جيبرتس كرسيه من المحرر ووضع يده على إحدى ركبتيه. وقال بجدية: «هذا وقت الحديث يا شورلي. فقد كاد الأوان يفوت. إنك ستودي بصحيفة ذا سبونج إلى الانهيار. خطؤك الكبير هو محاولة امتطاء حصانين منطلقين في اتجاهين مختلفين. وهذا غير ممكن يا فتى. اتخذ قرارك واختر إما أن تكون لصا أو رجلا شريفا. هذه هي الخطوة الأولى.»
قال المحرر: «ماذا تعني؟»
رد جيبرتس: «أنت تعلم ما أعني. إما أن تجعل قوام صحيفتك كله من المواد المسروقة، أو أن تجعله كله من مواد أصلية.»
قال المحرر: «لدينا الكثير من المواد الأصلية في صحيفة ذا سبونج.»
قال جيبرتس: «نعم، وهذا ما أعترض عليه. إما أن تكون موادك كلها أصلية أو كلها مسروقة. إما أن تكون سمكة أو طائرا. كل أسبوع يجد مائة شخص على الأقل في صحيفة ذا سبونج مقالا مسروقا قرءوه في مصدر آخر من قبل. فيظنون أن كل محتوى الصحيفة مسروق فتخسرهم كقراء. وليست هذه طريقة مربحة في إدارة العمل؛ لذا أريد أن أبيع لك قصة أصلية واحدة ستصبح أهم قصة تكتب في إنجلترا هذا العام.»
قال شورلي بضجر: «أوه، كل القصص التي ترسل إلي تكون كذلك.» ثم أردف: «كل منها يعد أهم قصة من وجهة نظر كاتبها.»
قال جيبرتس غاضبا: «اسمع يا شورلي، يجب ألا تتحدث إلي بهذه اللهجة. أنا لست كاتبا مغمورا، وأنت تعلم ذلك جيدا. وأنا لا أحتاج إلى الترويج لبضاعتي.»
قال المحرر: «لماذا جئت تلقي علي هذه المحاضرة إذن؟»
قال جيبرتس: «لمصلحتك أنت يا شورلي»، وهدأت أعصابه بنفس سرعة ثورتها. كان رجلا لا يمكن التنبؤ بما في جعبته. ثم كرر: «لمصلحتك أنت، وإذا لم تقبل هذه القصة، فسيقبلها غيرك. وستكون سببا في ابتسام الحظ للصحيفة التي تحصل عليها. والآن، اقرأها وسأنتظر أنا . ها هي ذي مكتوبة على الآلة الكاتبة بحجم خط مريح لعينيك المباركتين.»
أخذ شورلي المخطوطة وأوقد مصباح الغاز؛ إذ كان الظلام قد بدأ يحل. وجلس جيبرتس لبعض الوقت، ثم طفق يذرع الغرفة على نحو أبدى شورلي استياءه منه. لم يكتف بذلك فأخذ قضيب المدفأة وزاد نار المدفأة اشتعالا محدثا بعض الضجيج. وصاح أخيرا: «بالله عليك، اجلس يا جيبرتس واهدأ!»
أمسك جيبرتس قضيب المدفأة كسلاح وحدق في المحرر.
وقال في حدة: «لن أجلس، وسأحدث القدر الذي يحلو لي من الضجيج.» وبينما كان واقفا في تحد، رأى شورلي في عينيه أمارات الجنون.
قال شورلي، وهو يواصل قراءة القصة: «أوه، حسنا، إذن.»
وقف جيبرتس ممسكا بقضيب المدفأة من منتصفه للحظة، ثم ألقى به على رف المدفأة محدثا قرقعة عالية، ثم جلس، وعلق نظره بنار المدفأة بلا حراك حتى قلب شورلي الصفحة الأخيرة.
قطع جيبرتس سكونه قائلا: «حسنا، ما رأيك؟»
قال المحرر دون اهتمام: «قصة جيدة يا جيبرتس، كل قصصك جيدة.»
هب جيبرتس واقفا وأطلق لعنة.
وقال في هياج: «هل تعني أنك لا ترى في هذه القصة أي شيء مختلف عما سبق أن كتبته أنا أو غيري؟ سحقا يا شورلي، أنت لا يمكنك تمييز القصة الجيدة ولو وجدتها أمامك في شارع الصحافة فليت ستريت! ألا ترى أن الكاتب بذل فيها كل ما في وسعه؟»
مد شورلي ساقيه ودس يديه في جيبي بنطاله.
وقال: «ربما يكون وصفك لطريقة كتابتها صحيحا، على الرغم من أني أعتقد أنك قلت منذ لحظة إنها كتبت على الآلة الكاتبة.»
قال جيبرتس، عائدا إلى الوجوم من جديد: «دعك من المزاح يا شورلي.» وواصل: «أنت لا تعجبك القصة إذن؟ لم تر فيها شيئا استثنائيا، لا غرضا ولا قوة ولا عاطفة ولا حياة ولا موتا ... لا شيء؟»
قال المحرر: «فيها ما يكفي من الموت في نهايتها. ما أعترض عليه هو كثرة الدم والعنف فيها. لا يمكن أن تحدث مأساة كهذه. لا يمكن لرجل أن يقصد بيتا ريفيا ويذبح كل من فيه. هذا سخف .»
هب جيبرتس واقفا وبدأ يذرع الغرفة في حماس. وفجأة توقف أمام صديقه، وجعله معطفه الطويل يبدو أطول قامة مما هو عليه بالفعل.
وقال: «هل سبق أن قصصت عليك مأساة حياتي؟ وكيف أن الممتلكات التي كان من الممكن أن تحميني من الفاقة قد ...»
قال المحرر: «لقد أخبرتني بذلك بالطبع يا جيبرتس. اجلس. لقد أخبرت الجميع بذلك. وأخبرتني أنا عدة مرات.»
قال جيبرتس: «وكيف أن قريبي احتال علي وسلبني ...»
قال المحرر: «بالطبع. سلبك أرضك والمرأة التي كنت تحبها.»
قال جيبرتس: «أوه! يبدو أنني أخبرتك، أليس كذلك؟» وبدا عليه الحرج من معرفة المحرر بهذه الظروف. جلس وأسند رأسه إلى يديه. وساد صمت طويل بين الاثنين، قطعه جيبرتس في النهاية بقوله: «إذن أنت لم تعجبك هذه القصة؟»
قال المحرر: «أوه، لم أقل ذلك. يمكنني أن أرى أنها قصة حياتك الحقيقية وقد أضيفت إليها نهاية خيالية دامية.»
قال جيبرتس: «أوه، لقد لاحظت ذلك، أليس كذلك؟»
قال المحرر: «بلى. كم تريد ثمنا لها؟»
قال جيبرتس: «خمسين جنيها.»
قال المحرر: «كم؟»
رد جيبرتس: «قلت لك خمسين جنيها. هل أصابك الصمم؟ وأريد المال الآن.»
قال المحرر: «يا لبراءة قلبك، يمكنني شراء قصة أطول من أبرز الكتاب الأحياء نظير أقل من خمسين جنيها. لقد جننت يا جيبرتس.»
نظر إليه جيبرتس فجأة في تعجب، كما لو لم تكن هذه الفكرة قد خطرت له في السابق. بدا مستغرقا في الفكرة تماما. فقد تفسر هذه الفكرة الكثير من الأمور التي لطالما حيرته وحيرت أصدقاءه. فكر في الأمر لحظات قليلة ثم هز رأسه في النهاية.
وقال متنهدا: «كلا يا شورلي.» ثم أردف: «يعلم الرب أني لم أجن، رغم أني مررت بما يكفي لإصابتي بالجنون. يبدو أني لم أحظ بنصيب من الحظ يناهز ما حصل عليه آخرون. ليست لدي نزعة للجنون. لكن دعنا نعد إلى القصة. أنت تعتقد أن خمسين جنيها أكثر مما تستحق. إنها ستجعل الحظ يبتسم للصحيفة التي ستنشرها. دعني أر. كنت أتذكر منذ قليل لكن الفكرة غابت عن ذاكرتي الآن. ماذا كان وجه اعتراضك وما رأيته غير طبيعي؟»
قال المحرر: «المأساة. هناك قتل بالجملة في النهاية لدرجة مبالغ فيها.»
قال جيبرتس: «آه! تذكرت الآن! تذكرت الآن!»
بدأ جيبرتس يذرع الغرفة بنشاط مجددا ويضرب كفا بكف. وظهر الحماس الشديد على وجهه.
وقال: «نعم، تذكرت الآن. المأساة. أن يكون هناك كل هذا القتل، رجل واحد يقتل كل من في المنزل الريفي، تخيل إن حدث ذلك فعلا. ألن يثير ذلك ضجة في إنجلترا كلها؟»
رد المحرر: «بالطبع.»
قال جيبرتس: «إنه بالتأكيد سيفعل ذلك. والآن أنصت إلي. سأرتكب أنا هذه الجريمة المزعومة. بعد أسبوع من نشرك القصة، سأذهب إلى ذلك المنزل الريفي، تشانور تشيس. إنه
المنشورة في صحيفة ذا سبونج هي القصة الحقيقية لما وراء المأساة. وفي غضون أسبوع ستكون صحيفتك مثارا للحديث أكثر من أي صحيفة في إنجلترا، أو حتى في العالم. سيحقق مستوى تداولها طفرة مفاجئة لم تحققها أي صحيفة أسبوعية أخرى على وجه الأرض. اسمع يا شورلي، هذه القصة قيمتها خمسون ألف جنيه وليس خمسين جنيها فقط، وإن لم تشترها على الفور فسيشتريها غيرك. والآن ما رأيك؟»
قال المحرر: «رأيي أنك تمزح، وإلا فقد جن جنونك تماما، كما قلت لتوي.»
قال جيبرتس: «وإذا اعترفت بجنوني، فهل ستشتري القصة؟»
قال المحرر: «كلا، ولكني سأمنعك من ارتكاب الجريمة.»
قال جيبرتس: «كيف؟»
رد المحرر: «بتسليمك للشرطة. بالإبلاغ عنك.»
قال جيبرتس: «لا يمكنك فعل ذلك. حتى ترتكب تلك الجريمة، لن يصدق أحد أنها يمكن أن ترتكب. وليس لديك شهود على محادثتنا هذه، وسأنكر كل ما تقول. لا فضل لقولك على قولي الآن. كل ما ستفعل هو تفويت فرصتك في ابتسام الحظ لك، والفرصة تطرق باب كل رجل. عندما دخلت عليك كنت تفكر في كيفية إعادة صحيفة ذا سبونج إلى نجاحها السابق. بدا ذلك جليا في حديثك وهيئتك. والآن ما رأيك؟»
قال المحرر: «سأعطيك خمسة وعشرين جنيها مقابل قصتك كما هي، رغم أن هذا سعر مرتفع، وليس عليك ارتكاب الجريمة.»
قال جيبرتس: «اتفقنا! هذا هو المبلغ الذي أردته، لكني كنت أعلم أني لو طلبته لعرضت بدلا منه اثني عشر جنيها وعشرة شلنات. هل ستنشرها خلال هذا الشهر؟»
قال المحرر: «نعم.»
قال جيبرتس: «رائع جدا. اكتب الشيك. ولا تسطره. فليس لدي حساب مصرفي.»
عندما تسلم جيبرتس الشيك وضعه في جيب معطفه الطويل واستدار على الفور وفتح الباب. وقال للمحرر: «إلى اللقاء.»
وقبل أن يختفي لاحظ شورلي طول معطفه واحتكاك أهدابه بكعبي حذائه. والمرة التالية التي رأى فيها ذلك الروائي كانت في ظروف لا تنمحي من الذاكرة أبدا.
كانت ذا سبونج صحيفة من ست عشرة صفحة لها غلاف أزرق، وفي أسبوع ظهور قصة جيبرتس فيها احتلت القصة الصفحات السبع الأولى منها. وعندما تصفحها شورلي في الصحيفة فاق إعجابه بها وهي منشورة إعجابه بها عندما كانت مخطوطة. فالقصة تبدو أكثر إقناعا دائما وهي مطبوعة.
صادف شورلي في النادي عدة رجال يتحدثون عن إعجابهم بالقصة، فبدأ هو الآخر يقتنع أخيرا بأنها قصة جيدة. تحمس لها جونسون بشدة، وكان كل من في النادي يعتبرون رأي جونسون سديدا.
قال جونسون، متعمدا التأكيد على استخدام الضمير الشخصي «أنت»: «كيف حصلت أنت عليها؟»
رد المحرر بامتعاض: «ألا تعتقد أني أميز القصة الجيدة عندما أراها؟»
قال جونسون بتهكم: «هذا ليس الاعتقاد الشائع عنك في النادي، ولكن كل أعضاء النادي أرسلوا إليك إسهاماتهم، وربما كان ذلك سبب تكوينهم لهذا الاعتقاد. بالمناسبة، هل رأيت جيبرتس مؤخرا؟»
قال المحرر: «كلا، لماذا تسأل؟»
قال جونسون: «في الواقع، أنا أستغرب تصرفاته في الآونة الأخيرة. وإذا سألتني عنه فسأجيبك بأني لا أظن عقله متزنا تماما. هناك شيء يشغل باله.»
تدخل عضو جديد بالقول ببعض التردد: «لقد أخبرني به ... لكني لا أعتقد أن من حقي الإفصاح عنه، على الرغم من أنه لم يسر إلي بالأمر ... قال لي إنه الوريث الشرعي للممتلكات الموجودة في ...»
قال المجتمعون في وقت واحد: «أوه، يعرف جميعنا هذه القصة!»
قال واحد من أقدم الأعضاء: «أعتقد أن المشكلة في الويسكي الذي يقدمه النادي.» ثم أردف: «رأيي أنه الأسوأ من نوعه في لندن.»
تدخل جونسون: «لم ترد أي شكاوى شفهية. اكتب إلى اللجنة عن هذا الأمر.» ثم أضاف: «إذا كان في النادي صديق لجيبرتس - وأشك في ذلك - فصديقه ذلك ينبغي أن يعتني به. أعتقد أنه سينتحر.»
أقلق هذا الحديث شورلي وهو يمشي عائدا إلى مكتبه. وجلس يكتب رسالة يطلب فيها من جيبرتس زيارته. وبينما كان يكتب دخل عليه مكيب، مدير الشئون التجارية لصحيفة ذا سبونج.
وقال: «ما خطب الصحيفة هذا الأسبوع؟»
رد المحرر: «خطب؟ أنا لا أفهمك.» «لقد أرسلت طلبا إلى المطبعة لطباعة عشرة آلاف نسخة إضافية، ثم طلب مكتب سميث الكمية كلها. كانت العشرة آلاف نسخة الإضافية ستوجه إلى وكلاء صحفيين مختلفين في أرجاء البلاد أرسلوا طلبات متكررة، فطلبت من المطبعة الآن طباعة خمسة وعشرين ألف نسخة إضافية على الأقل، وأن تبقى ألواح الطباعة في المطبعة. لم أقرأ صحيفة ذا سبونج بنفسي قط، وخطر لي أن أزورك لأسألك عما أدى لهذا الإقبال الشديد. فهذه الزيادة في الطلب غير طبيعية.»
قال شورلي: «فلتقرأ الصحيفة بنفسك لتعرف.»
رد مكيب: «لولا كثرة موادك المعتادة فيها لقرأتها.»
وفي اليوم التالي أبلغ مكيب عن زيادة محيرة في الطلبات. ووصل استبشاره بتحقيق نجاح راوغهم لمدة طويلة إلى درجة أغضبت شورلي؛ فقد كان شورلي يرى أن الفضل يعود له وحده في ذلك. لم يكن قد تلقى ردا على الرسالة التي أرسلها إلى جيبرتس، فقصد النادي يأمل لقاءه. وهناك وجد جونسون فسأله عما إذا كان جيبرتس قد جاء.
فرد جونسون: «لم يأت إلى هنا اليوم، لكني رأيته أمس، أتعلم ماذا كان يفعل؟ كان في متجر أسلحة نارية في شارع ستراند يشتري طلقات لمسدسه القبيح الشكل ذي السبع طلقات. فسألته ماذا سيفعل بالمسدس في لندن، فرد باقتضاب قائلا إن ذلك ليس من شأني، وهو ما رأيته تلخيصا دقيقا للموقف، فانصرفت دون أن أضيف أي تعليق. إذا أردت أي قصص أخرى بقلم جيبرتس، فعليك أن تعتني به.»
انبعث في نفس شورلي القلق على جيبرتس فجأة. كان قد بدأ بالفعل يفكر في أن ذلك الروائي كان يخطط للإقدام على تصرف جامح قد يطول أشخاصا آخرين على نحو مؤسف. ولم يرد شورلي أن يكون شريكا في ذلك العمل سواء قبل أن يحدث أو بعده. هرع إلى المكتب، فوجد فيه ردا متأخرا من جيبرتس على رسالته. ففتح الرسالة متعجلا، وما إن قرأها حتى فقد تماما ما تبقى من سيطرة قليلة على نفسه.
عزيزي شورلي
أعلم لماذا تريد لقائي، لكن هناك الكثير من الأمور التي علي فعلها؛ لذا لا تمكنني زيارتك. ومع ذلك، لا تخش شيئا، سألتزم بما اتفقنا عليه دون أي ضغط منك. لم يمر على نشر القصة إلا أيام قليلة، ولم أعدك بتنفيذ المأساة قبل انقضاء الأسبوع. سأتوجه إلى تشانور تشيس عصر اليوم. وستحصل على نصيبك من الاتفاق، بل أكثر منه.
تحياتي
بروملي جيبرتس
شحب وجه شورلي بعض الشيء عندما فرغ من قراءة هذه الرسالة. وارتدى معطفه بسرعة، وأسرع إلى الشارع. واستدعى عربة أجرة، وقال للسائق: «خذني إلى «كيندرز إن» بأقصى سرعة. رقم 15.»
وما إن وصل حتى أسرع يصعد الدرج درجتين في كل خطوة، وطرق باب جيبرتس. ومنح جيبرتس نفسه ترف استئجار رجل للعمل في منزله، وكان ذلك الرجل من فتح الباب بعد أن طرقه شورلي بإصرار.
قال شورلي: «أين جيبرتس؟»
رد الرجل: «خرج لتوه يا سيدي.»
قال شورلي: «إلى أين؟»
رد الرجل: «إلى محطة يوستن على ما أظن يا سيدي، لقد استقل عربة أجرة. وسيقضي أسبوعا في الريف يا سيدي، ولم يطلب مني توجيه ما يرده من خطابات إليه؛ لذا لا أعرف عنوانه.»
قال المحرر: «هل لديك دليل للقطارات؟»
قال الرجل: «نعم سيدي، تفضل بالدخول. كان السيد جيبرتس يتفقد مواعيد القطارات فيه قبل انصرافه.»
وجد شورلي الدليل مفتوحا على حرف التاء، وأجال نظره أسفل العمود حتى وصل إلى كلمة تشانور، فوجد أن قطارا سينطلق إلى هذه الوجهة خلال عشرين دقيقة. فانطلق يهبط الدرج مجددا دون أن ينبس بكلمة. ولم يبد على الرجل الاستغراب. إذ كان يزور سيده أشخاص غريبو الأطوار في بعض الأحيان.
قال المحرر لسائق العربة: «هل يمكنك توصيلي إلى محطة يوستن خلال عشرين دقيقة؟»
هز السائق رأسه موافقا وقال: «سأفعل ما بوسعي، يا سيدي، لكن المسافة تستغرق نحو نصف الساعة.»
أسرع السائق بقدر استطاعته، لكنه أوصل شورلي إلى رصيف المغادرة بعد انطلاق القطار بدقيقتين.
سأل شورلي أحد العتالين: «متى ينطلق القطار التالي إلى تشانور؟»
رد العتال: «لقد انطلق لتوه يا سيدي.»
قال شورلي: «لم ينطلق القطار التالي لتوه أيها الأحمق. أجب عن السؤال.»
رد العتال منزعجا: «بعد ساعتين وعشرين دقيقة يا سيدي.»
فكر شورلي في استئجار قطار خاص، لكنه أدرك أنه لا يملك ما يكفي من المال. ربما يمكنه الإبراق إلى سكان تشانور تشيس لتحذيرهم، لكنه لم يعرف إلى من يبرق. خطر بباله أن يرتب لإلقاء القبض على جيبرتس بأي تهمة في محطة تشانور. رأى أن هذه هي وسيلة إنقاذ الموقف، إنها وسيلة خطيرة، لكنها فعالة.
بعد لحظات، استعاد العتال هدوءه. فالعتالون لا يمكنهم إطالة الامتعاض، ورأى هذا العتال على وجه الخصوص عملة معدنية قيمتها شلنان ونصف الشلن تلوح له في الأفق.
سأله العتال: «هل تود الوصول إلى تشانور قبل القطار الذي انطلق للتو يا سيدي؟»
رد المحرر: «نعم. هل يمكن ذلك؟»
رد العتال: «قد يكون ذلك ممكنا يا سيدي.» متحدثا في تردد كما لو كان على وشك الإفصاح عن سر من أسرار الدولة، الأمر الذي قد يكلفه منصبه. أراد أن يرى العملة المعدنية قبل أن يلزم نفسه بأي شيء.
قال المحرر: «هذه العملة الذهبية التي قيمتها نصف جنيه هي لك إن أخبرتني كيف يمكن ذلك دون أن أستأجر قطارا خاصا.»
قال العتال، بعد أن وضع العملة الذهبية بأمان في جيبه: «حسنا، يمكنك أن تستقل القطار السريع الذي يغادر عند منتصف الساعة. سيحملك إلى ما بعد تشانور بخمسة عشر ميلا، محطة تقاطع بولي، وبعد ذلك بسبع عشرة دقيقة يمكنك أن تستقل قطارا محليا يعود بك إلى تشانور، الذي إذا لم يتأخر سيصل إلى هناك قبل القطار الذي انطلق من هنا إلى هناك بثلاث دقائق.»
اشترى شورلي نسخة من ذا سبونج وهو في انتظار القطار السريع، وقرأ قصة جيبرتس من جديد في الطريق. صدمته هذه القراءة الثالثة. إذ لم يكن قد لاحظ من قبل الجدية المخيفة في نبرتها. إننا نميل إلى التقليل من شأن أعمال من نعرفهم شخصيا أو المغالاة في تقديرها.
عندئذ بدا أن شورلي أدرك لأول مرة الموقف على حقيقته. وتركته القراءة الثالثة في حالة من الانهيار العصبي. حاول أن يتذكر ما إذا كان قد أحرق خطاب جيبرتس أم لا. فإذا كان قد تركه على الطاولة فقد يحدث أي شيء. إذ يعد الخطاب دليل إدانة.
تأخر القطار المحلي في التقاطع خمس دقائق، وقطع الخمسة عشر ميلا التي تفصله عن تشانور ببطء مثير للأعصاب، مهدرا بعض الوقت في كل ميل من الطريق. وفي تشانور وجد أن القطار القادم من لندن كان قد وصل وانطلق.
سأل شورلي: «هل نزل رجل ذو معطف طويل فضفاض و...»
فأكمل محدثه سؤاله: «وتوجه إلى تشانور تشيس، سيدي؟»
قال شورلي: «نعم. هل ذهب؟»
جاءه الرد: «أوه، نعم سيدي! كانت العربة التي جاءت من تشيس تنتظره هنا، سيدي.»
سأل شورلي: «وكم يبعد؟»
كانت الإجابة: «خمسة أميال على الطريق، إذا كنت تقصد تشيس سيدي.»
سأل شورلي: «هل من وسيلة تأخذني إلى هناك؟»
أجابه: «لا أعتقد ذلك سيدي. لم يكن لديهم علم بقدومك على ما أفترض، لو كانوا يعلمون لانتظروك، لكن إذا سلكت الطريق في اتجاه الكنيسة يمكنك يا سيدي أن تصل إلى هناك قبل العربة. لا تبعد وجهتك عن الكنيسة أكثر من ميلين. في الطريق بعض القذارة للأسف، لكنه ليس أسوأ من طريق العربات. لا يمكنك أن تضل طريقك، ويمكنك أن ترسل في طلب أمتعتك.»
كان الجو مطيرا، ولم تزل السحب تفرغ ما تبقى في جعبتها من مطر خفيف. يصعب بعض الشيء تتبع مسار غير مألوف حتى والشمس في رابعة النهار، وفي أمسية مطيرة مظلمة كهذه تزيد الصعوبة أكثر. كان شورلي من أبناء الحضر، فلم يألف الحارات والأزقة الريفية وطبيعتها الغريبة.
في البداية ظن السطح اللامع لإحدى القنوات ممشى، ولم يدرك خطأه إلا بعد أن خاض حتى خاصرته في الماء. اشتد المطر من جديد فزاد هذا من متاعبه. وبعد فترة من التجول في حقول طينية، وصل إلى كوخ وجد فيه من أرشده إلى تشانور تشيس.
خطر لشورلي أن الوقت الذي أهدره في تجواله في الحقول يكفي لوصول العربة التي تقل جيبرتس قبله، وهذا ما حدث حقا. تفاجأ الرجل الذي أجاب طرق شورلي الشديد على الباب به يقف زائغ العينين رث الهيئة متسخا كمجنون أو متشرد.
سأل شورلي دون مقدمات: «هل وصل السيد بروملي جيبرتس بعد؟»
رد الرجل: «نعم سيدي.»
سأل شورلي: «هل هو في غرفته؟»
قال الرجل: «كلا يا سيدي. لقد نزل لتوه بعد تبديل ثيابه، وهو في غرفة الاستقبال.»
قال شورلي لاهثا: «يجب أن أراه على الفور.» ثم أردف: «إنها مسألة حياة أو موت. خذني إلى غرفة الاستقبال.»
أرشده الرجل المتحير بعض الشيء إلى باب غرفة الاستقبال، فسمع شورلي من داخلها صوت ضحك. فالكوميديا والمأساة رفيقان دائمان. فتح الرجل الباب فدخل شورلي. أدهشه المنظر الذي رآه في أول الأمر؛ فقد كانت إضاءة الغرفة ساطعة. لقد رأى فيها عددا من السيدات والرجال كلهم يلبسون ملابس مسائية وينظرون جميعا نحو الباب والذهول في عيونهم. ولاحظ أن العديد منهم يحملون في أيديهم نسخا من صحيفة ذا سبونج. وكان بروملي جيبرتس يقف أمام نار المدفأة، وكان واضحا جدا أنه قوطع أثناء سرد شيء.
كان جيبرتس يقول: «أؤكد لكم أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها بيع قصة من أرفع طراز إلى محرر لندني.»
توقف جيبرتس عند هذا القول، والتفت يتفقد المتطفل. مضت دقيقة أو اثنتان قبل أن يتبين أن ذلك الشخص الرث الهيئة الواقف بالباب في خزي هو المحرر اللندني الأنيق.
صاح ملوحا بيده: «يا إلهي! ما إن نذكر المحرر حتى يظهر. أستحلفك بكل ما توقره يا شورلي أن تخبرني كيف وصلت إلى هنا. وهل حاق بك سوء عملك أخيرا؟ هل وقعت في بركة تشرب منها الخيول وتستحم فيها؟ كنت أحكي لتوي لأصدقائي هنا هؤلاء كيف بعت لك تلك القصة التي جلبت الحظ لصحيفة ذا سبونج. تقدم وأظهر نفسك يا صديقي شورلي.»
قال شورلي بتلعثم: «أريد الحديث معك.»
قال جيبرتس: «فلتحدثني هنا إذن.» ثم أردف: «كلهم يفهمون الوضع. تعال وقص القصة من وجهة نظرك.»
تمالك شورلي نفسه وقال مخاطبا الجمع: «أحذركم، هذا الرجل يفكر في ارتكاب جريمة شنعاء، وقد جئت إلى هنا لمنعها.»
مال جيبرتس برأسه إلى الخلف وانفجر ضاحكا.
وقال: «فتشني!» ثم أضاف: «أنا أعزل تماما، وأقف وسط أعز أصدقائي، كما يعرف كل المجتمعين هنا.»
قالت إحدى السيدات العجائز: «يا إلهي!» ثم أضافت: «هل تعني أن تشانور تشيس هو المكان الذي تدور فيه أحداث قصتك وتقع فيه المأساة؟»
قال جيبرتس في مرح: «بالطبع هو.» ثم أردف: «ألم تلاحظوا الطابع المحلي؟ ظننت أني وصفت تشانور تيس بأدق التفاصيل، أولم أقل لكم أيضا إنكم كنتم جميعا ضحاياي؟ دائما أنسى إحدى التفاصيل المهمة عندما أقص قصة.» وبينما استدار شورلي، ناداه جيبرتس: «لا تنصرف الآن، وقص القصة من وجهة نظرك، وعندئذ سيسمعون سرد كل منا على طريقة ويلكي كولينز.»
لكن شورلي كان قد ضاق ذرعا، وعلى الرغم من إلحاحهم عليه بالبقاء، انصرف تحت حجب الليل يصب لعناته على طباع الأدباء الغريبة.
ليس وفقا للقواعد
حتى الغرباء عن مدينة لندن الكبيرة يرون على جدران بيوتها أثناء سيرهم فيها للمرة الأولى أسماء كثيرة مألوفة لهم منذ وقت طويل. وقد أنفقت الشركات التي تحمل هذه الأسماء الكثير من أموال الإعلانات لترسيخ نفسها في ذهن هؤلاء الغرباء. فقد كانت هذه الأسماء تظهر لهم منذ سنوات في الصحف والمجلات، وعلى لوحات الإعلانات واللافتات التي تحف خط السكة الحديدية، ولم يولوها في ذلك الوقت كبير اهتمام، إلا أنها انطبعت في ذهنهم وظلت عصية فيه على الانمحاء، فعندما يحتاجون إلى الصابون أو أقراص الدواء تنطلق شفاههم على نحو تلقائي تقريبا بالأسماء التي ألفتها أكثر من غيرها. ولهذا السبب تنفق الأموال بسخاء على الإعلانات، ولهذا السبب أيضا تخرج إلى النور الكثير من المطبوعات الممتازة.
عندما تتفكر في الأمر، يبدو غريبا أن يكون وراء هذه الأسماء التي يعلن عنها بهذا السخاء رجال حقيقيون، أي أن يكون هناك رجل يدعى سميث أو جونز تتحقق المعجزات بفضل أدويته المحتفى بها، أو يغسل صابونه حتى الذنوب التي تستجلب وخز الضمير. وإذا سلمنا بوجود هؤلاء الأشخاص وشرعنا في سبر أغوارهم، فهل لأحد أن يتخيل أو يصدق أن سميث الذي ارتبط اسمه بالامتياز وتطوع آلاف ممن كانت تؤرقهم الأدواء بالشهادة له، أو جونز الذي ينال الإعجاب وتحبه المدللات لأن صابونه يحافظ على بشراتهن الجميلة، هو رجل له شغف كغيره من الرجال، وتعتمل في قلبه الكراهية، وتروقه أشياء ويمتعض من أشياء أخرى؟
هذا هو الحال في لندن، وإن استعصى ذلك على التصديق ظاهريا. ثمة رجال في المدينة لا يعرفهم أحد على الإطلاق معرفة شخصية، ومع ذلك تنتشر أسماؤهم في ربوع المكان أكثر من أسماء أعظم كتاب الروايات، الأحياء أو الراحلين، ولهؤلاء الرجال مشاعر وكيان مثلنا.
كانت شركة دانبي آند سترونج مثالا حيا على الوضع الآنف الذكر. قد لا يعني اسمها شيئا لقارئ هذه السطور، لكنها كانت يوما ما ذائعة الصيت تنتشر إعلاناتها انتشارا واسعا، ليس في إنجلترا وحدها بل في معظم ربوع العالم. لقد راجت تجارتها كما هو متوقع من أي شركة تنفق مبالغ طائلة على الإعلانات كل عام. كان ذلك في زمن الياقات الورقية القديم. فقد كان أغلب الرجال في زمن ماض يرتدون ياقات ورقية، ولو أنعم المرء التفكير في الأمر، لوجد أن الغريب في حقيقة الأمر هو الاختفاء التدريجي لهذه التجارة؛ فقد ابتليت لندن منذ زمن بعيد بمغاسل ملابس تتسم بتدني مستواها ورداءة خدمتها، وما زال الوضع الآن كما هو. وإذا أخذنا ياقات دانبي آند سترونج كمثال، فسنجد أن إعلاناتها كانت تزعم أنها شبيهة بالياقات الكتانية لدرجة أن أحدا لا يمكنه التفريق بين النسيجين باستثناء الخبراء. عاد الفضل في هذا الاختراع إلى سترونج. وقبل أن يخترع ما كان يعرف بياقة بيكاديللي، كان للياقات الورقية لمعان براق لا تخطئه عين وافد جديد من أبعد مقاطعات البلاد. ثم اخترع سترونج طريقة لإضافة طبقة رفيعة من الكتان فوق الورق، تمنحه مزيدا من القوة فضلا عن إعطائه مظهر الياقات الأصلية. كان بمقدور المرء شراء صندوق من الكرتون به دزينة من هذه الياقات نظير مبلغ مقارب لثمن غسل نصف دزينة من الياقات المصنوعة من الكتان. وزادت شعبية ياقات بيكاديللي التي تنتجها شركة دانبي آند سترونج فجأة، ومن الغريب أن الياقات المصنوعة من الكتان تعافت من الضربة القوية التي وجهها لها هذا الاختراع المبتكر.
من المفارقة أن مؤسسي تلك الشركة كانا صديقين مقربين عندما كانت الشركة في طور التأسيس والبحث عن موطئ قدم لها في السوق، لكن عندما ازدهرت الشركة جاءت مع ازدهارها أسباب الخلاف، وأصبحت العلاقة بينهما متوترة، وهي الصفة التي تستخدمها الصحف للإشارة إلى العلاقة بين الدول المتحاربة. ولم يعرف أحد ما إذا كان اللوم يقع على جون دانبي أم ويليام سترونج في ذلك. كان لهما عدد من الأصدقاء المشتركين الذين قالوا إنهما كانا رجلين طيبين، ولكنهم كانوا أيضا يقولون إن سترونج ودانبي لم يكن بينهما انسجام طبيعي.
كانت ثورة سترونج عاصفة إذا غضب، ولسانه بذيئا جارحا بوجه عام. أما دانبي فكانت طباعه أهدأ، لكنه اتسم بعناد شديد لا يؤدي إلى إنهاء أي خلاف. لم يجمعهما حديث منذ مدة تزيد عن العام، فقد تأزمت علاقتهما حتى تسبب ذلك لشركتهما التي تحمل اسم دانبي آند سترونج في كارثة. وأبى كل منهما التراجع عن موقفه قيد أنملة، فحل الخراب على عملهما. عندما تشتد المنافسة لا يمكن لأحد الصمود في وجهها في وجود تناحر داخلي. ظل دانبي مصرا على موقفه في هدوء وثبات، في حين هاج سترونج وماج وسب ولعن وكان على القدر نفسه من الإصرار على عدم التراجع. وكره كل منهما الآخر بمرارة بلغت من شدتها أن أصبح كل منهما مستعدا لخسارة حصته في عمل تجاري رائج، نكاية في شريكه.
قد تخدع أيا منا المظاهر. فعندما يمشي المرء في شارع بيكاديللي أو ستراند أو فليت ستريت ويلتقي هنالك برجال كثيرين متشحين بملابس شديدة الهندام يعتمرون قبعات متألقة طويلة وينتعلون أحذية لامعة ويبدو في طباعهم الود وفي تعاملهم مع أقرانهم الكياسة، قد ينخدع المرء بهم فيظنهم متحضرين. ولا يدرك أنه إذا استقصى أمرهم في الاتجاه الصحيح فسيكتشف عنهم من أوجه الشراسة ما قد يلقى استحسان الهنود الحمر. هناك رجال أعمال ذوو سمعة طيبة في لندن مستعدون لربط عدوهم في قضيب وشيه على نار هادئة لو استجمعوا الجرأة الكافية لذلك، وقد حقق هؤلاء نجاحا باهرا ليس فقط في خداع جيرانهم ولكن في خداع أنفسهم كذلك لدرجة أنهم قد يشعرون بالإهانة إذا ووجهوا بحقيقتهم تلك. إذا علق تطبيق القانون في لندن ليوم واحد بحيث لا يسأل فيه أي منا عن أي شيء يجترحه، فكم منا كانوا سيظلون على قيد الحياة في صباح اليوم التالي؟ لو حدث ذلك لخرج معظمنا يحاول قتل أحد ألد أعدائه، ولقتلنا نحن أنفسنا لا محالة قبل أن نعود إلى منازلنا.
غير أن القانون عامل تقييد فعال يساعد في منع معدل الوفيات من الوصول إلى مستويات عالية. وبينما قضى أحد فروع القانون على ما تبقى من شركة السيدين دانبي وسترونج وأدى بها إلى الإفلاس، منع فرع آخر من فروع القانون كلا من الشريكين من إزهاق روح الآخر.
عندما وجد سترونج نفسه مفلسا، انطلق لسانه باللعنات كعادته، وكتب إلى صديق له في تكساس يسأله عما إذا كان يمكنه تدبير عمل له عنده. وقال إنه سئم بلده الذي يسوده القانون والنظام، ولم يكن في ذلك إطراء على تكساس كما قد يبدو. لكن هذا القول يوضح ما قد يتبادر للرجل الإنجليزي من أفكار غريبة عن البلاد الأجنبية. لم يكن رد صديق سترونج عليه مشجعا جدا، لكنه مع ذلك شد الرحال إلى هناك بطريقة ما، وسرعان ما أصبح أحد رعاة البقر. لقد اكتسب خبرة أكبر في استخدام مسدسه وتنقل على ظهر حصان بري بالقدر من البراعة الذي قد يتوقعه المرء من شخص لم ير ذلك الحيوان قط في لندن ولا حتى في حديقة الحيوان. إن حياة راعي البقر في مزرعة في تكساس تنسي المرء أشياء مثل القمصان المنسوجة من الكتان والياقات الورقية.
ولم تنطفئ قط في هذه الأثناء نار كراهية دانبي في نفس سترونج، لكن تفكيره فيه بدأ يقل.
وذات يوم أثير انتباهه إلى الموضوع على نحو أدهشه بشدة، وباله أبعد ما يكون عنه. كان في جالفيستون يطلب مؤنا للمزرعة، فمر بمتجر كان من وجهة نظره هو متجرا بسيطا للأقمشة، ومن وجهة نظر أهل المنطقة متجرا للسلع الجافة، فهاله أن رأى الاسم «دانبي آند سترونج» مكتوبا بحروف كبيرة على عدد كبير من الصناديق الكرتونية الصغيرة المتراصة التي ملأت نافذة العرض كلها. في البداية ظن الاسم مألوفا بالنسبة إليه وكاد يسأل نفسه: «أين رأيت هذا الاسم من قبل؟» ومرت بضع لحظات قبل أن يدرك أن كلمة سترونج تشير إلى الرجل الذي يحدق الآن ببلاهة في نافذة العرض الزجاجية. ثم لاحظ أن جميع الصناديق كانت تحتوي على ياقات بيكاديللي الشهيرة. قرأ ولم يزل الذهول متملكا منه ورقة كبيرة مطبوعة تظهر بجانب الصناديق المتراصة. لقد كانت تتضمن أن الياقات على ما يبدو هي بالفعل ياقات دانبي آند سترونج الأصلية وتحذر العامة من المنتجات المقلدة. وأكدت الورقة أن الياقات مصنوعة في لندن ومكسوة بالكتان، وفوق ذلك كان هناك تأكيد على زعم يدعو إلى الفخر مفاده أن المرء إذا ارتدى ياقات دي آند إس مرة فلن يعود لأي نوع يدنوها جودة مرة أخرى. كان سعر الصندوق خمسة عشر سنتا، ويمكن شراء صندوقين بربع الدولار. وجد سترونج نفسه يجري عملية حسابية في ذهنه لتحويل هذه الأموال إلى العملة الإنجليزية.
وبينما هو واقف مكانه جالت بذهنه خاطرة جديدة. سأل نفسه: هل استمرت الشركة في العمل بالاسم القديم على يد شخص آخر أو أن هذه المجموعة من الياقات تعد جزءا من مخزون قديم؟ لم تكن قد وصلته أي أخبار من بلده منذ رحل عنه، وشعر بمرارة عندما خطر له أن دانبي ربما يكون قد استعان بشخص يملك رأس مال ساعده في إعادة إحياء الشركة. وقرر أن يدلف إلى المتجر ويحصل على بعض المعلومات.
قال للرجل الذي بدا أنه مالك المتجر: «يبدو أن لديك مخزونا كبيرا جدا من هذه الياقات.»
رد الرجل: «نعم.» ثم أردف: «نحن وكلاء هذه الماركة في الولاية. إننا نوردها إلى تجار الضواحي.»
سأله: «أوه، حقا؟ أما زال هناك وجود لشركة دانبي آند سترونج؟ أعرف أنها أفلست.»
رد الرجل: «لا أظن ذلك.» وأضاف بحرص مفاجئ: «إنهم يوردون إلينا ما يكفي. ومع ذلك فأنا لا أعرف شيئا عن الشركة سوى أنهم ينتجون منتجا على أعلى مستوى. إننا لسنا مسئولين عن شركة دانبي آند سترونج بأي صورة؛ فنحن لسنا سوى وكلاء عن ولاية تكساس كما تعرف.»
قال سترونج: «أنا لا أكن شيئا ضد الشركة.» ثم أضاف: «سألتك فقط لأني كنت أعرف بعضا من أعضائها، وكنت أتساءل عن سير الأمور فيها.»
قال الرجل: «حسنا، في هذه الحالة عليك لقاء الممثل الأمريكي للشركة. كان هنا هذا الأسبوع ... لهذا عرضنا المنتج على هذا النحو في نافذة العرض، فهذا يسعد الممثل دائما ... إنه الآن يعمل في شمال الولاية وسيعود إلى جالفيستون قبل نهاية الشهر.»
سأله سترونج: «ما اسمه؟ هل تتذكر؟»
قال الرجل: «دانبي. جورج دانبي على ما أعتقد. هذه بطاقته. بل اسمه جون دانبي. ظننته جورج. فمعظم الرجال الإنجليز يحملون هذا الاسم كما تعرف.»
نظر سترونج إلى البطاقة، لكن بدت الحروف تتمايل أمام عينيه. لكنه أدرك أن السيد جون دانبي له عنوان في نيويورك وأنه كان الممثل الأمريكي لشركة دانبي آند سترونج التي يقع مقرها في لندن. وضع سترونج البطاقة على المنضدة أمامه.
وقال: «كنت أعرف السيد دانبي، وأود لقاءه. أتعرف أين يمكنني العثور عليه؟»
رد الرجل: «كما قلت في السابق، يمكنك رؤيته هنا في جالفستون إذا انتظرت شهرا، أما إذا كنت في عجلة من أمرك فيمكنك لقاؤه في تقاطع برونكو ليلة الخميس.»
سأله سترونج: «إنه يسافر بالقطار إذن؟»
أجاب الرجل: «كلا، إنه لا يفعل. لقد سافر بالقطار إلى فيلكسوبوليس. وسيأخذ جوادا من هناك ويقوده عبر البراري إلى تقاطع برونكو، وذلك في رحلة تستغرق ثلاثة أيام. قلت له إنه لن يتمكن من إنجاز أي أعمال تجارية إذا سلك هذا المسار، فرد بأنه اختاره لأسباب تتعلق بصحته ولكي يشاهد الريف. وقد توقع أن يصل إلى تقاطع برونكو ليلة الخميس.» ثم انفجر تاجر السلع الجافة بالضحك كمن تذكر شيئا مضحكا. وأردف قائلا: «أنت إنجليزي على ما أعتقد.»
أومأ سترونج بالإيجاب.
قال الرجل: «يجب أن أقول إن لديكم أفكارا غريبة عن هذا البلد. فدانبي الذي خرج في رحلة ثلاثة أيام عبر السهول اشترى مسدسين دوارين من نوع كولتس، وسكينا طولها نصف طول ذراعي. أما أنا فقد جبت هذه الولاية كلها ولم أحمل مسدسا قط، لكني لم أستطع إقناع دانبي بأن طريقه آمن كالكنيسة. بطبيعة الحال يطلق أحد رعاة البقر في تكساس النار من مسدسه من وقت لآخر، لكن الأغلب أن يطلقوا ألسنتهم بالسباب واللعن فحسب، ولا أعتقد أن جرائم القتل في تكساس تزيد عنها في أي مساحة من الأرض لها الاتساع نفسه. ومع ذلك يصعب إقناع الرجل الإنجليزي بذلك. فأنتم تلتزمون بالقانون بصرامة. أما أنا فأفضل دائما اللجوء للمسدس على اللجوء للدعاوى القضائية.» ثم مضى ربيب تكساس الحسن الطباع يحكي قصة الطبنجة في تكساس وانخفاض الطلب العام عليها، رغم ضرورة وجودها جاهزة عند الحاجة إليها.
ينبغي لمن بيت نية القتل في قلبه ألا يجري حوارا كهذا، لكن عقل ويليام سترونج تملكت منه فكرة واحدة حتى لم تدع مكانا للحصافة. فالحديث الذي أجراه يكفي لإرسال رجال العدالة في المسار الصحيح، ولن تكون العواقب حينئذ في صالح المجرم.
في صباح الخميس امتطى سترونج فرسا من تقاطع برونكو قاصدا فيلكسوبوليس. وبحلول وقت الظهيرة، خطر له أن عليه أن يلتقي شريكه السابق في مكان لا يحيطهما فيه إلا الأفق المفتوح. كان سترونج يتمنطق بمسدسين دوارين ويحمل بندقية من طراز وينتشيستر أمامه. لم يكن يعرف ما ستئول إليه الأمور، لكنه قد يضطر إلى إطلاق النار من مسافة بعيدة، ومن الجيد أن يستعد المرء لكل الظروف. دخلت الساعة الثانية عشرة ولم يلتق أحدا بعد، ولم يكن في الأفق من كل الجهات شيء. ولما اقتربت الساعة من الثانية بعد الظهر رأى نقطة تتحرك أمامه من بعيد. بدا أن دانبي لم يكن معتادا على ركوب الخيل فأتى متمهلا. وقبل أن يلتقيا بقليل تعرف سترونج على شريكه السابق وجهز بندقيته.
أسند سترونج أخمص بندقيته إلى كتفه وصاح: «ارفع يديك عاليا!»
رفع دانبي يديه فوق رأسه على الفور. وصاح في حين لم يبد أنه تعرف على خصمه بعد: «ليس معي نقود.» ثم أضاف: «فتشني إذا أردت.»
قال سترونج: «ترجل عن الحصان، ولا تخفض يديك وإلا أطلقت النار.»
ترجل دانبي عن الفرس وهو يرفع يديه فوق رأسه. وكان سترونج قد مرر ساقه اليمنى إلى الجانب الأيسر من حصانه، ثم ترجل عن حصانه مع ترجل غريمه، مصوبا البندقية نحوه.
قال دانبي: «أؤكد لك أني ليس معي إلا القليل من الدولارات، التي يمكنك أخذها.»
لم يجب سترونج. ولما رأى أن إطلاق النار سيكون من مسافة قصيرة، أخرج من حزامه مسدسا ذا ست طلقات وسحب إبرة الأمان استعدادا للإطلاق وصوبه نحو غريمه وألقى بالبندقية على العشب. ومشى نحو عدوه ووجه فوهة المسدس نحو قلبه الذي تسارعت نبضاته، وجرده من سلاحه على مهل، وألقى بأسلحته على الأرض بعيدا عن متناوله. ثم تراجع عدة خطوات وشاهد الرجل يرتعد. فبدا أن وجهه قد اصطبغ بلون الموت بالفعل وانسحب الدم من شفتيه.
قال سترونج: «أرى أنك عرفتني أخيرا يا سيد دانبي. هذا لقاء غير متوقع، أليس كذلك؟ أتمنى أن تلاحظ عدم وجود قضاة أو محلفين أو محامين هنا، ولا أوامر قضائية ولا استئنافات. لا يوجد هنا إلا أمر طرد الرصاص من ماسورة المسدس، ولا وسيلة قانونية لوقف التنفيذ. بعبارة أخرى، لا جدالات عقيمة ولا قانون لعين.»
حاول دانبي عدة مرات أن يبلل شفتيه الشاحبتين ثم نطق أخيرا وقال: «هل تقصد أنك ستعطيني فرصة أو ستقتلني؟»
رد سترونج: «سأقتلك.»
أغمض دانبي عينيه، وترك يديه تنخفضان إلى جانبيه وظل يتمايل يمنة ويسرة بخفة كما لو كان يقف على سقالة ويوشك على سحب برغلها. فصوب سترونج مسدسه إلى الأسفل وأطلق النار فهشم إحدى ركبتي الرجل الموشك على الهلاك. سقط دانبي وأطلق صرخة طغى على صوتها صوت الطلقة الثانية. لقد أطفأت الطلقة الثانية نور عينه اليسرى، فخر صريعا واتجه وجهه المشوه نحو زرقة السماء.
صوت طلقة المسدس الدوار في البراري قصير وحاد ولا صدى له. بدا الصمت الذي أعقب إطلاق النار موترا ولا حد له، كما لو كان الصوت شيئا لا وجود له على الأرض. وأضفى مظهر الرجل المسجى على ظهره على السكون طابع الأبدية.
وبعد أن انتهى كل شيء، بدأ سترونج يدرك موقفه. ربما لم تهتم تكساس كثيرا بمصرع شخص في قتال عادل، بيد أن العادة جرت فيها على لف حبل المشنقة حول رقبة الجبان الذي يقتل غيلة. وكان سترونج بطبعه مخترعا. فشرع يحاول اختلاق مبرر لنفسه. أخذ أحد مسدسي دانبي وأطلق رصاصتين منه في الهواء. سيبدو من هذا أن القتيل حاول الدفاع عن نفسه على الأقل، وسيصعب إثبات أنه لم يكن أول من بادر بإطلاق النار. وأعاد المسدس الآخر والسكين إلى حزام دانبي حيث كانا. وأمسك اليد اليمنى لدانبي وهي لم تزل دافئة وأغلق أصابعها على أخمص المسدس الذي أطلق منه النار، واضعا السبابة على زناد المسدس ذي الست طلقات بعد سحب إبرة الأمان. وليضفي مظهرا طبيعيا على اللوحة التي كان يرسمها للمسافر التالي السالك لهذا الطريق، رفع الركبة اليمنى ووضع عليها المسدس واليد التي تقبض عليه ليبدو أن دانبي قتل وهو على وشك إطلاق الرصاصة الثالثة.
تراجع سترونج خطوة أو خطوتين فخورا بعمله الفني ليتفقد التأثير الذي سيتركه المشهد الذي أعده ككل. كانت مؤخرة رأس دانبي قد اصطدمت عند سقوطه بكتلة من التربة أو تجمع من العشب أدى إلى إمالة ذقنه إلى الأمام نحو صدره. كاد قلب سترونج ينخلع فزعا عندما نظر إلى ضحيته وتملكه خوف كالتنويم المغناطيسي شل قدرته على فعل أي شيء. لم يكن دانبي قد مات بعد. كانت عينه اليمنى لا تزال مفتوحة، وكانت ترمق سترونج بشر وكراهية جعلاه يتسمر في مكانه، وخالجه شعور لم يرتق إلى اليقين بأن المسدس الجاهز للانطلاق الذي وضعه في اليد التي ظنها ميتة مصوب نحوه. وتحركت شفتا دانبي دون أن يصدر منهما صوت. لم يقو سترونج على رفع عينيه الذاهلتين عن العين المفتوحة. وأدرك أنه هالك لا محالة إذا كان لدى دانبي بقايا قوة تمكن إصبعه من سحب الزناد، ومع ذلك لم يتمكن من القفز بعيدا عن مرمى النار. انطلقت الطلقة الخامسة فسقط سترونج إلى الأمام واستقر على وجهه.
وجرى حل شركة دانبي آند سترونج.
شمشون العصر الحديث
لو زاد حجم جان راستو قليلا لاعتبر من العمالقة. يتسم رجال بريتاني في العموم بصغر بنيتهم، لكن جان كان استثناء. فقد كان شابا قويا أمضى حياته قبل انضمامه الإلزامي إلى الجيش في جر الشباك الثقيلة على متن قارب. وكان يعرف ساحل بريتاني، بوعورته وتعرجه، كما كان يعرف الطريق من المقهى الصغير القائم في الميدان إلى مسكن أبيه على جانب التل المطل على البحر. ولم يكن هدير الموج قد انقطع عن أذنيه قط. وكان من الرجال الذين كان بمقدورهم إنقاذ الأسطول، شأنه في ذلك شأن إيرفي رئيل، غير أن فرنسا، برسميتها المعتادة، أرسلت ربيب الساحل ذاك إلى الجبال، وأصبح جان راستو جنديا في فيلق الجبال. لو وقف جان على أعلى قمة جبلية لرأى امتدادا لا حد له من الجليد، لكن ما كان له من هناك أن يسمع هدير البحر ولا أن يرى صفحته.
من يعتد الجبال من الرجال يتطبع بخشونة صخورها ووعورتها، وكان فيلق الجبال كيانا جامحا يتسم بالخشونة والقسوة. كان العقاب فيه سريعا وشديدا؛ فقد كان الفيلق بعيدا عن أي مظاهر للحضارة والحياة الحديثة، حيث كانت تحدث فيه أفعال لا يعرف عنها العالم شيئا؛ أفعال ما كانت القيادة لتجيزها لو أبلغت بها.
عسكرت الوحدة التي كان ينتمي إليها جان في واد مرتفع لم يكن له إلا منفذ واحد وهو ممر مضطرب كانت تنهمر فيه مياه نهر جبلي وتتلاطم وتزبد. وكان بجوار هذا المجرى المائي مسار ضيق يعد هو المنفذ الوحيد لدخول الوادي أو الخروج منه؛ فقد كانت الهضبة الصغيرة محاطة بقمم شاهقة يكسوها جليد دائم، وكانت تلمع تحت ضوء الشمس وتضيء حتى في الليالي الساكنة المظلمة. ويمكن للواقف على القمم التي تقع في الجنوب رؤية إيطاليا، لكن أحدا لم يجرؤ على تسلق أي منها. كان النهر الصغير الغاضب يستمد مياهه من نهر جليدي يتألق أديمه الأزرق في ضوء الشمس الساقط على الجنوب، وكان مجراه يلتف حول الهضبة المطوقة كما لو كان يبحث عن منفذ يصب فيه مياهه الهادرة.
شعر جان بوحدة شديدة في هذا المعتزل الذي لم يعتده. وبعثت الجبال البيضاء في نفسه الرهبة، وبدا له الترقرق المضطرب لمياه النهر بديلا هزيلا لهدير أمواج البحر الشديد على رمال ساحل بريتاني الفسيح.
كان جان عملاقا حسن الطباع وكان يسعى جاهدا لتنفيذ ما يطلب منه أيا كان. غير أنه لم يكن سريع البديهة، وكان رفاقه يسخرون من لهجته البريتانية. وأصبح محورا لكل نكاتهم التافهة والمسيئة أحيانا، وكان منذ أول يوم يشعر ببؤس شديد؛ إذ كان، بالإضافة إلى توقه إلى البحر الذي كان يسمع هديره في أحلامه ليلا، يشعر بوجود انعدام تام للتعاطف البشري.
حاول في أول الأمر كسب احترام رفاقه بسجيته الطيبة وطاعته الدائمة، حتى أصبح أشبه بعبد لوحدته، لكن كلما زاد سعيه لإرضاء رفاقه ثقل العبء على كاهله واشتدت الإهانات التي كان مضطرا إلى تحملها من الضباط والرفاق على حد سواء. كان من السهل عليهم التنمر على ذلك العملاق الذي لقبوه بشمشون، لدرجة أن أصغر الرجال بنية في الوحدة كانوا لا يتورعون عن سبه أو حتى صفعه عند الضرورة.
لكن شمشون بعد فترة بدا غير قادر على الحفاظ على طباعه الطيبة. فقد فاض به الكيل، وكان رفاقه قد نسوا أن أهل بريتاني كانوا منذ مئات السنين مقاتلين بارعين، وأن العراك يجري في عروقهم مجرى الدم.
وعلى الرغم من أن فيلق الجبال بوجه عام كان يضم في صفوفه أضخم الرجال في الجيش الفرنسي وأقواهم، فقد يعتبر الجندي الفرنسي العادي ضئيل الحجم إذا ما قورن بالجندي في صفوف جيش إنجلترا أو ألمانيا. كان في الوحدة عدة رجال ضئيلي البنية، وكان منهم رجل يشبه البعوضة كان يفوق كل رجال الوحدة في إلحاق الأذى بشمشون. ولما لم يكن بمقدوره التنمر على أحد غيره في الوحدة، فقد احتمل شمشون منه قدرا من الأذى فاق التوقعات. وذات يوم أمرت تلك البعوضة شمشون بإحضار دلو من الماء من مجرى المياه، فأطاعه العملاق بلا تردد. لكن بعض الماء تساقط من الدلو وهو على ضفة النهر، وعندما قدم شمشون الدلو للرجل الضئيل البنية، نهره لعدم امتلاء الدلو بالكامل، وبينما كان عدد من الجنود الآخرين الأكبر حجما من ذلك الرجل الضئيل الذين تسببوا مثله في بؤس شمشون واقفين، رفع الرجل الضئيل دلو الماء وألقى بمحتواه في وجه شمشون. كانت تلك فرصة سانحة له لاستعراض القوة أمام الرجال الأكبر حجما الذين ما إن رأوا المشهد حتى أخرج كل منهم غليونه من فمه وانفجر ضاحكا، في حين حاول شمشون استخدام أصابعه في إخراج المياه من عينيه. ثم أقدم شمشون على فعلة مذهلة.
صاح: «أيها الجرذ البائس العديم القيمة.» ثم أضاف: «يمكنني سحقك لكنك لا تستحق الجهد. لكن فقط لأريكم أني لا أخشى أيا منكم، هاكم، وهاكم!»
قال الكلمتين الأخيرتين بنبرة تأكيدية ثم وجه ضربتين، ليس للرجل الضئيل، بل لأضخم رجلين في الوحدة، فطرحهما كغصنين قطعا من شجرة واستقرا على الأرض.
أطلق رفاقهما صيحات غضب، ولكن لأن الجبن كان يسكن قلوب المتنمرين، لم يحرك أحد منهم ساكنا عندما أجال شمشون نظره فيهم.
أبلغ الضابط بالحادث، وألقي القبض على شمشون. وعندما أجري التحقيق، أعرب الضابط عن اندهاشه لإقدام شمشون على ضرب رجلين لا صلة لهما بالإساءة التي وجهت إليه، في حين مضى المذنب الحقيقي في سبيله دون عقاب.
قال شمشون متجهما: «كانا يستحقان الضربتين لما فعلاه من قبل. ولم تطاوعني نفسي على ضرب الرجل الضئيل البنية. كان من الأفضل أن أقتله.»
قال الضابط: «صه!» ثم أردف: «يجب ألا ترد علي بهذه الطريقة.»
قال شمشون مصرا: «سأرد عليك كما يحلو لي.»
هب الضابط واقفا يمسك بعصا رفيعة من الخيزران، وأنزل ضربتين على وجه الجندي العاصي تركت كل منهما علامة حمراء توحي بالغضب.
قبل أن يتمكن الحراس من التدخل، انقض شمشون على الضابط ورفعه فوق رأسه كالطفل وألقى به إلى الأرض فارتطم بها بقوة واستقر بلا حراك.
أطلق كل من شهد الموقف صرخة رعب.
قال شمشون وهو يلتفت للمغادرة: «لقد فاض بي الكيل»، لكنه وجد نفسه أمام حاجز قوي من الفولاذ. وأصبح كجرذ في المصيدة. وقف هناك في تحد، وقد أصبح رجلا دفعه القمع إلى حد الجنون، وأخذ يجيل نظره حوله وهو معدوم الحيلة.
بصرف النظر عن العقاب الذي كان سيوقع عليه لضربه رفيقيه، لم يكن ثمة شك في مصيره الآن. كان السجن عبارة عن كوخ بدائي من جذوع الشجر يقوم على ضفاف المجرى المائي الهادر. ألقي بشمشون في تلك الغرفة وهو مكبل اليدين والقدمين لينتظر محاكمته العسكرية في اليوم التالي. وبعد فترة أفاق ببطء الضابط الذي طرح أرضا وتهشمت عصاه تحت وزن جسمه، وحمل إلى غرفته. وظل جندي حراسة يسير ذهابا وإيابا أمام السجن طوال الليل.
عندما أرسل في طلب شمشون صباح اليوم التالي، وجد السجن خاليا. كان ابن بريتاني الضخم قد حطم قيوده كما فعل شمشون الجبار في قديم الزمان. وكسر واحدا من الجذوع التي يتكون منها الجدار، وانسل إلى ضفة المجرى المائي. ولم يستدل على أثر له بعد ذلك. إذا كان قد سقط في المجرى المائي فهذا يعني بالطبع أنه قد أصدر الحكم على نفسه ونفذه، لكن كانت على الطين القريب من المياه آثار قدمين كبيرتين ما كان ليحدثها أي حذاء غير حذاء شمشون؛ أي إنه لو كان في مجرى الماء فلا بد أنه ألقى بنفسه فيه. لكن اتجاه آثار الأقدام كان يدل على أنه تسلق الصخور، وبالطبع لم يكن من الممكن اقتفاء أثره عليها. وأكد حراس الممر أن أحدا لم يمر منه بالليل، وللتأكيد جرى إرسال عدة رجال إلى الممر للتربص بالهارب. فحتى لو كان قد تمكن من الوصول إلى بلدة أو قرية في الوادي للفتت ضخامته الأنظار. وصدرت للمكلفين بالبحث عنه تعليمات بالإبراق بأوصافه وجريمته فور تمكنهم من ذلك. كان من المستحيل بالنسبة إليه الاختباء في الوادي، لكن الضباط اقتنعوا بعد تفتيش سريع أن المجرم لم يكن هناك.
ولما ارتفع قرص الشمس أكثر فأكثر، حتى بدأت أشعتها تسقط على الحقول الجليدية المواجهة للشمال، أبلغ جندي حاد النظر بأنه رأى نقطة سوداء تتحرك على المنحدر الأبيض الكبير جنوب الوادي. فطلب الضابط منظارا ولما جيء له به وضعه على عينيه وفتش الجليد بعناية.
قال الضابط: «جهزوا فرقة عسكرية؛ فهذا شمشون يمشي على الجبل.»
سرت في المعسكر جلبة صاخبة عندما ذاع الأمر. وأرسل مبعوثون إلى الممر يطلبون من الباحثين عن الهارب العودة.
قال الضابط: «إنه يفكر في شق طريقه إلى إيطاليا.» ثم أضاف: «لم أتخيل أن هذا الأبله يعرف كل هذا عن الجغرافيا. لكنه الآن في قبضتنا.»
أصبح الضابط الذي رفعه شمشون فوق رأسه وألقى به قادرا على المشي بعرج الآن، وكان يشعر بمرارة شديدة. قال وهو يظلل عينيه بيده ويحدق في الجليد: «يمكن لقناص بارع إصابته.»
رد رئيسه: «لا حاجة إلى ذلك.» ثم أردف: «لا يمكنه الهرب. لا يسعنا سوى انتظاره. سيضطر إلى الهبوط.»
وكان كل ذلك صحيحا تماما.
عبرت الفرقة المجرى ووضع أفرادها أسلحتهم في سفح الجبل الذي كان شمشون يحاول تسلقه. وكان هناك مكان صغير مستو يمتد اتساعه لعدد من الياردات القليلة بين سفح التل وضفة المجرى الهادر. وعلى هذه المساحة المستوية من الأرض استلقى الجنود في الشمس وأخذوا يدخنون، في حين تجمع الضباط وأخذوا يشاهدون الرجل يتسلق الجبل بثبات.
لمسافة قصيرة أعلى الهضبة كسا الأرض عشب قصير وطحالب تتخللها صخور سوداء تفترش تربة قليلة. وامتد أعلى منها اتساع من الجليد غير النقي الذي اشتد عليه حر الشمس فسالت منه جداول مترقرقة صغيرة تصب في النهر. ومن هناك إلى الحافة الجبلية الممتدة امتد لأعلى منحدر ناعم واسع من جليد بكر نقي وناصع البياض يتألق تحت ضوء الشمس الشديد كما لو كان قد نثر عليه تراب الماس. شق العملاق طريقه باديا كنقطة سوداء تتحرك في اتساع من البياض، ورأوا بالمنظار أنه قد غاص حتى ركبتيه في الجليد الذي أخذت نعومته تتزايد.
قال الضابط: «لقد بدأ يفهم وضعه الآن.»
ثم رأوا من المنظار شمشون وقد توقف. وبدا الجليد من الأسفل ناعما كسقف منحدر، غير أنه حتى بالعين المجردة كان من الممكن رؤية ظل يعبره قرب قمته. كان هذا الظل لحافة من الجليد المعلق الذي يمتد عمقه لأكثر من مائة قدم، وتوقف شمشون الآن بعدما أيقن باستحالة تجاوزها. ونظر إلى الأسفل فرأى بلا شك جزءا من الوحدة ينتظره. التفت ومشى بخطى متثاقلة تحت الحافة المعلقة حتى وصل إلى منحدر على يساره. كانت المسافة إلى أسفل المنحدر ألف قدم. عاد أدراجه حتى وجد منحدرا مشابها على اليمين. ثم عاد مرة أخرى إلى مركز حرف التي الكبير الذي كانت آثار أقدامه قد رسمته على المنحدر البكر. وجلس في الجليد.
لن يعرف أحد مدى اليأس الذي شعر به ابن بريتاني ذاك عندما أدرك انعدام جدوى عنائه.
خفض الضابط الذي كان يحدق فيه بالمنظار يده إلى جانبه وضحك.
وقال: «لقد اتضحت له طبيعة الموقف أخيرا. استغرق الأمر وقتا طويلا لتنفذ الفكرة إلى عقله المحدود المنتمي إلى بريتاني.»
قال آخر: «أعطني هذا المنظار للحظة.» ثم أردف: «لقد اتخذ قرارا ما.»
لم يدرك الضابط المغزى الكامل لما رآه من المنظار. فبرغم غرورهم كانت حدود عقولهم أضيق من حدود عقل الصياد المضطهد ابن بريتاني.
وجه شمشون وجهه للحظة نحو الشمال ورفع رأسه نحو السماء. ولم يكن لأحد أن يعرف إن كان بذلك يطلب مساعدة القديسين الذين كان يؤمن بهم أم إنه ينادي على المحيط البعيد الذي لن يراه من جديد.
وبعد لحظة توقف رمى نفسه إلى الأمام أسفل المنحدر نحو الجزء من الوحدة الذي كان يستريح على ضفة النهر. وظل يتدحرج ويتدحرج، فظهرت بدلا من النقطة السوداء كرة بيضاء يزداد حجمها كلما ارتطمت بالجليد.
مرت عدة ثوان قبل أن يدرك الضباط والجنود معنى ما كانوا يحدقون فيه. أدركوا الأمر جميعا في الوقت نفسه، فتولد في نفوسهم ذعر وخوف شديدان. وهز الهواء الساكن هدير خفيض ينذر بالخطر.
أخذوا يصيحون: «انهيار جليدي! انهيار جليدي!»
حاصر السيل الهادر الجنود والضباط. فخاضه بعضهم آملين في الوصول إلى الجانب الآخر، لكن ما إن لمسهم الماء حتى قذفوا فأصبحت أرجلهم في الهواء وابتلعتهم المياه.
ظل شمشون يصعد الجبل لساعات، ثم هبط عنه في ثوان. دهمتهم قمة سيل الجليد المندفع كموجة كاسحة، فدفعت بعض الضباط والجنود إلى مجرى الماء، وقذف البعض الآخر من فوق المجرى المائي حتى استقروا عند أقصى حدود الهضبة.
سمعت من خلال الجليد الهادر صرخة مختلطة واحدة ثم ساد الصمت التام. وارتفعت المياه حتى جرفت الحاجز الأبيض فاتسع مجراها.
عندما شرع من تبقوا من أفراد الوحدة في انتشال جثث رفاقهم من بين الركام وجدوا على وجوههم جميعا نظرة رعب شديد، إلا وجه واحد. لقد كان هذا الوجه هو وجه شمشون نفسه الذي لم تنج عظمة واحدة في جسمه من الكسر، وقد استلقى العملاق في سكون كما لو كان يستجم تحت مياه ساحل بريتاني الزرقاء.
اتفاق على التغيير
تدور الأحداث في الأيام التي كان فيها الظلام والأغراض الكثيرة المتناثرة سمتين لغرف الاستقبال. حينئذ كانت الرؤية تصعب على الزائر الذي ينتقل من النور الساطع إلى ظلام غرفة الاستقبال فيسهل أن يسقط مزهرية ثمنها مائتا دولار جيء بها من اليابان لتتهشم في نيويورك.
في أحد أركان الغرفة، جلست على كرسي وثير مترف سيدة فائقة الجمال. كانت زوجة ابن أغنى رجل في أمريكا ، وكانت في ريعان الشباب، وعشقها زوجها وأخلص لها، وكانت سيدة أحد القصور، تملك كل ما يمكن للنقود شراؤه فور أن تعرب عن رغبتها فيه، لكنها كانت تنتحب في سكون بعد أن أدركت لتوها أنها الأكثر بؤسا بين كل ما يدب على الأرض من مخلوقات.
لو دخل غريب الغرفة، لانبهر في أول الأمر لمرأى أجمل من رأى من النساء، ثم لطاردته فكرة أنه التقى بها في مكان ما في السابق. ولو كان ذلك الغريب من الرجال المترددين على دوائر الفن لتذكر أنه ربما شاهد وجهها يوما ما يطل عليه من لوحات عديدة في المعارض، وما لم يكن ذلك الغريب منقطعا عما يدور في البلاد من نميمة، فلن يسعه سوى تذكر الضجة الشديدة التي أثارتها الصحف - كما لو أن هذا من شأنها بأي نحو - عندما تزوج الشاب إد دروس بتلك العارضة التي يصورها الفنانون، ويعد جمالها محلا للاحتفاء.
قرأ الجميع قصة هذه الزيجة، واستغلتها الصحف أكبر استغلال كعادتها. كان الشاب إد يعرف عن العالم أكثر بكثير مما يعرف والده، فتوقع معارضة شديدة لقراره، وكان يدرك أيضا السلطة اللامحدودة التي حصل عليها أبوه بسبب ثروته التي لا حدود لها، فلم يخاطر بترتيب لقاء مع أبيه، وفر مع الفتاة. علم دروس العجوز بالعلاقة لأول مرة من سرد مثير لتفاصيل الهروب نشر في صحيفة مسائية. وكانت صورة له منشورة في الصحيفة مع وصف له بالأب الصعب الإرضاء المنهمك الآن في البحث عن الهاربين حاملا بندقية. كانت الصحف قد دأبت على إثارة الضجة حول العجوز دروس حتى لم يعد فيما ذكرته الصحيفة ما يثير حفيظته. وأسرع إلى إرسال البرقيات إلى كل أنحاء البلاد وعندما استطاع التواصل مع ابنه استجداه أن يحضر زوجته الشابة إلى المنزل بدلا من أن يجعل من نفسه أضحوكة. فاطمأن الزوجان الهاربان إلى ذلك وعادا إلى نيويورك.
كان العجوز دروس رجلا قليل الكلام، حتى مع ابنه الوحيد. وتساءل في بداية الأمر عما إذا كان الفتى قد أساء فهمه فافترض أنه سيعترض على زيجته بصرف النظر عمن اختارها زوجة له. وأصابته الحيرة بدلا من أن يشعر بالابتهاج عندما أخبره إد بأنه كان يخشى المعارضة لفقر الفتاة. فما المشكلة في ذلك؟ أوليس لديه هو من المال ما يكفيهم جميعا؟ وحتى لو لم يملك ما يكفي الآن، هل كان من الصعب جني المزيد؟ ألم تكن هناك سكك حديدية تمكن إزالتها، ومساهمون يمكن سرقتهم، وحملان في بورصة وول ستريت يمكن جز أصوافها؟ لا شك أن الرجل يتزوج ليسعد نفسه وليس ليجني المزيد من المال. أكد إد لأبيه وجود زيجات معروفة تدور حولها شبهات تربح أحد الطرفين من الآخر، لكن دروس أعرب عن ازدراء شديد لهذا الوضع.
كانت إيلا في بداية الأمر متخوفة من حميها الصامت الذي ما إن يذكر اسمه حتى يرتعد مئات الأشخاص وتنطلق ألسنة الآلاف باللعنات، لكنها سرعان ما اكتشفت أن العجوز كان ينظر إليها بعين الانبهار، وأن فظاظته الظاهرية ما هي إلا غطاء يستر الحرج الذي كان يشعر به في حضورها. وكان حريصا على إرضائها وشغله التساؤل عما إذا كان هناك ما ينقصها.
وذات يوم قصدها في ارتباك وترك في حجرها شيكا بمليون دولار، وطلب منها ببعض التوتر أن تكون فتاة مطيعة وتخرج لتشتري لنفسها شيئا، وأن تطلب منه المزيد إن لم يكف الشيك. فقامت الفتاة من كرسيها فجأة وطوقت رقبته بذراعيها على نحو أحرجه بشدة؛ إذ لم يعتد مثل هذه المواقف. ثم قبلته رغم عدم رغبته في ذلك، وطار الشيك حتى استقر على الأرض، وكان ذلك الشيك أثمن ورقة تطوف بحرية في أمريكا ذلك اليوم.
وعندما وصل إلى مكتبه فاجأ ابنه. ولوح بقبضته أمام وجهه وقال بصرامة: «إذا قلت لهذه الفتاة الصغيرة كلمة تغضبها يوما ما، فسأفعل ما لم أفعله قط من قبل، سأضربك!»
فضحك الشاب.
وقال: «حسنا يا أبي. حينئذ سأستحق الضرب.»
بدا على العجوز حنو بالغ كلما فكر في زوجة ابنه الجميلة. وبات يدعوها: «فتاتي الصغيرة». وقال رجال وول ستريت في أول الأمر إن الخرف قد بدأ يطول دروس العجوز، لكن عندما لحق بالسوق ركود ووجدوا أن العجوز كان في مأمن منه كعادته، لم يجدوا بدا وقد خلت جيوبهم من الاعتراف على مضض بأن الخرف لم يؤثر على عقليته المالية بعد.
وبينما كانت السيدة دروس الشابة جالسة في غرفة الاستقبال في وجوم، انفتحت فرجة في الستائر برفق، ودخل منها حموها متسللا كاللص، وكان لصا حقا؛ بل أعتى اللصوص. كانت عيناه صغيرتين ثاقبتين ماكرتين تطلان من تحت حاجبين أشيبين كثين كشرارتين من فولاذ. لم يبد في عينيه قط أنه ينظر إلى أي شخص محدد، بل كانت عيناه على نحو ما توحيان بأنه يحاول أن ينظر خلفه كالمطارد. وقال البعض إن العجوز دروس كان يعاني خوفا دائما من الاغتيال، بينما قال آخرون إنه كان يعلم أن الشيطان يسعى وراءه وأنه سيلحق به في نهاية المطاف.
ذات مرة علق الشاب سنيد على هذا القول المتكرر عن دروس بقوله: «أشفق على الشيطان من هذا اليوم.» وكان هذا التعليق انعكاسا لشعور شائع في وول ستريت عن هذه المواجهة التي أقر الجميع بحتميتها.
توقف العجوز في منتصف الغرفة عندما لاحظ أن زوجة ابنه تبكي.
وقال: «يا إلهي! ما الخطب؟ هل قال لك إدوارد شيئا أغضبك؟»
ردت الفتاة: «كلا يا أبي.» ثم أضافت: «إنه يعاملني بلطف بالغ. ليست هناك مشكلة.» ثم مضت تنسف تماما مصداقية قولها بالانتحاب من جديد.
جلس العجوز بجوارها، وأمسك بإحدى يديها. وقال هامسا في حماس يشي بأنه كان لديه حل للمشكلة لو كانت مشكلة مالية: «أهي مشكلة مالية؟»
ردت: «أوه، كلا يا عزيزي. لدي أموال كثيرة، أكثر مما قد يتمنى أي شخص.»
تغيرت ملامح العجوز. إذا لم يكن المال حلا للمشكلة، فقد أسقط في يده إذن.
قال الرجل: «هلا تخبرينني بالمشكلة؟ ربما أمكنني اقتراح ...»
قالت: «ليس الأمر مما يمكنك المساعدة في حله يا أبي. وهو ليس خطبا جللا على أي حال. سيدات آل سنيد لا يرغبن في زيارتي، هذا كل ما في الأمر.»
قطب العجوز حاجبيه وحك ذقنه متفكرا.
كرر بنبرة عجز: «لا يرغبن في زيارتك؟!»
قالت: «هذا صحيح. لا يعتبرنني أهلا لمخالطتهن، على ما أظن.»
انخفض الحاجبان الكثان حتى كادا يحجبان العينين، وبدا من تحتهما شرر خطير يتطاير.
قال العجوز: «لا بد أنك مخطئة. يا إلهي! ثروتي عشرة أمثال ثروة العجوز سنيد. لست أهلا لمخالطتهن؟! عجبا، إن وجود اسمي فقط على شيك هو بمنزلة ...»
قاطعته باكية: «المسألة ليست مسألة شيكات يا أبي، المسألة مسألة مجتمع. لقد كنت عارضة يرسمني الفنانون قبل زواجي من إد، ومهما كان ثرائي الآن فلن يقبلني مجتمعهم.»
حك العجوز ذقنه وهو شارد الذهن، كعادته كلما أصابته الحيرة. فهو الآن يواجه مشكلة تفوق قدرته على التصرف. ثم خطرت له فجأة فكرة مفرحة.
قال بنبرة ازدراء شديد: «سيدات آل سنيد هؤلاء! ما قيمتهن على أي حال؟ لسن سوى شمطاوات بائسات. لم يكن بنصف جمالك يوما. لم تهتمين بزيارتهن لك من عدمها؟»
قالت: «إنهن يمثلن المجتمع. إذا جئن فسيتبعهن الأخريات.»
قال العجوز: «لكن المجتمع لا يمكن أن يأخذ عليك شيئا. لم يقل أحد كلمة سوء في حق شخصيتك قط، بصرف النظر عن كونك عارضة أو غير ذلك.»
هزت الفتاة رأسها بالنفي في يأس.
وقالت: «الشخصية لا تهم في المجتمع.»
بالطبع كانت مخطئة إلى حد السخف في قولها الأخير ذاك، لكنها شعرت بمرارة من العالم كله. من يعرفوا المجتمع يدركوا جيدا أن الشخصية تعني كل شيء داخل حدوده المقدسة. لذا ينبغي ألا تؤخذ تلك العبارة الخاطئة على الفتاة القليلة الخبرة بالحياة.
قال لها الرجل العجوز مبتهجا: «سأخبرك بما سأفعل.» ثم أردف: «سأتحدث إلى الجنرال سنيد غدا. وسأحل المشكلة كلها في خمس دقائق.»
سألت السيدة دروس الشابة في ريبة: «أتعتقد أن هذا سيفيد؟»
قال: «سيفيد؟ بالتأكيد سيفيد! سيحل المشكلة تماما. فقد سبق أن ساعدت سنيد في النهوض بعد كبوة ألمت به، وسيساعدني هو في مشكلة بسيطة كهذه بأسرع ما يمكن. سأتحدث مع الجنرال بهدوء في الغد، وسترين عربة آل سنيد على عتبة الباب في اليوم التالي على أقصى تقدير.» وربت على يدها البيضاء الناعمة بحنو. وواصل كلامه قائلا: «لا تقلقي من هذه الأمور التافهة يا فتاتي الصغيرة، وعندما تحتاجين إلى أي مساعدة لا عليك إلا أن تخبري الرجل العجوز. فهو يعرف الكثير من الأمور، سواء عن وول ستريت أو فيفث أفينيو.»
كان سنيد يعرف في نيويورك بالجنرال، وربما كان سبب ذلك أنه لم يكن يمتلك أي خبرة عسكرية على الإطلاق. وكان يمتلك أكبر قدر من السلطة على الأمور المالية في أمريكا بعد دروس لكن بفارق كبير. فلو كانت هناك صفقة يقف فيها الجنرال ومعه العالم كله ضد دروس، لراهن أغلب رجال وول ستريت على تغلب دروس عليهم. كما أن الجنرال كان يعرف بكونه رجلا شريفا، وهذا ما لم يكن في صالحه؛ إذ كان الجميع يعلم أن دروس كان معدوم الضمير. أما لو عرف أن دروس وسنيد سيتحدان في صفقة بعينها، لكان على عالم المال في نيويورك أن يبحث عن ملجأ له منهما. لذا، فعندما رأى أهل نيويورك دروس العجوز يتسلل كفهد يمشي على ساقين ويرسل نظراته المختلسة تتفقد القاعة الكبيرة، حتى عثر على سنيد فناداه بإيماءة جانبية لا يكاد أحد يلحظها، ثم انتحى به في ركن بعيد كان قد دبر فيه من الخراب أكثر مما دبر في أي مكان آخر على الأرض، ويتحدث إليه بحماس؛ لزم السواد الأعظم من الرجال الصمت كأن على رءوسهم الطير، وتوقف القلب المالي لبلد بأكمله عن النبض. وعندما رأوا سنيد يخرج دفتره ويومئ بالإيجاب لطلب دروس أيا كان، ارتعدت فرائص عالم المال في نيويورك، وامتد الارتعاد إلى العالم عبر الإبراق، فأطلقت المراكز المالية في لندن وباريس وبرلين وفيينا إنذارا بعاصفة وشيكة.
شل عدم اليقين أسواق الأرض بسبب حديث تهامس به مقامران عجوزان على مرأى من جمع من الرجال الذين يتابعونهما من طرف خفي.
قال جون بي بولر، رجل القمح البارز: «أنا مستعد لدفع نصف مليون لمعرفة ما يدبر هذان الشيطانان العجوزان»، وكان جادا فيما يقول، وهو ما يدل على تعذر معرفة المرء لفائدة ما يريده، وعدم رضائه البتة عما يريد لو حصل عليه.
قال دروس: «اسمع يا جنرال، أريد منك أن تسدي إلي معروفا.»
رد الجنرال: «بالطبع.» ثم أردف: «كلي آذان مصغية.»
قال دروس وهو يحك ذقنه ولا يعرف كيف يشرح الأمر في الجو المالي البارد الذي وجدا فيه نفسيهما: «الأمر يتعلق بفتاتي الصغيرة.»
قال سنيد والحيرة تبدو عليه: «أوه! يتعلق بزوجة إد؟»
قال دروس: «نعم. إنها في حالة اضطراب شديد بسبب رفض ابنتيك زيارتها. وجدتها تبكي لهذا السبب بعد ظهر السبت الماضي.»
قال الجنرال والحيرة لم تزل على وجهه: «أترفضان زيارتها؟» ثم أردف: «ألم تزوراها بعد؟ اسمع، أنا لا أولي مثل هذه الأمور الكثير من الاهتمام.»
قال دروس: «ولا أنا. كلا، إنهما لم تزوراها. لا أفترض أنهما تعنيان شيئا بذلك، لكن فتاتي الصغيرة تعتقد أنهما تعنيان شيئا بالفعل؛ لذا قلت لها إني سأحدثك في هذا الشأن.»
قال سنيد: «من الجيد أنك حدثتني. سأتدبر الأمر فور وصولي إلى المنزل. في أي وقت ينبغي أن أجعلهما تزورانها؟» وأخرج العجوز البريء دفتره وقلمه الرصاص دون أن يفهم كثيرا ما يعد به جيدا، ونظر إلى دروس مستفهما.
قال دروس: «أوه، لا أعرف. أي وقت يناسبهما. أعتقد أن النساء يعلمن هذه الأمور جيدا. فتاتي الصغيرة تقبع في المنزل معظم وقت ما بعد الظهر، على ما أعتقد.»
تصافح الرجلان بود، وانهارت السوق على الفور.
استغرق الأمر ثلاثة أيام لعودة الوضع المالي إلى ما كان عليه. ولم يكن دروس كثير الظهور في العلن، وهو ما زاد نذر الخطر وطأة. لم يتخل كبار رجال الأعمال عن الحذر؛ لأن الضربة المنتظرة لم تكن قد وجهت بعد. وأبدوا رفضهم للاطمئنان، وقالوا إن تأثير الإعصار سيكون فادحا عندما يضربهم بالفعل.
ظهر العجوز دروس بينهم في اليوم الثالث، ولزم صمتا مطبقا أثار انزعاج من دأبوا على دراسة قسماته. وتعقد الموقف عندما بدا أن الجنرال كان يحاول تجنبه. لكن ذلك لم يعد ممكنا في النهاية، والتقى الرجلان، وتبادلا بعض الكلمات ثم تمشيا معا. وبدا دروس مقلا في الكلام، واستمر صمته التام كما هو، في حين تحدث الجنرال بسرعة وبدا أنه يطلب طلبا لم يلق ردا. وارتفعت الأسهم على الفور ببعض النقاط.
كان الجنرال يقول: «اسمع يا دروس، الأمر كما يلي: للنساء عالمهن الخاص، ولنا عالمنا الخاص. إنهن إلى حد ما ...»
قاطعه دروس بسؤال باقتضاب: «هل ستزورانها؟»
قال سنيد: «دعني أنه ما كنت سأقول. للنساء قواعدهن في التعامل، ولنا نحن ...»
كرر دروس سؤاله بالنبرة الجافة نفسها: «هل ستزورانها؟»
نزع الجنرال قبعته ومرر منديله على جبينه والجزء الخالي من الشعر في رأسه. وود لو كان في أي مكان آخر، ولعن في سره جنس النساء وكل سخافاتهن. وبعد أن مسح العرق عن جبينه واستعاد زمام نفسه، تحدث بلهجة احتجاج. «اسمع يا دروس، دعك من هذا كله، ولا تضعني في موقف محرج. افترض أني طلبت منك أن تذهب إلى السيدة إد وتخبرها بألا تقلق نفسها بالتفاهات، هل تعتقد أنها كانت ستكف عن ذلك فقط لأنك طلبت منها ذلك؟ فلتتعقل!»
فهم الجنرال من صمت دروس أنه يوافقه الرأي.
فواصل كلامه قائلا: «رائع جدا، إذن. أنت أكبر مني مقاما، وإذا لم تستطع أن تتدبر أمرك مع شابة واحدة تطلب رضاك، فماذا تتوقع أن أفعل مع امرأتين متقدمتين في السن شديدتي العناد؟ الأمر كله محض ترهات سخيفة على أي حال.»
ظل دروس صامتا. وبعد وقت من التوقف المزعج، واصل الجنرال المتحير حديثه المرتبك قائلا: «كما قلت في البداية، للنساء عالمهن، ولنا عالمنا. اسمع يا دروس، أنت رجل تتميز بحسن التمييز. ماذا سيكون رأيك لو أتت السيدة إد إلى هنا وأصرت على شرائك لأسهم واباش وأنت تريد شراء الكثير من أسهم ليك شور؟ أترى مدى سخف ذلك؟ رائع جدا، إذن نحن ليس لنا حق في التدخل في شئون النساء كما ليس لهن حق في التدخل في شئوننا.»
قال دروس بغضب متصاعد: «لو أرادت فتاتي الصغيرة كل أسهم واباش سستم، لاشتريتها لها غدا.»
قال الجنرال: «يا إلهي! كان ذلك سيحدث هبوطا كبيرا في السوق!» وقد طغت فداحة رد دروس مؤقتا على عدم الارتياح الذي شعر به الجنرال. ثم واصل: «ومع ذلك، ينبغي ألا يؤثر ذلك على صداقتنا بأي نحو. وإذا كان بإمكاني أن أساعد ماليا بأي نحو، فبكل تأكيد س...»
قال دروس باستهزاء: «أنا أحتاج إلى مساعدة مالية منك؟!» ولم يتلق هزيمته بصدر رحب. ومع ذلك فقد استعاد زمام نفسه بعد دقيقة أو اثنتين ويبدو أنه تناسى مشكلته.
وقال بعد أن تمالك نفسه: «ما هذا الهراء الذي أقوله؟» ثم أردف: «كلنا نحتاج إلى المساعدة من وقت إلى آخر، ولا نعرف متى قد نكون في أمس الحاجة إليها. في الواقع، هناك صفقة بسيطة أردت الحديث معك عنها اليوم، لكن هذه المشكلة السخيفة أنستني إياها. كم تمتلك من الأوراق المالية الخاصة بجيلت إيدجد؟»
رد الجنرال وقد انفرجت أساريره بعد أن تجاوزا المشكلة: «ما تبلغ قيمته ثلاثة ملايين تقريبا.»
قال دروس: «سيكون هذا كافيا لي إذا أمكن أن نعقد اتفاقا. فلنذهب إلى مكتبك. فهذا المكان عام أكثر مما يناسب حديثنا.»
فخرجا معا.
قال الجنرال، بينما كان ينهض دروس حاملا الأوراق المالية في حقيبة يده: «إذن ليس هناك أي مشاعر سلبية فيما بيننا؟»
قال دروس: «نعم. سنركز على العمل فقط فيما بعد، وندع المسائل الاجتماعية جانبا. بالمناسبة، لتأكيد عدم وجود أي مشاعر سلبية، لم لا تأتي معي إلى البحر لنستنشق بعض الهواء؟ ما رأيك في يوم الجمعة؟ لقد أرسلت برقية لتجهيز اليخت لتوي، وهو سينطلق من نيوبورت اليوم. سيكون على متنه بعض الشمبانيا الفاخرة.»
قال الجنرال: «أظن البحارة يعتبرون يوم الجمعة يوم شؤم!»
قال دروس: «ليس بحارتي. هل تناسبك الساعة الثامنة أم سيكون ذلك مبكرا جدا بالنسبة إليك؟ دعنا نتقابل على رصيف مرفأ توينتي ثرد ستريت.»
تردد الجنرال. فقد أصبح دروس ودودا لدرجة لافتة فجأة، وكان يعرفه بما يكفي للارتياب منه قليلا. لكنه عندما تذكر أن دروس نفسه سيأتي معه قال: «أين يمكن أن تصلنا أي برقيات مهمة؟ فالسوق مضطربة قليلا، ولا أحب أن أكون خارج المدينة طوال اليوم.»
قال دروس: «وجودنا معا على اليخت سيجعل السوق تستقر. لكن يمكننا التوقف في لونج برانش لتسلم الرسائل إذا كان ذلك ضروريا بالنسبة إليك.»
قال الجنرال بارتياح كبير: «اتفقنا.» ثم أردف: «سأقابلك في تونتي ثرد ستريت الساعة الثامنة صباح الجمعة إذن.»
كان يخت دورس الذي يحمل اسم سيهاوند سفينة بخارية عظيمة، حجمه مقارب لحجم العبارات التي تقطع المحيط الأطلنطي. وشاع اعتقاد في نيويورك ذلك الحين أن دروس يحتفظ به فقط ليتمكن من الهروب على متنه إذا فاض الكيل بالبلاد منه وطالبت بدمه. وسرت شائعات مفادها أن صابورة يخت سيهاوند التي تثقل وزنه لتثبيته أثناء إبحاره كانت بها قطع من الذهب الصلب وأن اليخت كان مزودا بمؤن تكفي لعامين. غير أن السيد بولر رأى أن الطبيعة تميل إلى العودة إلى وضعها الأصلي، وأنه في صباح يوم صحو سيرفع دروس الراية السوداء ويبحر بعيدا ويمتهن القرصنة بمفهومها الحقيقي.
كان المضارب العتيد يرتدي بذلة بحرية كاملة وينتظر الجنرال، ثم وصل الجنرال في عربته وما إن صعد على متن اليخت حتى ألقي بحبال الرسو وانطلق يخت سيهاوند ببطء في الخليج. كان الضباب كثيفا بعض الشيء ذلك الصباح فاستلزم ذلك التحرك بحرص، وقبل أن يصلا إلى الحاجز الرسوبي زادت كثافة الضباب مما اضطرهم إلى التوقف، وقرعت الأجراس وانطلقت الصافرات. وظلوا في مكانهم حتى الحادية عشرة تقريبا، لكن الوقت مر سريعا؛ فقد كانت كل صحف الصباح موجودة ليقرآها، ولم يكن أي الرجلين قد حظي بفرصة قراءتها قبل مغادرة المدينة.
ولما انقشع الضباب وأعيد تشغيل المحركات، أرسل القبطان من يطلب من السيد دروس الصعود إلى سطح السفينة للحظة. وكان القبطان رجلا يتسم بالدهاء ويفهم مراد رئيسه.
قال القبطان: «هناك قارب قادم نحونا يا سيدي، يشير إلينا أن نتوقف. فهل نتوقف؟»
حك العجوز دروس ذقنه متفكرا، ونظر إلى مؤخرة اليخت. فرأى قاربا يتصاعد منه دخان أسود ويتوجه نحوهم صاعدا فوق تكتل من الزبد الأبيض. رفرفت بعض الرايات من الصاري الوحيد الموجود في مقدمة القارب، وقطعت الصافرات القصيرة الحادة سكون الهواء.
سأل دروس: «هل يمكن للقارب اللحاق بنا؟»
ابتسم القبطان. وقال: «لا يمكن لشيء في المرفأ اللحاق بنا يا سيدي.»
قال دروس: «رائع جدا. انطلق بأقصى سرعة إذن. لا ترد على الإشارات. تظاهر بأنك لم تر شيئا!»
رد القبطان: «حسنا سيدي»، وانطلق للعمل.
على الرغم من أن حركة محركات يخت سيهاوند لم تكن محسوسة تقريبا، فلم تفلح كل محاولات القارب للحاق به. وعندما أطلق اليخت العنان لسرعته تأخر القارب البخاري الصغير عنه تدريجيا حتى كف عن مطاردته التي لم تكن لتفلح. وعندما أصبح اليخت في عرض البحر، طرأ عطل ما في المحركات، فتوقفوا للمرة الثانية لعدة ساعات. فاستبعدت فكرة التوقف في لونج برانش.
قال الجنرال: «قلت لك إن الجمعة يوم شؤم.»
كانت الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم قبل أن يصبح يخت سيهاوند أمام رصيف شارع تونتي ثرد.
قال دروس: «سأضطر إلى إيصالك إلى الشاطئ في قارب صغير، وأتمنى ألا تمانع في ذلك. فالقبطان ليس متأكدا من سلامة المحركات ولا يريد الاقتراب من البر.»
قال الجنرال: «أوه، أنا لا أمانع على الإطلاق. طابت ليلتك. كان يوما رائعا.»
قال دروس: «يسعدني أنك استمتعت به. سنخرج في رحلة أخرى معا في وقت آخر، وأتمنى ألا يحدث حينها الكثير من الأشياء مثلما حدث اليوم.»
وجد الجنرال عربته في انتظاره، لكن الضوء الآخذ في الخفوت لم يكن كافيا ليرى ابنه حتى أصبح على البر مرة أخرى. وذعر العجوز عندما رأى النظرة التي كانت على وجه ابنه.
قال الجنرال: «يا إلهي! جون، ماذا حدث؟»
رد ابنه: «حدث الكثير. أين الأوراق المالية التي كانت في الخزينة؟»
رد الجنرال في ارتياح: «أوه، إنها في مأمن.» ثم خطرت له فكرة، فتساءل كيف عرف جون أنها ليست في الخزينة. فقد كان سنيد يدير كل أموره بنظام صارم، ولم يعلم أحد غيره الرقم السري لفتح الخزينة.
سأل الجنرال: «كيف عرفت أن الأوراق المالية ليست في الخزينة؟»
أجابه ابنه: «لأني اضطررت إلى فتح الخزينة بتفجيرها الساعة الواحدة اليوم.»
قال الجنرال: «فجرت الخزينة! يا إلهي، لماذا فعلت ذلك؟»
قال ابنه: «اركب العربة وسأخبرك ونحن في الطريق إلى المنزل. لقد انهار كل شيء. كل أسهم سنيد انهارت بسرعة كبيرة. أرسلنا قاربا ليلحق بك، لكن ذلك الشيطان العجوز أخذك بعيدا. لو تمكنت من أخذ تلك السندات لكان بمقدوري وقف الانهيار على الأغلب. كان من الممكن إنقاذ الموقف حتى الواحدة بعد الظهر، لكن بعدما تجاوز الوقت الواحدة ولم يرنا رجال وول ستريت نحرك ساكنا، لم يكن لمخلوق أيا كان أن يوقف الانهيار. أين السندات؟»
قال الجنرال: «بعتها لدروس.»
سأله ابنه: «وكيف قبضت الثمن؟ نقدا؟»
رد الجنرال: «أخذت منه شيكا يصرف من مصرف تراست ناشونال بانك.»
صاح الشاب: «وهل صرفته؟ هل صرفته؟» ثم أردف: «وإذا كنت قد فعلت فأين النقود؟»
قال الجنرال: «طلب مني دروس ألا أصرف الشيك قبل الغد.»
صدرت عن الشاب إيماءة تدل على اليأس.
وقال: «لقد انهار تراست ناشونال اليوم في الساعة الثانية. لقد أصبحنا فقراء يا أبي، لم يعد في حوزتنا سنت واحد بعد الانهيار. وموضوع الشيك من الواضح أنه وسيلة احتيال ... لكن ما فائدة الكلام؟ العجوز دروس هو من بحوزته النقود، ويمكنه رشوة كل من يريد من رجال القانون في نيويورك. يا إلهي! ليتني ألتقي به للحظات وفي يدي مسدس ذو سبع طلقات محشو بالطلقات! يمكننا عندئذ أن نعرف بم قد ينفعه رجال القانون.»
هز الجنرال سنيد رأسه في أسى تعبيرا عن الرفض.
وقال: «لا فائدة من ذلك يا جون.» ثم أضاف: «نحن نفعل مثله، لكن هذه المرة نحن من وقعنا ضحية. لقد خدعني ببراعة متظاهرا بالتودد إلي.» ولم ينبس أي الرجلين بكلمة بعد ذلك حتى توقفت العربة أمام القصر المبني من الطوب البني الذي كان يملكه الجنرال حتى وقت سابق من ذلك اليوم. كان في انتظاره ستة عشر صحفيا، إلا أن العجوز تمكن من الهرب منهم ووصل إلى غرفته، وترك جون يتولى أمرهم.
وفي صباح اليوم التالي امتلأت الصحف بأخبار الكارثة. وذكرت أن العجوز دروس خرج في رحلة على يخته إلى ساحل نيو إنجلاند. واستنتجت الصحف من ذلك رغم كل ما جرى أن دروس قد لا تكون له يد في وقوع الكارثة، فخالفوا بذلك دأبهم في إلقاء اللوم عليه في كل ما يحدث. ومع ذلك، فقد أقرت الصحف بأنه رغم تكبد الكثيرين للخسائر، لم يلحق بأسهم دروس أي ضرر. وأجمع الجميع على الانهيار التام لآل سنيد، بصرف النظر عما قصدوه بذلك. ولم يسمح الجنرال لأي صحفي بمحاورته، أما سنيد الابن فلم يسعه سوى إطلاق لسانه باللعنات.
وقبل الظهر بقليل، تسلم الجنرال سنيد الذي لم يكن قد غادر المنزل رسالة حملها إليه رسول.
فتحها متعجلا؛ إذ تعرف على خط يد ذلك المضارب العتيد فيما كان مكتوبا على المظروف.
جاء فيها:
عزيزي سنيد
ستلاحظ مما كتب في الصحف أني خرجت في رحلة بحرية، لكن الصحف أخطأت كعادتها عندما تكتب عني. نمى إلى علمي أن اضطرابا أصاب السوق ونحن في رحلتنا بالأمس، ويسعدني القول إن سماسرتي الأذكياء ساعدوني بأكثر من طريقة. أتساءل كثيرا عن سبب حدوث هذه الاضطرابات، ولكني أفترض أنها تحدث لتعلم المرء أن يشتري بعض الأوراق المالية الجيدة بسعر مناسب إذا كان يملك ثمنها. وربما كان الغرض منها تعليم المتباهين بثرائهم درسا في التواضع. ما نحن إلا كائنات فانية يا سنيد، اليوم نعيش وغدا نموت. يا لحمق التعالي! وهذا يذكرني بأمر آخر: إذا حدث أن أدركت ابنتاك أن الثراء لا يدوم كما أدرك أنا، أتمنى أن تطلب منهما الزيارة. لقد وضعت الأوراق المالية في صرة مغلقة ومنحتها لزوجة ابني. إنها ليس لديها أدنى فكرة عن قيمتها، لكنها تعتقد أنها هدية بسيطة مني لابنتيك. إذا حدث أن جاءتا للزيارة، فستقدمها لهما، أما إذا لم تأتيا، فسأستخدم محتوى الصرة في تأسيس مدرسة لتعليم الأخلاق للشابات اللاتي كان أجدادهن يتخذون من تربية الخنازير مهنة، كما كان هو الحال مع جدي. إذا انسجمت السيدات معا، أعتقد أنه يمكنني إبرام صفقة معك الأسبوع القادم تعوضك عما حدث يوم الجمعة. أنت تروقني يا سنيد، لكن عقليتك لا تصلح للتجارة. يمكنك استشارتي أكثر .
المخلص
دروس
زارت ابنتا آل سنيد السيدة إدوارد دروس.
التحول
لو طحنت سكر الخروع مع كمية مساوية من كلورات البوتاسيوم، لكانت النتيجة مركبا أبيض يبدو غير ضار وحلو الطعم وقد يفيد في بعض الأحيان في علاج احتقان الحلق. لكنك لو غمست قضيبا زجاجيا في كمية صغيرة من حمض الكبريتيك ولمست فحسب الخليط الناتج الذي يبدو غير ضار بالطرف المبتل للقضيب، لتحول الطبق الذي يحتويه فورا إلى أتون من النيران الهادرة يلفظ نافورة من الكرات النارية ويملأ الغرفة بسحابة من دخان أسود كثيف خانق.
غريب جدا هذا الخليط الملغز الذي نسميه بالطبيعة البشرية، فلا يتطلب الأمر أكثر من القليل من الظروف غير المناسبة لتحويل مواطن هادئ مسالم ملتزم بالقانون إلى مجرم تملأ قلبه الرغبة في الانتقام ولا يني في سعيه إليه.
كان متجر صناعة الساعات المملوك للأخوين ديلور يقع في شارع ضيق صغير متفرع من طريق رو دي رين الواسع، بالقرب من محطة مون-برناس الهائلة. وكانت نافذة العرض مليئة بساعات رخيصة، ومن زنبرك فولاذي مثبت في الحافة العلوية لباب المتجر تدلى جرس كان ينطلق رنينه كلما دخل شخص المتجر؛ فقد كان الأخوان صانعي ساعات يعملان بنفسيهما، وينهمكان معظم الوقت في غرفة في مؤخرة المتجر، ولم تكن التجارة رائجة في الحي بما يكفي ليعينا لهما مساعدا. عمل الأخوان في تلك الغرفة الصغيرة في سلام لمدة عشرين عاما، وعرف مواطنو ذلك الحي الباريسي عنهما الثراء الفاحش. وفي الحقيقة كانا راضيين بحالهما، وامتلكا من المال أكثر مما يسد حاجاتهما المحدودة، ويسمح لهما بالإسراف المفرط بعض الشيء في المقهى المجاور من وقت لآخر. كانا دائما يخصصان القليل من المال للكنيسة، وللأعمال الخيرية، ولم يسمع أحد أيا منهما يسيء بالقول إلى أي شخص، ولا أحدهما للآخر. وعندما كان رنين الجرس الموضوع على نحو مضبوط ينطلق بحيث يعلن عن قدوم زبون محتمل، كان أدولف يترك عمله ويحول انتباهه إلى المتجر، في حين كان ألفونس يواصل عمله بلا انقطاع. كان من المفترض أن أدولف هو الأكثر براعة في الجوانب التجارية من العمل، وكان ألفونس الأمهر في صناعة الساعات. كانا يمتلكان غرفة فوق المتجر، ومطبخا صغيرا يعلو غرفة العمل الواقعة خلف المتجر، لكن واحدا منهما فقط كان يشغل غرفة النوم العلوية، واعتاد الآخر النوم في المتجر؛ إذ كان من المفترض أن معروضاتهما تمثل إغراء لا يقاوم لأي لص يريد سرقة عدد من الساعات. وقد تناوب الأخوان على حراسة الكنوز القابعة في الأسفل كل أسبوع، لكن لم يسبق أن أزعج نومهما لص في العشرين سنة الماضية.
وذات مساء، كانا على وشك إغلاق المتجر والتوجه إلى المقهى معا، فانطلق رنين الجرس، وخرج أدولف لمعرفة المطلوب. فوجد في انتظاره شخصا رث الهيئة مهترئ المنظر، فظنه على الفور اللص الذي انتظراه طويلا ولم يأت. وقد زاد من شكوك ديلور عينا الرجل الحائرتان اللتان كانتا تجوبان المكان وتفتشان كل ركن وكوة فيه ولا تستقر في المرة الواحدة على بقعة أكثر من ثانية. كان الزائر غير المرحب به على ما يبدو يعاين المكان، وأيقن أدولف أنه لن يقدم على فعل أي شيء معه في ذلك الوقت تحديدا، بصرف النظر عما سيحدث فيما بعد.
بعد نظرة مختلسة إلى باب الغرفة الخلفية، أخرج الرجل من تحت معطفه صرة صغيرة ملفوفة بغلاف ورقي، وبعد أن فك الخيط عنها ببعض التعجل، ظهرت قطعة نحاسية من ساعة. ناولها لأدولف وقال: «كم ستتكلف صناعة دزينة من مثل هذه القطعة؟»
أمسك أدولف بالقطعة وأخذ يتفحصها. كان في شكلها بعض التقعر، وبين تروسها زنبرك متين. ضغط أدولف على الزنبرك، لكن أجزاء القطعة لم تكن محكمة التثبيت ببعضها البعض لدرجة أنه عندما أفلت مفتاح الزنبرك، انفك انضغاط الزنبرك بسرعة كبيرة وأصدرت التروس صوت احتكاك.
قال أدولف: «صناعتها رديئة جدا.»
رد الرجل، بنبرة رجل متعلم بالرغم من مظهره الذي ينم عن فقر شديد: «هذا صحيح.» ثم واصل كلامه قائلا: «لذلك جئت إليك لتصنعها ببراعة أكبر.»
سأل أدولف: «فيم تستخدم؟»
تردد الرجل للحظة. ثم قال في النهاية: «إنها جزء من ساعة.»
قال أدولف: «لا أفهم تكوينها. لم أر ساعة صنعت بهذا الشكل قط.»
رد الزائر في نفاد صبر: «إنه ملحق يستخدم في التنبيه.» ثم أضاف: «ليس من المهم أن تفهمه. كل ما أريد أن أعرف هو هل بإمكانك استنساخه، وبأي ثمن.»
سأل أدولف: «لكن لماذا لا تجعل آلية التنبيه جزءا مضمنا في الساعة؟ سيكلفك ذلك أقل بكثير من صنعها وحدها ثم إلحاقها بالساعة.»
أعطى الرجل إيماءة تنم عن استيائه.
وقال في فظاظة: «هلا تجيب عن سؤالي؟»
رد أدولف، ببراءة طفل لم يتسلل إلى عقله شك في حقيقة الرجل، ظانا إياه مجرد لص، وآملا أن يرعبه بالتلميح له بما يمتلكه هو من دهاء: «لا أظنك تريد لهذا الجزء أن يكون جزءا من ساعة. في الحقيقة أعتقد أنه يمكنني تخمين سبب قدومك إلى هنا.»
نظر إليه زائره نظرة تهديد، ثم بدا أنه يقيس المسافة بين مكان وقوفه والرصيف بنظرة خاطفة ويفكر في الهرب.
قال أدولف: «سأستشير أخي في الأمر.» غير أنه قبل أن يستدعي أخاه، لاذ الرجل بالفرار على الفور، وترك الآلية في يد صانع الساعات الحائر.
عندما سمع ألفونس قصة هذا الزبون، فاق أخاه في التيقن بخطورة الموقف. كان الرجل لصا بلا شك، ولم يكن الجزء من الساعة الذي أتى به إلا ذريعة لدخول المكان واستكشافه. دفع القلق الأخوين إلى إغلاق المتجر، وبدلا من الذهاب إلى المقهى المعتاد توجها من فورهما إلى مركز الشرطة بأقصى سرعة، وأعربا هناك عن شكوكهما وأدليا بأوصاف المجرم المزعوم. وبدا أن قصتهما قد أثارت انتباه الضابط بشدة.
سألهما: «هل أحضرتما الآلة التي عرضها عليكما؟»
قال أدولف: «كلا. إنها في المتجر.» ثم أردف: «إنها لم تكن سوى ذريعة لدخول المتجر، أنا متأكد من ذلك، فهذه القطعة لم يصنعها أي صانع ساعات.»
رد الضابط: «ربما.» ثم أردف: «هلا تذهب لإحضارها؟ ولا تقل كلمة عما حدث لأي شخص تلقاه، ولف الآلة في ورقة وأحضرها إلى هنا بأسرع وأهدأ ما يمكنك. لولا أني لا أريد جذب الانتباه، لأرسلت معك أحد رجالي.»
قبل طلوع الصباح كان الرجل الذي أعلن أن اسمه جاك بيكار قد قبض عليه، لكن لم يؤد تحمس السلطات لأكثر من ذلك بكثير. أقسم أدولف ديلور بأغلظ الأيمان إن بيكار هو نفسه الرجل الذي زار متجره، لكن المحتجز لم يجد صعوبة في إثبات أنه كان في مقهى على بعد ميلين في وقت وجود الزائر في متجر ديلور، واضطر أدولف إلى الإقرار بأن المتجر كان مظلما بعض الشيء عندما جرت المحادثة حول آلية الساعة. دافع محامي بيكار عنه باقتدار، وحاجج بأنه حتى لو كان الرجل في المتجر كما قال ديلور وتفاوض حول آلية الساعة كما زعم، فليس في ذلك فعل إجرامي إلا إذا أثبت الادعاء أنه كان ينتوي استخدام ما اشتراه في غرض غير شريف. وإلا لقبض على من يدخل المتجر لشراء مسمار لساعة يده. فأطلق سراح بيكار، مع أن رجال الشرطة كانوا متيقنين من أنه أحد المطلوبين لديهم، وقرروا مراقبة تحركاته المستقبلية عن كثب. لكن المشتبه به أعفاهم من عناء مراقبته وشد الرحال إلى لندن بعد يومين، وظل هناك.
لأسبوع بعد ذلك لم ينم أدولف ملء عينيه في المتجر، فرغم أنه كان يأمل أن تكون الإجراءات التي اتخذت ضد اللص قد أفزعته حتى غادر البلاد، كان كلما نام حلم بلصوص فيستيقظ عدة مرات خلال الليالي الطويلة.
وعندما حان دور ألفونس في النوم في المتجر، أمل أدولف أن يحظى بنوم غير متقطع في الغرفة العلوية، لكن الأقدار لم تكن في صفه. فبعد منتصف الليل بقليل هب من سريره وسقط على الأرض، وشعر باهتزاز البناية كما لو كان هناك زلزال يهز باريس. أقعى على يديه وركبتيه ذاهلا يزأر في أذنيه رعد خالطه صوت حاد لانكسار زجاج. توجه إلى النافذة لا يدري أمستيقظ هو أم لم يزل نائما، فوجد النافذة مهشمة. كان القمر يسكب نوره على الشارع المهجور، ولاحظ سحابة من الغبار والدخان ترتفع من مقدمة المتجر. تحسس طريقه في الظلام حتى وصل إلى الدرج فهبطه، وهو ينادي على أخيه، لكن الجزء السفلي من الدرج كان الانفجار قد حطمه، فسقط على الركام المتجمع أسفل منه، واستلقى في مكانه مصدوما والدخان الخانق يحدق به من كل اتجاه.
عندما استعاد أدولف بعض وعيه، أدرك أن رجلين كانا يساعدانه في الخروج من بين أطلال المتجر المحطم. كان لا يزال يغمغم باسم أخيه، فيأتيه الرد منهما بنبرة مطمئنة أن كل شيء على ما يرام، ومع ذلك خامره هاجس أن ما يقال له ليس الحقيقة. شبكا ذراعيهما في ذراعيه ليعيناه على الوقوف، ومشى بين الركام مترنحا وهو يشعر أنه قد فقد قدرته على التحكم في أطرافه. لاحظ اختفاء مقدمة المتجر بالكامل، ورأى من الفتحة الكبيرة أن حشدا قد تجمع في الشارع وأن رجال شرطة كانوا يدفعونهم بعيدا. تساءل في نفسه لماذا لم ير كل هؤلاء الأشخاص عندما نظر من النافذة المهشمة. وعندما هم الرجلان بأخذه إلى عربة الإسعاف أبدى مقاومة طفيفة وقال إنه يريد أن يذهب لمساعدة أخيه النائم في المتجر، لكنهما استخدما القليل من القوة لوضعه في العربة التي انطلقت به إلى المستشفى.
لعدة أيام ظن أدولف نفسه يحلم، وأنه سيستيقظ بعد مدة ويعود إلى حياته القديمة المبهجة بكدها. أخبرته الممرضة بأنه لن يرى أخاه مرة أخرى، وأضافت للتسرية عنه أن أخاه مات ميتة سريعة لا ألم فيها، وأن جنازته كانت واحدة من أكبر الجنائز التي شهدها ذلك الحي الباريسي، وذكرت أسماء الكثير من كبار المسئولين الذين حضروها. أدار أدولف وجهه نحو الجدار وأخذ ينشج. إنه سيمضي ما تبقى من حياته فيما كان يظنه حلما مزعجا عابرا.
وعندما عاد إلى شوارع باريس بعد أسبوع، كان قد فقد امتلاء جسمه المعهود. وقد هزل وشحب لونه، وتدلت ملابسه فوق عظامه كما لو كانت ملابس رجل آخر، ونبتت له لحية قصيرة كثيفة في الأسبوعين الماضيين بعد أن كان دائما حليقا تماما. جلس في المقهى صامتا، ولم يتعرف عليه إلا القليل من أصدقائه في البداية. سمعوا أنه قد تلقى تعويضا كبيرا من الحكومة، وأنه الآن يمتلك من المال ما يكفيه ليمضي ما تبقى من حياته دون حاجة إلى العمل، واعتبروه رجلا محظوظا. لكنه جلس في مكانه خائر القوى لا يأبه لعبارات التعازي أو التهنئة التي أمطروه بها. وقد مر أمام المتجر مرة. فرأى واجهته مغلقة بألواح خشبية، والنوافذ العلوية وقد زودت بزجاج جديد.
جاب شوارع باريس بلا هدف، قال عنه البعض إنه مجنون، وإنه يبحث عن أخيه، وقال آخرون إنه كان يبحث عن القاتل. وذات يوم دخل مركز الشرطة الذي تقدم فيه بالبلاغ المشئوم.
وسأل الضابط المسئول: «هل قبضتم على الفاعل بعد؟»
لم يعرفه الضابط، فسأله: «من تقصد؟»
قال: «أعني بيكار. أنا أدولف ديلور.»
رد الضابط: «لم يكن بيكار من اقترف الجريمة. فقد كان في لندن وقت حدوثها، وما زال هناك.»
قال أدولف: «عجبا! لقد قال إنه كان في شمال باريس عندما كان معي في الجنوب. إنه كاذب. إنه هو من فجر المتجر.»
قال الضابط: «أعتقد أنه خطط لهذا، لكن من نفذه شخص آخر. إن اسمه هو لاموين، وقد سافر إلى بروكسل في صباح اليوم التالي ومنها إلى لندن عبر أنتويرب. إنه يعيش مع بيكار في لندن في الوقت الحالي.»
سأل أدولف: «إذا كنت تعرف ذلك، فلم لم يقبض على أي منهما؟»
قال الضابط: «معرفة الفاعل نقرة والقدرة على إثبات جرمه نقرة أخرى. لا يمكننا القبض على هذين الوغدين من إنجلترا فقط للاشتباه فيهما، وسيحرصان على ألا تطأ أقدامهما فرنسا لبعض الوقت.»
قال أدولف: «أنت تنتظر الدليل إذن؟»
رد الضابط: «نعم ننتظر الحصول على دليل.»
سأل أدولف: «وكيف تتوقعون الحصول عليه؟»
قال الضابط: «لقد وضعناهما تحت المراقبة. إنهما هادئان تماما الآن، لكن ذلك لن يدوم طويلا. فبيكار كثير القلق. وربما نتمكن من القبض على أحدهما قريبا فيعترف بالجريمة.»
قال أدولف: «ربما أمكنني المساعدة. سأذهب إلى لندن. هلا تعطيني عنوان بيكار؟»
قال الضابط: «ها هو عنوانه، لكني أظن أنه من الأفضل ألا تتدخل في القضية. أنت لا تجيد لغة المكان، وقد تثير شكوكه فحسب إذا تدخلت. ومع ذلك، أبلغني إذا علمت بجديد.»
اختفى من عيني أدولف التعبير الصادق الصريح الذي كان يميزهما وحل محله فيهما نظرة مكر راقت للضابط الفرنسي. فقد اعتقد أن ما بدا فيهما قد يفيد فيما بعد، ولم يكن مخطئا في ذلك.
راقب ديلور باب المنزل اللندني ببراعة كبيرة وحرص ألا يرتاب أحد في نواياه. رأى بيكار يخرج منه وحده عدة مرات، ومرة واحدة بصحبة واحد من أمثاله افترض ديلور أنه لاموين.
وذات مساء، بينما كان بيكار يعبر ميدان ليستر، أقبل عليه غريب وبدأه بالحديث بلغته. فنظر حوله فجأة فألفاه متشردا مثيرا للشفقة ثيابه شديدة الاهتراء.
سأله بيكار بصوت مرتعش: «ماذا قلت؟»
قال ديلور بنبرة تذلل: «هلا تساعد فقيرا من أبناء بلدك؟»
قال بيكار: «ليس معي نقود.»
قال ديلور: «ربما يمكنك مساعدتي في الحصول على عمل. لا أجيد اللغة لكني عامل ماهر.»
قال بيكار: «كيف لي أن أساعدك في الحصول على عمل؟ أنا نفسي لا أجد عملا.»
قال ديلور: «أنا مستعد للعمل بلا مقابل إن استطعت الحصول على مكان أنام فيه وطعام أقتات عليه.»
قال بيكار: «ولم لا تسرق؟ لو كنت جوعان لسرقت. مم تخاف؟ السجن؟ إنه ليس أسوأ من التشرد في الشوارع جائعا، أعرف ذلك، لأنني قد جربت الخيارين. ما صنعتك؟»
قال ديلور: «أنا صانع ساعات وحرفي على أعلى مستوى، لكني رهنت كل أدواتي. وجئت من ليون مشيا على قدمي، لكن لم يعد هناك عمل في مهنتي.»
نظر إليه بيكار في ارتياب للحظات قليلة.
ثم سأله أخيرا: «لماذا جئت إلي؟»
قال ديلور: «رأيت أنك من أبناء بلدي، وقد ساعدني الفرنسيون من وقت لآخر.»
قال بيكار: «لنجلس على هذا المقعد. ما اسمك؟ ومنذ متى أنت في إنجلترا؟»
قال ديلور: «اسمي أدولف كارييه، وأنا في لندن منذ ثلاثة أشهر.»
قال بيكار: «أوه، أنت هنا لمدة طويلة كهذه؟ كيف كنت تعيش طوال هذا الوقت؟»
رد ديلور: «كنت أعيش فقير الحال كما يمكنك أن ترى. في بعض الأحيان أحصل على بعض البقايا من المطاعم الفرنسية، وأنام أينما أمكنني ذلك.»
قال بيكار: «حسنا، أعتقد أن بإمكاني مساعدتك بحيث تكون في حال أفضل من هذا. تعال معي.»
أخذ بيكار ديلور إلى منزله ودخل مستخدما مفتاح الباب الأمامي. لم يبد أن أحدا غيره ولاموين يسكن المنزل. أخذه إلى الطابق العلوي وفتح بابا مؤديا إلى غرفة خالية تماما من الأثاث. وتركه فيها، ثم هبط إلى الطابق السفلي ثانية وعاد إلى العلوي بعد وقت قصير يحمل في يده شمعة مشتعلة، وتبعه لاموين يحمل فراشا.
قال بيكار: «سيكفيك ذلك الليلة، وغدا سنجد إن كان بإمكاننا الحصول لك على أي عمل. هل يمكنك صناعة الساعات؟»
أجاب ديلور: «أوه، نعم، أنا أصنع ساعات جيدة.»
قال بيكار: «جيد جدا. أعطني قائمة بالأدوات والمواد التي تحتاج إليها وسأجلبها لك.»
كتب بيكار في دفتر ملاحظته الأغراض التي أملاها عليه أدولف، في حين راقب لاموين الموظف الجديد عن كثب دون أن ينبس بكلمة. وفي اليوم التالي وضع في الغرفة طاولة وكرسي، وبعد الظهر أحضر بيكار الأدوات وبعض ألواح النحاس.
ارتاب بيكار ولاموين بعض الشيء في موظفهما الجديد في البداية، لكنه مضى في عمله باجتهاد ولم يحاول التواصل مع أي شخص. وبعد مدة وجيزة تبين لهما أنه عامل ماهر، وشخص هادئ بريء ساذج لا يؤذي أحدا؛ لذا كلفوه بمهام أخرى مثل تنظيف غرفهم أو الذهاب لشراء الجعة أو احتياجات الحياة الأخرى.
عندما أنهى أدولف صناعة أول ساعة لهما، أخذها إليهما وعرضها عليهما بتفاخر مبرر. وكان بها قرص يشبه الساعة تماما لكن بعقرب واحد.
قال بيكار: «لنرها وهي تعمل، اضبطها بحيث ينطلق جرسها بعد ثلاث دقائق.»
فعل أدولف ما طلب منه، ثم تراجع عندما بدأت الساعة تدق بصوت لا يكاد يسمع. أخرج بيكار ساعته ووجد أن المطرقة الصغيرة سقطت على الجرس في الدقيقة الثالثة بالضبط. فقال بيكار: «هذا مرض تماما، والآن هل يمكن أن تصنع التالية بحيث يكون فيها تقعر طفيف، بحيث يتسنى لأي رجل ربطها تحت معطفه دون جذب أي انتباه؟ هذا الشكل يفيد عند المرور من الجمارك.»
قال ديلور: «يمكنني صناعتها بأي شكل تريد، ويمكنني أن أجعلها أقل سمكا من هذه إذا أردت.»
قال بيكار: «جيد جدا. اذهب وأحضر لنا بعض الجعة، سنشرب نخب نجاحك. هاك النقود.»
أطاعه أدولف كعادته، لكنه تأخر في العودة بعض الشيء هذه المرة. ولما نفد صبر بيكار على تأخره أغلظ له في القول عند عودته، وأمره بالصعود إلى الطابق العلوي والانكباب على عمله. فاستجاب أدولف بخنوع، وتركهما مع الجعة.
قال بيكار: «تفقد هذه الساعة وتأكد من فهم طريقة عملها يا لاموين.» ثم أردف: «اضبطها على نصف الساعة.»
أدار لاموين عقرب الساعة إلى الرقم 6 في القرص، وشغل آلية عمل الساعة، ثم شربا الجعة على صوت دقاتها المنتظمة.
قال لاموين: «يبدو أنه يفهم صنعته جيدا.»
وافقه بيكار: «نعم.» وأردف: «مفعولها قوي هذه الجعة الإنجليزية. ليت لدينا بعضا من الجعة الفرنسية الجيدة؛ فهذه الجعة تبعث على الدوار.»
لم يعلق لاموين، وظل يومئ بالموافقة في كرسيه. وألقى بيكار بنفسه على فراشه في أحد أركان الغرفة، وعندما انزلق لاموين من كرسيه تلفظ بلعنة وظل في مكانه حيث سقط.
وبعد عشرين دقيقة انفتح الباب برفق، وأطل أدولف برأسه يستطلع الموقف بدقة ويفتش الغرفة الساكنة بوصة بوصة، وجاست عيناه الثاقبتان بسرعة في الغرفة وامتلأتا بالابتهاج المختلط بالشر عندما رأى كل شيء يجري حسب خطته. دخل في هدوء وأغلق الباب من خلفه بخفة. كانت في يده لفة كبيرة من الحبل المتين الرفيع. اقترب من الرجلين النائمين مشيا على أطراف أصابعه، ونظر إليهما للحظة متسائلا عما إذا كان العقار قد أحدث فيهما مفعوله بما يكفي ليواصل هو ما خطط له. وعندئذ وجد إجابة لسؤاله إجابة فورية مفزعة. انطلق جرس فجأة بصوت مفزع مفاجئ بدا عاليا لدرجة تكفي لإيقاظ الموتى، فانتفض فزعا حتى كاد يرتطم بالسقف. وأسقط لفة الحبل من يده وتمسك بالباب في خوف شديد، واشتد نبض قلبه حتى كاد يختنق، وحدق بعينين ملؤهما الرعب في الساعة التي صدر منها جرس التنبيه غير المتوقع. وبعد أن استعاد زمام نفسه تدريجيا، حول اتجاه نظره إلى النائمين، فوجد كليهما ثابتا لم يتحرك من موضعه ، وكانت أنفاسهما تتردد بشدة كما كانت.
سيطر أدولف على أعصابه، ثم وجه انتباهه أولا إلى بيكار باعتباره الأخطر بين الاثنين تحسبا لاستيقاظه وهو غير مستعد. فربط معصميه معا بإحكام ثم كاحليه فركبتيه فكوعيه. وبعد ذلك فعل بلاموين المثل. وبصعوبة كبيرة وضع بيكار في وضع الجلوس على كرسيه وربطه فيه بعدة لفات من الحبل. كان حريصا على إحكام كل شيء لدرجة أنه بالغ في ذلك بعض الشيء، فجعلهما يبدوان كمومياوين جالستين محاطتين بالحبل. بعد ذلك ثبت الكرسيين في الأرض لدرجة يتعذر معها تحريكهما، ثم تراجع وحدق متنهدا في الرجلين الجالسين في منظر كئيب، في حين تدلت رأساهما بعشوائية على صدريهما الملفوفين بالحبل، فأصبحا أشبه بدميتين ساكنتين ترمزان للموتى.
مسح أدولف العرق الذي انسال على جبينه، ثم حول انتباهه إلى الآلة التي كانت قد أفزعته عند دخوله الغرفة. وتفحص آليتها بدقة للتأكد من أن كل شيء فيها على ما يرام. توجه إلى الخزانة وأزال لوحا من أسفلها فكشف عن مخبأ من تحته، أخذ منه برفق عددا من خراطيش الديناميت كان النائمان قد سرقاها من منجم فرنسي. ورتب خراطيش الديناميت هذه على شكل بطارية بربطها معا. ورفع مطرقة الآلة، وضبط العقرب بحيث ينطلق الجرس بعد ضبط الآلة بستين دقيقة. ووضع ذلك كله على طاولة صغيرة، ووضع الطاولة بما عليها أمام الرجلين النائمين وعلى مسافة قصيرة منهما. وبعد أن انتهى من ذلك جلس على كرسي ينتظر في صبر استيقاظهما. كانت الغرفة في مؤخرة المنزل، وسادها سكون مزعج فلم تتسرب إليها نأمة من الشارع. تناقص طول الشمعة المشتعلة حتى اضطرب لهبها ثم انطفأ، لكن أدولف ظل جالسا مكانه ولم يشعل شمعة أخرى. لم يزل الظلام يعم نصف الغرفة، فقد نفذ إليها نور القمر من النافذة، فذكر أدولف أنه لم يمض شهر منذ كان يطالع شارعا آخر مضاء بنور القمر في باريس في حين كان أخوه يرقد مقتولا في الغرفة السفلية. مرت الساعات ثقيلة، وجلس أدولف بلا حراك كالرجلين المربوطين أمامه. ظل نور القمر يغير اتجاهه ببطء حتى سقط أخيرا على بيكار المربوط في وضع الجلوس، وبينما أخذ القمر يغوص في الأفق، ظل نوره يرتفع حتى لمس وجه بيكار. فحرك رأسه إلى أحد الجانبين ثم إلى الخلف، ثم تثاءب متنفسا بعمق، ثم حاول المقاومة.
صاح قائلا: «لاموين، أدولف. ما هذا بحق الجحيم؟ أنا هنا. أنقذني! لقد تعرضت لخيانة.»
قال أدولف بهدوء: «صه! لا تصرخ بصوت عال هكذا. وإلا ستوقظ لاموين الجالس بجوارك. أنا هنا، انتظر حتى أشعل شمعة، فنور القمر كاد يختفي.»
قال بيكار: «أدولف، أيها الشيطان، أنت متواطئ مع الشرطة.»
قال أدولف: «كلا، لست كذلك. سأشرح كل شيء بعد قليل. كن صبورا.» وأشعل شمعة، ونظر بيكار فوجد لاموين مقيدا مثله وقد بدأ يستيقظ ببطء.
نظر لاموين إلى شريكه دون أن يفهم ما يحدث، وقال بغضب: «لقد أصبحت خائنا يا بيكار، لقد أبلغت الشرطة، عليك اللعنة!»
قال بيكار: «اهدأ أيها الأحمق. ألا تراني مقيدا بشدة مثلك؟»
قال أدولف: «ليس هناك خائن، ولم يبلغ أحد الشرطة، ولا حاجة إلى ذلك. في ليلة كهذه منذ شهر يا بيكار، تمزق جسد رجل طيب صالح في انفجار، رجل لم يمسك أنت ولا غيرك بسوء. أنا أخوه. أنا أدولف ديلور الذي رفض صناعة آلتك اللعينة. لكني تغيرت كثيرا منذ ذلك الحين، لكن ربما يمكنك التعرف علي الآن، أليس كذلك؟»
قال بيكار: «أقسم بالرب إني لم أفعلها. فقد كنت في لندن في ذلك الوقت. يمكنني إثبات ذلك. لا حاجة إلى تسليمي للشرطة، حتى لو اعتقدت أنه يمكنك ترهيب هذا البائس ليفتري علي كذبا.»
قال أدولف: «فلتصل للرب، الذي تستخف باسمه، أن تقع في يد الشرطة التي تخشاها قبل أن أنتهي أنا منك. الشرطة أملك الوحيد، ولو بدا ذلك لك غريبا، لكن سيكون على الشرطة المجيء سريعا لو كانوا سينقذونك. اسمع يا بيكار، لقد عشت على هذه الأرض نحو خمسة وثلاثين عاما. لكن الساعة القادمة من حياتك ستكون بالنسبة إليك أطول من كل هذه السنوات.»
وضع أدولف كبسولة القدح في مكانها وشغل الآلية . وللحظات قليلة لم يسمع في الغرفة سوى صوت الدقات الخافتة، وظل الرجلان المقيدان ينظران إلى قرص الساعة بعيون مفتوحة، في حين بدآ يدركان موقفهما فتسلل الرعب ببطء إليهما.
تواصلت الدقات متواترة بلا انقطاع. شحب وجهاهما، وانسال العرق بشدة من على جبهتيهما. وفجأة رفع بيكار عقيرته بصرخة مدوية.
فقال أدولف في هدوء: «توقعت ذلك.» ثم أضاف: «لا أعتقد أن أحدا سيتمكن من سماعك، لكني سأكممكما تجنبا لأي مخاطر.» وبعد أن فرغ من ذلك، قال: «ضبطت الساعة على ستين دقيقة، مر منها سبع دقائق. لم يزل هناك ما يكفي من الوقت للتأمل والتوبة. وضعت شمعة هنا لينير لهبها قرص الساعة. عندما تصلان إلى حالة من السلام النفسي، صليا لأرواح من أرسلهم أي منكما إلى العالم الآخر دون أن يحظوا بفرصة للاستعداد.»
غادر ديلور الغرفة بهدوء كما دخلها، وحاول الرجلان الهالكان الصراخ قدر استطاعتهما عندما سمعا المفتاح يدور في الباب.
ولم تتبين السلطات إن كان ذلك الانفجار قد أدى إلى قتل رجل واحد أم رجلين.
شبح الأوراق النقدية
لم ينقص هيكوري سام إلا صفة واحدة ليصبح شخصا مثاليا. كان ينبغي أن يكون شديد الجبن. لكنه في الحقيقة كان متغطرسا مختالا، يتباهى طوال الوقت بذكر الرجال الذين قتلهم، والصعوبات التي واجهها بنجاح، وكان يسرد قصص بسالته، ومن سوء الحظ أنه كان يصوب على الهدف مباشرة ولا يخطئ إلا نادرا، إلا إذا كان أكثر ثمالة من المعتاد. لو أمكن القول إن ذلك المجرم الهمجي قد سيطر عليه غر بريء من الشرق وأجبره على تنفيذ ما يطلبه مهددا إياه بمسدس دوار جديد تزينه الزخارف؛ إذ قد بدا ذلك المتبجح المتفاخر من نوع الرجال الذين يتقهقرون إذا ما واجههم خطر حقيقي، لكان ذلك مبهجا، ولكن، ومع الأسف، لم يعرف هيكوري الجبن قط، ولم يخش الرجال أو أسلحتهم مهما كان عددهم وعتادهم. كان يقبل على قتال عشرة ونيف من الرجال إقباله على قتال رجل واحد؛ بل إنه ذات مرة واجه وحده فرقة من جيش الولايات المتحدة في فورت كونتشو، حينها تراجع للخلف ببراعة موجها وجهه نحو العدو وفرض سيطرته عليهم بمسدسيه ذوي الطلقات السبع اللذين بدوا مصوبين إلى كل الاتجاهات في الوقت ذاته، فبث الرعب في نفوس كل رجال فرقة العدو جاعلا كلا منهم يشعر أنه دون غيره تحت تهديد السلاح، وأنه سيكون أول من يصرع لو بدأ بالفعل إطلاق النار.
ظهر هيكوري سام فجأة في سولت ليك، ولم يمض وقت طويل حتى أثبت أنه بالفعل شرير المنطقة. عارض بعض من كبار القوم ادعاء سام المتغطرس، لكن العمر لم يمتد بما يكفي للحفاظ على شهرتهم المستحقة في إثارة المتاعب. وهكذا تسيد هيكوري سام القوم في سولت ليك، وكان الجميع مستعدين لدفع فاتورته بدلا منه أو قبول دعوته لتناول الشراب؛ بل ومتحمسين لذلك.
كانت حانة ذا هيدز التي يديرها مايك دافلين المكان الرئيسي الذي يلجأ إليه سام للترويح عن نفسه في سولت ليك. لم تكن نية مايك أن يسمي حانته بهذا الاسم، فقد سماها في البداية باسم ذا شيدز على غرار قبو صغير لتخزين الخمور كان يديره في بداياته في فيلادلفيا، لكن راعي بقر خفيف الظل، كان يهتم بالمظهر الخارجي للأشياء، بدل الحرف الأول من الكلمة من اللافتة وسمح بالإبقاء عليها كما هي. ولم يعترض مايك. كان مايك شديد الاهتمام بشئون السياسة عندما كان في فيلادلفيا، لكن اتجاها مفاجئا نحو الفضيلة انتشر في المدينة منذ عدة سنوات فسقط دافلين ضحية له واضطر إلى الرحيل فجأة إلى الغرب الذي لا مكان فيه للسياسة، وينظر فيه المجتمع إلى الشخص البارع في خلط المشروبات بوصفه شخصا مميزا. لم يعترض مايك حتى عندما عرف أن اسم ذا هيدز لم يرض الشباب الذين كانوا يريدون للمكان اسما ملائما، ولم يعترض أيضا عندما بدءوا يسمون المكان باسم مرادف أقصر يبدأ بالحرف نفسه.
كان مايك رجلا يجيد التكيف مع الظروف، ويمزج المشروبات، ويتجنب المتاعب. كان يحمي نفسه بالامتناع عن حمل المسدس والاعتراف بأنه ما كان ليستطيع التصويب بدقة حتى على حانته نفسها من مسافة عشرين ياردة . فلم تسمح سكنى مدينة هادئة مثل فيلادلفيا بالتدريب على استخدام الأسلحة. وعندما كان الشباب يبدءون في إطلاق النار داخل حانته متأثرين بما تبثه في نفوسهم الخمر من حماس، كان مايك يختبئ تحت منضدته من فوره حتى تنقشع سحب الدخان. ثم كان يرسل إلى زبائنه بعد أن يفيقوا من الثمل فاتورة بثمن الزجاج والقناني المكسورة وغير ذلك من الأضرار التي قد تلحق بالمكان وكانوا يدفعون له دائما. اكتسب مايك عن استحقاق محبة أهل سولت ليك لدرجة أنه لو ترشح لعضوية الكونجرس الأمريكي لانتخب بسهولة - هذا إن تجرأ على العودة ثانية إلى الشرق. لكنه كان يتجنب الانخراط في السياسة، كما قال بنفسه.
كان لرعاة بقر مزرعة بولر عادة مبهجة في المجيء إلى سولت ليك في أيام صرف الرواتب وغلق مداخل البلدة. ولم تضر هذه الزيارات المنتظمة بأحد، بل بدت ممتعة بشدة للكثير من الشباب. لقد كان هؤلاء يمتطون جيادهم وينطلقون بها بأقصى سرعة في الشارع الوحيد في المنطقة كفرقة خيالة، ويرفعون عقيرتهم بالصياح ويلوحون بأسلحتهم في خيلاء.
لم تكن أولى غزواتهم لسولت ليك سوى إنذار، وهكذا كان يراها كل السكان المسالمين فكانوا يلزمون بيوتهم ويحتمون بها على الفور. وأثناء عودتهم كانوا يصيبون كل من يجدونه في طريقهم في ساقه أو ذراعه بتصويب لا يخطئ. ولم يقتلوا أحدا من المارة سوى في مرات نادرة، فلم يحدث أن لقي شخص مصرعه على أيديهم إلا بطريق الخطأ، وكان هؤلاء الشباب يأسفون لذلك بشدة، ويعتذرون بصدق لذويه الأحياء فيقبلون اعتذارهم بطيب خاطر في أغلب الأحيان. ولم تخلف هذه الحالات القليلة أحقادا ولا سعى أحد بعدها للثأر، فلو قتل رجل لما عزا أحد ذلك إلا لحظه العثر، وهكذا ينتهي الأمر، وندر أن يفكر أحد في الانتقام.
يعزى ذلك إلى حد كبير إلى أن أغلب أفراد ذلك المجتمع كانوا من الرحل، ولم يكن لأغلبهم أقارب في الجوار، وعلى الرغم من أن الضحية قد يكون لها أصدقاء، كان من النادر أن يعتز أحد بصديقه المجني عليه لدرجة أن يهب غاضبا لما أصابه إذا اخترقت رصاصة جسمه. أما الأقارب فكان التعامل معهم في الغالب أصعب من التعامل مع الأصدقاء في حالات الموت المفاجئ، وكان هيكوري سام يعي ذلك جيدا، فعندما اضطر إلى إطلاق النار على أصغر الأخوين هولت في حانة مايك، توجه من فوره وعلى مضض إلى أخيه الأكبر جون فقتله هو الآخر قبل أن يصله خبر أخيه. وشرح سام لمايك عند عودته أنه لم يضمر شرا لجون هولت، لكنه قتله فقط لحفظ السلم العام؛ لأنه لو لم يفعل لكان من المؤكد أن يسحب جون سلاحه وعلى الأرجح كان سيطلق النار على عدد من المواطنين عندما يسمع خبر موت أخيه؛ إذ كان يجمع الأخوين ود بالغ لم يعرف سبب له.
عندما كان هيكوري سام جديدا بعض الشيء على سولت ليك، كان يسمح لرعاة بقر مزرعة بولر بغلق منافذ البلدة دون أن يبدي أي معارضة. كان من عادتهم، بعد أن يتم لهم غلق عاصمة مقاطعة كايوتي كما أرادوا، أن يقصدوا حانة ذا هيدز وينفقوا مكاسبهم التي اكتسبوها بصعوبة على الخمر التي يقدمها لهم مايك. وكانوا أثناء ذلك أيضا يغيرون شكل سقف الحانة. إذ كان للكثير من رعاة البقر هؤلاء هواية تدوير بنادق وينتشيستر التكرارية الخاصة بهم حول سباباتهم ثم إطلاق النار منها لحظة اتجاه ماسورتها إلى أعلى. وكانوا يتبارون في إطلاق أكبر عدد من الرصاصات في أقل مساحة ممكنة من سقف الحانة ويعتبرون من تكون له الغلبة في ذلك خبيرا، ويعفى من دفع ثمن مشروباته.
كان من الممكن أن يجعل مشهد كهذا الكثير من الرجال يجزعون، بيد أنه لم يؤثر في هيكوري سام، الذي اتكأ على منضدة الشراب وأخذ ينظر إلى ما يجري شزرا معتبرا إياه لعبا صبيانيا.
قال الفائز: «ربما تعتقد أنه يمكنك أن تفعلها.» ثم أضاف: «أراهنك على دفع ثمن مشروباتك أنه لا يمكنك.»
قال هيكوري سام في هدوء وترفع: «ليس علي المحاولة.» ثم أردف: «ليس علي ذلك، لكني سأخبرك بما يمكنني فعله. يمكنني إصابة رجل في قلبه بمسدسي هذا.» وأبرز مسدسه ذا السبع طلقات، وواصل: «وأنا أقف هنا في حانة ذا هيدز وهو يخرج من المصرف.» وكان في سولت ليك - نظرا إلى تطورها - فرع لمصرف مقاطعة كايوتي على مسافة ما في الشارع، على الجانب المقابل لجانب الحانة.
صاح الفائز: «أنت تكذب»، فأمسك كل الرجال ببنادقهم وتأهبوا للمتاعب.
فما كان من هيكوري سام إلا أن ضحك، ومشى إلى الباب مختالا، وفتحه، ثم سار إلى منتصف الشارع المهجور.
وصاح بأعلى صوته: «أنا رجل خطير منذ زمن بعيد.» ثم أضاف: «أنا أشد رجال مقاطعة كايوتي، ولا يمكن لحفنة من المكسيكيين التافهين من مزرعة بولر غلق هذه البلدة وأنا فيها. هل تسمعون؟ سولت ليك مفتوحة على مصراعيها، وها أنا ذا أقف في الشارع لأثبت ذلك.»
كان في إعلانه فتح البلدة بعد أن أعلن غلقها جمع منهم يتألف من خمسة عشر رجلا إساءة كافية، وفوق ذلك كان وصفه إياهم بحفنة من «المكسيكيين» التافهين إهانة لا تغتفر. إذ لا يقل ازدراء راعي البقر للمكسيكيين عن ازدرائه للهنود الحمر. انطلقت صيحة تبث الرعب في النفوس وخرج الخمسة عشر رجلا من الحانة وامتطوا جيادهم في انتفاضة كالإعصار. وانطلقوا في الشارع بسرعة الإعصار أيضا، يدورون بالأحصنة على مسافة من المصرف المغلق مؤقتا، ثم ينطلقون بأقصى سرعة ويطلقون النار بكثافة في اتجاه هيكوري سام الذي أقعى خلف برميل ويسكي فارغ كان أمام الحانة وأمسك بمسدس في كل يد من يديه.
أثبت سام صحة ما ادعاه بإصابة الفائز في قلبه وهو قبالة المصرف، فسقط على وجهه واضطرب رفاقه. ثم وقف سام على قدميه وأطلق النار من مسدسيه غير آبه للطلقات الطائشة، فقتل من كان في المقدمة ومعه ثلاثة من الجياد، فتحول هجومهم عليه على الفور إلى هزيمة ساحقة. وبعد ذلك عاد إلى حانة ذا هيدز وأغلق الباب. وكان مايك غائبا عن الأنظار.
علم الشباب أن لا قبل لهم بمواصلة القتال. فلم يهجموا على الحانة، بل انتشلوا جثث من سقط منهم، ثم شرعوا، بعد أن ذهب عنهم الثمل، في العودة إلى مزرعة بولر بوتيرة أبطأ كثيرا من وتيرة قدومهم منها.
وعندما تأكد رحيلهم، خرج مايك من مخبئه بحذر، وكان سام يطرق على منضدة الشراب بقوة مهددا بالمرور إلى ما وراء منضدة الشراب وإعداد شرابه بنفسه إن لم يقدم له.
أوضح سام لدافلين قائلا: «أنا رجل قانون ونظام، ولن أسمح لبعض الهمج من مزرعة بولر بغلق هذه البلدة وعرقلة سير التجارة. يجب على الجميع احترام دستور الولايات المتحدة ما ظل سلاحي يعمل، يمكنك أن تراهن على ذلك بحياتك!»
أقر مايك سريعا بصحة ما قال، وسأله ماذا يريد، وكان في غمرة هياجه قد نسي أن سام لا يشرب إلا مشروبا واحدا لا يغيره وقد كان يشربه مباشرة دون تخفيف.
وفي اليوم التالي جاء العجوز بولر بنفسه من مزرعته ليرى إن كان هناك ما يمكن فعله حيال تلك المعركة التي وقعت مؤخرا. ساءه بشدة أن يفقد اثنين من أفضل رجاله في شجار سخيف كالذي دار، وأثار تقززه أن يقتل أيضا ثلاثة من خيوله المدربة. كان بولر نفسه في شبابه أحد الشباب المشاغبين هؤلاء، أما الآن بعدما جلب له عمله في تربية الماشية الثراء، فقد تاق إلى رؤية الحضارة تشق طريقها نحو الغرب بخطى أوسع مما هي عليها الآن. أخطأ باللجوء إلى رئيس الشرطة، كما لو كان ذلك الرجل ذو المكانة الرفيعة والراتب الزهيد سيقدم على محاولة اعتقال هيكوري سام الذي يصوب فيصيب.
علاوة على ذلك، وحسبما أفاد رئيس الشرطة وصدق في قوله، فقد كان رعاة البقر هم البادئين بالعدوان، وإذا لم يتمكن خمسة عشر منهم من التغلب على رجل واحد مختبئ خلف برميل ويسكي فارغ، فالأحرى بهم إذن أن يلزموا منازلهم آمنين في المستقبل، ويتدربوا على استخدام المسدسات في ساحة للتدريب على الرماية في هدوء وسلام. وبطبيعة الحال لم يكن من المتوقع أن تمتد يد القانون الطائلة، المتمثلة في رئيس الشرطة المسالم، لتنال من غريمهم بعدما حاول العديد منهم النيل منه بالفعل وفشلوا، خاصة إذا كان غريمهم شخصا يعاقر الشراب مباشرة دون تخفيف ، ويجيد التصويب ببراعة كهيكوري سام.
ولما وجد بولر في الجانب التنفيذي من القانون تباطؤا وإحجاما عن اتخاذ أي إجراءات، استشار محاميه الخاص الذي كان الدارس الوحيد في الجوار لعمل كوك الذي يعلق فيه على آراء ليتلتون القانونية. وشك المحامي في وجود أي حلول قانونية في ظل الوضع الحالي للمجتمع في سولت ليك. ولم يسد مشورة قانونية قاطعة، لكنه تقدم باقتراح مفاده أن الخطة الأسلم هي أن يحاصر هيكوري سام ثم يباد من على وجه الأرض. لم يكن ذلك حلا قانونيا بالطبع، لكنه لو نفذ دون أخطاء لكان حلا فعالا.
ذاعت تفاصيل الحديث الذي دار بين بولر ورئيس الشرطة في سولت ليك سريعا، وأثارت سخطا شديدا بين السكان، خاصة المترددين على حانة ذا هيدز. كان اللجوء للقانون بسبب واقعة تافهة كالتي جرت في اليوم السابق بمنزلة إهانة للمكان. أما سام الذي كان يحتفل بانتصاره عند مايك فقد سمع الخبر بامتعاض مرير لكنه صامت بعض الشيء؛ إذ كان قد تجرع عددا من كئوس الشراب يكفي لعقد لسانه. لولا التصرف غير المبرر الذي أقدم عليه بولر لجنح سام إلى وأد الخصومة راضيا؛ إذ كان رجلا سمحا، أما الآن فلا بد من عقاب صارم وفوري. قرر سام أن يرسل صاحب المزرعة الثري لمؤانسة رجليه المقتولين.
وهكذا، عندما امتطى بولر حصانه بعد زيارته للمحامي التي لم تثمر شيئا، وجد هيكوري سام يسيطر على الشارع بمسدسيه. فتبادلا إطلاق النار بلا نتيجة؛ إذ كان ثمل سام قد جاوز المدى حينئذ، وكان صاحب المزرعة قليل التدريب على إطلاق النار. كان من النادر في سولت ليك أن يحترق كل هذا البارود دون أن يخلف ضررا أكبر مما لحق بزجاج النوافذ القريبة في الجوار. عاد بولر إلى مكتب المحامي، وبعد ذلك أجرى حوارا مع مدير المصرف. ثم غادر البلدة بهدوء، ولم يتعرض له أحد؛ إذ كان سام حينئذ يبث مايك حزنه على عدم دقة تصويبه، ثم غلبه النوم تدريجيا في أحد أركان الحانة.
وفي صباح اليوم التالي، عندما استيقظ سام وبدأ يزول عنه ثمله، أرسل إلى المزرعة رسالة تفيد بأنه سيطلق النار على العجوز بولر حالما يراه، وفي الوقت ذاته اعتذر عن خرقه أثناء إطلاق النار في المرة السابقة، وتعهد بألا يتكرر ذلك العرض المزعج ثانية. ثم أمهر رسالته بتوقيعه: «مرعب سولت ليك، ونصير القانون والنظام».
وأشيع أنه عندما عاد العجوز بولر إلى مكتب المحامي كتب وصيته وشهد عليها مدير المصرف. واعتبر ذلك برهانا على قوة عزم هيكوري سام ودقة تصويبه، وكان سام محقا في فخره بتسببه في انشغال المحامي بهذا العمل.
مر أسبوع، ثم عاد العجوز بولر إلى سولت ليك، فوجد هيكوري سام في انتظاره، ولم يكن المجرم العتيد ثملا هذه المرة؛ إذ لم يكن قد احتسى أكثر من ست كئوس من الويسكي القوي صباح ذلك اليوم.
وعندما وصل إلى حانة ذا هيدز خبر اقتراب العجوز بولر من البلدة وحده ممتطيا حصانه، راهن سام فورا على ثمن المشروبات أنه لن يطلق إلا طلقة واحدة ليكفر إلى حد ما عن الفوضى التي أحدثها المرة الفائتة بلا جدوى. ووقف المحتشدون في أماكن آمنة يترقبون نتيجة المنازلة الوشيكة.
وقف سام بحزم في منتصف الشارع يحمل بيمناه مسدسا إبرة أمانه مسحوبة استعدادا للإطلاق، وكانت وقفته حينئذ راسخة كمن يقاتل من أجل قضية عادلة، وبثقة من يمكنه إصابة علامة الآس في ورقة لعب على مسافة أطول بعشر ياردات على نحو لا يمكن لأي رجل في المقاطعة فعله.
وجاء العجوز بولر يقود حصانه على مهل في الشارع كما لو كان في مزرعته. وعندما أصبح تقريبا في مرمى نيران مسدس سام، رفع يديه فوق رأسه، وترك اللجام يقع على رقبة الحصان. تقدم إلى الأمام على هذه الهيئة الغريبة، فذهل المحتشدون وبدا على سام الحرج.
صاح العجوز: «أنا لا أحمل سلاحا.» ثم أضاف: «جئت لأتحدث في الأمر وأنهيه.»
صاح سام، ساخطا لاحتمال فوات فرصة الإيقاع بضحيته في نهاية المطاف: «فات أوان الحديث.» ثم أضاف: «اسحب سلاحك، أيها العجوز، وأطلق النار.»
رد بولر وهو يواصل التقدم ولا يزال يرفع يديه: «ليس معي سلاح.»
صاح سام: «ما هذه إلا خدعة»، ورفع يمناه وأطلق النار.
مال العجوز ببطء إلى الأمام، كبرج متهاو، ويداه ما زالتا فوق رأسه، ثم سقط برأسه من على حصانه إلى الأرض، واستقر بلا حراك، وجهه على الأرض وذراعاه مفتوحتان.
على الرغم من الخوف الشديد الذي أثاره المجرم العتيد، انطلقت صيحة ذعر لا إرادية من بين المحتشدين. لم يكن القتل في حد ذاته محل اعتراض، أما إطلاق النار على رجل أعزل يرفع يديه فوق رأسه خاضعا هو ما كان يعتبر جريمة قتل، حتى في هذه السهول.
نظر سام حوله بوحشية، وحدق في الجمهور الذي تقهقر اتقاء لشره، وارتفع الدخان من ماسورة مسدسه التي ما زالت في يده موجهة إلى الأسفل.
قال سام: «كان ذلك كله خدعة. كان في حذائه سلاح ناري. رأيت أسفله بارزا منه. لذا أطلقت النار.»
قال مايك عندما استقرت نظرة هيكوري الشرسة عليه: «أنا لا أقول شيئا، فالأمر ليس من شأني.»
صاح هيكوري: «بل هو من شأنك.»
قال صاحب الحانة محتجا: «عجبا، أنا ليس لي أي علاقة به.»
قال هيكوري: «هذا صحيح. لكن أصبحت لك علاقة به الآن. وإلا لماذا انتخبناك قاضي تحقيق، أخبرني؟ عليك أن تسرع في اختيار أعضاء هيئة المحلفين وتصدر حكما مفاده أن الوفاة كانت عرضية أو شيئا من هذا القبيل. أصدر أي حكم يمنع حدوث أي متاعب في المستقبل. أنا أومن بالقانون والنظام، وأريد أن أرى الأمور تجري على ما يرام.»
قال مايك: «لكن المحلفين لا يجتمعون عندما يتعلق الأمر برعاة البقر.»
قال سام: «حسنا، رعاة البقر شأن مختلف. ليس أمرهم بالجلل. ومع ذلك، ينبغي أن يجتمع المحلفون، حتى وإن كان الأمر متعلقا برعاة البقر، هذا إذا كنا متحضرين. أفضل شيء أن يقيد كل شيء في السجلات بوضوح ونظام. فليساعدني بعضكم أيها القوم في حمل الجثة، وسيجمع مايك هيئة محلفيه بسرعة شديدة.»
أفضل وسيلة لإحلال النظام محل الفوضى تولية الأمر لرجل نشيط منسجم مع العامة. بدأت الأمور تعود إلى نصابها ، وتطلع المحتشدون إلى سام لتلقي التعليمات. بدا عالما بالإجراءات اللازمة في هذا الظرف، وشعر الحاضرون بجهلهم وقلة خبرتهم مقارنة به.
أسجيت الجثة على منضدة في غرفة خلفية بالحانة، وجلس المحلفون والمشاهدون على ما استوعب المكان من مقاعد، في حين اتخذ هيكوري سام نفسه موقعا مرتفعا فوق برميل حيث أمكنه الإشراف على الإجراءات، إن جاز التعبير. وشعر الحاضرون أن سام لم يضمر للمتوفى شرا، وامتنوا له لذلك.
قال قاضي التحقيق وهو ينظر إلى سام في تردد ويرسم على وجهه تعبيرا يوحي باستعداده التام للتراجع لو تبين أن ما يقوله غير ملائم: «أعتقد أنه ينبغي أن نستدعي المحامي إلى هنا. فهو يعرف كيف ينبغي أن تجري هذه الأمور، وهو الوحيد في سولت ليك الذي يمتلك نسخة من الكتاب المقدس ليقسم عليها المحلفون. أعتقد أنهم ينبغي أن يقسموا.»
وافقه سام: «هذه فكرة جيدة.» ثم أردف: «فليسرع أحدكم باستدعائه، وليجعله يحضر كتابه المقدس معه. أهم شيء أن تجري هذه الأشياء على نحو منظم ومناسب وحسبما يقتضي القانون.»
كان المحامي قد سمع بالكارثة التي وقعت، فانطلق إلى الحانة من فوره ومعه كتابه المقدس وبعض الأوراق. لم يعد ثمة أدنى شك الآن في معرفة سام بالإجراءات المناسبة، خاصة عندما تبين أن المحامي يتفق معه تماما في أن إجراء التحقيق في ظل هذه الظرف بات أمرا مبررا ويتماشى مع الإجراءات المتبعة في حالات سابقة. ووجد المحلفون أن السيد بولر الراحل «مات بطريق الخطأ»، وهي العبارة التي اقترحها المحامي متهكما عندما وجد أن الحكم سيكون «الموت العرضي»، واستحسنها المحلفون فاعتمدوها على الفور.
عندما اختتمت الإجراءات على هذا النحو المبهج وبحكم مرض لجميع الأطراف، تنحنح المحامي ثم قال إن موكله الراحل كان قد كتب وصيته مؤخرا، ربما لهاجس انتابه ينبئه بقرب نهايته، وإن موكله طلب منه إعلان وصيته حالما تسنح الفرصة بعد وفاته. ولما بدا الوقت مناسبا تماما الآن، اقترح المحامي بعد استئذان قاضي التحقيق أن يقرأ الجزء من الوصية الذي كان السيد بولر يتمنى أن يذيعه لأكبر عدد ممكن من الناس.
أجال مايك نظره في تردد بين المحامي وسام الجالس فوق البرميل في مستوى مرتفع عن جميع المحتشدين.
فقال هيكوري: «بكل تأكيد.» ثم أردف: «نود جميعا أن نسمع الوصية، على الرغم من أني أظنها ليست من شأننا.»
لم يعقب المحامي على هذا التعليق، لكنه اكتفى بالانحناء أمام المحتشدين، ثم بسط ورقة وشرع في قراءتها.
أوصى السيد بولر بكل ممتلكاته لابن أخيه في الشرق، باستثناء خمسين ألف دولار من الأوراق النقدية المودعة في مصرف مقاطعة كايوتي في سولت ليك. كانت لدى الموصي أسباب للشك في أن مجرما يدعى هيكوري سام (الذي كان لا يعرف اسمه الحقيقي أو كنيته) يسعى لقتله. وإذا نجح هذا المسعى، يئول كل هذا المبلغ لمن يتمكن من إزالة هذا المجرم من على وجه الأرض، سواء أكان شخصا واحدا أو عدة أشخاص. وإذا ألقى رئيس الشرطة القبض على المذكور هيكوري سام فحوكم وجرى إعدامه، يقسم المبلغ بين رئيس الشرطة ومن ساعده في القبض عليه. أما إذا أقدم أي رجل على إطلاق النار على المذكور هيكوري سام وقتله على مسئوليته الخاصة، تكون الخمسون ألف دولار ملكا له وحده، ويسلمها له مدير المصرف - الذي أبدى السيد بولر ثقته التامة فيه - فور أن يثبت قاتل هيكوري سام إتمامه القتلة على النحو الذي يقبله مدير المصرف. وفي كل الأحوال يتحكم مدير المصرف تماما في صرف الأموال، ويمكنه أن يسلمها دفعة واحدة أو يقسمها بين من ينجحون في تخليص هذا العالم المضطرب من أحد أكثر الأشخاص إثارة لاضطراباته.
ساد بعد قراءة الوصية صمت ذاهل قطعه تهكم صاخب وضحكة تحد أطلقها الرجل الجالس على البرميل. ضحك طويلا لكن أحدا لم يضحك معه، ولما لاحظ ذلك خفت ضحكه الذي كان إلى حد ما مصطنعا وآليا. طوى المحامي أوراقه بطريقة منظمة. ونظر بعض المحلفين إلى وجه القتيل الذي كان قد وضع خطة مالية للثأر لنفسه بعد وفاته، فكادوا يرون نظرة شر في عينيه وشفتيه المفتوحتين على نصف اتساعهما. وسرت بين المجتمعين همسات خالطها الذهول . وقال كل رجل للآخر بصوت خفيض: «خمسون ألف دولار.» مع الضغط على مخارج الحروف على نحو جعل المبلغ يبدو أكبر. قفزت إلى ذهن كل الرجال الخاطرة نفسها؛ ثروة صغيرة سهلة المنال شريفة المصدر لا تتطلب سوى ضغط السبابة على الزناد وتوجيه ماسورة المسدس إلى الهدف الصحيح.
كان المحامي قد انصرف في هدوء. واستفاق سام من ثمله لدرجة لم يعهدها منذ أيام عديدة، فنزل من على البرميل، ووضع يده على أخمص مسدسه ومشى جانبيا نحو الباب موليا ظهره للحائط. لم يحرك أحد ساكنا لإيقافه، بل جلسوا جميعا يراقبونه كالمنومين مغناطيسيا. لم يعد في نظرهم رجلا، بل تجسيدا لمبلغ من المال يمكن جنيه في لحظة؛ مبلغ عمل الآلاف بكد طوال حياتهم لجنيه، وندر أن أفلح أحدهم في ذلك.
فاقت سرعة يد سام في إطلاق النار سرعة عقله في التفكير في المشاكل، لكن عقله بدأ يدرك شيئا فشيئا أنه الآن يواجه خطرا لا يجدي مسدسه نفعا في اتقائه. كان الجميع تقريبا حتى ذلك الحين أصدقاءه، أما الآن فقد أصبح العالم كله ضده؛ إذ أصبح لديه دافع بالغ القوة لمعاداته، دافع يتفهمه هو نفسه. إنه كان مستعدا لقتل أي شخص نظير جزء من مبلغ الخمسين ألف دولار، ما أمكن تنفيذ ذلك بدرجة معقولة من الأمان على نفسه. لماذا إذن قد يتورع أي رجل عن قتله بعدما خصصت مكافأة كهذه لمن يقتله؟ وبينما كان سام يتراجع بين من كانوا أصدقاءه، رأوا في عينيه ما لم يروه من قبل، لم يكن خوفا بالتحديد، بل نظرة ارتياب متوجسة من الجنس البشري بأكمله.
عندما خرج سام من الحانة استنشق الهواء العليل بحرية أكبر من جديد. عليه الآن أن يهرب من سولت ليك وبسرعة. يمكنه أن يقرر خطوته التالية فور أن يصبح وسط البراري. ظل ممسكا بمسدسه في يده دون أن يجرؤ على وضعه في مكانه. أثارت كل نأمة تصدر حوله فزعه، وخشي الوقوف في العراء، لكنه لم يستطع أن يولي ظهره للجدار طوال الوقت. كان حصان القتيل بولر المسكين، المجهز للركوب على نحو تام، يأكل العشب المجاور للطريق. كانت سرقة الجياد بالطبع تصم من يقدم عليها أكثر من القتل، لكن لم يكن من بد منها؛ فالفرار مستحيل دون الحصان. سرق سام الحصان بسهولة شبه تامة وامتطاه.
لم يكد يمتطي الحصان حتى دوت طلقة من ناحية الحانة. فاستدار بسرعة فوق صهوة الحصان لكنه لم ير أحدا، لم ير سوى خيط رفيع من دخان كالذي ينبعث من المسدس عند إطلاق النار منه يرتفع في الهواء ويتبدد فوق الباب المفتوح. أطلق سام النار مرتين نحو الباب المفتوح، وبعد هذا التهديد وجه حصانه نحو الحقول المفتوحة وانطلق بسرعة، وكان قد ابتعد كثيرا عن سولت ليك عندما جن الليل. عقل حصانه واستلقى على العشب لكنه لم يجرؤ على النوم. فقد خشي أن يكون مطاردوه على مسافة قريبة من مرقده؛ إذ كان متيقنا من أنهم سيقتفون أثره فور علمهم برحيله عن سولت ليك. فالمكافأة كانت كبيرة جدا بحيث تستحق العناء.
ثمة عدو لا يسع حتى أقوى الرجال وأشجعهم إلا الاستسلام له: ألا، وهو الأرق. لم يغمض للمجرم العتيد جفن طوال الليل حتى أسفر نور الصباح. كانت أعصابه قد انهارت، ودهمه الخوف ربما لأول مرة في حياته. بث خواء البراري الوحشة في نفسه بدلا من أن يشجعه، وتاق لرؤية أي إنسان، بالرغم من علمه أنه لو رأى إنسانا الآن فقد يضطر إلى قتاله. خاطب نفسه بأن عليه أن يجد رفيقا، وتمنى أن يجد أي شخص في مأزق يضاهي خطورة مأزقه، بحيث يراقب الرفيق المكان خاصة في الليل، لكن ذلك الرفيق لا بد أن يكون جاهلا بالمكافأة المالية المرصودة لمن يقتله، أو أن تكون هناك مكافأة مرصودة لمن يقتل ذلك الرفيق نفسه. لن يجد رجل بريء فائدة في التيقظ لمراقبة المكان بحرص، أما المذنب، عند علمه بملابسات الأمر، فسيقدم على مقايضة حريته بحياة سام. رأى المجرم أن الخمسين ألف دولار تفعل أي شيء، لكنه كان الوحيد من الستين مليون نسمة القاطنين بهذا البلد الذي لا يمكنه جني ذلك المبلغ! فكرة الرفيق مستحيلة إذن، بريئا كان أم مذنبا، ومع ذلك لم يكن هناك غنى عنه إذا أراد الهائم الطريد أن يحظى ببعض النوم.
اضطرب الحصان لانعدام المياه، ودهم سام نفسه الجوع والعطش معا. لا بد أن يكون مكان توقفه التالي قريبا من مجرى ماء، ومع ذلك ربما كان مرور ليلته الأولى بأمان يرجع إلى حقيقة أن من يطارده كان سيبحث عنه بطبيعة الحال قرب أي مجرى مياه، وليس في البراري المفتوحة.
بعد ذلك بعشرة أيام، أيقظ أحدهم مايك دافلين في الثالثة صباحا، الذي فتح عينيه فوجد بجوار سريره رجلا بدا من إنهاكه وهزاله كهيكل عظمي حي يمسك بشمعة في إحدى يديه ويوجه بالأخرى مسدسا إبرة أمانه مسحوبة نحو رأس مايك.
قال الشبح بصوت أجش: «انهض وأحضر لي شيئا آكله وأشربه. أحضر لي شيئا أشربه أولا، وأسرع في ذلك. ولا تحدث ضجيجا. هل في المنزل أي شخص آخر؟»
قال مايك وهو يرتعش: «كلا.» ثم أضاف: «انتظر هنا يا سام، وسأحضر لك شيئا. كنت أظنك انضممت إلى الهنود الحمر أو شددت الرحال إلى المكسيك أو باد لاندز منذ وقت طويل.»
قال سام: «ليس المكان هنا بأقل سوءا من باد لاندز. سأذهب معك. لن أتركك تغيب عن نظري، ولا تحاول خداعي؛ فأنت تعرف ما قد يحدث لك إذا حاولت.»
قال مايك متذمرا وهو ينهض: «لا بد أنك تثق بي، يا سام.»
رد سام: «أنا لا أثق في أحد. من الذي أطلق علي النار وأنا أرحل؟»
قال مايك بلهجة احتجاج: «أقسم لك إني لا أعرف. لم أكن في الحانة في ذلك الوقت. ويمكنني أن أثبت ذلك. أنت لا تبدو على ما يرام يا سام.»
قال سام: «يا لك من متلكئ، أنت أيضا ما كنت ستبدو على ما يرام لو لم يغمض لك جفن لأسبوع وتضورت جوعا. أسرع.»
أكل سام ما قدم له كوحش كاسر، وعلى الرغم من أنه في البداية احتسى كأسا كبيرة من الويسكي والماء، فقد قلل الشرب الآن. ووضع المسدس على الطاولة بالقرب من كوعه وجعل مايك يجلس أمامه. وعندما فرغ من تناول وجبته بشراهة، أبعد الطبق عنه ونظر إلى دافلين.
قال سام: «عندما قلت إني لا أثق بك يا مايك، كنت أكذب. فأنا أثق بك، وسأثبت ذلك. عندما يكون من مصلحتك أن تصادق رجلا، فإنك ستصادقه دائما.»
قال مايك دون أن يفهم ما قاله سام جيدا: «صحيح.»
قال سام: «اسمعني الآن يا مايك، واحرص على أن تفعل ما أطلبه منك بالضبط. اذهب إلى مسكن مدير المصرف وأيقظه كما أيقظتك أنا. لن يخاف عندما يرى أنك أنت من أيقظته. وأخبره بأني عندك في الحانة، وأني جئت لأسرق الخمسين ألف دولار المكافأة من المصرف. قل له إني يائس ولا يمكن الإيقاع بي دون أن يلقى دزينة من الرجال حتفهم، وليس هذا كذبا كما تعرف. قل له إنك تورطت معي في خططي، وإني أنا وأنت سنذهب إلى المصرف ونسيطر عليه تحت تهديد السلاح. أخبره أن الوسيلة الوحيدة للإيقاع بي هي خداعي. وسيتم ذلك بأن يفتح هو باب المكان الذي فيه النقود وتدفعني أنت إلى داخله وتغلق الباب. لكن ما إن يفتح هو الباب سأطلق عليه الرصاص، وسأقتسم النقود معك. لن يشك فيك أحد؛ إذ لن يعرف أحد أنك كنت هناك إلا مدير المصرف الذي سيكون ميتا. لكن، إذا أقدمت على خطوة واحدة غير ما قلت لك، فستكون الرصاصة الأولى من نصيبك. مفهوم؟»
فتح مايك عينيه على اتساعهما وهو يسمع تفاصيل الخطة تتكشف أمامه. وقال: «يا إلهي! يا لدهائك يا سام!» ثم أردف: «لماذا لم تفكر في ذلك قبل الآن؟ فمدير المصرف في أوستن.»
قال سام: «وماذا يفعل هناك بحق الجحيم؟»
رد مايك: «أخذ الأموال معه ليودعها في فرع المصرف في أوستن. غادر في اليوم التالي لرحيلك، فقد قال إن الفرصة الوحيدة لنجاتك هي أن تستولي على هذه الأموال. كان من الممكن أن تفعل ذلك في ليلة رحيلك، لكن ليس بعدها.»
سأل سام بارتياب: «ما تقوله لي صحيح، أليس كذلك؟»
قال مايك مؤكدا: «يشهد الرب إني أقول لك الحقيقة.» ثم أضاف: «يمكنك التأكد من ذلك بنفسك في الصباح. لن يوقفك أحد. أنت فقط متعب للغاية من قلة النوم، يمكنني ملاحظة ذلك. اصعد واخلد للنوم. وسأراقب أنا المكان، ولن يعرف أحد أنك هنا.»
أرخى هيكوري سام كتفيه عندما سمع بنقل الأموال، وأطلت من عينيه شبه المغمضتين نظرة يأس. جلس على حاله هذا للحظات قليلة دون أن ينفذ نصيحة مايك، ثم طرد عن نفسه الخمول بصعوبة.
وقال في النهاية: «كلا، لن أخلد للنوم. كنت أريد أن أجعلك ثريا يا مايك، لكن ذلك أسهل من المتوقع. قطع لي بعض الشرائح من هذا اللحم البارد وضعها بين قطع من الخبز. أريد منها ما يكفي لثلاثة أيام، وزجاجة ويسكي.»
نفذ مايك ما طلبه منه سام، واعتنى بحصانه كذلك بناء على طلبه. كان لم يزل الظلام عميما، ثم جاءت تباشير نور الصباح من الشرق على استحياء. كان حصان بولر خاملا ومنهكا كراكبه. وبينما امتطاه سام، منحنيا كرجل عجوز، ومضى في طريقه، أسرع مايك إلى غرفة نومه، وفتح نافذتها دون أن يحدث ضجيجا، وصوب بندقية محشوة نحو ظهر الرجل الآخذ في الابتعاد. لو استجمع الشجاعة الكافية لإطلاق النار لاستطاع قتل الحصان وراكبه معا على الأرجح، لكن يده ارتعشت، وتجمعت قطرات العرق على جبينه. علم أنه لو أخطأ الهدف هذه المرة، لتيقن سام من هوية من أطلق النار بما لا يدع مجالا للشك. أسند البندقية على إفريز النافذة وأبقى عينيه على الماسورة، لكنه لم يستجمع الجرأة الكافية لسحب الزناد. وفي النهاية، ابتعد سام بالحصان حتى اختفى، ومع اختفائه ضاعت فرصة مايك في الثراء. فسحب مايك البندقية إلى الداخل، وأغلق النافذة على مهل وهو يصدر تنهيدة ندم طويلة.
عندما وصلت إلى سيدني بولر البرقية التي علم منها أن عمه مات وأنه سيرث مزرعته، انطلق من ديترويت في اتجاه الغرب. كانت سنه أصغر من السن التي مات فيها عمه على نحو مأساوي بثلاثين عاما، وكان يشبه الرجل العجوز كثيرا، وكان ذلك الشبه يثير لدى من يلاحظه مزيدا من الاستغراب عندما يتذكر أن أحد الشبيهين عاش حياته كلها في إحدى المدن، في حين أن الآخر أمضى معظم أيامه في السهول المفتوحة. التقى الشاب برئيس الشرطة عند وصوله متوقعا أن تكون خطوات جادة قد اتخذت للقبض على القاتل. لكن رئيس الشرطة أكد له أنه لم يكن هناك ما هو أمضى أثرا مما فعله القتيل نفسه عندما أوصى بخمسين ألف دولار لمن يقتل هيكوري سام. لم يتخذ رئيس الشرطة أي إجراءات؛ فقد كان واثقا من أن خبر مقتل سام سيصله في يوم قريب.
وفي هذه الأثناء، لم يسمع من المجرم خبر ولا عثر له على أثر منذ رحيله عن سولت ليك على ظهر حصان القتيل. رأى سيدني فيما يجري تراخيا في إنفاذ العدالة، لكنه لم يقل شيئا، وعاد إلى مزرعته. وبينما لم يبد رئيس الشرطة مبالاة بالأمر، كان رعاة البقر التابعون للقتيل في حالة نشاط شديد. لقد غادروا المزرعة جميعا وأخذوا يفتشون السهول بحثا عن القاتل، وأخطئوا بأن أوغلوا في السهول أكثر من اللازم. توقعوا أن يفر سام إلى باد لاندز، شأنهم في ذلك شأن مايك، وانطلقوا بسرعة كبيرة ولمسافات بعيدة لإيقافه. وتعذر عليهم جميعا تحديد إن كان دافعهم في ملاحقة سام الرغبة في الحصول على حصة من المكافأة، أم الولاء لرئيسهم القديم، أم كراهية هيكوري سام نفسه. على أي حال، كانت مطاردة حثيثة، استحثتهم فيها غرائز الصيد الكامنة لديهم.
وفي الصباح الباكر خرج سيدني بولر من المزرعة وانطلق إلى البراري المفتوحة. كانت الشمس مشرقة، ومع ذلك لم يزل الصباح باردا. وقبل أن يبتعد رأى حصانا بلا راكب يقترب من المزرعة. وعندما اقترب الحصان أكثر فأكثر، رآه فصهل وفي النهاية غير مساره وتوجه إليه مباشرة. ثم رأى على ظهر الحصان رجلا بدا له نائما أو ميتا. تدلت يده مرتخية بجانب كتف الحصان وظلت تتأرجح مع خطاه، في حين كانت رأس الرجل متوسدة عرف الحصان. اقترب الحصان من سيدني وقرب منه خطمه وصهل بصوت ضعيف، كما لو كان يعرفه.
هز سيدني كتف الرجل وقال: «يا هذا! ما الأمر؟ هل أنت مصاب؟»
استيقظ المجرم على الفور وانتصب على ظهر الحصان ونظر إلى سيدني وفي عينيه ذعر لرؤية الشبه. رفع يمناه لكن من الواضح أن المسدس كان قد سقط منه بعد أن غلبه التعب ودوخته الوجبة الدسمة فنام. فقفز من على الحصان بحيث وقف الحصان حائلا بينه وبين العدو المفترض، ثم سحب المسدس الآخر وأطلق النار على سيدني من خلف الحصان الذي قفز مضطربا. وقبل أن يتمكن من إطلاق رصاصة أخرى أنزل سيدني، الذي كان رياضيا، مقبض عصاه الغليظ على معصم يد المجرم التي كانت تمسك بالمسدس، وصاح: «لا تطلق النار أيها الأحمق، لن أوذيك!»
ولما سقط المسدس على الأرض قفز سام بشراسة نحو رقبة الشاب، فتراجع الشاب ووجه لمهاجمه ضربة فاقت قوتها ما أراد. أصاب مقبض العصا المصنوع من الرصاص صدغ سام فسقط على الأرض كمن أصيب بطلق ناري. انتاب سيدني القلق من تأثير ضربته، ففتح قميص الرجل المغشي عليه، وحاول إعانته على النهوض وشرب بعض الويسكي من زجاجة وجدها في جيبه. ولما لم يجد من جهوده جدوى أصابه الذعر، فامتطى الحصان وذهب إلى الإسطبلات لطلب المساعدة.
عندما خرج رئيس عمال الإسطبلات يستقبله، صاح: «يا إلهي يا سيد بولر، هذا حصان عمك. أين وجدته؟ أوه، جيري، أيها الحصان العجوز.» وربت على الحصان فصهل في حنو، وواصل: «لقد أساءوا استخدامك، فعدت إلى بيتك تطلب الرعاية. أين وجدته يا سيد بولر؟»
رد الشاب: «في البراري، وأخشى أن أكون قد قتلت الرجل الذي كان يركبه. يعلم الرب إني لم أقصد ذلك، لكنه أطلق النار علي، فضربته ضربة فاقت قوتها ما أردت.»
هرع سيدني مع رئيس العمال إلى حيث كان راكب الحصان جيري مستلقيا على العشب.
انحنى رئيس العمال على الجسد الراقد، ممسكا في يده مسدسا توخيا للحذر، ثم قال: «لقد مات.» ثم أردف: «لقد نال جزاءه، شكرا للرب. هذا هو الرجل الذي قتل عمك. تخيل أن يقتل بعصا رجل من رجال الحضر، وتخيل أن الأموال التي رصدها عمك للانتقام منه قد عادت إلى العائلة من جديد!»
البديل
في إحدى القصص العربية، كان الملك يمتلك دهانا إذا وضعه على عينه اليمنى يمكنه رؤية ما وراء جدران المنازل. لو مر هذا المستبد العربي في شارع ضيق يفضي إلى إحدى الجادات الرئيسية في لندن قبيل انتصاف إحدى الليالي، لرأى في غرفة خلفية قذرة بأحد المباني الضخمة منظرا غريبا للغاية. كان سيرى الملك تشارلز الأول يجلس مع أوليفر كرومويل ويتسامر معه بود.
كانت الغرفة التي جلس فيها هذان الشخصان البارزان خالية من السجاد، ويوجد فيها القليل من الكراسي. وامتد بطول إحدى جوانبها رف عليه الكثير من فناجين الطلاء والشحم. وتناثرت الفرش في أرجائها، وفي أحد أركانها استقر شعر مستعار. وكان على كل من جانبي الرف مرآة بجوار كل منهما لهب غاز تحيطه سلة من السلك. وانتشرت في جدران الغرفة مسامير علقت عليها معاطف، وصدريات، وسراويل ذات قصات أحدث مما كان يرتديها الرجلان.
تراجع الملك تشارلز على نحو مثير في كرسيه الملاصق للحائط، بلحيته المستدقة والأشرطة والأربطة المحيطة بملبسه. كان يدخن غليونا كالح السواد مصنوعا من جذر الخلنج الشجري. وربما زاد من استمتاع جلالته بتدخين التبغ وجود لافتة كبيرة مثبتة على الحائط فوق رأسه تحمل الكلمات: «ممنوع التدخين في هذه الغرفة أو في أي مكان آخر من المسرح.»
أما كرومويل المتشح بملابس أكثر بساطة، فقد كان أكثر اعتدادا بنفسه من الملك؛ فقد جلس على الكرسي مباعدا بين ساقيه، وأسند ذقنه إلى مؤخرة الكرسي وأخذ يدخن سيجارة في حامل من المرشوم.
قال الملك: «لقد هرمت يا بني، وأصبح أكبر همي راحتي، كما لم يعد لي طموح. عندما يدرك الممثل أنه لن يجسد أبدا دور تشارلز كين أو مكريدي، ينعم بالسلام ويبدأ الاستمتاع بالحياة. أما في حالتك فالأمر مختلف؛ فأنت - إذا سمحت لي أن أقولها لك بكل ود - شاب وأحمق. وخطتك شديدة السخف. أنت تهدر كل ما جنيته بالفعل هباء.»
صاح كرومويل بنفاد صبر: «يا إلهي! وماذا جنيت؟»
رد الآخر في هدوء: «لقد جنيت شيئا بكل تأكيد، عندما استطاع شخص سريع الانفعال مثلك تجسيد شخصية كرومويل الرزين القليل الكلام بهذه البراعة. فهذا يعني أنك ارتقيت عدة درجات على السلم، فأصبح السلم نفسه يرتفع معك. أنت تجيد لغتين أو ثلاثا، في حين لا أعرف أنا إلا لغة واحدة، ولا أجيدها تماما. لقد درست الدراما الأجنبية، في حين لم يتسن لي أنا حتى أن أقرأ كل مسرحيات شكسبير. يمكنني أداء مائة دور بإجادة كافية. أما أنت فستؤدي يوما ما دورا عظيما لم يتمكن أي رجل آخر على الأرض من أدائه، وعندئذ ستحقق الشهرة. والآن أنت تريد بتهور أن تلقي بكل ذلك أدراج الرياح وتذهب إلى أدغال أفريقيا.»
قال كرومويل: «ليس لدي رغبة في صعود السلم الذي تحدثني عنه، لقد سئمت رائحة أضواء المسرح وجوه كله. وضقت ذرعا بالحياة المزيفة التي نعيشها. لم لا يكون المرء بطلا حقيقيا بدلا من أن يمثل دوره؟»
قال الملك وهو يعيد ملء غليونه: «لكن يا بني العزيز، انظر إلى الأمور نظرة عملية. إن الإعداد لرحلة استكشافية في أفريقيا يتكلف مبالغ طائلة. من أين ستأتي بالمال؟»
بدا هذا السؤال وهو يخرج من فم الملك طبيعيا أكثر من الإجابة وهي تخرج من فم كرومويل: «كثر الاهتمام بالسفر إلى أفريقيا والإنفاق عليه. أما أنا فلا أنوي أن أجتاز القارة مدججا بالسلاح وذخائر الحرب. فكما قلت منذ لحظات، أنا أجيد عدة لغات أوروبية، وإذا عذرتني فيما قد يبدو تفاخرا، فيمكنني القول إني أتعلم اللغات بسهولة. ولدي ما يكفي من المال لشراء بعض الأدوات العلمية اللازمة وتحمل تكلفة سفري إلى الساحل. وعند وصولي إلى هناك، سأجتاز القارة مستعينا بالحب وليس الترهيب.»
قال الملك تشارلز: «ستلقى حتفك؛ فهم لا يفهمون هذه الأشياء هناك، وليست هذه بفكرة جديدة. ألم يحاول ليفينجستون ذلك؟»
قال كرومويل: «بلى، لكن الناس نسوا ليفنجستون وطرقه. وباتت الرصاصات المتفجرة وبنادق صيد الفيلة سيدة الموقف الآن. لذا أنتوي تعلم لغات القبائل الأصلية التي ألتقي بها، وإذا عارضني أحد زعماء القبائل أو رفض مروري عبر منطقة نفوذه ووجدت أني لا أستطيع إقناعه بالحديث، فسأدور حول منطقته.»
قال تشارلز: «وماذا ستستفيد من هذا كله؟» ثم أردف: «ما هدفك؟»
أجابه كرومويل بحماس: «الشهرة، يا بني، الشهرة»، ونهض عن الكرسي وأخذ يذرع الغرفة الضيقة. وواصل: «إذا أمكنني أن أجتاز القارة من الساحل إلى الساحل المقابل دون قتل واحد من السكان الأصليين، ألن يكون ذلك أعظم من مواصلة التمثيل المسرحي حتى نهاية الزمان؟»
قال الملك في كآبة: «أعتقد ذلك، لكن عليك أن تتذكر أنك صديقي الوحيد، وقد وصلت إلى سن لا يمكن للمرء اكتساب الأصدقاء فيها بسهولة.»
كف كرومويل عن المشي وأمسك بيد الملك. وقال: «أولست أنت صديقي الوحيد أيضا ولم لا تترك هذه المسرحيات السخيفة وتأتي معي كما طلبت منك في البداية؟ كيف يمكن أن تتردد عندما يأتي ذكر عظمة الحرية في الأدغال الأفريقية وتقارن بينها وبين العالم المحدود المقيد الذي نحن فيه الآن؟»
هز الملك رأسه ببطء، ونفض الرماد من غليونه. وبدا أنه يواجه بعض الصعوبة في إبقائه مشتعلا، ربما بسبب التحذير المعلق على الحائط.
رد الملك: «كما قلت سابقا، لقد هرمت. لا توجد في الأدغال الأفريقية حانات يمكن للمرء فيها الحصول على كأس من الجعة عندما يريد ذلك. كلا، يا أورموند، السفر إلى أفريقيا ليس لي. إذا كنت مصرا على السفر، فاذهب وليباركك الرب، وسأبقى أنا في الوطن وأنشر أخبارك. ومن وقت لآخر سأنشر في الصحف بعض الفقرات الصغيرة المثيرة عن حلك وترحالك، بحيث تكون إنجلترا كلها متحمسة لتستمع إلى ما لديك عندما تكون مستعدا للعودة. أنت تعلم كيف يثار الاهتمام في عالم المسرح من خلال الدعاية الحصيفة في الصحف، وأتخيل أن استكشاف أفريقيا يتطلب المثل. فلولا الصحافة يا بني، لما أراد أحد أن يستمع إلى كلمة منك ولو جبت أفريقيا ورأيت منها حتى ذهب نظرك؛ لذا سأكون مسئولا عن الدعاية لك وأعد المسرح لعودتك.»
لما وصل هذان الرمزان التاريخيان في حديثهما إلى تلك النقطة، أقحم عامل المسرح رأسه من باب الغرفة وذكرهما بتأخر الوقت، فنهض الملك ورفيقه المنتمي إلى العامة على مضض بعض الشيء وتجردا من مظهر الشخصيتين؛ فتحول الملك بعد أن ارتدى ملابس رجل إنجليزي عادي إلى السيد جيمس سبنس، في حين تحول كرومويل إلى السيد سيدني أورموند، وبعد أن زالت عنهما مظاهر الملكية أو الدكتاتورية، سار الاثنان في الشارع الضيق حتى وصلا إلى الجادة الرئيسية ودخلا مطعمهما المفضل الذي يقصدانه عادة في منتصف الليل، وهناك وهما يأكلان واصلا مناقشتهما عن مشروع استكشاف أفريقيا، وأصر سبنس على أنه أحد أكثر الرحلات الاستكشافية التي سمع عنها جنونا، لكن الحديث لم يجد نفعا، شأنه شأن معظم الأحاديث، وفي غضون شهر كان أورموند في وسط المحيط، موليا وجهه شطر أفريقيا.
حل رجل آخر محل أورموند في المسرح، في حين استمر سبنس في أداء دوره على النحو المقبول المعتاد كما جاء في الصحف. وبعد مدة وجيزة، وصله خطاب من صديقه بعد وصوله إلى ساحل أفريقيا. وبعد ذلك صار يرسل خطابا أو اثنين بين الفينة والأخرى، ويكتب في الخطابات كيف تخطى الصعاب العديدة التي كان عليه مواجهتها. وبعد مدة طويلة وصل خطاب من داخل أفريقيا كان رسول قد حمله إلى الساحل. وعلى الرغم من أن أورموند كتب في بداية هذا الخطاب أن أمله في الوصول إلى وجهته كان ضعيفا، فقد أورد وصفا تفصيليا كاملا لصولاته وجولاته وتعاملاته مع السكان الأصليين، وبدت رحلته حتى ذلك الحين مرضية للغاية. وأرفق عدة صور فوتوغرافية، معظمها بالغ السوء، كان قد تمكن من تحميضها وطباعتها في البرية. غير أنه كان يظهر في واحدة من الصور بشكل يسهل تمييزه جدا، فنسخها سبنس وكبرها، ووضعها في إطار كان يعلقه في أي غرفة تبديل ملابس يقوده القدر إليها؛ إذ لم يطل سبنس المكوث في أي مسرح بعينه. لقد كان رجلا مفيدا يؤدي كل الأدوار دون أن يتخصص في نوع دون غيره، وكان في لندن أدوار كثيرة تنتظر من يؤديها.
انقطعت أخبار صديقه لمدة طويلة وبدأ الصحفيون الذين اعتاد سبنس إرسال أخبار المستكشف المنفرد المثيرة إليهم بلا انقطاع يخلعون على أورموند لقب السيد هاريس الأفريقي، وتوقف ظهور أي فقرات عنه، وأسف سبنس بشدة لذلك. كان الصحفيون بميلهم إلى الهزل يفاتحون سبنس بقولهم: «حسنا، يا جيمي، كيف حال صديقك الأفريقي؟» وكلما حاول إقناعهم، قل تصديقهم لقصة الرحالة المحب للسلام.
وأخيرا وصل خطاب أخير من أفريقيا، خطاب ملأ قلب سبنس الطيب في منتصف عمره بحزن لم يعهد مثيلا لشدته قط. لقد كتب بخط يشي بيد مرتعشة، وجاء فيه أن كاتب الخطاب لم يكن يعرف تاريخ اليوم ولا المنطقة التي هو فيها. وذكر أنه ابتلي بالمرض وأصابته الحمى بالهذيان، وأنه الآن قد استعاد قواه أخيرا، لكنه شعر بالموت يسعى وراءه حثيثا. قال له السكان الأصليون إن المرض الذي أصابه في المستنقع لم يشف منه أحد قط، وشعر بأن حالته ميئوس منها. كان السكان الأصليون بالغي الكرم معه طوال الوقت، ووعد متابعوه بإيصال صناديقه إلى الساحل. وكانت هذه الصناديق تحوي العينات التي جمعها، بالإضافة إلى دفتر يومياته الكاملة التي دأب على كتابتها حتى وقع في براثن المرض.
توسل أورموند إلى صديقه أن يسلم مقتنياته إلى الجمعية الجغرافية، وأن يتخذ الترتيبات اللازمة لنشر يومياته، إن كان هذا ممكنا. إنها قد تحقق له الشهرة التي مات سعيا وراءها، وقد لا تحققها له، لكنه أضاف أنه ألقى مسئولية كل الترتيبات بلا استثناء على عاتق صديقه الذي أكن له حبا وثقة لا يكنهما رجل لآخر إلا مرة واحدة في العمر؛ عندما يكون شابا. اغرورقت عينا جيمي بالدموع قبل أن يفرغ من قراءة الخطاب بكثير.
حول انتباهه إلى خطاب آخر كان قد تسلمه في البريد نفسه، وكان يحمل أيضا طابع جنوب أفريقيا. كان يأمل أن يجد بعض الأخبار عن صديقه، ففضه، لكنه وجده مجرد إخطار من شركة السفينة البخارية بأن نحو ستة صناديق مرسلة إليه لم تزل في المنفذ الجنوبي للخط الملاحي، لكنهم لن يرسلوها حتى يتأكدوا من أن رسوم شحنها إلى ساوثهامبتون ستدفع.
وبعد ذلك بأسبوع، كتبت صحف لندن بخط كبير: «اختفاء ممثل في ظروف غامضة». كان الممثل المعروف جيمس سبنس قد ترك المسرح الذي كان يمثل فيه دور جوزيف ليمثل دور الشخصية العظيمة ريشليو، ولم يسمع عنه خبر منذ ذلك الحين. تذكر عامل المسرح مغادرته تلك الليلة؛ لأنه لم يرد على التحية التي حياه بها، وهو ما كان لافتا للغاية. كان أصدقاؤه قد لاحظوا الاكتئاب الشديد الذي بدا عليه لعدة أيام قبل اختفائه، وثارت لديهم المخاوف. قال أحد الصحفيين مازحا إن أغلب الظن أن جيمي خرج يحاول اكتشاف ما جرى لصديقه الأفريقي، لكن المزحة لم تلق استحسانا، فعندما يتودد الناس لرجل بمناداته باسم جيمي حتى أواخر حياته فهذا يعني أن الرجل محبوب بينهم، وقد أسف كل من عرف سبنس لاختفائه، وأملوا ألا يكون مكروه قد أصابه.
وبعد عام على الاختفاء خرج من أدغال أفريقيا شخص أشبه بالهيكل العظمي الشاحب مترنحا، وتحسس طريقه إلى الساحل على غير هدى كمن عاش كل ما مضى من حياته في الظلام ثم خرج إلى النور، فوجده مبهرا لعينيه أكثر من اللازم. تمكن من الوصول إلى المرفأ، ومن هناك تمكن من ركوب سفينة بخارية عائدة إلى ساوثهامبتون. أنعشه نسيم البحر بعض الشيء، ولو كان جليا لكل الركاب أنه مر بتجربة مرض عضال. كان احتمال بقائه على قيد الحياة حتى يرى إنجلترا من جديد محلا للشك. واستحال تخمين ما سيحدث في سنه تلك، فقد كانت وطأة المرض عليه شديدة، ولم يبد متحمسا للتعرف على أحد، ولم ينشغل إلا بنفسه، وجلس في كرسيه متدثرا يحدق بعينين متعبتين في مياه المحيط ذي اللون الأخضر.
تكرر جلوس فتاة شابة بعينها على كرسي قريب منه، كانت تتظاهر بالقراءة، لكنها كانت معظم الوقت تلقي نظرات تعاطف خاطفة إلى الرجل الشاحب الجالس بجوارها. في مرات عديدة بدا أنها تحاول مفاتحته بالحديث، لكنها على ما يبدو كانت تتردد في فعل ذلك؛ لأن الرجل لم يعن بأحد من الركاب الآخرين. ومع ذلك استجمعت الشجاعة للتحدث إليه بعد مدة من الوقت، وقالت له: «هناك قصة صحفية جيدة في هذه المجلة، أتود قراءتها؟»
حول عينيه من الماء إلى وجهها وحدق فيه على نحو خال من التعبير للحظة. وأبرز شاربه الداكن شحوب وجهه، لكنه لم يخف الابتسامة الخافتة التي ارتسمت على شفتيه، كان قد سمعها، لكنه لم يفهمها.
سألها برفق: «ماذا قلت؟»
قالت: «قلت إن هناك قصة جيدة هنا بعنوان «المؤلف!» وظننت أنك قد تود قراءتها.» وبدا الخجل على وجهها وهي تقول ذلك فزادها جمالا، فقد بدا الرجل أصغر سنا عندما ابتسم.
رد الرجل ببطء: «أخشى أني قد نسيت كيف أقرأ. فقد مر وقت طويل منذ أن رأيت أي كتاب أو مجلة. لم لا تقصين علي القصة؟ أفضل أن أسمعها منك على أن أحاول قراءتها بنفسي من المجلة.»
قالت بأنفاس متقطعة: «لست متأكدة أني سأتمكن من قصها، كما أراد مؤلفها، لكن يمكنني أن أقرأها عليك إذا أردت.»
كانت القصة تدور حول رجل كتب مسرحية، وظنها إضافة عظيمة إلى مجال الدراما، كما يحسب كل كاتب أعماله، واعتقد أن مسرحيته ستحقق له الشهرة والثراء. ثم أخذها إلى أحد مديري المسارح في لندن، لكنه لم يسمع شيئا عنها لوقت طويل، وأعيدت إليه في النهاية. وذات مرة كان في طريقه إلى المسرح لمشاهدة مسرحية تراجيدية جديدة في ليلة عرضها الأولى، وقد ادعى مدير المسرح أنها من بنات أفكاره، لكن المؤلف ذهل عندما رأى مسرحيته المرفوضة تؤدى أمامه على المسرح مع إدخال بعض التغييرات عليها، وعندما انطلقت صيحة «المؤلف!» وقف في مكانه، لكن المرض والحرمان كانا قد فتا في عضده، فمات وهو يعلن أنه مؤلف المسرحية.
عندما انتهت القراءة قال الرجل: «آه، لا يمكنني إخبارك إلى أي مدى أثارت القصة اهتمامي. فقد كنت ممثلا يوما ما، وكل ما له صلة بالمسرح يعجبني على الرغم من مرور سنين منذ آخر مرة رأيت فيها مسرحا. لا بد أنه من سوء حظ أي شخص أن يعمل لتحقيق الشهرة ثم يسلبه الخداع إياها مثل بطل القصة، لكني أعتقد أن ذلك يحدث أحيانا، على الرغم من أنني أرجو ألا يتكرر كثيرا، لتحتفظ الطبيعة الإنسانية بصدقها.»
سألته وقد بدت زيادة اهتمامها عندما تحدث عن المسرح: «هل كنت تمثل باسمك الحقيقي أم فعلت مثلما يفعل الكثير من ممتهني التمثيل؟»
ضحك الشاب، لأول مرة منذ ركوبه السفينة ربما. وأجاب: «أوه، لم أكن مشهورا على الإطلاق. لم أؤد إلا أدوارا صغيرة، وكنت أمثل باسمي الحقيقي دائما: سيدني أورموند، لا بد أنك لم تسمعي به.»
صاحت الفتاة في ذهول: «ماذا؟! أنت لست سيدني أورموند الرحالة الأفريقي المعروف، أليس كذلك؟»
حول الشاب وجهه الشاحب وعينيه الكبيرتين الحزينتين نحوها.
وقال: «أنا سيدني أورموند بالتأكيد، وأنا بالفعل رحالة في أفريقيا، لكني لا أعتقد أني معروف. لا أعتقد أن من سمعوا بي كرحالة أكثر ممن سمعوا بي كممثل.»
قالت: «سيدني أورموند الذي أعنيه اجتاز أفريقيا دون أن يطلق رصاصة واحدة، ولاقى كتابه «مهمة سلام» نجاحا كبيرا في كل من إنجلترا وأمريكا. لكن لا يمكن أن تكون هو بكل تأكيد؛ فسيدني أورموند على ما أتذكر يحاضر الآن في إنجلترا أمام جماهير غفيرة يقصدونه من أنحاء البلاد. وقد منحته الجمعية الجغرافية الملكية أوسمة أو درجات علمية أو شيئا من هذا القبيل، ربما كانت جامعة أكسفورد هي التي منحته الدرجة العلمية. يؤسفني أن هذا الكتاب ليس معي، لا بد أنه كان سيثير اهتمامك، لكن لا بد أنه مع أحد ركاب السفينة، وسأحاول إحضاره لك. فقد أعطيت نسختي لصديق في كيب تاون. يا لها من مصادفة غريبة أن يكون الاسمان متطابقين تماما.»
قال أورموند في كآبة: «هذا غريب جدا»، ثم عادت عيناه إلى تأمل الأفق ووجومه المعتاد.
قامت الفتاة من مقعدها، وقالت إنها ستحاول العثور على الكتاب، وتركته في مكانه يتأمل. وعندما عادت إليه بعد مرور نصف الساعة تقريبا، وجدته جالسا في مكانه كما تركته تماما، وعيناه الحزينتان معلقتان بالبحر الحزين. كان في يدها مجلد. فقالت له: «هاك! كنت أعلم أني سأجد نسخة منه على متن السفينة، لكن حيرتي زادت عن ذي قبل، فالصورة الأمامية تشبهك تماما، لكن ملابسك مختلفة ولا تبدو ...» وترددت لحظة ثم واصلت: «لا تبدو مريضا للدرجة التي كنت عليها عندما صعدت على السفينة.»
نظر أورموند إلى الفتاة مبتسما وقال: «يمكنك التحدث بصراحة، تقصدين لا أبدو مريضا للدرجة التي أنا عليها الآن.»
ردت: «لقد عادت الرحلة عليك بالنفع. يبدو حالك أفضل مما كان عندما صعدت على متن السفينة.»
قال أورموند: «نعم، أعتقد ذلك»، ومد يده ليأخذ المجلد الذي كانت تمسك به. وفتحه على الصورة الأمامية وحدق طويلا فيها.
جلست الفتاة بجواره وأخذت تراقب وجهه، وتجيل نظرها بينه وبين الكتاب.
ثم قالت في النهاية: «يبدو لي أن المصادفة تزداد غرابة أكثر فأكثر. هل رأيت هذه الصورة من قبل؟»
قال أورموند ببطء: «نعم. إنها صورة لي التقطت في عمق أفريقيا وأرسلتها إلى صديق عزيز لي، إنه صديقي الوحيد في إنجلترا في الواقع. أعتقد أني كتبت إليه أقترح إعداد كتاب من المواد التي أرسلتها إليه، لكني لست متأكدا. لقد كنت مريضا جدا عندما كتبت إليه خطابي الأخير. ظننت أني سأموت، وأخبرته بذلك. أشعر ببعض الحيرة، ولا أفهم الأمر على الإطلاق.»
صاحت الفتاة وقد كسا السخط وجهها: «أنا أفهمه.» ثم أضافت: «صديقك خائن. إنه يجني ثمرة جهدك، ويدعي أنه الرحالة الأفريقي، أورموند الحقيقي. عليك أن توقف ذلك عندما تصل إلى إنجلترا، وأن تفضح خيانته أمام البلد بأكملها.»
هز أورموند رأسه ببطء تعبيرا عن الرفض، وقال: «لا يمكنني تخيل جيمي سبنس خائنا. لو كان الأمر يقتصر على الكتاب، لكان له تفسير سهل حسبما أعتقد؛ فقد أرسلت إليه يوميات سفري وكل المواد، لكني لا أستطيع أن أفهم تسلمه للأوسمة أو الدرجات العلمية.»
أصدرت الفتاة إيماءة سريعة توحي بنفاد الصبر.
وقالت: «لا يمكن أن يوجد تفسير لهذه الأشياء. لا بد أن تواجهه وتفضحه.»
قال أورموند: «كلا، لن أواجهه. لا بد أن أفكر في الأمر بعض الوقت. لا يمكنني التفكير بسرعة، على الأقل الآن وأنا أواجه هذا الأمر. كل شيء كان يبدو بسيطا وواضحا في البداية، لكن إذا كان جيمي سبنس قد انتحل شخصيتي، فهنيئا له بذلك. يبدو أني فقدت كل طموحي منذ أن غادرت أفريقيا. لا يبدو لي أي شيء جديرا بالعناء الآن.»
صاحت الفتاة: «أوه! هذا لأن صحتك متدهورة. ستعود إلى طبيعتك من جديد عندما نصل إلى إنجلترا. لا تدع هذا الأمر يقلقك الآن، فهناك الكثير من الوقت للتفكير فيه من كل جوانبه قبل أن نصل. أعتذر عن حديثي عن الأمر، لكني، كما رأيت، تفاجأت عندما ذكرت اسمك.»
قال أورموند بصوت أكثر ابتهاجا: «سعدت بحديثك معي كثيرا.» ثم أردف: «حديثك معي في حد ذاته شجعني بشدة. لا يمكنني إخبارك إلى أي مدى أقدر هذا الحديث. أنا رجل وحيد، وليس لي في العالم إلا صديق واحد، ويؤسفني أنه حري بي الآن أن أقول إنه ليس لدي حتى صديق واحد في العالم. أنا ممتن لاهتمامك بي، ولو كان مبعثه التعاطف مع رجل محطم؛ رجل مهمل يمخر عباب بحر الحياة.»
اغرورقت عينا الفتاة بالدموع، ولزمت الصمت بعض الوقت، ثم وضعت يدها بحنو على ذراع أورموند، وقالت: «أنت لست محطما؛ بل أبعد ما تكون عن ذلك. أنت تجلس وحدك أكثر من اللزوم، وأخشى أن ما قلته لك قد زاد من متاعبك.» وتوقفت الفتاة عن الحديث، ثم أضافت بعد لحظة: «ألا يمكنك التمشي على سطح السفينة بعض الوقت؟»
رد أورموند وهو يضحك ضحكة خافتة: «لست متأكدا من ذلك، لكني سأرافقك إن لم يزعجك ذلك.»
قام مترنحا بعض الشيء وأمسكت بذراعه.
قالت له في ابتهاج: «يجب أن تعتبرني طبيبتك، وأنا أصر على أن تطاع أوامري.»
قال أورموند: «يسعدني أنا أكون تحت إشرافك، لكن ألا يمكنني معرفة اسم طبيبتي؟»
احمر وجه الفتاة خجلا عندما أدركت أنها أجرت حوارا بهذا الطول مع شخص لم تعرفه باسمها بعد. كانت تعتبره عليلا يحتاج إلى بعض كلمات التشجيع والبهجة، لكن عندما وقف رأت أنه أصغر بكثير مما افترضت من وجهه ومظهره.
وقالت: «اسمي ماري رادفورد.»
سألها أورموند: «الآنسة ماري رادفورد؟»
أجابته: «نعم، الآنسة ماري رادفورد.»
كان ذلك الحديث الذي دار على سطح السفينة أول الغيث، وسرعان ما اتضح أن أورموند في طريقه للعودة إلى طبيعته. وإذا كان قد خسر صديقا في إنجلترا، فلا شك أنه وجد عوضا عنه صديقة على متن السفينة، وقد أخذ يزداد تعلقا بها أكثر فأكثر كلما مر الوقت. لم يختلفا إلا بشأن مواجهة جيمي سبنس. إذ كان أورموند مصرا على ألا يعترض طريق جيمي وشهرته التي اكتسبها بطريقة ملتوية.
وعندما اقتربت نهاية الرحلة، وقف أورموند والآنسة رادفورد معا ومالا على سور السفينة وانهمكا في حديث هادئ. وكانت صداقتهما قد توطدت بشدة بالفعل.
قالت الآنسة رادفورد: «لكن إذا لم تفضح أمر هذا الرجل، فماذا ستفعل عندما ترسو بك السفينة؟ هل ستعود إلى خشبة المسرح من جديد؟»
رد أورموند: «لا أظن ذلك.» ثم أردف: «سأحاول العثور على عمل والعيش في هدوء بعض الوقت.»
صاحت الفتاة: «أوه! لا أستطيع معك صبرا.»
قال أورموند: «اعذريني في ذلك يا ماري، إنني إذا تمكنت من كسب العيش فسأطلب منك الزواج مني.»
قالت الفتاة بأنفاس متقطعة: «أوه!» وأشاحت بنظرها بعيدا.
سألها أورموند: «هل تعتقدين أنه سيكون لي أي فرصة لتحقيق ما أريد؟»
قالت بعد لحظة صمت: «لكسب العيش تقصد؟»
رد أورموند: «كلا. فأنا واثق في قدرتي على كسب العيش، فأنا أكسب عيشي منذ زمن طويل؛ لذا، أجيبي عن سؤالي. يا ماري، هل تعتقدين أنه سيكون لي أي فرصة لتحقيق ما أريد؟» ووضع يده برفق على يدها التي كانت على سور السفينة. لم تجبه الفتاة، لكنها لم تسحب يدها، بل اكتفت بالتحديق إلى المياه ذات اللون الأخضر الزاهي من تحتهما والزبد المتناثر على سطحها.
بعد مدة قالت الفتاة: «أظنك تعرف أن فرصتك سانحة بالتأكيد، لكنك فقط تتظاهر بالجهل بذلك لتسهيل الأمر علي؛ لأني ببساطة فرضت نفسي عليك منذ بدأنا الرحلة.»
قال: «أنا لا أتظاهر يا ماري.» ثم أردف: «كنت أخشى أن يكون اهتمامك بي هو اهتمام الممرضة بمريض حالته متأخرة بعض الشيء. كنت أخشى أن تكوني مشفقة علي، لا مغرمة بي. ربما كانت هذه هي الحال في البداية .»
أجابته: «ربما كانت الحال كذلك في البداية، لكنها أبعد ما تكون عن ذلك الآن يا سيدني.»
تحرك الشاب نحوها ليقترب منها أكثر، لكن الفتاة ابتعدت عنه هامسة: «تذكر أن هناك أناسا آخرين معنا على سطح السفينة.»
قال أورموند وهو يحدق فيها بافتتان: «لا أصدق ذلك.» ثم أضاف: «لا أرى أحدا غيرك. أعتقد أننا كنا نطفو فوق سطح المحيط وحدنا، وأن هذا العالم الكبير ليس فيه سوانا. كنت أعتقد أني سافرت إلى أفريقيا سعيا وراء الشهرة، لكني الآن أدركت أني سافرت لأعثر عليك. ما وجدته أعظم كثيرا مما سعيت وراءه.»
قالت الفتاة وهي تنظر إليه في خجل: «ربما كانت الشهرة تنتظر منك أن تأسرها كما ... كما انتظرك شخص آخر. الشهرة لعوب متبجحة، كما تعلم.»
هز الشاب رأسه.
قال أورموند: «كلا. لقد خانتني الشهرة مرة. ولن أمنحها فرصة أخرى.»
وهكذا حملت السفينة الحبيبين حتى رست بهما برفق في ميناء ساوثهامبتون، وكانا قد اتفقا على الزواج عندما تشاء الظروف.
كان ذوو ماري رادفورد في انتظارها، أما أورموند فقد انطلق نحو لندن وحده، وعاوده فور أن بدأت رحلته القصيرة بالقطار الوجوم الذي كان يتملكه خلال الجزء الأول من رحلته البحرية الطويلة. ومن جديد شعر بالوحدة في العالم بعد أن غابت محبوبته التي كان وجودها يضيء عالمه، وأحزنه التفكير في أن البرقية، التي كان سيرسلها إلى جيمي سبنس ليعلمه بوصوله في ابتهاج، لن ترسل. اشترى صحيفة من محطة القطار، فقرأ فيها أن عمدة مدينة في منطقة ميدلاند ومسئوليها سيستقبلون الرحالة الأفريقي سيدني أورموند، وسيمنح وسام المدينة. وكان أورموند سيلقي محاضرة عن مغامراته في المدينة التي تكرمه في الأسبوع ذاته. فوضع أورموند الصحيفة من يده متنهدا، وتحول تفكيره إلى الفتاة التي فارقها لتوه. رقيقة هي حقا، وأجدر بانشغال العقل بها من صديق زائف.
ماري أيضا رأت الإعلان الوارد في الصحيفة، فزمت شفتيها وتحول لون وجنتيها من الغضب. وبعد أن رأت إحجام حبيبها عن اتخاذ أي إجراءات ضد صديقه السابق، كانت قد كفت عن الإلحاح عليه، لكنها عقدت العزم بهدوء على تولي زمام الأمور بنفسها.
وفي الليلة التي كان من المفترض أن يلقي فيها الرحالة الأفريقي الزائف محاضرة في المدينة المشار إليها، كانت ماري رادفورد بين الجماهير العريضة التي حيته. وعندما اعتلى المنصة تفاجأت بشدة من مظهره لدرجة انتزعت من جوفها صيحة لم تسمع وسط التصفيق الحار الذي قوبل به المحاضر. فقد كان الرجل صورة طبق الأصل من خطيبها.
استمعت إلى المحاضرة في ذهول، وبدت لها نبرة صوت المحاضر هي الأخرى مطابقة لنبرة صوت حبيبها. لم تهتم كثيرا بمحتوى خطابه، ولكن عقلها استغرق في التفكير أكثر في المقابلة الآتية، وتساءلت عن الذرائع التي قد يسوقها الرحالة الزائف لتبرير غشه.
وبعد انتهاء المحاضرة وتبادل عبارات الشكر المعتادة، لزمت ماري رادفورد مقعدها في حين أخذ باقي الجمهور يتسرب من القاعة الكبيرة ببطء. وأخيرا هبت واقفة، واستجمعت شجاعتها للمقابلة الوشيكة، وتوجهت إلى الباب الجانبي، وأخبرت الحارس المرابط عنده برغبتها في لقاء المحاضر. فأجابها الحارس بتعذر مقابلة السيد أورموند لأحد في الوقت الحالي، وكان من المزمع إقامة مأدبة عشاء كبيرة، يلتقي فيها بالعمدة والمسئولين؛ لذا كان قد قال إنه لا يستطيع لقاء أحد آخر.
سألته الفتاة: «إذا كتبت له رسالة، فهل يمكنك حملها إليه؟»
رد الحارس: «سأحملها إليه، لكن لا فائدة من ذلك، فلن يقابلك. فقد رفض أن يقابل حتى الصحفيين»، وجاء رده ذلك كما لو كان الأمر منتهيا؛ فمن يرفض لقاء الصحفيين سيرفض لقاء أعضاء الأسرة المالكة أنفسهم إن أرادوا لقاءه.
أخذت ماري ورقة وكتبت عليها: «خطيبة سيدني أورموند الحقيقي تود مقابلتك بضع لحظات»، وحملت الرسالة المقتضبة هذه إلى المحاضر.
اهتزت ثقة الحارس في الرجال البارزين بشدة عندما عاد بعد دقائق قليلة يحمل أمرا بإدخال السيدة على الفور.
وعندما دخلت ماري الغرفة الخضراء المجاورة لقاعة المحاضرات رأت شبيه حبيبها يقف قرب المدفأة، ممسكا برسالتها في يده، وترتسم على وجه أمارات عدم التصديق.
وما إن دخلت الفتاة الغرفة وأغلقت الباب ووقفت مستندة بظهرها إلى الباب. كان هو من بدأها بالحديث.
قال : «ظننت أن سيدني قد أخبرني بكل شيء، لكني لم أعرف قط بعلاقته بفتاة شابة ولا بخطبته لها.»
ردت: «أتعترف بأنك لست سيدني أورموند الحقيقي إذن؟»
قال: «أعترف بذلك لك بالطبع إذا صح أنك كنت ستتزوجينه.»
قالت: «سأتزوجه بالفعل، آمل ذلك.»
قال: «لكن سيدني المسكين قد مات، مات في أدغال أفريقيا.»
ردت: «سيذهلك أن تعرف أن ذلك ليس صحيحا، وأن انتحالك لشخصيته لا بد أن ينتهي. ربما تكون قد استغللت صداقته لك، وظننت أنه حتى لو عاد فلن يفضحك. إنك محق في ذلك بالفعل، لكنك لم تحسب حسابا لي. سيدني أورموند في لندن الآن يا سيد سبنس.»
لم يلق جيمي سبنس بالا لاتهامات الفتاة، وأطلق صيحة حربية كانت فيما مضى يستخدمها في المشهد الثاني من مسرحية «بوكاهونتاس» التي كان يمثل فيها جيمي دور نبيل غليظ الطباع، ثم رقص رقصة كان يرقصها في مسرحية «كولين بون». وبينما كانت الفتاة تشاهد هذه الحركات المسرحية في ذهول، هجم عليها جيمي فجأة، وطوق خصرها ثم لف بها بعنف في أرجاء الغرفة. وبعد أن أجلسها في أحد أركانها، عاد جيمي إلى طبيعته، ومسح جبينه المقطب بمنديله بعناية كمن يخشى إفساد مساحيق التجميل التي على وجهه.
وقال: «سيدني في إنجلترا من جديد؟ هذا خبر رائع حتى إنه لا يصدق. قولي ذلك مرة أخرى يا فتاتي، لا أكاد أصدق. لم لم يأت معك؟ أهو مريض؟»
أجابته: «لقد كان مريضا جدا.»
قال: «آه، هذا هو السبب، يا له من مسكين. كنت أعلم أنه ما من شيء غير ذلك كان سيمنعه من العودة. وعندما أبرق إلي على عنواني القديم، عندما رست سفينته بالطبع، لم يأته رد لأني كنت قد اختفيت كما ترين. لكن سيد لم يكن لديه وسيلة لمعرفة ذلك، ولا بد أنه يتساءل عما حل بي. لدي قصة رائعة أخبره إياها عندما نلتقي، قصة لا تقل روعة عن رحلاته في أفريقيا. سنذهب إلى لندن مباشرة الليلة بعد انتهاء هذا العشاء اللعين. ما اسمك يا فتاتي؟»
قالت: «ماري رادفورد.»
قال : «وأنت خطيبة صديقي القديم سيد، أليس كذلك؟ رائع! رائع! هذه أخبار عظيمة. لا تقلقي مما فعلت يا عزيزتي ماري، فأنا صديق سيد الوحيد، وأنا في سن أبيك. أبدو شابا الآن، لكن انتظري حتى تزول مساحيق التجميل. هل معكم أي نقود؟ أعني ما يكفي لإعاشتكما بعد زواجكما، فأنا أعلم أن سيدني لم يكن قط ميسور الحال.»
قالت ماري متنهدة: «ولا أنا ميسورة الحال أيضا.»
قفز جيمي وذرع الغرفة في ابتهاج بالغ وهو يضحك ويضرب بيده على فخذه.
وصاح قائلا: «هذا رائع.» ثم أردف: «اسمعي يا ماري، أنا لدي أكثر من عشرين ألف جنيه إسترليني في المصرف أدخرها لكما. إن هذا من إيرادات الكتاب والمحاضرات كما تعرفين. لا أعتقد أن سيد نفسه كان سيبلي بلاء حسنا هكذا؛ فقد كان غير مهتم بالمال على الدوام، وكان كثيرا ما يقرضني آخر بنس معه دون أن يهتم بتدوين ذلك، ولم أفكر أنا في رد هذه الديون، حتى رحل، وعندئذ أزعجني الأمر.»
وهنا أقحم الرسول رأسه في الغرفة وقال إن العمدة والمسئولين في الانتظار.
قال جيمي: «أوه، فليذهب العمدة والمسئولون إلى الجحيم!» ثم استدرك سريعا: «لا، لا تنقل لهم ما قلته للتو. أرسل إليهم تحيات جيمي، أعني سيدني، أورموند، وأخبر سيادة العمدة أني تلقيت أخبارا بالغة الأهمية من أفريقيا لتوي، لكني سأكون معه بعد قليل.»
وعندما انصرف الرسول واصل جيمي الكلام مبتهجا. وقال: «يا له من وقت ممتع ذلك الذي سنقضيه في لندن! سنذهب نحن الثلاثة إلى المسرح القديم المألوف، وسنشتري تذاكرنا - يا له من شيء مذهل! - هذا ما سيكون جديدا. بعد ذلك سنتناول العشاء في المكان الذي اعتدت أنا وسيد التردد عليه. سيتحدث سيدني وسنسمع أنا وأنت، ثم سأتحدث أنا وستسمعين أنت وسيد. الأمر يا عزيزتي أني زرت أفريقيا بنفسي أنا أيضا. وعندما وصلني خطاب سيدني الذي كتب فيه أنه يحتضر أصابني الحزن والوجوم ولم أتمكن من فعل أي شيء مفيد. فحسمت قراري حول ما ينبغي أن أفعله. ظننت أن سيد مات سعيا لتحقيق الشهرة ، ورأيت أنه ليس من العدل ألا يحصل على ما دفع ثمنه غاليا. فجمعت كل ما أمكنني جمعه من المال واشتريت أقل تذاكر السفر بالسفينة كلفة وشددت الرحال إلى أفريقيا. ولما وصلت إلى هناك لم أجد وسيلة للبحث عن سيد، فقررت أن أكون بديلا له وأحقق له الشهرة إن أمكن. أخفيت هويتي الحقيقية وادعيت أني سيدني أورموند وأخذت صناديقه وأبحرت إلى ساوثهامبتون. ومنذ ذلك الحين وأنا أؤدي دوره بدلا منه، وكان الأمل يحدوني دوما أن يعود يوما ما، بحيث يكون كل شيء جاهزا له ليعيش في الواقع الذي حللت بديلا له فيه، وأعود أنا - البديل - إلى حياتي فأستأنف منافسة مكريدي. لو كان سيد قد تأخر لعام آخر لخرجت في جولة في أرجاء أمريكا لإلقاء المحاضرات، وعندما ينتهي ذلك، كنت أنتوي الذهاب إلى أفريقيا، والاختفاء هناك في الغابة متقمصا شخصية سيدني أورموند، ثم أمسح عني مساحيق التنكر وأظهر بشخصية جيمي سبنس. وعندئذ كانت شهرة سيدني أورموند ستحقق بلا شك؛ لأنهم كانوا سيرسلون بعثات للبحث عنه ولن يعثروا عليه، في حين كان العمر سيتقدم بي وأنا أتفاخر بصديقي الراحل العظيم سيدني أورموند.»
اغرورقت عينا الفتاة بالدموع وقامت وأمسكت بيد جيمي.
وقالت: «لم يخلص صديق بشدة لصديقه مثلك قط.»
قال جيمي في ابتهاج: «أوه، فليباركك الرب.» ثم أردف: «لو كان سيد مكاني لفعل المثل من أجلي. لكن الحظ حالفه بلقائك أكثر مما حالفه بصداقتي، على الرغم من أني لا أنكر أني كنت صديقا مخلصا له. نعم يا عزيزتي، إنه محظوظ للقاء فتاة شجاعة مثلك. فاتني ذلك عندما كنت شابا، فقد كان عقلي منشغلا بترهات مكريدي، ولم أتمكن حتى من مضاهاة مكريدي. لقد كنت على الدوام بديلا من نوع ما؛ لذا يمكنك أن تري أن الدور كان سهلا بالنسبة إلي. والآن علي أن أذهب للقاء العمدة والمسئولين؛ لقد كدت أنسى أمرهم، لكن علي أن أظل متقمصا الشخصية، من أجل سيدني. لكن سيكون هذا هو المشهد الأخير يا عزيزتي. واعتبارا من الغد سيتسلم دور المستكشف الممثل الأصلي ... النجم.»
الخروج من تون
(1) سلوك بيسي
اتفقت الآنسة بيسي دوراند مع ألكساندر فون هومبولت في الرأي حول نقطة ما؛ بل وفاقت، في الحقيقة، ذلك الرجل الذائع الصيت في الإصرار على صحة قوله الذي يرى أن تون هي واحدة من أجمل ثلاث بقاع على الأرض؛ فقد رأت بيسي هذه البلدة السويسرية أجمل الأماكن التي زارتها في حياتها وأكثرها مثالية. بيد أن هذا الرأي تكون لديها لأسباب اختلفت عن أسباب هومبولت. فقد كان هومبولت رجلا عاديا أثار إعجابه موقع البلدة، والنهر السريع الجريان الكثير الزبد، والبحيرة الخضراء الهادئة، والجبال الشاهقة المحيطة بالبلدة من كل اتجاه، والقمم الجليدية في اتجاه الشرق، والقلعة العتيقة المطلة على المشهد كله، والشوارع الغريبة الشكل التي تتصل أرصفتها بالأدوار الأولى لمبانيها.
كانت لبيسي عين خبيرة بهذه الأشياء، بالطبع، وبينما كانت الشلالات والوديان العميقة في حد ذاتها محل تقدير منها، كان من الضروري أن يشغل الفندق الذي تقيم فيه نزلاء من النوع المناسب قبل أن يلقى أي مكان على الأرض رضاها التام. لم يهمها إن انعزلت عن كل البشر أو خرجت في رحلات قصيرة بمفردها؛ فقد كانت تهوى الإنصات للموسيقى العذبة للحديث البشري، ولو سنحت لها فرصة الاستماع لنفسها وهي تتحدث، لظلت طوال يومها ترقص طربا؛ فقد كانت متحدثة بارعة وحماسية.
حدث ذات مرة أن خرجت بيسي في جولة في أرجاء سويسرا مع أمها (لسبب ما كان الناس دائما يذكرون اسم أم بيسي بعد اسمها هي، وكانت أمها سيدة هادئة الطباع)، وتوقفا في بلدة تون وانتويا المكوث فيها يوما، شأنهما في ذلك شأن معظم من يمرون بها، ولكن عندما وجدت بيسي الفندق الكبير يعج بالشباب اللطفاء، أخبرت أمها أن الدليل السياحي المحلي يؤكد أن هومبولت قال ذات مرة إن تون واحدة من أجمل ثلاثة أماكن على الأرض؛ ولذا يجب أن يمكثا فيها للاستمتاع بما فيها من جمال، وهو ما شرعا يفعلانه على الفور. ويجب ألا يفهم من ذلك أن بيسي كانت مغرمة بالشباب على نحو خاص. إذ لم يكن ذلك صحيحا على الإطلاق. كل ما هنالك أنها كانت تحب أن يتقدموا لخطبتها، وهو طموح جدير بالثناء بلا شك، ومع ذلك كانت ترفضهم دائما، وهو ما يثبت أنها لم تكن دائما مغرمة بشخص ما، كما كان أعداؤها يقولون. الحقيقة أن العالم لم يفهم دوافع الآنسة بيسي دوراند فهما صحيحا قط. فهل تلام على رغبة الشباب في الزواج بها؟ بالطبع لا. ليس ذنبها أن تكون جميلة ورقيقة، وأن الشباب كانوا دائما يحبون الحديث إليها أكثر من أي شخص آخر في الجوار. كان الكثير من الحاقدين عليها مستعدين لبذل الغالي والنفيس ليحظوا بما لبيسي من جمال الوجه والقوام والطبع. فالغيرة من طبع هذا العالم، والناس يستمتعون بالإساءة إلى من كتب لهم أقدار أفضل من أقدارهم. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن بيسي كانت تتميز بطريقة خاصة وسرية في التعامل مع الناس ربما أوهمت بعض الشباب الذين تقدموا لخطبتها في نهاية الأمر بأنها تفضلهم عن غيرهم. لقد كانت تهتم بشئونهم في عطف، فكان معظم الشباب بعد مدة وجيزة من التعرف عليها يفضون إليها بكل آمالهم وطموحاتهم. وكانت أذناها جميلتين يشبهان الصدفتين كثيرا ويسمعان من يحدثها ويتعاطفان معه؛ لذا يمكن القول إنه كان من الصعب إلقاء اللوم على الشباب كما كان من الصعب إلقاؤه عليها. كل الناس تقريبا يحبون الحديث عن أنفسهم، فلا غرو إذن أن تكون فتاة مستعدة للإصغاء لحديث الناس عن أنفسهم مثل بيسي محبوبة من الجميع. ومن بين المليارات الذين يقطنون هذا الكوكب، هناك الكثير ممن يكثرون الكلام والقليل ممن يحسنون الإصغاء، وعلى الرغم من أن بيسي كانت متحدثة بارعة في بعض الأحيان، فلا شك أن انتصاراتها العديدة كان تعزى لموهبتها في حسن الإصغاء أكثر من حلاوة لسانها عند الحديث. ينبغي أن تحذو السيدات اللاتي يتحدثن كثيرا عن سلوك بيسي حذوها في ذلك. فعندئذ كن سيجدن عروض الزواج تنهال عليهن بوتيرة أكبر، لو كن يتمتعن ولو بدرجة مقبولة من الجمال. وبالطبع، لا جدوى من إنكار دور عيني بيسي في جذب انتباه الشباب. فقد كانتا كبيرتين وسوداوين، يلتمعان في حنو في اللحظة المناسبة عندما يلتقيان بنظرة حانية واثقة تواقة تصعب ببساطة مقاومتها. وكانت عيناها تحدقان بهذا الالتماع والحنو في وجه أي شاب عندما يتحدث في أسى عن آماله في جعل العالم مكانا أفضل وأكثر حكمة بوجوده فيه، أو عندما يروي حدثا شديد الخطورة شارك فيه وبدت فيه بطولة واضحة منه دون أن يتعمد إبرازها. عندئذ كانت عينا بيسي يتسعان ويلتمعان في حنو ويخرج منهما ضوء خافت وهي تسمع كلمات محدثها في استمتاع شديد. أولم تأسر ديدمونة قلب عطيل فقط بالاستماع إلى حديث عن بطولاته كان فيه، بلا شك، مبالغة شديدة؟
كان الشباب في الفندق الكبير في تون يرفلون في الغالب في سراويل قصيرة ويمسك الكثير منهم بعصي تسلق ذات طرف معدني. وسرعان ما أصبحوا يحبون الجلوس في الشرفة في واجهة الفندق خلال الأمسيات الصيفية المبهجة ليقصوا على بيسي قصص هروبهم من الخطر في اللحظة الأخيرة، في حين كان هدير مياه نهر آرا الذي لا ينقطع يخفف من التأثير الدرامي لسردهم. ظل نحو ستة شباب يحومون حولها ويتمنون الإفضاء إليها بمكنونات نفوسهم، وبينما كانت بيسي تبتسم لهم وتتعامل بلطف معهم جميعا، سرعان ما اتضح أن أحدهم كان المفضل لديها، فتراجع الآخرون خائبي الأمل. كانت الأمور تسير على أفضل ما يرام للشاب المحظوظ هذا ليوم أو يومين فيبدو في تعامله مع الباقين غرور وتبجح،
كان الشرق أو الغرب وجهته النهائية. كان الشباب الآخرون يحاولون دائما ألا يبدو عليهم الابتهاج بالرحيل المفاجئ لهذا الشاب، في حين كانت تبدأ السيدات الموجودات في الفندق في التلفظ بأمور سيئة عن بيسي، ولا يتورعن عن تأكيد أنها لعوب لا قلب لها. يا لجهلنا بدوافع الآخرين! ويا لسهولة إساءة فهمنا لتصرفاتهم! لم تكن بيسي لعوبا، بل كانت ذات مبادئ أخلاقية راقية وضمير حي وطموح؛ طموح لم تكثر الحديث عنه لأحد في العالم؛ ولذا فشل العالم في تقديرها، كما يفعل دائما مع من لا يودعونه ثقتهم.
ذاع في الفندق أن بيسي رفضت ما لا يقل عن سبعة من الشباب الذين كانوا يقيمون فيه، وبينما أخذ هؤلاء الشباب يحزمون أمتعتهم ويغادرون الفندق واحدا تلو الآخر
وراء ذلك، خاصة أن كل واحد من النزلاء المغادرين كان يعرب قبل مغادرته بوقت قصير عن استمتاعه بالفندق ومحيطه. كان العديد منهم قد أبلغ المالك بتراجعهم عن نيتهم في مواصلة جولتهم في سويسرا، بالرغم من رضاهم عن تون وكل ما بها. وهكذا بدا أن إعجاب ألكساندر فون هومبولت يوشك على التحول إلى رأي عام يسعد مالك الفندق كثيرا عندما رحل هؤلاء الشباب عن تون في وجوم ودون سابق إنذار، رغم استمرار جمالها بهيا لا تشوبه شائبة. وبطبيعة الحال تحير مالك الفندق الطيب في الأمر، وأخذ يستقر في وجدانه أن الإنجليز، في نهاية المطاف، يغيرون آراءهم كثيرا ولا يمكن التنبؤ بما قد يقدمون عليه.
وكان من بين النزلاء شاب لم تقل حيرته عن حيرة المالك. كان آرتشي سيفرنس من أواخر من وقعوا في شباك بيسي، هذا إن جاز الحديث عن إمكانية وقوعه على الإطلاق. كان شابا ذا عزيمة، ليس من عادته التعجل في أي أمر من الأمور، لكن شخصية بيسي الساحرة أسرته بلا شك، وإن بدا مكتفيا بالإعجاب بها عن بعد. ولم يبد على بيسي بعض الشيء الاهتمام بأن يعجب بها أحدهم عن بعد، وذات مرة كان يتمشى ذهابا وإيابا في الشرفة المطلة على النهر، فابتسمت له بعذوبة من وراء كتابها، فجلس بجوارها. كان جيمي ويلمان قد رحل ذلك الصباح، ولم يكن الآخرون قد علموا بذلك بعد. كان جيمي يستأثر باهتمام الآنسة دوراند تماما في الأيام القليلة الأخيرة، فلم يترك لغيره فرصة لمد حبال الوصل، أما الآن بعد أن رحل، فقد كانت بيسي جالسة وحدها في الشرفة، وهو ما لم يكن معتادا البتة.
قالت بيسي بنبرة بالغة الرقة: «يقولون إنك متسلق شهير، وإنك وصلت إلى قمة جبل ماترهورن.»
رد آرتشي في تواضع: «أوه، أنا لست شهيرا؛ بل أبعد ما يكون عن ذلك.» ثم أضاف: «وصلت إلى قمة جبل ماترهورن ثلاث مرات أو أربعا، لكن النساء والأطفال يتسلقونه هذه الأيام؛ لذا فليس ذلك بالإنجاز الفريد.»
قالت وهي تنظر بإعجاب إلى بنيته القوية: «لا بد أنك تمكنت من النجاة من بعض الظروف المثيرة.» ثم أضافت: «لقد مر السيد ويلمان بتجربة سيئة ...»
قاطعها آرتشي: «أمس؟» ثم أردف: «فقد سمعت أنه غادر هذا الصباح.»
قالت السيدة دوراند في برود: «لا، ليس أمس»، واعتدلت في جلستها في حين علا وجهها بعض الامتعاض، لكنها نظرت إلى السيد سيفرنس من طرف خفي، فوجدت عليه براءة ظاهرة جعلتها تفسح مجالا لاحتمال ألا يكون وراء تعليقه الأخير غرض مبطن. وهكذا، وبعد توقف قصير، واصلت بيسي كلامها قائلة: «كان ذلك منذ أسبوع. كان يتسلق جبل ستوكهورن وفجأة وجد السحاب يحيط به.»
قال آرتشي: «وماذا فعل جيمي؟ انتظر حتى ابتعد السحاب عنه، على ما أعتقد.»
ردت بيسي: «اسمع يا سيد سيفرنس، إذا كنت ستهزأ بي، فلن أواصل الحديث معك.»
قال آرتشي: «أؤكد لك يا آنسة دوراند أني لا أهزأ بك. كنت أهزأ بجيمي. لم أعتبر قط ستوكهورن قمة يصعب الوصول إليها. فارتفاعها نحو 7195 قدما وبعض البوصات حسبما أظن.»
قالت: «لكن من المؤكد يا سيد سيفرنس أنك تعرف جيدا أن خطورة تسلق أي جبل لا ترتبط بالضرورة بمدى ارتفاعه عن سطح البحر.»
قال: «هذا صحيح جدا. وأنا واثق أن جيمي نفسه، والسحاب يحيط برأسه، كان قد تجاوز أخطارا أشد في ارتفاعات أقل بكثير من ارتفاع قمة ستوكهورن.»
رمقت بيسي الشاب الجالس بجوارها بنظرة متفحصة أخرى، لكن مرة أخرى آرتشي كان يحدق بنظرة حالمة إلى قمة الجبل الذي يتحدثان عنه ذات الشكل الغريب الشبيه بالجرس. فقمة ستوكهورن تظهر للناظر من شرفة الفندق في تون شامخة وحدها ومرتفعة عن القمم المجاورة بكثير.
عم الصمت بينهما بضع لحظات، وخاطبت بيسي نفسها بأن هذا الشاب الشديد الرصانة الذي يبدو أنه يفضل التحديق في الجبال على النظر إليها لا يروقها على الإطلاق؛ فسلوكه هذا مغاير للوضع الطبيعي. كان من الواضح أن السيد سيفرنس ينبغي أن يلقن درسا، وقررت بيسي المفعمة بثقة مبررة في قدراتها كمعلمة أن تلقنه ذلك الدرس الضروري. فربما يكف عن الحديث بهذا الازدراء عن جيمي أو أي من الآخرين عندما يكتسب بعض الخبرة الإضافية. كما أن التقليل من الاعتداد المفرط لأي شاب بذاته للحدود المقبولة يعد دائما خدمة جليلة للإنسانية. لذا قررت بيسي ألا تظهر استياءها من حديثه العفوي وعدم استئثارها باهتمامه، وأطلقت العنان لسحرها، ورسمت على وجهها الابتسامة التي لم يقو كثيرون قبل ضحيتها الأخيرة على مقاومتها. لقد كانت ستجعله يتحدث عن نفسه وعن مغامراته. وقد أفلحت هذه الطريقة في إخضاع كل من سبقوه.
قالت بيسي في ثقة: «أحب كثيرا أن أستمع لقصص النجاة في اللحظة الأخيرة.» ثم أردفت: «أعتقد أن الاستماع لقصص شجاعة البشر وعزيمتهم في مواجهة أخطار تسلق جبال الألب وانتصارهم عليها أمر ملهم بشدة.»
قال آرتشي: «نعم، إنهم عادة ما ينتصرون عليها وفقا لما يصلنا من روايات، لكننا، كما تعرفين، لا نستمع أبدا لرواية الجبل نفسه للقصة.»
استأنفت بيسي كلامها: «لكن بالتأكيد يا سيد سيفرنس أنك لا تتوقع أن يبالغ متسلق حقيقي في رواية الأحداث عندما يتحدث عما فعله.»
قال آرتشي: «لا، بالطبع لا. أنا لا أقول إنه قد يبالغ، لكني أعرف حالات كانت الروايات فيها تغلف بتوهج جبلي من نوع ما لا شك أنه يجملها كثيرا. وقد تطرأ على الروايات تغيرات غريبة تجعل من صاحبها - واعذريني في اللفظ الجارح - كاذبا. منذ عدة سنوات جاء صديق لي إلى هنا لتسلق بعض الجبال، لكنه وجد في شرفة الفندق ما جذبه بشدة حتى إنه قرر البقاء فيها. من رأيي أن المتسلق القابع في الشرفة أكثر منا جميعا عقلانية، وإذا كان خياله خصبا، فلن يضطر إلى التخلف عن ركب المتسلقين الفعليين وهو يروي قصص مغامراته. هذا الرجل الصدوق تعثر عثرة واحدة. لا بد أنك تعلمين أنه من العادات القبيحة لبعض الهواة أن يسموا أسماء قمم مختلفة على عصي التسلق الخاصة بهم، كما لو كان المتسلقون الحقيقيون يستخدمون هذه العصي فعلا.»
سألت بيسي في اهتمام بالغ: «عجبا! ماذا يستخدمون إذن؟»
رد آرتشي: «معاول الثلج بالطبع. يوجد في إنترلاكن شخص بارع ربما يمكن أن تسميه متخصص الوسم بالجملة. لديه قوالب حديدية بأسماء كل القمم في متجره، وإذا أخذت عصا التسلق الخاصة بك إليه وأعطيته بعض الفرنكات فيمكنه أن يسم عليها كل ما يتسع له سطحها من أسماء القمم، بدءا من أورتلر إلى مون بلان. كان صديقي ضعيف العزم حتى إنه كلفه بوسم أسماء كل الجبال التي كان ينوي تسلقها على عصاه التي اشتراها فور وصوله إلى سويسرا. إنهم دائما ما يشترون عصا تسلق فور وصولهم. ولم يكن لديه قط وقت كاف للعودة إلى الجبال، لكنه بدأ تدريجيا يعتقد أنه بالفعل تسلق الجبال التي وسم أسماءها على عصاه بالنار والحديد. إنه رجل صادق، في كل الأمور عدا سويسرا.»
قالت: «لكن لا بد أنك مررت ببعض التجارب البالغة الخطورة في جبال الألب يا سيد سيفرنس. أخبرني من فضلك عن أصعب ما مررت به من مخاطر.»
قال: «أنا متأكد أنك لن تجدي ذلك مثيرا لاهتمامك.»
ردت: «أوه، بل سيثير اهتمامي. تحدث رجاء، ولا تجهدني في محاولة إقناعك. فأنا أتوق إلى الاستماع للقصة.»
قال: «إنها ليست قصة عظيمة؛ لأنها، كما سترين، لا يغلفها ذلك التوهج الجبلي.»
نظر آرتشي إلى الفتاة، وخطر بذهنه أن تلك اللحظة هي على الأرجح أخطر لحظات حياته. لقد مالت نحوه، وأسندت كوعيها إلى ركبتيها، وذقنها - يا له من ذقن جميل! - إلى راحتيها. وعلقت عينيها به، فرأى آرتشي بحكمته الخطر الداهم الذي يظهر في عمق هاتين العينين العذبتين، فحول نظره عنهما، واستنجد منهما بصديقه القديم: جبل ستوكهورن.
وقال: «أعتقد أن أصعب المخاطر التي نجوت منها واجهني منذ نحو أسبوعين. لقد صعدت ...»
قاطعته بيسي بأنفاس منقطعة: «كم دليلا كان برفقتك؟»
أجابها ضاحكا: «دون أي أدلة على الإطلاق.»
قالت: «أليس هذا خطيرا جدا؟ ظننت أنه ينبغي أن يكون برفقة المرء دليل دائما.»
قال: «الأدلة ضروريون في بعض الأحيان. لكني لم أصطحب دليلا حينذاك؛ لأني لم أتجاوز في صعودي قلعة تون التي تعلو مكان جلوسنا الآن بنحو ثلاثمائة قدم، ونظرا إلى أني كنت أمضي بمحاذاة الشارع الرئيسي في البلدة، فقد كان تسلقي آمنا تماما في كل ظروف الطقس. كما أنه عادة ما يكون في الجوار شرطي.»
قالت الفتاة: «أوه!» وانتصبت في جلستها فجأة.
كان آرتشي ينظر إلى الجبال، ولم ير الغضب العارم الذي علا وجهها.
واصل قائلا: «أتعرفين الدرج الهابط من القلعة؟ إنه لا يظهر بوضوح، ويعمه ظلام شديد عندما يخرج المرء إليه من نور الشمس الساطع. كان أحد الحمقى قد أكل برتقالة هناك، وألقى بقشرتها على الدرج بلا اكتراث. لم ألاحظ القشرة، وخطوت على جزء منها. ولم أدر بنفسي بعدها إلا وأنا متكوم أسفل الدرج الطويل، وأنا أظن أن كل عظام جسدي قد كسرت. أصبت بالكثير من الكدمات، لكن لم يلحق بي أذى بالغ، ومع ذلك فقد أصابني رعب لم أعرف له مثيلا في حياتي، وأتمنى ألا يتكرر ذلك معي.»
هبت بيسي واقفة في ترفع. وقالت بنبرة جافة: «أنا ممتنة لك على رواية القصة يا سيد سيفرنس.» ثم أضافت: «وإذا لم يبد علي القدر المتوقع من الاهتمام بقصتك، فربما يكون سبب ذلك أني لم أعتد أن يهزأ بي أحد.»
قال آرتشي: «أؤكد لك يا آنسة دوراند أني لا أهزأ بك، وأن هذه الواقعة لم تكن مثارا لضحكي على الإطلاق. لا تشمل المخاطر المتربصة بالمرء في جبل ستوكهورن عادة قشرة البرتقال الملقاة على درج مظلم شديد الانحدار. أرجو ألا تستائي مما قلت. أخبرتك أن قصصي لا يكسوها ذلك التوهج الجبلي، لكن الخطر موجود فيها بلا شك.»
كان آرتشي قد هب واقفا على قدميه، ولكن لم يبد في عيني الآنسة دوراند أي تسامح تجاهه وهي تقول له: «طاب صباحك!» وتدخل الفندق، تاركة إياه واقفا هناك.
وخلال الأسبوع التالي، لم يحظ آرتشي بفرصة كافية لمصالحة الآنسة دوراند، فقد شهد ذلك الأسبوع بداية قصة ساندرسون وذروتها ونهايتها. تشجع تشارلي ساندرسون برحيل ويلمان المفاجئ، وأصبح رفيقا لبيسي لا يفارقها، وبدا كل شيء في صالحه حتى المساء الذي رحل فيه. في ذلك المساء، تمشى الاثنان على الممشى المحاذي للضفة الشمالية للنهر، والمؤدي إلى البحيرة. قالا إنهما في طريقهما لمشاهدة التوهج الجبلي على الجبال المكسوة بالجليد، لكن أحدا لم يصدق ذلك؛ فذلك التوهج تمكن رؤيته بالوضوح نفسه تماما من الشرفة التي في واجهة الفندق. وبصرف النظر عن ذلك، فقد عادا معا قبل الثامنة بقليل، وبدت بيسي حينها في أجمل صورة، في حين اكتسى وجه ساندرسون بالتقطيب والاكفهرار، وبدا في أسوأ حالاته المزاجية. لملم أمتعته في حقيبة وغادر إلى برن في قطار الثامنة وأربعين دقيقة. وعندما التقى آرتشي بهما، ابتسمت له بيسي ابتسامة خفيفة، في حين حدق فيه ساندرسون بغضب كما لو لم يكن قد رأى سيفرنس من قبل.
خاطب آرتشي نفسه قائلا: «هذه القصة انتهت على ما يبدو»، وواصل مشيه نحو بحيرة تون. وأضاف: «أتساءل عما إذا كان الشر المطلق هو ما يقودها إلى جذب الشباب للتقدم لخطبتها ثم رفضهم. أظن تشارلي سيغادر الآن، ولن نلعب البلياردو معا من جديد. لا أعرف لماذا يبدو أنهم جميعا يظنون أن الرحيل هو الشيء المناسب فعله. ما كنت سأرحل لو كنت مكانهم. المرأة مثل قمة جبل يصعب الوصول إليها؛ إذا لم تنجح في المرة الأولى فعليك إعادة المحاولة. أعتقد أني سأحاول التقدم إلى بيسي نحو ست مرات. ولن يكون التخلص مني سهلا عليها مثلما كان الحال مع الآخرين.»
وبينما هو غارق في تأملاته تلك، جلس على مقعد تحت الشجر المواجه للبحيرة. وتساءل عما إذا كان طلب الزواج قد طرح في هذه البقعة. لقد بدت مكانا مناسبا تماما لذلك، ولاحظ أن الحصى الذي يفترش الممر كان مبعثرا بشدة كما لو كان ذلك بفعل الطرف الحديدي لعصا رجل مهتاج. ثم تذكر أن ساندرسون كان يحمل عصا ذات طرف حديدي. ابتسم ونظر حوله، فوجد بجانبه على المقعد دفتر ملاحظات صغيرا مغلفا بجلد الماعز، له قفل فضي. لا بد أنه انسل من جيب غير محكم الغلق لفستان سيدة كانت تجلس في هذا المكان. أمسك آرتشي بالدفتر وقلبه عدة مرات في يديه. من المؤسف أن يضطر المرء إلى التماس الأعذار لشخص اعتدنا الحديث عن مناقبه، لكن لا بد من الإقرار بأنه في تلك المرحلة من حياة سيفرنس فعل شيئا لم يكن عليه القيام به؛ لقد قرأ ما كان في الدفتر، رغم علمه قبل فتح الصفحة الثانية أن محتواه لم يكتب إلا ليقرأه كاتبه نفسه. برر آرتشي ذلك لنفسه بأنه كان مضطرا إلى قراءة الدفتر؛ ليتأكد من هوية صاحبه، وأنه ما فتحه في البداية إلا ليبحث عن اسم مكتوب عليه أو بطاقة مدسوسة بين صفحاته، ومع ذلك لم يكن من شك أن الشاب عرف من أول صفحة هوية صاحب الدفتر، وكان من الممكن على الأقل أن يسأل الآنسة دوراند عما إذا كان الدفتر يخصها قبل أن يفتحه. على أي حال، لا يجدي التكهن بما كان من الممكن أن يحدث نفعا كبيرا، ونظرا إلى أن قراءة الدفتر أدت مباشرة إلى الفعلة غير المبررة التي أقدم عليها سيفرنس لاحقا، كما تؤدي كل زلة دائما إلى الانزلاق إلى أخريات، فإننا نورد في السطور التالية محتوى الدفتر الصغير، ليفهم قارئ هذه المأساة الموقف بأكمله. (2) اعترافات بيسي «الأول من أغسطس. كتابة اليوميات عادة سخيفة، وأنا واثقة من أني لم أكن لأشغل نفسي بها إذا كانت ذاكرتي جيدة ولو لم أكن بصدد شيء عظيم. ومع ذلك، لا أنوي لهذا الدفتر أن يكون أكثر من مجموعة من الملاحظات ستفيدني عندما أبدأ في كتابة روايتي. ستكون الرواية عمل حياتي، وأنوي استخدام كل مواهبي في جعلها فريدة وواقعية. أعتقد أن رواية «المرأة الجديدة» قد مضى زمانها، وأن الوقت قد حان لقصة من النوع القديم، لكنها في الوقت ذاته مكتوبة بواقعية لم يقدم عليها قط قدامى الروائيين. يستخدم الرسام أو النحات نموذجا بشريا يصوره في شكل لوحة جميلة أو منحوتة رائعة. فلماذا لا يستخدم الكتاب أيضا نماذج بشرية؟ الحب هو الدافع المحرك لكل الروايات العظيمة، واللحظة النهائية التي تتوج أي قصة حب هي لحظة طلب الزواج. لم أجد طلب الزواج معروضا بإتقان في أي رواية قرأتها. يبدو أن الرجال لا يتحدث بعضهم إلى بعض عن طلبات الزواج التي يقدمونها؛ لذا لا يبني الكاتب الرجل روايته إلا على تجربته الشخصية وحدها، فتكون طلبات الزواج التي يكتبها متطابقة، يطلب بطله الزواج بطريقته هو، سواء أكان قد سبق له تنفيذها أم يخطط لتنفيذها. أما الكاتبات فيبدو أن خيالهن أكثر خصوبة في هذا المضمار، لكنهن يصفن طلب الزواج على النحو الذي يردن أن يتلقينه، وليس بشكله الحقيقي. أعتقد أنه من السهل جعل الرجل يطلب الزواج. وأعتقد أني موهوبة في ذلك، ولا فائدة من إنكار أني جميلة، وربما كان ذلك مفيدا. لذا قررت أن أدون في هذا الدفتر كل طلبات الزواج التي قدمت إلي بالكلمات التي يستخدمها من يطلب الزواج مني بالضبط، ومن ثم سأكتب طلبات الزواج في روايتي كما حدثت في الواقع تماما. وسأكتب هنا أي أفكار قد تساعدني وأنا أكتب كتابي.
الثاني من أغسطس. لن أدون تاريخ الملاحظات التي أكتبها في هذا الدفتر بعد هذا التاريخ، وبهذا لن يبدو كدفتر يوميات، فأنا أكره دفاتر اليوميات. نحن في تون، وهو مكان جميل. قال هومبولت، أيا كان في الحاضر أو الماضي، إن تون تعد إحدى أجمل ثلاث بقاع على الأرض. أتساءل عن اسمي المكانين الآخرين. كانت الخطة أن نقضي ليلة واحدة في هذا الفندق، لكني أراه يعج بالشباب، ونظرا إلى أن كل النساء يبدون قبيحات وثرثارات بعض الشيء، أعتقد أن هذا هو المكان المناسب لتنفيذ خططي. يميل الشاب العادي دائما إلى الوقوع في الحب في إجازاته؛ فهذا يجعل الوقت يمر سريعا مفرحا، وحيث إنني قرأت في أحد المصادر أن الرجل بوجه عام يتقدم للزواج أربع عشرة مرة خلال حياته، فعلي إذن لأغراض متعلقة بعالم الأدب أن أتلقى بعض طلبات الزواج هذه. توصلت إلى فكرة أظنها رائعة. سأرتب لتتم طلبات الزواج في إطار مناظر طبيعية خلابة، كما يفعل مدير المسرح حسبما أعتقد. ينبغي أن يطلب أحد الرجال الزواج بجانب النهر؛ فعلى كل من جانبيه ممشى ظليل رائع، وينبغي أن يطلب آخر الزواج وسط الجبال، وثالث في البحيرة تحت ضوء القمر على متن أحد قوارب التجديف الجميلة ذات المظلات المخططة، التي تبدو أجنبية، الموجودة لديهم هنا. لا أعتقد أن أي روائي فكر في ذلك من قبل. هكذا يمكنني أن أكتب وصفا واضحا للمنظر الطبيعي بالإضافة إلى الكلمات التي سيستخدمها الشاب. وإذا لم يكتب لكتابي النجاح، فسيكون السبب في ذلك عدم وجود نقاد يجيدون التمييز في إنجلترا.
طلب الزواج الأول. لم يكن هذا الطلب متوقعا. إن اسمه هو صامويل كولدويل، وقد أتى إلى هنا للتعافي. إنه ليس مغرما بي على الإطلاق، لكنه يظن ذلك؛ لذا أعتقد أن النتيجة واحدة. بدأ حديثه بالقول إني الوحيدة التي فهمت طموحاته الحقيقية، وإنه متأكد أني إذا ارتبطت به فلن نسعد معا فحسب، بل سنجلب السعادة للآخرين أيضا. أخبرته بلطف أن أكبر طموحاتي هو أن أكتب رواية ناجحة، فأرعبه ذلك، فهو يعتقد أن كتابة الروايات عمل شرير. كان قد زار جريندلفلد، ويرى أن هواءها أفضل لصحة صدره. لا أكاد أعتبر ما تقدم به طلب زواج، وقد فاجأني طلبه لدرجة أن نصف حديثه كان قد مضى قبل أن أدرك أنه بالفعل يطلبني للزواج من صميم قلبه. كما أن الطلب حدث في حديقة الفندق، وهو مكان لم يكن متوقعا، حيث كنا عرضة للمقاطعة طوال الوقت.
طلب الزواج الثاني. ريتشارد كينج رجل بالغ اللطف، وكان بالغ الجدية أيضا. يقول إن حياته محطمة، لكنه سيغير رأيه قريبا في إنترلاكن التي ذهب إليها وتكتب إلي مارجريت دان عنها أنها مكان بهيج للغاية. في المساء الماضي تمشينا بالقرب من البحيرة، واقترح أن نخوض مياهها. استأجر قاربا تجدف به امرأتان تجلس إحداهما في مؤخرته وتقف الأخرى في مقدمته، يحركان مجاديف ضخمة تبدو مثل مضارب الكريكيت. لم تفهم المرأتان اللغة الإنجليزية، وأخذنا نقطع سطح الماء حتى ظهر القمر فوق الجبال المكسوة بالجليد. مال ريتشارد وحاول أن يمسك يدي وهو يهمس باسمي «بيسي» بصوت خفيض. أعترف أني توترت، ولم يسعفني تفكيري لرد أفضل من «سيدي!» التي قلتها بنبرة مفاجأة واندهاش. وواصل الحديث متعجلا: «بيسي، أحدنا يعرف الآخر منذ أيام قليلة فقط، لكني في هذه الأيام القليلة كنت كمن يتقلب في النعيم.»
أجبته وأنا ألملم شتات نفسي: «نعم، يقول هومبولت إن تون واحدة من أفضل ثلاث ...»
فقاطعني ريتشارد بأن قال ما معناه «اللعنة على تون!» ثم واصل كلامه قائلا إني بالنسبة إليه بمنزلة العالم بأكمله، وإنه لا يستطيع العيش من دوني. فهززت رأسي ببطء، ولم أرد. تحدث بطلاقة تشي بخبرة سابقة في مثل هذه المواقف، لكني رددت عليه بأن ما يطلبه محال. ضم ذراعيه على صدره وجلس متعكر المزاج في مؤخرة القارب وقال إنني دمرت حياته. بدا وسيما وهو جالس في مكانه في ضوء القمر وعلى جبينه تقطيب شديد، لكن لم يسعني إلا الاعتقاد أنه تعمد الجلوس في ذلك المكان ليسقط ضوء القمر على وجهه. ليتني أستطيع كتابة كلماته بالتحديد، فقد كانت طلاقة لسانه لافتة، مع ذلك أنا لا أستطيع ذلك لسبب ما، ولا حتى في هذا الدفتر. ومع ذلك فأنا واثقة أني عندما أشرع في كتابة روايتي وأفتح هذه الملاحظات سأتذكر الكلمات. مع ذلك، كانت نيتي أن أكتب العبارات كما قيلت بالضبط. ليتني أستطيع تدوين الملاحظات في لحظة الحديث، لكن يبدو أن الرجل يريد الاستئثار بكامل اهتمامك عندما يقدم طلب الزواج.
جاء إلى الفندق اليوم شاب تبدو على هيئته القوة والرزانة، وقد صبغ تسلق الجبال بشرته باللون البرونزي. يبدو أنه سيطلب الزواج بطريقة تختلف كثيرا عن الجميع. عرفت أن اسمه آرتشيبولد سيفرنس، ويقال إنه متسلق جبال عظيم. لو تقدم هذا الشاب بطلب الزواج في جبال الألب العالية لكان ذلك شيئا رائعا ، حيث الجليد المتألق يملأ المشهد. أعتقد أني سأستخدم هذه الفكرة في الكتاب.
طلب الزواج الثالث والرابع والخامس والسادس. لا بد أن أعترف باندهاشي من الرجال وإحباطي بسببهم في الوقت ذاته. هل نفد الإبداع من جعبة البشر؟ من ير ما فعله هؤلاء يظنهم جميعا تعلموا طلب الزواج على يد المعلم نفسه؛ فكلهم يتبعون الطريقة نفسها. لقد بدأ هؤلاء الأربعة بمناداتي باسمي «بيسي» بنبرة من يقدم على خطوة كبيرة ومهمة في الحياة. خالفهم السيد ويلمان قليلا بأن طلب مني مناداته باسم «جيمي»، لكن كل شيء آخر فعله كان مماثلا. أعتقد أن هذا التطابق يعزى إلى نظام التعليم الحديث. لكني واثقة من أن آرتشي سيتصرف على نحو مختلف. لست متأكدة من إعجابي به، لكنه يثير اهتمامي أكثر من أي من الآخرين. كنت غاضبة منه بشدة منذ أسبوع. وهو يعي ذلك، لكنه لم يأبه لذلك على ما يبدو. وفور تقدم تشارلي ساندرسون بطلب الزواج، سأنظر ماذا يمكن أن أفعل مع السيد آرتشي سيفرنس.
أحب اسم آرتشي. يبدو مناسبا لذلك الشاب تماما. كنت أتساءل عن نوع المنظر الطبيعي الذي يناسب طلب الزواج الذي سيقدمه السيد سيفرنس. أعتقد أن أحد الأنهار الجليدية سيكون مناسبا تماما؛ لأني أتصور أن آرتشي يكون باردا وممتعضا عندما يكون في حالة مزاجية سيئة. أظن البحيرة ستكون هادئة أكثر من اللازم بالنسبة إلى طلب الزواج المقدم منه، ولا يمكن سماع ما يقوله الرجل على مقربة من الشلال. أعتقد أن وادي كوهليرين سيكون هو المكان المناسب؛ فهو مكان جامح ورومانسي للغاية، حيث ينهمر من حوله مائة شلال. علي أن أسأل آرتشي ما إذا كان قد سبق له رؤية شلالات كوهليرين. أظنه سيكرهها لأنها ليست بين القمم العالية المكسوة بالجليد.» (3) عرض الزواج الخاص ببيسي
بعد أن قرأ آرتشي دفتر الملاحظات الذي لم يكن من حقه قراءته، أغلقه وأحكم قفله ووضعه في جيبه الداخلي. وبدت في عينيه نظرة تأمل وهو يحدق في البحيرة الزرقاء.
وخاطب نفسه قائلا: «لا يمكنني إعادته إليها الآن.» ثم أضاف: «ربما ما كان ينبغي لي أن أقرأه. إنها ليست لعوبا إذن، لكنها تستخدمنا نحن المساكين كنماذج بشرية.» ثم تنهد. وواصل حديثه مع نفسه: «أعتقد أن هذا أفضل من أن تكون لعوبا، لكني لست متأكدا تماما من ذلك. أعتقد أن المؤلف معذور إذا أقدم على أي شيء ليضمن نجاح شيء مهم ككتاب سيكتبه. ربما يمكنني مساعدتها في تأليف هذا العمل الأدبي الهام. سأفكر في الأمر. لكن ماذا يمكنني أن أفعل بدفتر اليوميات الصغير هذا؟ ينبغي أن أفكر في ذلك أيضا. لا يمكنني أن أعطيها إياه وأدعي أني لم أقرأه؛ فأنا لا أجيد الكذب. يا إلهي! أعتقد أن بيسي قادمة وحدها على امتداد ضفة النهر. أغلب ظني أنها اكتشفت أن الدفتر ليس معها وتعرف على وجه الدقة أين فقدته. سأضعه حيث وجدته وأختبئ.»
ساعد صف الأشجار الذي يمتد بطول الممشى آرتشي في تنفيذ خطته التي وضعها متعجلا بنجاح. شعر بأنه لص متسلل، ولم يكن ذلك الشعور من فراغ، وهو يتسلل وراء الأشجار حتى وصل إلى الطريق الرئيسي. رأى بيسي تنطلق مباشرة إلى المقعد، وتأخذ الدفتر، ثم تعود في اتجاه الفندق دون أن تجيل نظرها في الجوار ولو لحظة، فأقنعت تصرفاتها المحددة سلفا آرتشي بأن الشك في أن أحدهم رأى دفترها لم يتسرب إليها. وأكسب ذلك الشاب بعضا من راحة البال، وانطلق في طريق إنترلاكن نحو تون وهو يطمئن نفسه بمرور الأمور على ما يرام. ومع ذلك، فقد كان عقد العزم على الانتقام لضحايا الآنسة بيسي الأبرياء، وظل وهو يمشي يقلب في عقله الخطة تلو الأخرى. سيكون جهل الفتاة بتسرب نبأ أساليبها في كتابة الأدب إلى غيرها خير تتمة للانتقام.
طوال الأسبوع التالي ركز آرتشي انتباهه بشدة على بيسي، وجدير بالذكر أن اهتمامه بتلك الشابة الجميلة نال تقديرها وإعجابها فيما بدا. وذات صباح، كانت بيسي تقف في الشرفة مرتدية ملابس مشي جميلة، وبدا أنها كانت تراقب السماء لتتوقع الطقس، لكنها كانت في الحقيقة تبحث عن مرافق، هكذا قالت السيدات الثرثارات وهن جالسات تحت المظلات ومنهمكات في أعمال الإبرة والحديث عن الناس، لكن هذا لم يخطر ببال الشابة بالطبع. ابتسمت في رقة عندما رأت آرتشي يخرج من غرفة البلياردو، لكن تلك هي عادتها دائما في تحية أصدقائها.
سألها آرتشي بلهجة بريئة لشخص لا يعلم ويريد بالفعل الحصول على المعلومة: «هل ستخرجين للتمشي هذا الصباح؟»
تحدث لتسمعه السيدات الثرثارات، لكن ما كانت هذه الحيلة لتنطلي عليهن. لقد نظرن إليهما شزرا، وقلن إن من الوقاحة أن يتظاهر الاثنان أنهما لم يضربا موعدا للقائهما هذا.
ردت بيسي بنبرة تحد وتبجح كمن لا يأبه لمن يعرف بالأمر: «نعم، سأسلك الطريق العلوي إلى شلالات كوهليرين. هل سبق لك رؤيتها؟»
أجابها: «كلا. أهي جميلة؟»
قالت: «جميلة! إنها رائعة، على الأقل الوادي رائع، على الرغم من أنك قد لا تعتبر الوادي أو الشلالات تستحق الزيارة.»
قال: «كيف لي أن أعرف وأنا لم أزرها؟ هل يمكنك أن تكوني دليلا لي هناك؟»
قالت: «سيسعدني جدا أن تأتي معي لزيارتها، لكن عليك أن تتعهد بالحديث عن الوادي والشلالات باحترام.» «لست الرجل الذي تحدث عن خط الاستواء بقلة احترام، كما تعرفين»، هكذا قال آرتشي وقد بدآ المشي معا وسط ازدراء السيدات الثرثارات اللاتي قلن إنهن لم يرين قط تصرفا بمثل هذه الوقاحة في حياتهن. ونظرا إلى أن حياتهن كانت قد طالت بعض الشيء بالفعل، فيمكنهن تكوين فكرة عن بشاعة سلوك بيسي.
مشيا أكثر من ساعة بامتداد الطريق العلوي المطل على بلدة تون ومن ورائها البحيرة حتى وصلا إلى امتداد من الأرض يؤدي إلى وادي كوهليرين. وسلكا طريقا متعرجا شديد الانحدار حتى وصلا إلى أول شلال من مجموعة من الشلالات، كان ماؤه يندفع هادرا نحو الوادي المحاط بغابة كثيفة. مالت بيسي على الدرابزين المتداعي ونظرت إلى عمق الوادي في حين كان سيفرنس يقف بجوارها.
بدأها الشاب بالحديث، ولم يكن الشلال موضوع حديثه.
قال: «آنسة دوراند، أنا أحبك. وأطلب منك الزواج بي.»
ردت بيسي دون أن ترفع عينيها عن زبد ماء الشلال: «أوه، سيد سيفرنس، أتمنى ألا يكون شيء فعلته قد جعلك ...»
قال آرتشي بصوت مخيف طغى على صوت الشلال الهادر: «هل أفهم من هذا أنك ترفضينني؟»
رفعت بيسي نظرها إليه سريعا، ورأت على جبينه تقطيبا شديدا، فابتعدت عنه قليلا.
وقالت: «أنا بالتأكيد سأرفضك. لم يمر إلا أسبوع تقريبا منذ تعرفي عليك!»
رد عليها: «ليس هذا مهما. صدقيني يا فتاتي، أنا أحبك. ألا تفهمين قولي؟»
قالت: «أفهم قولك جيدا، لكني لا أحبك. أليست هذه الإجابة كافية؟»
قال: «لو كنت صادقة فيها لكانت كافية. لكنها ليست إجابة صادقة. أنت تحبينني فعلا. لاحظت ذلك منذ عدة أيام، رغم أنك تحاولين إخفاء حبك لي، فالأمر واضح للجميع، وخاصة للرجل الذي يحبك. لماذا تنكرين ما يبدو واضحا لكل الناظرين؟ ألم أر الابتهاج على وجهك عندما اقتربت منك؟ ألم أر على شفتيك ابتسامة الترحيب التي لا يمكن أن يكون لها إلا معنى واحد؟»
صاحت بيسي في قلق حقيقي: «سيد سيفرنس، هل مسك الجنون فجأة؟ كيف تجرؤ على الحديث معي هكذا؟»
أمسك بمعصمها ورد عليها: «يا فتاتي، أيعقل أن أكون مخطئا في ظني أنك مهتمة بي، وأن يكون الاستنتاج الآخر الوحيد الذي يمكن التوصل إليه من تصرفاتك هو الاستنتاج الصحيح؟»
سألته بيسي بصوت مرتجف: «أي استنتاج آخر؟» وحاولت تخليص معصمها من قبضته الحديدية لكنها لم تستطع.
أجابها بغضب: «أنك كنت تتلاعبين بي، وأنك ظللت تستدرجينني بلا معنى، وأنك كنت تتظاهرين بالاهتمام بي في حين لم يكن غرضك إلا إضافة اسمي إلى قائمة طلبات الزواج التي تتلقينها. هذا هو الاستنتاج البديل. والآن أخبريني بالحقيقة، هل تحبينني أم إنك تخدعينني؟»
قالت: «أخبرتك أني لست مغرمة بك، لكني ظننتك رجلا مهذبا. والآن عرفت أنك همجي، إني أكرهك. اترك معصمي، أنت توجعني.»
قال: «حسنا، حسنا. الآن ظهرت الحقيقة أخيرا، وسأبين لك خطورة التلاعب بقلوب البشر.»
أفلت سيفرنس معصمها وأمسك بخصرها. فصرخت بيسي وأخذت تستغيث، في حين أطلق الرجل الذي أمسك بها بسيطرة لا فكاك منها ضحكة هازئة. واستخدم يده الحرة ليلقي بفرع الصنوبر الضعيف الذي يتكون منه الدرابزين المؤطر لحافة الجرف. فسقط الفرع في التيار واختفى أسفل الشلال.
صرخت الفتاة واتسعت عيناها من الرعب: «ماذا ستفعل؟»
قال: «سأقفز معك إلى هذه الهاوية، عندئذ سنجتمع معا إلى الأبد.»
قالت بيسي وهي تنتحب: «أوه آرتشي، آرتشي! أنا أحبك.» وطوقت بذراعيها عنق الرجل المشدوه، فصدمه بشدة التطور المفاجئ للأمور لدرجة أنه وهو يتراجع كاد ينفذ المأساة التي هدد بها منذ لحظة.
وقال بتلعثم: «إذن لماذا ... لماذا أنكرت؟»
أجابته: «أوه، لا أعرف. أعتقد أن السبب أني عنيدة، أو لأن الأمر كان واضحا جدا كما قلت أنت. ومع ذلك، أنا لا أعتقد أني كنت سأقبلك أبدا لو لم تجبرني على ذلك. لقد سئمت بشدة من طلبات الزواج التقليدية.»
قال آرتشي، وهو يمسح جبينه: «نعم، أعتقد أن الأمر قد أصبح مملا.» وواصل: «أرى مقعدا في الأسفل، لنجلس هناك ونناقش الأمر.»
أعطاها يده ونزلت إلى المقعد بخطوات سريعة وخفيفة، وجلسا معا.
قال آرتشي أخيرا: «أنت لا تعتقدين حقا أني همجي كما كنت أتظاهر، أليس كذلك؟»
التفتت إليه بطرف عينها وعلى وجهها ابتسامة انتصار وسألته ببساطة: «ألست كذلك فعلا؟»
قال: «أنت بالتأكيد لا تظنين أني كنت سألقي بك من أعلى الجرف، أليس كذلك؟»
قالت: «أوه، سمعت وقرأت عن هذه الفعلة كثيرا. هل كنت تتظاهر فقط؟»
أجابها: «نعم. كان ذلك نوعا من الانتقام فحسب. رأيت أنه ينبغي أن تعاقبي على استغلالك لهؤلاء الرجال الآخرين. وكان ساندرسون لاعب بلياردو بارع جدا. لقد تغلبت عليه بصعوبة.»
سألت بيسي بصوت مضطرب: «قلت ... قلت إنك تهتم بي. هل كان ذلك ادعاء أيضا؟»
قال: «كلا. كان ذلك حقيقيا يا بيسي، وهذا ما أفسد خطة انتقامي. اسمعي يا عزيزتي، لم يخطر ببالي قط أنك ستنظرين إلي؛ فبعض هؤلاء الرجال أفضل مني بكثير، ولم يخطر ببالي أن لدي فرصة سانحة. أتمنى أن تسامحيني، وألا تصري على الانتقام الحقيقي مني بسحب ما قلته.»
قالت: «سأنتقم منك انتقاما كافيا يا آرتشي، أيها الشاب المسكين المتوهم، طوال حياتك. لكن لا تقل شيئا آخر عمن تدعوهم بالرجال الآخرين . لم يكن هناك أحد غيرك قط. ربما أريك يوما ما دفترا صغيرا يشرح كل شيء، على الرغم من أني أخشى أن تكون رأيا أسوأ عني إذا رأيته. أعتقد أنه من واجبي أن أريك إياه قبل أن يفوت أوان التراجع. هل يمكنني ذلك؟»
قال آرتشي بإصرار: «أرفض رؤيته بشدة، الآن أو في أي وقت آخر.» وجذبها نحوه وقبلها.
أطلقت بيسي تنهيدة ارتياح، وتساءلت عن السبب الذي يجعل فضول الرجال أقل بكثير من النساء. كانت واثقة من أنه لو كان قد لمح بأي سر مماثل ما كان بالها ليهدأ أبدا قبل أن تعرفه.
لحظة درامية
في أيام بالميسيدا العصيبة حين كانت تشيلي منقسمة إلى نصفين، وكانت عاصمتها فعليا محاصرة، مشى ممثلان معا في الشارع الرئيسي نحو المسرح الوحيد الذي كان مفتوحا حينئذ. كانا ينتميان إلى فرقة مسرحية فرنسية كان سيسعدها الرحيل من تشيلي لو استطاعت إليه سبيلا، لكن ظروف الحرب اضطرتها إلى البقاء، فلجأت إلى البديل التالي الأمثل، وهو أن تقدم عروضا على خشبة المسرح الرئيسي في الليالي التي كان يأتي فيها الجمهور.
لو اطلع غريب على الشوارع لما كاد يصدق أن حربا ضروسا تدور، ولا أن من يدعون بالمتمردين كانوا على أبواب المدينة. فعلى الرغم من كساد التجارة وانهيار الثقة والتهديد المحدق بحياة كل الرجال وحريتهم، كانت الشوارع تعج بحشود لا يثنيها كل ذلك عن الاستمتاع والاستغلال الأمثل لكل الظروف.
بينما كان جاك دوبري وكارلوس لوموان يمشيان معا، أخذا يتحدثان بجدية، لا عن الحرب التي كادت تدق أبوابهم، بل عن الصراعات الخيالية التي تبعث فيها الحياة على خشبة المسرح. كان دوبري الممثل الرئيسي في الفرقة، وكان يستمع في صبر الشيوخ لحديث الممثل الذي يصغره وتنطق حروفه بالحيوية والعنفوان.
صاح لوموان: «أنت مخطئ تماما يا دوبري، مخطئ تماما. لقد درست الموضوع. تذكر أني لا أعيب تمثيلك بوجه عام. وتعلم أن أحدا لا يكن لك ما أكنه أنا من إعجاب، وليس هذا بقول هين بالنظر إلى أن الزملاء في الفرق المسرحية عادة ما يناصب بعضهم بعضا العداء بسبب الغيرة.»
قال دوبري: «تحدث عن نفسك فقط يا لوموان. تعلم أني أغار منك. فأنت النجم الصاعد وأنا الآفل. وقد وصلت إلى عمر يصعب فيه تعلم الجديد يا كارل.»
رد لوموان: «هذه ترهات يا دوبري. أتمنى أن تنظر في الأمر بجدية. براعتك على خشبة المسرح هي التي تجعلني لا أتحمل رؤيتك تخالف رؤيتك الفنية لإرضاء جمهور البلكون. ينبغي أن تربأ عن هذا كله.»
قال دوبري: «كيف للمرء أن يتعالى على هذا الجمهور، الذي هو الشيء الأهم في المسرح؟ تعقل يا كارلوس في كلامك حتى أستمع لك.»
قال كارلوس: «أنت تمزح، ببساطة لأنك تعرف أنك لست محقا، ولا قبل لك بمناقشة هذا الأمر بجدية. والآن إنها تطعنك في القلب ...»
قال دوبري: «كلا. هذا شيء خاطئ تماما. إنها تقول شيئا عن قسوة قلبي، ويبدو أنها تنوي طعن هذا العضو الشرير، لكن المرأة لا تصيب ما تحاول إصابته أبدا، وأنفي تعرضي للطعن في القلب. قل إن الطعنة بجوار القلب أو بالقرب منه، واستمر في حديثك معي.»
قال كارلوس: «حسنا إذن. إنها تطعنك في مكان حيوي طعنة تؤدي إلى وفاتك بعد دقائق قليلة. ترفع يديك، وتترنح مستندا إلى رف المدفأة، وتفتح ياقة قميصك بعنف وتحاول الإمساك بشيء، وتضغط بيديك على جرحك وتأخذ خطوتين مترنحتين للأمام، وتستغيث بصوت ضعيف وتتعثر في الأريكة فتسقط عليها، وتواصل محاولة الإمساك بشيء، وأخيرا تتدحرج على الأرض، حيث تركل الهواء مرة أو مرتين، وتضرب بقبضتك على الأرضية، ثم ينتهي كل شيء.»
قال دوبري: «وصف مثير للإعجاب يا كارلوس. يا إلهي! ليت جمهوري ينتبهون إلى جهودي مثل انتباهك. والآن أنت تقول إن هذا كله خطأ، أليس كذلك؟»
قال كارلوس: «كله خطأ.»
رد دوبري: «افترض أنها طعنتك أنت، ماذا كنت ستفعل إذن؟»
رد كارلوس: «كنت سأسقط على وجهي، صريعا.»
قال دوبري: «يا إلهي! وماذا كان سيحدث للستارة؟»
قال كارلوس: «سحقا للستارة!»
قال دوبري: «قد يسهل عليك سب الستارة يا كارل، لكن لا بد أن يتم الأمر بالتدريج. ستنزل الستارة، ولن يعرف جمهور البلكون ماذا حدث. أما إن مررت بالمراحل التي وصفتها أنت بوضوح، فسيتاح للجمهور الوقت الكافي لتفهم الموقف. سيقولون وهم يضحكون ضحكة خفيفة: «هذا الشرير قد نال جزاءه أخيرا، وكان يستحقه.» يريد الجمهور الاستمتاع بمعاناته، في حين تقف البطلة متجهمة لدى الباب لتمنع هروبه. وعندما تسقط قبضتي على خشبة المسرح ويدركون أني قد لقيت حتفي بالفعل، فسيطلقون صيحات انتصار سيكون من المفرح سماعها.»
قال كارلوس: «هذا ما أعنيه تحديدا يا دوبري. أرى أن الممثل لا يحق له سماع التصفيق، وينبغي ألا يعرف أن هناك شيئا اسمه الجمهور. فمهمته أن يصور الحياة كما هي بالضبط.»
قال دوبري: «لا يمكنك أن تصور الحياة في مشهد موت يا كارل.»
قال كارلوس: «لقد نفد صبري معك يا دوبري، أو بالأحرى كان سينفد لو لم أعلم أنك أكثر عمقا مما تبدي لنا. يبدو أنك لا تدرك مدى جديتي حيال هذا الأمر.»
قال دوبري: «بل أتفهم جديتك يا بني، وهي ما ستجعل منك ممثلا عظيما جدا. كنت طموحا مثلك يوما ما، لكن مع تقدمنا في السن ...» ورفع كتفيه ثم واصل: «نبدأ في الاهتمام بإيرادات شباك التذاكر. أعتقد أنك تنسى أحيانا أني أكبرك بسنوات كثيرة.»
قال كارلوس: «أنت تعني أني أبله، وأني سأكتسب الحكمة مع تقدمي في العمر. أعترف أنك ممثل أكثر براعة مني، قلت ذلك منذ لحظات، لكن ...»
قال دوبري: ««أنت تسيء فهمي يا بروتوس، لقد قلت إني أكبر منك سنا، لا أكثر براعة.» لكني سأجاريك فيما تقترح. هل سبق لك رؤية رجل يطعن أو يطلق عليه الرصاص في القلب؟»
قال كارلوس: «كلا مطلقا، لكني متأكد من أنه لا يفك رابطة عنقه بعد الإصابة.»
مال دوبري برأسه إلى الخلف وضحك.
وسأل: «من الذي يمزح الآن؟» ثم أضاف: «أنا لا أفك رابطة العنق، بل أفتح ياقة القميص فحسب، وهو ما قد يقدم عليه رجل يحتضر بكل تأكيد. لا أفهم كيف يمكنك أن ترى خطأ في تصويري للمأساة وتكون محقا في رأيك دون أن ترى رجلا يلقى حتفه متأثرا بطعنة كهذه كما أراه أنا كل ليلة. أتخيل أن الحقيقة تتوسط طرفي النقيض. أغلب الظن أن من يشرف على الموت لا يحدث جلبة كالتي أصورها، ولا يسقط صريعا بالسرعة التي تقترحها دون أن يعطي جمهور البلكون ما اشتروا التذاكر ليشاهدوه. ها قد وصلنا إلى المسرح يا كارلوس، لنؤجل هذا الجدل المحتدم حتى المرة القادمة التي نتمشى فيها معا.»
كان الجنود مرابطين أمام المسرح يقومون بواجبهم ويسيرون ذهابا وإيابا حاملين على أكتافهم البنادق الطويلة لإظهار هيبة الدولة وأن بمقدورها السيطرة على المسرح وشن الحرب. وكان بالجوار الكثير من المتسكعين الذين لو رآهم من لا يعلم بحقيقة الأوضاع لرجح أن تعج قاعة المسرح بجماهير غفيرة فور بدء المسرحية. التقى الممثلان بمدير المسرح بين الجمع المحتشد بالقرب من الباب.
سأل دوبري: «ما عدد الجمهور المتوقع الليلة؟»
رد المدير: «عدد قليل جدا.» ثم أردف: «لم يبع إلا نحو ست تذاكر.»
قال دوبري: «الأمر لا يستحق عناء عرض المسرحية إذن، أليس كذلك؟»
قال المدير: «بلى، يجب أن نبدأ عرضها»، ثم خفض صوته وواصل: «أمرني الرئيس بعدم غلق المسرح.»
قال لوموان بنفاد صبر: «أوه، سحقا للرئيس!» ثم أضاف: «لم لا يوقف الحرب وحينها سيظل المسرح مفتوحا طواعية.»
قال دوبري وهو يبتسم لزميله المنفعل: «إنه لا يدخر جهدا في محاولة إيقافها، لكن جيشه لا ينفذ أوامره بصرامة كما يفعل مديرنا.»
قال الممثل الأصغر: «بالميسيدا رجل أحمق.» ثم أضاف: «لو خرج من الصورة، لما استمرت الحرب يوما آخر. أرى أنه يلعب لعبة خاسرة على أي حال. من المؤسف أنه لا يظهر كثيرا في العلن، حينها كان من الممكن أن تصيبه رصاصة طائشة تنهي الحرب، فتحقن دماء رجال كثيرين أفضل منه.»
احتج المدير بلطف قائلا: «ليتك تمتنع عن هذا الكلام يا لوموان، خاصة عندما يكون حولك الكثير من المستمعين.»
رد لوموان: «أوه! بل أحب أن يزيد جمهوري.» ثم أردف: «لدي ما يمكن تسميته بغرور الممثل في هذا الصدد. إنني أقول ما يخطر ببالي، ولا آبه لمن يسمع قولي.»
قال المدير: «رائع، لكنك تنسى أننا إلى حد ما نعد ضيوفا في هذا البلد، وينبغي ألا نتطاول على مضيفينا أو الرجل الذي يمثلهم.»
قال لوموان: «آه، وهل يمثلهم حقا؟ يبدو لي أنك تقودنا إلى طرح هذا السؤال، وهذا ما تدور رحى الحرب للإجابة عنه. فالرأي العام يقول إن بالميسيدا لا يمثل شعبه تمثيلا حقا، وإن البلد سيكون سعيدا إن تخلص منه.»
خفض المدير صوته إلى حد الهمس مؤثرا السلامة كعادته وقال: «ربما كان ذلك كله صحيحا، لكن القول الفصل في ذلك ليس لنا. فنحن فرنسيون؛ لذا أعتقد أن الأفضل ألا نفصح عن رأينا.»
قال لوموان: «أنا لست فرنسيا.» ثم أردف: «أنا تشيلي الأصل، ولي الحق في التطاول على بلدي إذا أردت.»
قال المدير وهو يتلفت في قلق: «هذا سبب أدعى إذن ... هذا سبب أدعى لأن تتوخى الحذر فيما تقول.»
قال دوبري باترا للجدال: «أظن أن الوقت قد حان لوضع مساحيق التمثيل. هيا يا لوموان، وحدثني عن الفن الذي يجمعنا ودعك من السياسة، هذا إن كانت الترهات التي تقولها عن تشيلي ورئيسها تمت إلى السياسة بصلة.»
دخل الممثلان المسرح، ودلفا إلى غرفة الملابس نفسها معا، وواصل لوموان المنفعل الحديث بلا انقطاع.
وعلى الرغم من قلة عدد الجالسين في صالة المسرح، كانت البلكون ممتلئة بالكامل كالمعتاد.
عندما جاء المشهد الأخير في الفصل الأخير، همس دوبري بكلمة للرجل الذي يتحكم في إسدال الستارة، وعندما تلقى دوبري وهو الممثل الذي يلعب دور الشرير في المسرحية الطعنة المميتة من البطلة التي أسيء معاملتها، سقط إلى الأمام واستقر على وجهه دون أن يتلوى، فاندهش المدير الذي كان يشاهد المسرحية من مقدمة المسرح وكذلك الحال بالنسبة إلى جمهور البلكون، الذي كان ينتظر مشاهدة التلوي والتألم السابق للموت.
وعلى الرغم من رغبة الجمهور في القضاء على الشرير، فلم يسعدوا لرؤيته ينتقل فجأة من هذا العالم الذي لم يضف إليه إلا الشر إلى العالم الآخر دون معاناة. وأسدلت الستارة على مشهد الذروة، ولكن لم يضج المسرح بالتصفيق، وانسل الجمهور إلى الشارع في صمت.
عاد دوبري إلى غرفة الملابس، وهناك قال: «أرأيت؟ أتمنى أن تكون راضيا الآن يا لوموان، وإذا كنت راضيا فستكون الراضي الوحيد في المسرح. لم يحدث المشهد تأثيرا يذكر كما قلت، ولا بد أنك رأيت أن مشهد الذروة نفسه أيضا لم يحدث تأثيرا.»
قال لوموان مصرا: «ومع ذلك، كان ذلك تصويرا واقعيا للأمر.»
وبينما كانا يتحدثان دخل المدير غرفة الملابس. وقال: «يا إلهي! لماذا أنهيت المشهد بهذه الطريقة الحمقاء يا دوبري؟ ماذا حل بك؟»
قال دوبري مازحا: «السكين هو ما حل بي.» ثم أضاف: «لقد دخل في قلبي مباشرة، ولوموان يصر على أنه عندما يحدث ذلك يجب أن يسقط الرجل صريعا على الفور. وقد فعلت ذلك إرضاء للوموان.»
قال المدير محتجا: «لكنك أفسدت المشهد.»
قال دوبري: «نعم، كنت أعلم أن هذا ما سيحدث، وقلت ذلك للوموان، لكنه يصر على تقديم الفن من أجل الفن. يجب أن توجه احتجاجك إلى لوموان، ومع ذلك أقول لكما إني لا أنوي أن أموت بهذه الطريقة مرة أخرى.»
قال المدير: «أتمنى ذلك.» ثم أردف: «أنا لا أريدك أن تقتل المسرحية وتقتل نفسك يا دوبري.»
رد لوموان بصرامة بعد أن عاد وجهه إلى لونه الطبيعي: «هذا يظهر أن تقاليد المسرح تحيطنا جميعنا وتقيدنا. جمهور البلكون يريد رؤية الرجل يتخبط في كل مكان قبل أن يخر صريعا، عندئذ يجب على الضحية بعثرة الأثاث والظهور بمظهر الأحمق، في حين أن الأحرى به أن ينهار في هدوء بفعل ضربة مستحقة. اسأل أي طبيب وسيخبرك أنه إذا طعن رجل أو تلقى رصاصة في القلب مباشرة فسينهار على الفور. لا تخبط يحدث في هذه الحالة. فهو لا يلعب بالكراسي والأرائك، بل يسقط على الأرض من فوره وينتهي أمره.»
صاح دوبري وهو يرتدي معطفه: «هيا نذهب يا لوموان، ودعك من هذه الترهات. فالفن الحقيقي هو المزج الحكيم بين أفكار الجمهور العادي المسبقة ووقائع الحالة. فالصورة الملتقطة لحصان يهرول هي بلا شك صحيحة فنيا وبنحو مطلق، لكنها لا تصور الحصان وهو يتحرك تصويرا دقيقا.»
قال لوموان بسرعة: «أنت تقر إذن أني محق من الناحية الفنية فيما قلت حيال نتيجة مثل هذا الجرح.»
قال دوبري: «أنا لا أقر بشيء.» ثم أضاف: «أنا لا أعتبرك محقا في أي شيء تقوله عن الأمر. أعتقد أن الحقيقة هي أنه لا يموت رجلان بالطريقة نفسها إذا تعرضا للظروف نفسها.»
قال لوموان: «بل يموتان بنفس الطريقة إذا طعنا في القلب.»
قال دوبري: «ما هذه الترهات السخيفة التي تتفوه بها؟! لا يتصرف أي رجلين بالطريقة نفسها إذا لمس الحب القلب، فلماذا يتصرفان بالطريقة نفسها إذا لمسه الموت؟ لنذهب إلى الفندق، ولنوقف هذه المناقشة الحمقاء.»
تنهد لوموان وقال: «آه! أنت تهدر فرصك. أنت مهمل جدا يا دوبري، ولا تدرس بما يكفي. هذا الأمر قد يكون مقبولا جدا في تشيلي، لكنه سيقضي على فرصك لو ذهبت إلى باريس. لو درست بتعمق أكبر يا دوبري لأصبحت باريس طوع أمرك.»
قال دوبري في هدوء: «شكرا لك، لكن إذا لم تصبح هذه المدينة طوع أمر المتمردين في أسرع وقت، فقد لا نرى باريس مرة أخرى. لا أخفيك سرا، لا يؤثر في قلبي شيء سوى سكين البطلة. لقد سئمت الوضع هنا.»
بينما كان دوبري يتحدث وجدا فرقة صغيرة من الجنود قادمين بخطى حثيثة نحو المسرح. وبدا أن قائدهم قد تعرف عليهما، وقال كلمة لرجاله على أثرها أحاطوا بالممثلين. ولمس الرقيب كتف لوموان وقال: «أنا مكلف بالقبض عليك سيدي.»
سأل لوموان: «يا للهول! لماذا؟»
لم يجب الرجل لكن وقف جندي على كل جانب من جانبي لوموان.
سأل دوبري: «هل أنا أيضا قيد الاعتقال؟»
جاءه الرد: «لا.»
سأل دوبري: «بأي سلطة تلقون القبض على صديقي؟»
أجاب الرقيب: «بأمر الرئيس.»
سأل دوبري: «لكن أين سلطتك أنت؟ أين أوراقك؟ وما سبب الاعتقال؟»
هز الرقيب رافضا وقال: «لدينا أمر من الرئيس، وهذا يكفي بالنسبة إلينا. تراجع، رجاء!»
في اللحظة التالية وجد دوبري نفسه بمفرده، واختفت الفرقة والشخص معتقل في شارع خلفي. وقف مكانه لحظة مذهولا ، ثم التفت وركض بأقصى سرعة عائدا إلى المسرح يأمل أن يجد عربة أجرة في طريقه. ولما وصل إلى المسرح وجد الأنوار مطفأة، والمدير يهم بالانصراف.
صاح دوبري: «لقد ألقي القبض على لوموان، وقد اعتقلته فرقة من الجنود قابلناهم، وقالوا إنهم يفعلون ذلك بأمر الرئيس.»
بدا على المدير ذهول بالغ من هذه المعلومات وحدق في دوبري منعدم الحيلة.
وأخيرا قال: «بأي تهمة؟»
أجاب دوبري: «هذا ما لا أعرفه.» ثم أضاف: «فقط قالوا إنهم ينفذون أوامر الرئيس.»
قال المدير وهو يتلفت حوله ويتحدث في خوف: «هذا مؤسف، مؤسف جدا.» ثم أضاف: «كان لوموان يطلق لسانه في تهور. لم أتمكن قط من إقناعه بأنه ليس في تشيلي، وأنه يجب ألا يتحرر في الحديث إلى هذا الحد. لكنه كان يصر على القول إننا في القرن التاسع عشر، وإن الرجل يمكنه قول ما شاء، كما لو كان القرن التاسع عشر له أي اعتبار في جمهورية في أمريكا الجنوبية.»
قال دوبري وقد بدأ الشحوب يبدو على وجنتيه: «أنت لا تعتقد أن يكون الخطب جللا. أسوأ ما قد يحدث أن يسجن يوما أو يومين، أليس كذلك؟»
هز المدير رأسه وقال: «ينبغي أن نستأجر عربة ونقابل الرئيس في أقرب وقت ممكن. سأتعهد بإعادة لوموان إلى باريس، أو أن أجعله يستقل إحدى السفن الحربية المدرعة الفرنسية. لكن لا يمكن إهدار أي وقت. يمكننا العثور على عربة في الميدان على الأغلب.»
وجدا عربة وانطلقا بها بأقصى سرعة إلى مقر سكن الرئيس. في البداية منعوا من الدخول، وبعد ذلك سمح لهم بالانتظار في غرفة صغيرة ريثما تحمل رسالتهم إلى بالميسيدا. مرت ساعة ولم ترد إليهم دعوة من الرئيس. جلس المدير صامتا في أحد الأركان، في حين ذرع دوبري الغرفة الصغيرة يذهب به القلق على صديقه أشتاتا. وأخيرا دخل ضابط، وحمل إليهما تحية الرئيس وأعرب عن أسفه لتعذر لقائه بهما تلك الليلة. وأضاف الضابط لمعلوماتهما أن لوموان سيعدم رميا بالرصاص عند مطلع الفجر بأمر الرئيس. وقال إنه خضع لمحاكمة عسكرية وحكم عليه بالإعدام بتهمة إثارة الفتنة. وأردف أن الرئيس يأسف لتركهما في الانتظار لهذه المدة، لكن المحاكمة العسكرية كانت منعقدة حينما وصلا، ورأى الرئيس أنهما قد يريدان معرفة الحكم الصادر. وبعد ذلك اصطحب الضابط الرجلين المذهولين إلى الباب، ثم ركبا عربتهما بلا كلمة. وما إن ابتعدا مسافة لا تسمح بأن يسمعا قال مدير المسرح للحوذي: «انطلق بأقصى سرعة إلى مقر سكن المفوض الفرنسي.»
كان كل من في المفوضية الفرنسية قد انصرف عندما وصل إليها الرجلان المذعوران، ولكن السكرتير وافق على رؤيتهم بعد مدة من الوقت، ولما علم بخطورة الحالة، تعهد بإيقاظ المفوض ومحاولة إيجاد حل.
دخل المفوض الحجرة بعد ذلك بوقت قصير، وأنصت لما لديهما باهتمام.
ولما فرغا من رواية ما حدث، سألهما: «هل العربة على الباب في انتظاركما؟»
أجاباه: «نعم.»
فقال: «سآخذها إذن وألتقي الرئيس على الفور. ربما يمكنكما الانتظار هنا إلى حين عودتي.»
مرت ساعة بطيئة أخرى، ومر من الساعة التالية بعض الوقت قبل أن يسمعا قرقعة عجلات العربة آتية من الشارع الهادئ. دخل المفوض ورأى الرجلان القلقان على وجهه أمارات الإخفاق في مهمته.
قال المفوض: «يؤسفني القول إني حتى لم أستطع تأجيل الإعدام. لم أكن أعرف عندما أخذت هذه المهمة على عاتقي أن السيد لوموان مواطن تشيلي. هذا يخرج الأمر كله من يدي. أنا لا سلطة لي في ذلك. لم يسعني سوى أن أنصح الرئيس بعدم تنفيذ ما انتواه، لكنه الليلة في مزاج عكر بشدة بحيث لا ينفع معه النقاش المتعقل، وأخشى أنه لا يمكن إنقاذ صديقكما بأي طريقة. لو كان مواطنا فرنسيا لما سمح بالطبع بتنفيذ هذا الإعدام، لكن الأمر ليس من شأننا في الوضع الراهن. يبدو أن السيد لوموان كان يتحدث ببعض التهور. وهو نفسه لا ينكر ذلك، ولا ينكر جنسيته كذلك. لو كان قد سعى لاسترضاء المحكمة العسكرية لما كانت النتيجة كارثية إلى هذا الحد، لكن يبدو أنه أهان الرئيس وجها لوجه، وتنبأ بأن يلتقي به في الجحيم في غضون أسبوعين. أقصى ما أمكنني فعله هو أن أجعل الرئيس يوقع لكما إذنا بزيارة صديقكما لعلكما تتمكنان من الاستفادة به قبل تنفيذ الإعدام. أخشى أنه لا يمكنكما إهدار أي وقت. ها هو ذا الإذن.»
أخذ دوبري الإذن، وشكر سعادة المفوض على جهوده. أدرك أن لوموان حكم على نفسه بالهلاك بتهوره وانعدام لباقته.
خرج الرجلان الكدران من المفوضية وانطلقا في الشوارع المهجورة نحو السجن. وأخذا عبر عدة غرف ذات أرضيات حجرية حتى وصلا إلى ساحة حجرية أيضا، وانتظرا فيها بعض الوقت حتى أتي بالسجين بين جنديين. كان لوموان قد خلع عنه معطفه، وجاءهما يرتدي قميصه. لم يكن مكبلا أو مقيدا بأي نحو؛ فقد كان السجناء كثيرين والأصفاد لا تكفي لتقييد كل واحد منهم.
صاح لوموان عندما رآهما: «كنت أعلم أنكما ستأتيان لو سمح لكما المجرم العجوز الجالس في سدة الرئاسة بذلك، وكنت أشك في أن يسمح لكما بذلك. كيف تمكنتما من ذلك؟»
قال دوبري: «المفوض الفرنسي استصدر لنا إذنا.»
قال لوموان: «أوه، لقد ذهبتما إليه، أليس كذلك؟ بالطبع لم يسعه فعل شيء، فأنا، كما قلت لكما، أحمل جنسية هذا البلد للأسف. يا للمفارقة، هذه الحياة قوامها مجموعة من التفاهات! أتذكر أني كنت ذات مرة في باريس في طريقي مع صديق لي لأداء قسم الولاء للجمهورية الفرنسية.»
صاح دوبري بحماس: «وهل أديته؟»
قال لوموان: «كلا، مع الأسف! فقد التقينا بصديقين آخرين، وذهبنا جميعا إلى مقهى لاحتساء مشروب. لم أكن أعلم بالطبع أن زجاجة الشمبانيا تلك ستكلفني حياتي. لو كنت قد أديت قسم الولاء، يا صديقي، لقصف المفوض الفرنسي المدينة قبل السماح بتنفيذ الإعدام.»
قال المدير وعيناه تترقرقان بالدموع: «أنت تعلم مصيرك إذن.»
قال لوموان: «أوه، أعلم أن بالميسيدا يعتقد أنه سيعدمني رميا بالرصاص، لكنه أحمق كما كان دائما، ولا يعرف أبعاد ما يقول. طلبت منه أن يسمح بأن تشهدا الإعدام، وأن يستعيض عن فرقة الإعدام التي ستمطرني بالرصاص بقناص بارع واحد، لو كان في جيشه كله قناص بارع، وأن يطلق القناص رصاصة على قلبي، حينها كنت سأريك يا دوبري كيف يموت الرجل في هذه الحالة، لكن المجرم رفض. الغاصب لا تعرف روحه الفن أو أي شيء آخر. أتمنى ألا يحزنكما موتي. فهو لا يحزنني أنا نفسي، أؤكد لكما ذلك. أفضل الرمي بالرصاص على مواصلة العيش في هذا البلد اللعين. لكني قررت محاولة خداع بالميسيدا العجوز إذا تمكنت من ذلك، وأريد منك يا دوبري أن تنتبه جيدا، وألا تتدخل.»
وبينما كان لوموان يقول ذلك، خطف بسرعة الحربة التي كانت تتدلى من جانب الجندي. كان جندي يقف عن يمينه وآخر عن يساره، وكان كل منهما يشبك أصابع يديه على فوهة بندقيته التي استقر أخمصها على الأرض الحجرية. لم ينتبها للحوار الذي كان يدور على ما يبدو - هذا إن كانا يفهمانه - وهو ما لم يكن مرجحا. كانت الحربة في يدي لوموان قبل أن يعرف أي من الرجال الأربعة الحاضرين ما كان يفعله.
أمسك أسفل الحربة بيديه ووجه طرفها إلى صدره، وأغمد النصل بقوة ويأس في جسمه حتى اخترقه. حدث كل ذلك بسرعة كبيرة حتى إن أحدا لم يعرف ما حدث إلى أن رفع لوموان يديه ورأوا الحربة مغروزة في صدره. وبدت في عينيه نظرة ألم وابيضت شفتاه. مال على الجندي الواقف عن يمينه فابتعد الجندي، ثم ترنح على الحائط الحجري المكسو بالكلس، وأخذت ذراعه اليمنى تتحرك على الحائط صعودا وهبوطا كما لو كان يمسح شيئا على الحجر. وخرجت منه أنة ألم، ثم نزل على إحدى ركبتيه. والتفتت عيناه نحو دوبري في ضعف، وشهق قائلا: «يا إلهي! لقد كنت محقا في النهاية.»
ثم سقط إلى الأمام واستقر على وجهه منهيا المأساة.
شرفتان في فلورنسا
جلس الأمير باديما وحيدا في شرفته الفخمة في فلورنسا يصب لعناته على كل شيء. إذ كان القدر قد قسا بالفعل بقوة عليه.
لقد ضللت الأمير العقلانية الظاهرة في القول المأثور الذي يرى أنك إذا أردت لشيء أن يتم بإتقان، فعليك أن تفعله بنفسك. فمن المستحسن دائما في القتل أن يكلف المرء غيره بهذه المهمة، لكن جبن من كان الأمير يكلفهم أو عدم كفاءتهم كان سببا في إفساد خططه عدة مرات؛ لذا قرر ذات مرة مشئومة أن يتخلص من رجل غير مرغوب فيه بيديه، وحينها عرف مدى سهولة حدوث الأخطاء.
كان قد التقى بالرجل وجها لوجه تحت مصباح في أحد أركان فينيسيا. وتعرف كل منهما على الآخر، وخاف الرجل من عدوه النبيل فلاذ بالفرار. طارده الأمير، وحاول الرجل خداعه على ما بدا؛ إذ لف وجهه بردائه وحاول أن يتسلل من جانبه بحذاء جدار مظلم. وعندما أغمد الأمير خنجره ببراعة في مكان حساس من بدنه، تفاجأ بعدم إظهار الرجل مقاومة تذكر أو إطلاقه صيحة مسموعة، بل لم يحاول تفادي الطعنة حتى، لكنه خر صريعا يئن عند قدمي الأمير فحسب.
انتاب الأمير القلق، فأمر خادمه بجر الجثة إلى حيث ألقى مصباح نذري معلق على الجدار أشعته الصفراء الخافتة على الرصيف. عندئذ بهت سموه حين أدرك أنه اغتال سليلا لإحدى أكثر عائلات فينيسيا نبلا، وهي فعلة تختلف تماما عن قتل رجل من أسافل القوم الذين لا يبالي القانون بهم كثيرا.
اضطر الأمير إلى الهرب من فينيسيا، واتخذ له مسكنا في شارع ضيق بأحد مجاهل فلورنسا.
يندر أن يحيك القدر لرجل خدعة بهذه القسوة؛ لذا كان الأمير محقا تماما في صب اللعنات، فقد عرقلت تلك الواقعة البائسة قصة حب كبير كانت حينها تقترب بسرعة من ذروتها المرتقبة.
كان الأمير قد أمضى في فلورنسا عدة أسابيع، وكانت تلك الأسابيع ثقيلة الوطء عليه. فقال لنفسه بمرارة: «نساء فلورنسا لا يمكن مقارنتهن بنساء فينيسيا.» ولكن حتى إذا كانت المقارنة ممكنة، فضرورة التواري، ولو بعض الوقت على الأقل، كانت ستمنع الأمير من استغلال استراحته الإجبارية في المدينة الجميلة.
وفي ذلك المساء بالتحديد، قطعت أغنية تأملات الأمير المحملة بمشاعر الأسى. بدا أن الأغنية كانت قادمة من المبنى نفسه الذي كان فيه مسكنه، ومن نافذة مفتوحة تدنوه بمسافة. جذب انتباهه أن الأغنية كانت فينيسية، والصوت الذي صدح بها كان صوتا فينيسيا رقيقا ورخيما.
يوجد منفيون غيره إذن. أطل بنظره من حافة الشرفة الشبيهة بعش نسر يعلو الشارع الحجري الضيق، وحاول أن يعثر على النافذة المفتوحة التي كانت الأغنية قادمة منها، أو حتى أن يرى المغنية، إذا حالفه الحظ.
مر بعض الوقت ولم ينجح في مسعاه، لكن صبره آتى أكله في النهاية. ففي شرفة على اليمين أدنى من شرفته بمسافة، ظهرت أجمل فتاة رآها في حياته. كان في وجهها الأسمر البيضاوي طابع فينيسي مميز حتى إنه أقنع نفسه بأنه رآها في مسقط رأسه من قبل.
وقفت واضعة يديها أعلى سور شرفتها، وانسال شعرها الأسود الفاحم غزيرا على كتفيها الجميلتين. لمس ضوء المساء الذهبي وجهها في عظمة، بينما كانت تنظر إليه، أو ما بدا منه في نهاية الشارع الضيق.
خفق قلب الأمير بشدة وهو يحدق في الوجه الذي لم ينتبه لوجود من يتأمله. وفجأة خطر له أن منفاه في فلورنسا قد يكون فيه ما يعوضه في نهاية المطاف.
همس بصوت خفيض من نافذته المفتوحة مناديا الخادم الذي كان يتحرك بهدوء في الغرفة: «بيترو، تعال إلى هنا للحظة، بهدوء.»
جاء الخادم بهدوء إلى حافة النافذة.
همس الأمير: «أترى هذه الفتاة الواقفة في الشرفة السفلية؟»
أومأ بيترو بالموافقة.
واصل الأمير: «اعرف لي من هي ولماذا هي هنا، وما إذا كان لها أي أصدقاء. افعل ذلك بهدوء، دون أن تثير الريبة.»
أومأ الخادم المخلص بالموافقة مجددا، واختفى في ظلام الغرفة.
وفي اليوم التالي جلب بيترو لسيده المتلهف المعلومات التي تمكن من جمعها. فقد تمكن من تكوين صداقة مع خادمة الفتاة.
لسبب ما لم تعرفه الخادمة أو لم ترد الإفصاح عنه، كانت الفتاة منفية لمدة من الوقت من فينيسيا. كانت تنتسب إلى عائلة عريقة هناك رفضت الخادمة الإفصاح عن اسمها أيضا. قالت إنها لا تجرؤ على الإفصاح. إنهما كانتا في فلورنسا منذ عدة أسابيع، لكنهما استأجرتا السكن السفلي منذ يومين فقط. لم تستقبل الفتاة أحدا في مسكنها على الإطلاق، وحذرت الخادمة من كشف أي معلومات عنها لأي شخص كائنا من كان، لكنها على ما يبدو استسلمت إلى حد ما لمحاولات بيترو الدمث للتقرب منها.
لقد استأجرتا هذا المسكن بسبب موقعه الهادئ والمنعزل.
كان الأمير في ذلك المساء في شرفته مجددا، لكن أفكاره لم تكن مريرة مثلما كانت في اليوم السابق. كانت بجواره باقة من ورود جميلة. أصاخ السمع لعله يسمع الأغنية الفينيسية، ولما لم يسمعها أصابه الإحباط، وحداه الأمل في ألا يكون بيترو قد تخلى عن الحرص فأثار ريبة الخادمة، فنقلت ريبتها إلى سيدتها. سمع النوافذ السفلية تفتح فحبس أنفاسه في ترقب. خرجت الخادمة إلى الشرفة ووضعت كرسيا مريحا في أحد أركانها. ووضعت على الكرسي الوسائد والمفارش ببراعة، ثم ظهرت الفتاة وجلست في رشاقة جلية.
أصبح بمقدور الأمير الآن رؤية وجهها الجميل بالكامل وهي تسند كوعها إلى سور الشرفة ووجنتها إلى يدها.
قالت الفتاة: «يمكنك الانصراف الآن يا بيبيتا.»
وضعت الخادمة وشاحا من الدانتيل على كتفي سيدتها، وانصرفت.
مال الأمير من الشرفة وقال هامسا: «سيدتي.»
أجالت الفتاة المجفلة نظرها في الشارع لأعلى ولأسفل، ثم نظرت إلى الشرفة التي برزت أمام السماء البراقة وبدت زخارفها المعدنية كنقش دقيق على الخلفية المضيئة.
خجلت الفتاة وغضت الطرف ولم ترد.
كرر الأمير: «سيدتي، أنا أيضا منفي. أستميحك عذرا. هذه لذكرى مدينتنا الجميلة.» وألقى باقة الورود بخفة فسقطت عند قدميها على أرضية الشرفة.
لعدة لحظات لم تتحرك الفتاة ولم ترفع عينيها، ثم ألقت نظرة سريعة من النافذة المفتوحة إلى غرفتها. وبعد بعض التردد مالت في رشاقة والتقطت باقة الورود.
همست متنهدة، دون أن ترفع نظرها: «آه، فينيسيا الجميلة!»
سعد الأمير بنجاح خطوته الأولى، التي هي الخطوة الأصعب دائما.
ظلا يطيلان الجلوس أكثر وأكثر أمسية تلو الأخرى. وتطور التعارف حتى وصل إلى النتيجة المحتومة؛ النتيجة التي رمى إليها الأمير من البداية.
وذات مساء، كانت واقفة في الظلام تسند وجنتها إلى جدار في ركن شرفتها القريب منه، ونظر هو نحوها إلى الأسفل.
قالت برعدة في صوتها عرف الأمير بخبرته الطويلة أنه علامة الاستسلام: «هذا مستحيل! مستحيل!»
همس نحوها قائلا: «بل يجب أن يحدث .» ثم أضاف: «كان يجب أن يحدث هذا منذ البداية. كان يجب أن يتم.»
كانت الفتاة تنتحب في صمت.
وفي النهاية قالت: «هذا مستحيل.» ثم أردفت: «خادمتي تنام خارج باب غرفتي. حتى إذا لم تعرف هي، فسيعرف خادمك، وستسري الأقاويل وتثار الفضيحة. هذا مستحيل.»
صاح الأمير في حماس: «لا شيء مستحيل مع الحب الحقيقي. سأغلق بابي، ولن يعلم بيترو شيئا عن الأمر. إنه لا يأتي أبدا إلا إذا ناديته. سأجلب حبلا وأرميه إلى شرفتك. أغلقي بابك كما أغلق أنا بابي. لا يرى شيء في الظلام.»
قالت هامسة: «لا، لا.» ثم أردفت: «لن يجدي ذلك. لن تتمكن من التسلق للعودة، وسيفسد كل شيء.»
صاح الشاب متحمسا: «أوه، هذا هراء!» ثم أضاف: «ليس التسلق للعودة صعبا.» وأوشك أن يضيف أنه فعلها من قبل عدة مرات، لكنه منع نفسه في الوقت المناسب.
ظلت صامتة للحظة. ثم قالت: «لا يمكنني أن أخاطر بعدم تمكنك من العودة. لا بد أن يكون ذلك أكيدا. إذا أحضرت حبلا - حبلا قويا - وربطت في أحد طرفيه عقدة تمسك بقدمك، ومررت طرفه الآخر من حول أقوى عارضة في سور شرفتك ثم ألقيت به إلي، فسأمسك الطرف الذي لدي وأنزلك لمستوى شرفتي. عندئذ ستتمكن بسهولة من النزول لتصل إلي. وإذا لم تستطع التسلق عليه للعودة إلى شرفتك، يمكنني مساعدتك بسحب الحبل، وعندئذ ستصعد كما نزلت.»
ضحك الأمير بصوت خافت.
وقال: «هل تعتقدين أن يديك الضعيفتين أقوى من يدي؟»
ردت: «أربع أياد أقوى من اثنتين. كما أني لست ضعيفة للدرجة التي قد تظنها.»
رد محجما عن الجدال حول التفاهات: «حسنا.» ثم أردف: «متى التنفيذ ... الليلة؟»
قالت: «كلا، ليلة الغد. يجب أن تحضر حبلك غدا.»
ضحك الأمير بصوت خافت من جديد.
وقال: «الحبل في غرفتي الآن.»
قالت في هدوء: «لقد كنت شديد الثقة في تحقق هذا الاتفاق.»
قال: «لا، هذه ليست ثقة. بل كان لدي أمل كبير. هل بابك مغلق؟»
همست في توتر: «نعم.» ثم أضافت: «لكن الوقت لا يزال مبكرا. انتظر ساعة أو ساعتين.»
صاح الأمير: «آه! لا يمكن أن يصبح الظلام حالكا أكثر مما هو الآن، وتذكري يا عزيزتي طول انتظاري!»
لم يأته رد.
همس الأمير: «ادخلي وقفي وراء النافذة.» وبينما نفذت ما قال، سقطت لفة حبل في الشرفة.
سألها: «هل أمسكت بها؟»
قالت بصوت لا يكاد يسمع: «نعم.»
قال: «لا تثقي في قوتك وحدها. لفي الحبل حول عارضة في سور الشرفة.»
همست: «لقد فعلت ذلك.»
منعه الظلام من رؤيتها، لكنها رأت خياله أمام سماء الليل.
اختبر العقدة، ووضع قدمه فيها وشد الحبل بيديه. ثم لفه حول قائم في ركن الشرفة.
سألت: «هل أنت متأكد من أن الحبل قوي بالدرجة الكافية؟» ثم أضافت: «من الذي اشتراه؟»
أجابها: «اشتراه لي بيترو. إنه قوي لما يكفي لحمل عشرة رجال.»
كانت قدمه في العقدة، وألقى نفسه من شرفته، ممسكا الحبل بكلتا يديه.
قال لها: «أخفضيه برفق بالغ.» ثم أضاف: «سأخبرك عندما تخفضينه إلى المستوى المناسب.»
أمسكت الفتاة بالحبل بقوة، وخفضته بوصة تلو الأخرى.
وأخيرا قال الأمير: «هذا يكفي»، وثبتته حيث كان، وهي تميل نحو الرجل في الشرفة.
ونادته: «سمو الأمير باديما.»
فصاح مستغربا: «ماذا؟» ثم أردف: «كيف عرفت اسمي؟»
ردت: «أنا أعرفه منذ وقت طويل. فهو الاسم الذي جلب لعائلتي الحزن.»
وواصلت: «يا سمو الأمير، ألم تر في وجهي قط شيئا أنعش ذاكرتك؟ أم إن ذاكرتك ضعيفة لدرجة أن الحزن الذي تجلبه للآخرين لا يعلق بها البتة؟»
صاح الأمير في قلق: «يا إلهي!» وأمسك بالحبل كمن يحاول التسلق عائدا. وواصل: «ماذا تعنين؟»
أفلتت الفتاة الحبل بوصة أو بوصتين، فانخفض الأمير وقلبه مضطرب بشدة؛ إذ أدرك أنه يرتفع عن أرض الشارع الحجرية بمائة قدم.
قالت الفتاة بنبرة حادة وفظة: «يمكنني رؤيتك بوضوح.» ثم أردفت: «إذا حاولت التسلق إلى شرفتك، فسأفلت الحبل على الفور. هل يعقل أنك لم تشك في هويتي، ولماذا أنا هنا؟»
كان الأمير دائخا. فقد دار ببطء في أحد الاتجاهين بعض الوقت حتى توقف، ثم بدأ الدوران بالوتيرة البطيئة نفسها في الاتجاه الآخر، كجسد رجل مشنوق.
داهمت عقله ذكرى مريرة.
وقال لاهثا: «ميلا ماتت.» ثم أردف: «لقد غرقت. أما أنت فحية. لا تقولي لي إنك روحها.»
أجابت الفتاة: «لا يمكنني أن أقول لك ذلك.» ثم أضافت: «إن روحي أنا بدا أنها غادرت جسمي عندما انتشل جسد أختي من القناة الموجودة في نهاية حديقتك. أنت تعرف ذلك المكان جيدا، وتعرف البوابة والدرج. أعتقد أن روحها حينئذ حلت محل روحي. ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش سعيا وراء الثأر، والآن يا سمو الأمير باديما جاءت الساعة التي انتظرتها طويلا.»
دوت في الشارع الساكن صرخة استغاثة مريرة، لكنها لم تلق ردا.
قالت الفتاة في هدوء: «لا فائدة مما تفعل.» ثم أضافت: «سيعتبر موتك حادثا. فخادمك اشترى لك الحبل الذي سيجدونه معك. وأي شخص يعرفك سيكون لديه تفسير جاهز لما حدث. لن يشك أحد في، وأريدك أن تعلم أن أحدا لن يثأر لموتك، على الرغم من أنك أمير.»
صاح: «أنت شيطانة.»
شاهدته في سكون وهو يتسلق الحبل خلسة. لم يبد أنه يدرك بما فيه الكفاية مدى وضوح جسمه تحت السماء التي لا تزال مضيئة. وعندما كان على بعد قدم من شرفته، أرخت الحبل، فنزل إلى حيث كان من قبل، وظل معلقا مكانه مجهدا من محاولته الخائبة للنجاة.
قال لها: «سأتزوجك لو سمحت لي بالوصول إلى شرفتي مرة أخرى. أقسم لك بشرفي إني سأفعل ذلك. سأجعلك أميرة.»
ضحكت بصوت خافت.
وقالت: «نحن - نساء فينيسيا - لا نسامح ولا ننسى أبدا. وداعا يا سمو الأمير باديما!»
ثم تراجعت إلى كرسيها وهي تفلت الحبل، ووضعت يديها على أذنيها كي لا تسمع صوتا من أرض الشارع الحجرية. وعندما عادت إلى غرفتها وهي تتهادى، كان السكون عميما.
فضح أمر اللورد ستانسفورد
كان القصر الكبير للويس هيكل، المليونير الذي يتاجر في مناجم الذهب، تغمره الأضواء من أعلاه إلى أسفله. ظلت العربات تفد إليه وتغادره، وكان الضيوف يسرعون على الدرج المفروش بالسجاد بعد مرورهم أسفل المظلة التي امتدت من المدخل إلى حافة الشارع. واحتشد جمع على الرصيف ليشهدوا وصول السيدات الرافلات في ملابس أنيقة. جاء اللورد ستانسفورد بمفرده في عربة هنسومية، ومشى مسرعا على قطعة السجاد الممتدة إلى الطريق، ثم هدأ وتيرة مشيه وهو يصعد الدرج العريض. كان شابا رياضيا في السادسة والعشرين من عمره أو نحو ذلك. وما إن دخل غرفة الاستقبال الفسيحة حتى أجال نظره في الجمع الرفيع المستوى، وبدا أنه يبحث عن شخص ما ولا يجده. دخل غرفة ثانية، ثم ثالثة التقت فيها عيناه المحدقتان الباحثتان بعيني بيلي هيكل اللتين ردتا تحديقه بمثله. كان هيكل شابا في نفس سن اللورد ستانسفورد تقريبا، وبدا أنه هو الآخر يبحث عن شخص ما بين الضيوف الوافدين. وما إن وقعت عيناه على اللورد ستانسفورد حتى علا جبينه تقطيب طفيف، وتحرك بين الجمع قاصدا إياه. رآه ستانسفورد مقبلا عليه، فلم يبد عليه الحبور الذي قد يكون متوقعا، ومع ذلك لم يسع لتجنب الشاب الذي بدأه بالكلام بلا تحية.
قال هيكل في فظاظة: «اسمع، أريد التحدث معك.»
رد ستانسفورد بصوت خفيض: «حسنا، أنا مستعد لسماعك ما دمت ستتحدث بصوت لا يسمعه الآخرون.»
رد الآخر الذي خفض صوته مستجيبا لطلبه: «بل ستستمع إلي على أي حال.» ثم واصل: «التقيت بك في مناسبات عديدة مؤخرا، وأود أن أحذرك. فأنت تبدو مهتما بشدة بالآنسة ليندرهام، ويبدو أنك لا تعلم أنها مخطوبة لي.»
قال اللورد ستانسفورد: «سمعت بذلك، لكني أجد بعض الصعوبة في تصديقه.»
صاح الشاب القوي: «اسمع، لن أتقبل وقاحتك، وإذا تماديت في الاهتمام بهذه الفتاة فسأفضحك على رءوس الأشهاد، ومن أنذر فقد أعذر. أنا أعني ما أقول، ولن أتحمل أيا من ترهاتك.»
شحب وجه اللورد ستانسفورد ونظر حوله ليرى ما إذا كان أي شخص قد سمع ما قيل له. وبدا موشكا على إبداء الامتعاض، لكنه استعاد السيطرة على زمام نفسه وقال: «نحن في منزل والدك يا سيد هيكل؛ لذا أمكنك أن تقول شيئا كهذا لي!»
رد هيكل: «أعلم أن باستطاعتي قول ذلك، وفي أي مكان.» ثم أردف: «لقد أسديت لك نصيحة مباشرة ، وأريد الآن أن أراك تنفذها.»
مشى هيكل، ووقف اللورد ستانسفورد مكانه للحظة، ثم عاد إلى الغرفة الوسطى. كانت المحادثة قد جرت بالقرب بعض الشيء من نافذة مغطاة بالستائر، وكان الرجلان يقفان على مسافة بعيدة بعض الشيء من باقي الضيوف. وعندما غادرا مكانهما أزيحت الستائر برفق، ومرت من بينها شابة طويلة القامة شديدة الجمال. شاهدت اللورد ستانسفورد يغادر للحظة، وهمت بالذهاب في أثره، لكن أحد معجبيها أتى إليها وطلب منها أن ترقص معه الرقصة الأولى. قال: «لقد بدأ عزف الموسيقى في غرفة الرقص.» فوضعت يدها على ذراع رفيقها وخرجت معه.
عندما انتهت الرقصة، اندهشت لرؤية اللورد ستانسفورد لم يزل في الغرفة. توقعت منه أن يغادر بعد أن تحدث إليه ابن مضيفه على هذا النحو المهين، لكنه لم ينصرف. بدا مستمتعا لدرجة كبيرة، ورقص كل الرقصات بحماس بالغ، وهو ما أزعج الكثير من الشباب الذين استندوا إلى الجدران، ومع ذلك لم يقترب من الآنسة ليندرهام ولو مرة واحدة قبل أن ينقضي معظم الأمسية، ثم مر بجوارها بالمصادفة. لمست ذراعه بمروحتها، فالتفت إليها بسرعة.
وقال لها: «كيف أنت يا آنسة ليندرهام؟»
سألته وهي تنظر إليه بعينين ملتمعتين: «لماذا تجاهلتني طوال الأمسية؟»
أجابها ببعض الحرج: «لم أتجاهلك، بل لم أعلم بوجودك هنا.»
قالت ضاحكة: «أوه، هذا أسوأ من التجاهل، لكن ها أنت قد علمت بوجودي، وأود منك أن تأخذني إلى الحديقة. فالحرارة هنا أصبحت لا تطاق.»
احمر وجه الشاب وقال: «نعم، الجو دافئ.»
لم يخف عليها تردده، لكنها أمسكت بذراعه على أي حال، ومرا بعدة غرف حتى وصلا إلى الشرفة المواجهة للحديقة. وبدت عينا اللورد ستانسفورد القلقتان تفتشان الغرف التي مرا بها، ولما التقتا بعيني بيلي هيكل من جديد سرت فيه رعدة خفيفة وهو يرافق الآنسة ليندرهام. تساءلت الآنسة عن السر الكامن وراء كل ذلك، ودفعها فضولها الأنثوي لمحاولة اكتشافه، حتى إن اضطرت إلى سؤال اللورد ستانسفورد نفسه. تهاديا في أحد الممرات حتى وصلا إلى مقعد بعيد عن المنزل. وسرت الموسيقى إليهما ضعيفة من النوافذ المفتوحة. جلست الآنسة ليندرهام وأشارت إلى اللورد ستانسفورد ليجلس بجانبها. وقالت بعد أن التفتت بوجهها الجميل إليه: «والآن أخبرني لماذا كنت تتجنبني طوال الأمسية؟»
قال: «لم أتجنبك.»
قالت: «كلا، لا يجب أن تعارض سيدة، أنت تعرف ذلك. أريد معرفة السبب، السبب الحقيقي، دون أعذار.»
وقبل أن يرد الشاب، جاء بيلي هيكل عبر الممر وواجههما وفي وجهه تورد بفعل النبيذ أو الغضب أو ربما كليهما.
وصاح: «لقد حذرتك.»
وقف اللورد ستانسفورد، ووقفت الآنسة ليندرهام أيضا وأخذت تنظر ببعض الفزع إلى الشابين.
قال اللورد بسرعة: «توقف للحظة يا هيكل، لا تنبس بكلمة، وسألتقي بك أينما تريد في وقت لاحق.»
أجاب هيكل: «لا يناسبني أي وقت لاحق.» ثم أردف: «لقد نصحتك، لكنك لم تستمع.»
قال ستانسفورد بصوت خفيض مرتعد: «أتوسل إليك أن تتذكر أن هناك سيدة معنا.»
التفتت الآنسة ليندرهام لتنصرف.
صاح هيكل: «توقفي لحظة، هل تعرفين من يكون هذا الرجل؟»
توقفت الآنسة ليندرهام لكنها لم ترد.
قال هيكل: «سأخبرك من يكون، إنه ضيف مستأجر. والدي يدفع خمسة جنيهات نظير حضوره هنا الليلة، ولقد كان مستأجرا للحضور في أي مكان التقيت به فيه. هذا هو اللورد ستانسفورد. لقد قلت لك إني سأفضحك. والآن سأخبر الآخرين.»
شحب وجه اللورد ستانسفورد حتى أصبح في بياض الورق. وصر أسنانه، وخطا خطوة سريعة إلى الأمام، ووجه إلى غريمه ضربة استقرت بين عينيه وطرحته أرضا.
صاح فيه: «يا لك من وغد!» ثم أضاف: «انهض وإلا سأركلك، ولو أنبت نفسي على ذلك فيما بعد.»
نهض الشاب هيكل وهو يطلق سبابا مكتوما.
وصاح: «سأنتصف منك، يا صاح، سأستدعي شرطيا. وستقضي ما تبقى من هذه الليلة في السجن.»
أجاب اللورد ستانسفورد: «لن يحدث ذلك»، وأمسكه من معصميه بقبضتين محكمتين. ثم قال: «اسمعني الآن يا بيلي هيكل: أنت تشعر بضغط قبضتي على معصميك، ولقد شعر وجهك بأثر ضربتي، أليس كذلك؟ والآن ادخل إلى المنزل من أي مدخل خلفي، وتوجه إلى غرفتك، واغسل الدم عن وجهك، وامكث هناك، وإلا أقسم بالرب أن أكسر معصميك وأنت واقف هنا»، ثم ضغط على المعصمين أكثر حتى جعل هيكل يفزع من شدة الألم رغم ضخامة بدنه.
قال هيكل: «أعدك بذلك.»
قال ستانسفورد: «جيد جدا، فلتف بوعدك إذن.»
انسل الشاب هيكل مبتعدا، والتفت اللورد ستانسفورد إلى الآنسة لندرهام التي وقفت تنظر وقد ألجم لسانها الرعب والمفاجأة.
صاحت وشفتها السفلى ترتجف: «يا لك من متوحش!»
رد بهدوء: «نعم.» ثم أردف: «معظمنا نحن الرجال يخفي وراء مظهره الخارجي وحشا. لم لا تجلسين يا آنسة ليندرهام؟ لا حاجة الآن إلى الإجابة عن السؤال الذي طرحته علي؛ فالواقعة التي شهدتها والكلام الذي سمعته هما الإجابة.»
لم تجلس الشابة، بل وقفت تنظر إليه، وقد هدأت نظرة عينيها قليلا.
وصاحت: «الأمر صحيح إذن؟»
قال: «أي أمر؟»
قالت: «أنك ضيف مستأجر هنا؟»
أجابها: «نعم، هذا صحيح.»
سألت: «لماذا طرحته أرضا إذن إذا كان ذلك صحيحا؟»
قال: «لأنه قال الحقيقة أمامك.»
قالت: «أتمنى يا لورد ستانسفورد ألا يكون قصدك أنني المتسببة بأي نحو في همجيتك؟»
قال: «أنت كذلك حقا، وبأكثر من نحو. هذا الشاب هددني عندما وصلت إلى هنا اليوم لمعرفته أني ضيف استأجره أبوه، ولم أرد لذلك أن ينكشف؛ لذا تجنبتك. وأنت تحدثت إلي، وطلبت مني اصطحابك إلى هنا. فجئت وأنا أعلم أن هيكل سينفذ تهديده إذا رآني. وها قد نفذه، وسعدت أنا بطرحه أرضا.»
جلست الآنسة ليندرهام في مقعدها، وأشارت إليه بمروحتها مجددا ليجلس بجانبها.
وقالت: «إذن أنت تتقاضى خمسة جنيهات في الليلة نظير الحضور إلى الأماكن المختلفة التي التقيت بك فيها؟»
قال ستانسفورد: «بل أتقاضى جنيهين فقط. أعتقد أن الثلاثة الأخرى - لو كان هناك من يدفعها - يأخذها من يطلبونني.»
قالت: «كنت أعتقد أن السيد هيكل هو من طلبك الليلة؟»
قال: «أعني أن الشركة التي ترسلني إليه هي التي تتقاضاها، شركة سبنك آند كومباني. إن رقم هاتفها هو 100803. إذا أردت يوما ضيفا مناسبا لأي فعالية تقيمينها ولم تجدي رجالا فما عليك إلا الاتصال بهم، وسيرسلونني إليك.»
قالت الآنسة ليندرهام وهي تنقر ركبتها بالمروحة : «أوه، فهمت.»
قال ستانسفورد: «إحقاقا لحق زملائي، ينبغي أن أقول إنهم جميعا رجال لبقون، لكن الكثير منهم يمكن استئجارهم نظير جنيه واحد. أما أنا فأجري أعلى لأن لي لقبا. كثيرا ما أحاول إقناع نفسي بأن تصرفي الراقي المبجل هو ما رفع أجري، لكن بعد ما قلته عن وحشيتي الليلة، أخشى أن السبب هو اللقب الذي أحمله. فنحن الأرستقراطيين أجرنا عال، كما تعرفين.»
ساد الصمت بينهما بضع لحظات، ثم رفعت الفتاة وجهها إليه وقالت: «ألا تخجل من مهنتك يا لورد ستانسفورد؟»
أجابها: «بلى، أخجل منها.»
قالت: «لماذا تمتهنها إذن؟»
أجابها: «لماذا يلجأ الرجل إلى كنس الميادين؟ الحاجة إلى المال. لا بد للمرء من المال، كما تعرفين، ليتدبر أمره في هذا العالم، وأنا، للأسف، ليس لدي أي منه. كان لدي القليل قبل ذلك، وأردت أن أجني المزيد، فقامرت وخسرت. ثم تواريت عن الأنظار عدة سنوات ولم ألتق بأي من معارفي القدامى، لكن ذلك لم يجد نفعا، ولم أجد من ألجأ إليه. هذه المهنة، إن جازت تسميتها بذلك، أعادت إلي وضعي السابق. صحيح أن العديد من المنازل التي كنت أتردد عليها لا تستأجر الضيوف. لكن الطلب علي أكبر من جانب محدثي النعمة، مثل هيكل هذا الذي لا يعرف لا هو ولا نجله الموقر كيف يكون التعامل مع أي ضيف، ولو كان ضيفا مستأجرا.»
قالت الآنسة ليندرهام: «لكني أعتقد أن رجلا مثلك كان من الممكن أن يذهب إلى جنوب أفريقيا أو أستراليا حيث هناك الكثير من الأشياء العظيمة التي يمكن فعلها. أتخيل مما استنبطته عن شخصيتك أنك تصلح كمقاتل بارع. لم لا تذهب إلى حيث يعتبر القتال محل تقدير، ولا تستدعى الشرطة إذا نشب؟»
قال لها: «فكرت في ذلك كثيرا يا آنسة ليندرهام، لكن ليحصل المرء على مقابلة، فالأمر يتطلب بعض النفوذ ويتطلب النجاح في عدد من الاختبارات، وأنا لا يمكنني النجاح في أي اختبار. لقد تعاركت مع كل من أعرفهم، وليس لدي أي نفوذ. بصراحة أنا أدخر المال الآن على أمل السفر إلى رأس الرجاء الصالح.»
قالت: «لكني أفترض أنك تفضل البقاء في لندن، أليس كذلك؟»
أجابها: «بلى، هذا إن كان لدي دخل كاف.»
قالت له: «هل أنت مستعد لقبول عرض عادل؟»
سألها: «ماذا تعنين بعرض عادل؟»
قالت: «هل سترحب بعرض في نفس مجال عملك الحالي وبأجر أكبر؟»
جلس الشاب صامتا بضع لحظات ولم ينظر إلى رفيقته. وعندما تحدث أخيرا كان في صوته بعض الاستياء.
قال: «ظننتك يا آنسة ليندرهام رأيت أني لست فخورا جدا بمهنتي الحالية.»
قالت: «نعم، لكن الرجل قد يفعل أي شيء من أجل المال، كما قلت.»
رد عليها: «اعذريني على معارضتك مرة أخرى، لكني لم أقل أي شيء من هذا النوع قط.»
قالت: «ظننتك قلت ذلك عندما كنت تتحدث عن كنس الميادين، لكن لا تقلق، أعرف سيدة لديها الكثير من المال، إنها فنانة، أو على الأقل تظن نفسها كذلك، وتود تكريس حياتها للفن. وكثيرا ما تزعجها عروض الزواج، وهي تعرف أن السبب الأساسي في انهمار هذه العروض عليها هو مالها. والآن تريد هذه السيدة الزواج من رجل، وستعطيه ألفي جنيه في العام. هل أنت مستعد لقبول عرض كهذا إذا رتبت ذلك لك؟»
أجابها: «هذا يعتمد كثيرا على هذه السيدة.»
قالت: «أوه، كلا، هذا ليس صحيحا؛ فلن تكون لك صلة بها البتة، ستكون زوجها المستأجر فحسب. إنها تريد تكريس نفسها للرسم وليس لك، ألا تفهم ذلك؟ وما دمت ستتجنب إزعاجها يمكنك الاستمتاع بالألفي جنيه كل عام. قد تضطر إلى الظهور في بعض حفلات الاستقبال التي ستقيمها، ولا شك لدي في أنها ستضيف لأجرك خمسة جنيهات عن كل أمسية تحضرها. سيكون ذلك دخلا إضافيا، كما ترى.»
ساد صمت طويل بينهما بعدما توقفت ماجي ليندرهام عن الحديث. ركل الشاب الحصى بقدمه، وركز عينيه على المسار الممتد أمامه. خاطبت الآنسة ليندرهام نفسها قائلة: «إنه يفكر في الأمر.» وفي النهاية، رفع اللورد ستانسفورد رأسه متنهدا.
وقال لها: «هل شاهدت العراك الأخير بيني وبين البائس هيكل؟»
سألته: «هل شاهدته؟» ثم أضافت: «وكيف لي ألا أراه ؟!»
قال: «آه، إذن، هل لاحظت أنه عندما سقط ساعدته على النهوض؟»
قالت: «نعم، وهددته بكسر معصميه بعدما أنهضته.»
قال ستانسفورد: «نعم. وكنت سأضطر إلى تنفيذ ذلك لولا وعده. لكن ما أردت لفت انتباهك إليه هو أنه كان واقفا عندما ضربته، وأردت أيضا أن ألفت نظرك إلى حقيقة أخرى وهي أني لم أضربه عندما كان على الأرض. هل لاحظت ذلك؟»
قالت: «بالطبع، لاحظت ذلك. لا يقدم رجل على ضرب آخر وهو ملقى على الأرض.»
قال: «أنا سعيد جدا يا آنسة ليندرهام بأنك تعرفين أن هذا قانون شرف بيننا معشر الرجال، رغم وحشيتنا. ألا تعتقدين أن المرأة ينبغي أن تكون على القدر نفسه من الكرم؟»
قالت: «بالتأكيد؛ لكني لا أفهم ما تعنيه.»
قال: «أعني يا آنسة ليندرهام أن عرضك يضربني وأنا ملقى على الأرض.»
صاحت في جزع: «أوه!» ثم أردفت: «أستميحك عذرا، لكني لم أنظر إلى الأمر على هذا النحو.»
قال ستانسفورد وهو يقوم: «أوه، هذا ليس بالأمر الجلل؛ فالجنيهان يعدان ثمنا لهذا كله، لكن يسعدني أن أفكر في أني ما زلت أحتفظ ببعض احترامي لذاتي، وأنه بإمكاني رفض عرضك، وأني لن أكون زوجا مستأجرا بألفي جنيه في العام. هل يمكنني إعادتك إلى المنزل يا آنسة ليندرهام؟ فأنا، كما تعرفين، لدي واجبات علي تأديتها تجاه الضيوف الآخرين غير المستأجرين، واستحقاق مالي مسألة شرف بالنسبة إلي. أنا لا أريد أن تصل شكوى لشركة سبنك آند كومباني.»
قامت الآنسة ليندرهام ووضعت يدها على ذراعه.
وقالت: «الهاتف، ما رقمه؟»
أجابها: «100803.» ثم أردف: «يؤسفني أن الشركة لم تمنحني بعض بطاقاتها عندما كنت في المكتب بعد ظهر اليوم.»
قالت الآنسة ليندرهام: «هذا ليس مهما، سأتذكر الرقم»، ودخلا المنزل معا.
وفي اليوم التالي، في مرسم كبير في كينزنجتون، ظهرت الآنسة ليندرهام بمظهر لم يكن لأحد من أصدقائها الذين حضروا الحفل الراقص في الأمسية السابقة أن يتعرف عليها به، كانت جميلة كعادتها، وربما أكثر جمالا، وقد تلون مئزرها الأبيض الطويل وأصابع يديها الجميلة بالألوان الشمعية التي كانت تستخدمها. كانت تحاول أن ترسم على اللوحة الموجودة أمامها شكل رجل، وقد بدأت برسم كتفيه، وبدا أن النجاح في رسمتها كان يراوغها، ربما لعدم وجود عارض معها، وربما لشرود ذهنها. كانت تجلس وقتا طويلا وتحدق في اللوحة، ثم تنهض فجأة وتضيف بعض الخطوط التي لم تقرب الرسم من الكمال الذي ابتغته قيد أنملة.
كانت الغرفة ضخمة، وبها نافذة كبيرة في اتجاه الشمال، وتناثرت في أرجاء الغرفة أغراض لا حصر لها تميز مراسم الرسامين. وفي النهاية، وضعت الفرشاة من يديها، وتوجهت إلى هاتف معلق في طرف الغرفة، ونقرت جرسه.
وقالت: «اطلب رقم 100803.»
بعد لحظات إضافية من الانتظار، ظهر صوت.
فقالت: «هل هذه شركة سبنك آند كومباني؟»
فجاءها الرد: «نعم، سيدتي.»
قالت: «أعتقد أن لديكم موظفا باسم اللورد ستانسفورد، أليس كذلك؟»
جاءها الرد: «بلى، سيدتي.»
سألت: «هل هو منشغل بعد ظهر اليوم؟» «كلا يا سيدتي.»
قالت: «حسنا، يرجى إرساله إلى الآنسة ليندرهام، بناية رقم 2044 شارع كرومويل، ساوث كينزنجتون.»
كتب الرجل العنوان، ثم سألها: «في أي ساعة يا سيدتي؟»
ردت: «أريده من الساعة الرابعة إلى السادسة.»
قال الرجل: «حسنا، يا سيدتي، سنرسله.»
خاطبت الآنسة ليندرهام نفسها وهي تتنهد في ارتياح: «هكذا سيكون لدي عارض يأخذ الوضع المناسب. فالرسم من الذاكرة صعب جدا.»
السبب في فشل الكثير من السيدات في مساعيهن الفنية وفي الكثير من المهن الأخرى ربما يكون هو إفراطهن في الاهتمام بملبسهن. من المذهل أن الآنسة ليندرهام أرسلت في طلب مصفف شعر فرنسي يتقاضى أجرا باهظا لم تعتد استدعاءه إلا إذا كانت فعالية مهمة للغاية على وشك الانعقاد.
وقالت له: «أريد منك تصفيف شعري تصفيفة فنية، وفي الوقت ذاته لا يبدو أن مجهودا كبيرا بذل فيها. فهمت؟»
قال الفرنسي المهذب: «نعم، فهمتك تماما يا آنستي.» وأضاف: «ستظهرين بمظهر رائع يا آنستي، لدرجة أن ...»
قاطعته: «نعم، هذا ما أريد.»
في الساعة الثالثة كانت ترفل في فستان جميل. كان كما الفستان مطويين كما لو كانت مقبلة على مهمة شاقة. وارتدت فوقه مئزرا خاليا من البقع تحيط به كشكشات صغيرة جذابة، كان من الصعب الاعتقاد أن أي مرسم في لندن ولو كان لأبرز فنانيها يشمل ضمن محتوياته لوحة تضاهي في جمالها مظهر الآنسة ليندرهام بعد ظهر ذلك اليوم. في الساعة الثالثة، رن جرس الهاتف، وعندما ردت الآنسة ليندرهام أجابها الصوت الذي سمعته من قبل قائلا: «أعتذر بشدة عن إحباطك يا سيدتي، لكن اللورد ستانسفورد استقال من العمل بعد ظهر اليوم. يمكننا إرسال بديل له إذا أردت.»
صاحت الآنسة ليندرهام: «لا، لا!» واعتقد الرجل الذي يسمعها على الطرف الآخر أنه سمعها تنتحب.
وأضافت: «أنا لا أريد بدلا له. لا يهم.»
رد الصوت: «الرجل الآخر سيكلفك جنيهين فقط، واللورد ستانسفورد كان سيكلفك خمسة. يمكننا أيضا أن نرسل لك رجلا يكلفك جنيها واحدا، لكننا لا نرشحه لك.»
قالت الآنسة ليندرهام: «كلا، أنا لا أريد أحدا. سعدت لمعرفة أن اللورد ستانسفورد لن يأتي، فقد تأجل الحفل الصغير الذي كنت سأقيمه.»
سألها الرجل: «آه، إذن، عندما سينعقد يا سيدتي، أتمنى أن ...»
وضعت الآنسة ليندرهام السماعة، ولم تسمع باقي ترشيحات الرجل من الضيوف المستأجرين. أغلب الظن أن ماجي ليندرهام كانت ستبكي لولا أن شعرها كان مصففا على نحو جميل وفي شكل لا يشي بمجهود كبير، لكن قبل أن تحظى بوقت كاف لتحديد ما ستفعل، جاءت الخادمة المهندمة الصغيرة الجسم عبر الرواق وهبطت الدرج وصولا إلى المرسم تحمل في يدها صينية فضية عليها بطاقة أعطتها للآنسة ليندرهام، فأخذتها وقرأت عليها الاسم: «ريتشارد ستانسفورد».
صاحت في ابتهاج: «أوه، اطلبي منه المجيء إلى هنا.»
سألتها الخادمة: «ألن تقابليه في غرفة الاستقبال، يا آنستي؟»
ردت: «لا، لا، أخبريه أني منشغلة للغاية، واطلبي منه المجيء إلى المرسم.»
صعدت الخادمة الدرج وعادت من حيث أتت. وأخذت الآنسة ليندرهام تلقي نظرة متفحصة طويلة على نفسها عبر المرآة الطويلة، وتجنبت لمس شعرها الطويل، وأمسكت بالفرشاة وشرعت تضيف إلى الرجل الذي بدأت ترسمه بعض الخطوط التي جعلت مظهره أسوأ مما كان عليه من قبل. لم تلتفت حتى سمعت خطوات اللورد ستانسفورد على الدرج، ثم انطلق منها تعبير عن المفاجأة ما إن رأته. كان الشاب يعتمر قبعة كبيرة من اللباد الطري، ويرتدي ملابس كالتي نرى أصدقاءنا من جنوب أفريقيا يرتدونها في صورهم في الصحف المصورة. لم ينقصه إلا نطاق من الرصاصات وبندقية لتكتمل الصورة.
قال الشاب ضاحكا: «ليس هذا ما يفترض أن يرتديه الرجل في لندن وهو يزور سيدة بعد الظهيرة، لكني وجدت نفسي مضطرا إلى المجيء بهذا الزي أو عدم المجيء على الإطلاق؛ لأن وقتي محدود للغاية. ظننت أنه من الإجحاف أن أغادر البلاد دون أن أمنحك فرصة للاعتذار عن سلوكك ليلة أمس، وعن الإهانة الإضافية في محاولتك استئجاري ساعتين عصر اليوم. ولهذا جئت.»
ردت الآنسة ليندرهام: «يسعدني مجيئك جدا.» ثم أردفت: «لقد شعرت بالإحباط الشديد عندما هاتفوني بعد ظهر اليوم وأخبروني باستقالتك. يجب علي القول إنك تبدو جميلا بشدة في هذا الزي، يا لورد ستانسفورد.»
قال وهو يتفقد مظهره سريعا: «نعم، علي الاعتراف بأنه جميل فعلا. لقد سعدت بجذب الكثير من الانتباه وأنا أمشي في الشارع.»
قالت: «حسبوك راعي بقر، أليس كذلك؟»
أجابها: «بلى، شيء من هذا القبيل. لكن ما أزعجني هو ذلك الولد الصغير الفظ الذي أخذ يدندن بأغنية عن اجتذابي للنساء وأهازيج بذيئة أخرى من هذا النوع، يبدو أنه ظنها مناسبة للموقف. لكن أشخاصا آخرين رمقوني باحترام كبير، وهو ما سرى عني. هل يمكنك أن تغفري تبجحي يا آنسة ليندرهام إن قلت إنك تبدين بزي المرسم أكثر جمالا مما كنت بفستان حفلة الرقص وإني لم أظن قط ذلك ممكنا؟»
صاحت الفتاة وتوردت خجلا، ربما لانعكاس اللون القرمزي من لوح الألوان الذي كانت تمسك به على وجنتها. وقالت: «اعذرني في ارتداء زي العمل هذا؛ لأنني لم أتوقع زوارا. فكما تعرف، لقد هاتفوني وأخبروني أنك لن تأتي.»
ظن الشاب المخدوع أن ما قالته له هو الحقيقة، في حين لم يكن حقيقيا إلا جزء منه، كما لم يعلم أن الشعر الكثيف الذي ظنه غير مصفف بعناية هو في حقيقة الأمر نتاج عمل فني يتفوق على أي رسم خطته فتاة على لوحة الرسم.
قالت: «إذن أنت ستذهب إلى جنوب أفريقيا؟»
أجابها: «نعم، رأس الرجاء الصالح.»
سألته: «أوه، وهل رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا؟»
رد الشاب ببعض الارتياب: «أعتقد ذلك، لكني لست متأكدا، رغم أن الشركة المسيرة للسفينة البخارية أكدت لي أنها ستوصلني إلى رأس الرجاء الصالح، أينما كان.»
ضحكت الفتاة.
قالت: «لا بد أنك فكرت في الأمر كثيرا، لدرجة أنك لا تعرف إلى أين ستذهب.»
فقال الشاب: «أوه، بل فكرتي عن وجهتي أفضل مما تعتقدين. أنا لست أبله كما بدوت أمس؛ ففي أمس كنت موظفا في شركة سبنك آند كومباني، وأجروني لهيكل الكبير، أما الآن فأنا سيد قراري ووجهتي جنوب أفريقيا. الفارق كبير لو تعرفين.»
ردت الآنسة ليندرهام: «أرى ذلك.» ثم أضافت: «لم لا تجلس؟»
جلست الفتاة على كرسي ذي ذراعين، في حين جلس ستانسفورد على طاولة منخفضة وأخذ يؤرجح إحدى قدميه إلى الأمام والخلف، وسحب قبعته الكبيرة إلى الخلف، وحدق في الفتاة حتى وصل تورد وجهها إلى درجة غير مسبوقة. ولم يتكلم أي منهما لبعض اللحظات.
وفي النهاية، قال ستانسفورد: «هل تعلمين أني عندما أنظر إليك تبدو لي جنوب أفريقيا بعيدة جدا؟»
قالت دون أن ترفع وجهها: «ظننتها بعيدة جدا بالفعل.»
قال: «نعم، لكنها تبدو أبعد وأشد وحشة عندما ينظر المرء إليك. أقسم إني لو لم أعلم أن خيارا أفضل متاح لي، لحدثتني نفسي بقبول عرض الألفي جنيه سنويا الذي قدمته و...»
قالت سريعا: «لم يكن هذا عرضا مني.» ثم أردفت: «وربما لم تكن صاحبة الشأن فيها لتقبل، حتى ولو توسطت أنا لديها.»
رد ستانسفورد: «هذا صحيح، ومع ذلك أعتقد أنها لو رأتني في هذا الزي لأدركت أني أستحق المال.»
قالت: «هل تعتقد أنه بإمكانك جني أكثر من ألفي جنيه في العام في جنوب أفريقيا؟ لقد تماديت في الطموح فجأة. يبدو لي أن الرجل الذي يعتقد أن بإمكانه جني ألفي جنيه في العام ومع ذلك يعمل بجنيهين في الأمسية شديد البلاهة .»
قال ستانسفورد: «أتعلمين يا آنسة ليندرهام أن هذا ما ظننته أنا أيضا وأخبرت به سبنك المحترم كذلك. قلت له إن أمامي عرضا بقيمة ألفين في العام في نفس مجال عمله. فأجابني بأنه لا توجد شركة في لندن بإمكانها تحمل هذه التكلفة. وصاح في غضب: «يمكنني استئجار دوق بهذا المبلغ».»
فأجبته: «المسألة تجارية بحتة بالنسبة إلي. عرض علي ألفا جنيه في العام من شابة فائقة الجمال للقيام بدور شكلي؛ شابة لديها مرسم في ساوث كينزنجتون، وعندما ترتدي زي الرسامين تكون أجمل من أي لوحة في الأكاديمية الملكية.» هذا ما أخبرت به سبنك.
رفعت الفتاة رأسها إليه وفي عينيها سخط، ثم استحال السخط تبسما ارتسم على شفتيها الجميلتين.
وقالت: «إنك لم تقل شيئا كهذا؛ إذ لم تكن تعرف شيئا عن هذا المرسم حينذاك؛ لذا لن أجاريك في التحايل بادعاء عدم إدراكي أنك تقصدني بما تقول.»
صاح الشاب محتجا: «تحايل؟!» ثم أردف: «بل أنا الأكثر صدقا وصراحة بين كل الناس، وأعتقد أني كنت سأقبل عرض الألفين في العام لو لم أعتقد أن بإمكاني الحصول على ما هو أفضل منه.»
قالت: «أين؟ في جنوب أفريقيا؟»
أجابها: «لا، في ساوث كينزنجتون. أعتقد أنه عندما تدرك السيدة مدى نفعي في أي مرسم فس... أوه، يمكنني أن أتعلم غسيل الفرش، وكنس الغرفة، وإعداد ألواح الرسم، وإشعال النار، كما يمكنني توزيع أكواب الشاي إذا استقبلت ضيوفا تعرض عليهم لوحاتها! عندما تدرك ذلك وتعرف الفائدة التي قد تعود عليها، أشعر بما يقارب اليقين أنها لن تضع أي شروط على الإطلاق.»
نهض الشاب عن الطاولة، وقامت الفتاة من على الكرسي وفي وجهها ما يشبه القلق. ثم أمسك بذراعيها.
وقال لها: «ما رأيك يا آنسة ليندرهام؟ أنت تعرفين السيدة. ألا تعتقدين أنها سترفض الارتباط بنذل مثل بيلي هيكل رغم ثرائه وتفضل مزارعا متواضعا مجتهدا من رأس الرجاء الصالح؟»
لم تجب الفتاة عن سؤاله.
وقالت له: «هل ستكسر ذراعي كما هددت بكسر معصميه ليلة أمس؟»
فأجابها هامسا بصوت خفيض وحاد: «ماجي! لن أكسر إلا قلبي أنا إن رفضتني.»
رفعت رأسها إليه وابتسمت.
وكان كل ما قالته هو: «كنت أعلم، يا فتى، منذ أن أتيت أنك لن تذهب إلى جنوب أفريقيا.» واستغل هو استسلامها فقبلها.
التطهير
جلس يوجين كاسبلييه على إحدى الطاولات المعدنية بمقهى إيجاليتيه، وأخذ يصب الماء ببطء من الدورق الزجاجي على مكعب سكر وملعقة ذات ثقوب لتستقر في كأس الأفسنتين الخاص به. لم يكن ما ارتسم على وجهه حينئذ امتعاضا؛ بل مسحة عابرة من الحزن تشي بقسوة العالم عليه. وعلى الجانب المقابل من الطاولة المستديرة الصغيرة جلس صديقه ورفيقه العطوف هنري لاكور. أخذ يرتشف شراب الأفسنتين الخاص به على مهل، وهي الطريقة المثلى لتناول هذا الشراب، وبدا عليه الانشغال الشديد بالمشكلة التي تواجه صديقه.
سأل هنري: «لماذا، بحق السماء، تزوجتها؟ لم يكن ذلك ضروريا على الإطلاق.»
هز يوجين كتفيه. كانت ترجمة هذا الفعل إلى كلمات هي: «لماذا حقا؟ فلتسألني سؤالا أسهل.»
ساد الصمت بينهما بعض لحظات. ليس الأفسنتين من المشروبات الروحية التي تشرب بتعجل أو يكثر شاربوها الحديث بين كل رشفة منه والرشفة التالية. ولم يبد أن هنري كان يتوقع أي رد أكثر من هزة الكتفين المعبرة، وظل الرجلان يحتسيان مشروبهما في شرود ذهن، في حين كافأ الأفسنتين انغماسهما في التفكير بإحداث مفعوله الخفيف الذي أخذ يسحب من عقليهما تدريجيا كل ما اعتمل فيهما من انشغال وقلق، وبدد الغمام الذي يطوف بسماء كل الرجال أحيانا، كضباب يخف رويدا رويدا حتى ينقشع، وليس كما تبيد شمس الصباح الدافئة غلالة الشبورة فتختفي تماما ولا تترك وراءها إلا الهواء النقي والسماء الزرقاء.
وأخيرا قال كاسبلييه: «لا بد للمرء أن يعيش، وليس قرض الشعر الملتزم بقواعد حركة الانحطاط الأدبية بمهنة مربحة. لا شك أنه يحقق شهرة لا تخبو في المستقبل، لكن علينا تناول ما نريده من الأفسنتين في الحاضر. تسألني لماذا تزوجتها؟ لقد كنت ضحية بيئتي. لا بد لي من كتابة الشعر، ولأكتب الشعر، علي أن أعيش، ولأعيش، علي امتلاك النقود، وللحصول على النقود اضطررت إلى الزواج. فالدوريم من أفضل صناع المخبوزات في باريس، فهل الذنب ذنبي إذن في تفضيل الباريسيين للمخبوزات على الشعر؟ وهل علي لوم لأن الإقبال على منتجاتها في متجرها يفوق الإقبال على منتجاتي أنا في المكتبات؟ ما كنت سأمانع في تقاسم عائدات المتجر معها دون الإقدام على حماقة الزواج، لكن فالدوريم لديها أفكار غريبة ووحشية يقف المنطق المتحضر عاجزا عن إخراجها من عقلها. لكن ما فعلته لم يكن بغرض مادي بحت، ولم يكن الغرض المادي هو السبب الأهم وراءه حتى. كان لاسمها وقع أعجبني. إنها روسية، وكان بلدي وبلدها في ذلك الوقت متحالفين، فاقترحت على فالدوريم أن نحذو حذو بلدينا. لكن المؤسف يا صديقي هنري أني أدركت أن سكنى باريس لعشرة أعوام لا تكفي لتنقية نفس روسية من وحشيتها. وبالرغم من اسم زوجتي الذي له وقع كالنبيذ الناعم القوي المفعول، فهي لا تكاد تفوق البرابرة تحضرا. فعندما أخبرتها بشأن تنيس، جن جنونها، وطردتني إلى الشارع.»
سأله هنري: «ولماذا أخبرتها بشأن تنيس؟»
رد كاسبلييه: «لماذا؟! كم أكره هذه الكلمة! لماذا! لماذا! لماذا! فهي تطارد أفعال المرء ككلب صيد، باحثة على نحو دائم عن السبب. يبدو لي أني طوال الوقت أحاول الإجابة عن سؤال عن السبب. لا أعرف لماذا أخبرتها؛ فلم يبد لي أن الأمر يستحق التفكير أو التدبر. خطرت تنيس ببالي حينئذ فتحدثت عنها فحسب. لكني فوجئت بالطوفان الذي انهمر بعد ذلك وصرت أرتعد كلما تذكرته.»
سأله صديقه: «مرة أخرى لماذا؟» ثم أردف: «لماذا لا تكف عن التفكير في استرضاء زوجتك؟ الروس بطبعهم لا يتفاهمون. لم لا تبدأ حياة شاعرية بسيطة مع تنيس وتهجر الشارع الروسي كله؟»
تنهد كاسبلييه برفق. وهنا تذكر وقع ضربات القدر الشديد عليه. وقال: «للأسف يا صديقي هذا مستحيل. فتنيس تعمل عارضة للرسامين، وهؤلاء الرسامون المتوحشون الذين يتقاضون أثمانا باهظة عن لوحاتهم السيئة، لا يدفعون لها في الأسبوع إلا القليل، لدرجة أن أجرها لا يكاد يكفي طعامي وشرابي. إنني أحصل على أوراقي وأقلامي وحبري من المقاهي، لكن كيف لي أن أتحمل تكلفة ملابسي؟ لو دفعت فالدوريم لنا مبلغا صغيرا بانتظام، لاستطعنا العيش في سعادة بالغة. فالدوريم زوجة، قلت لها ذلك كثيرا، وهي مدينة لي ببعض الفضل في ذلك، لكنها تعتقد أن الرجل إذا تزوج كان عليه واجب رعاية بيته كتاجر بقالة برجوازي. إذ ليس في طبعها أي شعر ولا إدراك لاحتياجات رجل ذي ذائقة أدبية.»
أقر لاكور آسفا بصعوبة الموقف. ولم تكف كأس الأفسنتين الأولى لإيجاد حل واضح يمكنه من الجمع بينهما، لكن الكأس الثانية أكسبته بعض الجسارة، فأظهر نبله واقترح مواجهة اللبؤة الروسية تلك في عرينها، ليشرح لها وجهة النظر الباريسية بشأن موقفها غير المبرر، وليعيدها إلى جادة الصواب إن أمكن.
غلبت كاسبلييه مشاعره فانتحب في صمت، في حين أخبره صديقه بطلاقة عن كتاب بارزين، كانت أسماؤهم مفخرة لفرنسا، غفرت لهم زوجاتهم زلات عابرة في حياتهم الزوجية، وقال له إنه سيستشهد بهم في حديثه للسيدة فالدوريم حتى يدفعها للاحتذاء بهذه الأمثلة البارزة.
تعانق الرفيقان ثم ذهب كل منهما في طريقه، كان على هنري أن يستخدم تأثيره وقدرته على الإقناع مع فالدوريم، وعلى كاسبلييه أن يخبر تنيس كيف أن وجود هذا الصديق المستعد للشفاعة لهما نعمة كبيرة، وكانت تنيس شابة باريسية جميلة لا تضمر شرا لزوجة عشيقها التي لا تعرف التفاهم.
توقف هنري لاكور قبالة متجر المخبوزات القائم في الشارع الروسي، وكان يحمل اسم «فالدوريم» فوق نافذتي العرض المملوءتين بما لذ وطاب. لم تغير السيدة كاسبلييه اسم متجرها الشهير عندما تخلت عن اسم عائلتها. وقعت عينا لاكور عليها وهي تلبي طلبات زبائنها، فبدت له أشبه بأميرة روسية لا صاحبة متجر. وتساءل حينئذ عن سبب تفضيل صديقه للعارضة الصغيرة الجسم ذات الشعر الأسود. بدا من مظهرها أنها لم تتجاوز العشرين من عمرها، وكانت كبيرة الجسم وجميلة جدا وشعرها كستنائي غزير به حمرة طاغية. وكان لذقنها مظهر جميل كأنه منحوت كان يوحي ربما بحزم مفرط، وكان ذلك على نقيض الضعف البادي في ذقن زوجها. سرت في لاكور رعدة خفيفة عندما تخيلها ترمقه بنظرة مباشرة، وللحظة خشي أن تكون قد لاحظته يتسكع أمام نافذة العرض. كانت عيناها واسعتين بلون الكهرمان النقي، وبدت في عمقهما نار متقدة خشي لاكور انبعاث لهيبها. بدت لمهمته الآن صبغة مختلفة لم تصطبغ بها عندما كان أمام مقهى إيجاليتيه. تردد لحظة، ثم تجاوز المتجر وتوقف عند مقهى مجاور، وطلب كأس أفسنتين أخرى. كم هو مذهل كيف يختفي بسرعة مفعول هذا المشروب المحفز!
بعد أن حصل على جرعة أخرى من التحفيز، قرر أن يمضي في تنفيذ ما انتواه قبل أن يتبخر ما اكتسبه من شجاعة، وخاطب نفسه بأنه ينبغي لأي رجل ألا يخشى مواجهة أي امرأة، روسية كانت أم متحضرة، ثم دلف إلى المتجر، وانحنى للسيدة كاسبلييه بأدب جم.
وقال: «أتيت بصفتي صديقا لزوجك لأتحدث معك بشأنه.»
قالت فالدوريم: «آه!» وجزع هنري لرؤية النيران المتقدة في أعماق عينيها تستعر. لكنها أعطت مساعدها بعض التعليمات والتفتت إلى لاكور وطلبت منه بأدب أن يتبعها.
مضت به في المتجر وصعدا درجا في مؤخرته، وفتحت بابا مفضيا إلى الطابق الأول. دخل لاكور غرفة استقبال مرتبة تطل نوافذها على الشارع. وجلست السيدة كاسبلييه إلى طاولة، وأسندت كوعها إليها، وظللت براحة يدها عينيها اللتين شعر لاكور بهما تسبران غور روحه.
قالت: «اجلس.» ثم أردفت: «أنت صديق زوجي. ما الذي جئت لتقوله؟»
ولما كان من العسير على أي رجل أن يخبر امرأة حسناء بتفضيل زوجها لغيرها عليها، مهد لاكور لكلامه بالحديث عن أمور عامة. فقال إن الشاعر يمكن تشبيهه بالفراشة، أو النحلة الأكثر اجتهادا التي ترتشف الرحيق من كل زهرة ترسو عليها ثم تثري العالم بعسلها. وأضاف أن للشاعر قانونا خاصا به، وينبغي عدم القسوة عليه بإخضاعه لما قد يسمى بمنطق إدارة المتاجر. ثم تحمس لاكور بحديثه الافتتاحي فساق أمثلة عديدة غفرت فيها زوجات رجال عظماء ما بدر من أزواجهن من أفعال بسيطة غريبة؛ بل وشجعنهم عليها في سبيل إثراء عالم الأدب المقدر بشدة.
وبينما مضى في حديثه بطلاقة، بدا الشرر يتطاير بين الفينة والأخرى من عيني فالدوريم القابعتين في الظل، لكنها لم تتحرك ولا قاطعته في حديثه. ولما فرغ من حديثه بدا صوتها رتيبا وخاليا من المشاعر، فارتاح لمعرفة أن الانفجار الذي خشيه قد تأجل على الأقل.
قالت له: «إذن أنت تنصحني بأن أفعل مثلما فعلت زوجة ذلك الروائي البارز فأدعو زوجي والمرأة التي هو معجب بها إلى طاولتي؟»
قال لاكور: «أوه، أنا لا أقول إن بإمكاني أن أطلب منك الوصول إلى هذا الحد، لكن ...»
قاطعته: «أنا لست امرأة تقبل بأنصاف الحلول. إما كل شيء أو لا شيء. إذا دعوت زوجي لتناول العشاء معي، فسأدعو معه تلك المرأة ... ما اسمها؟ قلت إن اسمها تنيس. حسنا، سأدعوها معه أيضا. هل تعرف أنه متزوج؟»
صاح لاكور في حماس: «نعم، لكني أؤكد لك يا سيدتي أنها لا تكن لك إلا أطيب المشاعر. تنيس لا تعرف الغيرة.»
ردت السيدة الروسية: «يا لطيبتها البالغة! يا لطيبتها البالغة!» وقالت ذلك بمرارة جعلت لاكور يعتقد أنه تلفظ بملاحظة غير حكيمة بعض الشيء، في حين كانت كل جهوده مرتكزة على رغبته في إصلاح ذات البين وإرضائها.
قالت فالدوريم وهي تنهض: «رائع جدا.» ثم أردفت: «يمكنك إخبار زوجي أنك نجحت في مهمتك. أخبره أني سأشملهما بعطفي. اطلب منهما تشريفي بحضورهما إلى الإفطار صباح الغد في الثانية عشرة. وإذا كان في حاجة إلى النقود كما تقول، فهاك مائتي فرانك، ربما ستكفي لتغطية احتياجاته حتى منتصف يوم الغد.»
شكرها لاكور مظهرا امتنانا عظيما كان من شأنه إدخال السرور على أي شخص طبيعي يتفضل بالعطاء، لكن فالدوريم وقفت بلا حراك كملكة في مسرحية تراجيدية، ولم يبد عليها إلا الرغبة في انصرافه بسرعة بعد أن أتم ما أرسل لفعله.
امتلأ قلب الشاعر ابتهاجا عندما سمع من صديقه أن فالدوريم أخيرا بدأت تنظر إلى علاقة زوجها بتنيس بعين المنطق. وبينما عانق كاسبلييه لاكور، أقر بأن زوجته ربما لم تعدم المناقب بعد كل ما جرى.
ارتدى الشاعر ملابسه يوم المأدبة بعناية فاقت المعتاد، وارتدت تنيس التي رافقته بعض الحلي التي اشترتها بما تفضل من هبة فالدوريم. اعترفت باعتقادها أن زوجة يوجين نظرت إليهما بعين العقل، لكنها قالت إنها لم تكن ترغب في رؤيتها، فقد صورتها لها حكايات زوجها شخصا مرعبا وصعب المراس بعض الشيء، لكنها رافقته على أي حال، فقط لطيبة أصلها ورغبتها في رأب صدع أسرته. ما كانت تنيس لتتردد عن أي شيء من شأنه إحلال السلم الأسري.
بعد أن صرف الرفيقان عربة الأجرة، أخبرهما عامل المتجر أن السيدة في انتظارهما في الطابق العلوي. وفي غرفة الاستقبال وقفت فالدوريم مولية ظهرها للنافذة كإلهة متجهمة ينسدل شعرها الأسمر المصفر على كتفيها، وتبرز ملابسها الشديدة السواد شحوب وجهها. خلع كاسبلييه قبعته برشاقته المعتادة وانحنى في تبجيل، وما إن استقامت قامته حتى طفق يكيل لها كلمات المديح والعبارات الشعرية التي أعدها للقاء في المقهى في الليلة السابقة، إلا أن النظرة المتقدة التي رمقته الروسية بها جعلته يتلعثم في كلامه، وأطلقت تنيس التي لم تسبق لها رؤية هذا النوع من النساء ضحكة خافتة متوترة يخالطها بعض الخوف، وتشبثت بعشيقها أكثر من ذي قبل. فقد كانت زوجته أشد إثارة للرهبة مما تخيلتها. سرت في فالدوريم رعدة خفيفة عندما لاحظت هذه الحركة الحميمية التي أقدمت غريمتها عليها، وظلت تغلق قبضتها وتفتحها في توتر.
قاطعت استرسال زوجها في الإطراء بقولها: «تعاليا»، ومرت من أمامهما، ولملمت أهداب ملابسها عند اقترابها من تنيس، ثم قادتهما إلى غرفة الطعام في الطابق الأعلى.
همست تنيس متراجعة: «إني خائفة منها.» ثم أضافت: «إنها ستسممنا.»
قال كاسبلييه هامسا: «هراء.» ثم أضاف: «تقدمي. فهي تحبني لدرجة تمنعها من محاولة القيام بأي شيء كهذا، وأنت في أمان ما دمت أنا هنا.»
جلست فالدوريم على رأس الطاولة، وجلس زوجها عن يمينها وتنيس عن يسارها. كان الإفطار أفضل ما ذاقه أيهما. جلست المضيفة صامتة، لكن وجود الشاعر كان يغني عن أي متحدث غيره. كانت تنيس تضحك على أقواله في ابتهاج من وقت لآخر، فقد بدد مذاق الوجبة الشهي مخاوفها من السم.
قال كاسبلييه: «ما هذه الرائحة الخانقة التي تملأ الغرفة؟ لنفتح النافذة.»
نطقت فالدوريم للمرة الأولى منذ أن جلسوا قائلة: «لا شيء!» ثم أضافت: «إنه فقط النفثا. لقد كلفت بتنظيف هذه الغرفة به. لن تفتح النافذة، فلو فتحت لما تمكنا من سماع حديثك بسبب ضجيج الشارع.»
يمكن للشاعر تحمل أي شيء إلا مقاطعة طلاقة حديثه؛ لذا كف عن الشكوى من رائحة النفثا. وعندما جيء بالقهوة، صرفت فالدوريم الخادمة الصغيرة الجسم التي كانت تخدمهم.
وقالت: «لدي بعض من سجائرك المفضلة هنا. سأحضرها.»
نهضت وبينما كانت تتوجه إلى الطاولة التي كانت العلب عليها، أغلقت قفل الباب بهدوء وبراعة، وسحبت المفتاح، ووضعته في جيبها.
وخاطبت تنيس قائلة: «هل تدخنين يا آنستي؟» ولم تكن قد أعارت لوجودها انتباها قبل ذلك.
ردت الفتاة وضحكت ضحكة مكتومة: «أحيانا، يا سيدتي.»
قالت فالدوريم: «ستعجبك هذه السجائر جدا. فذوق زوجي في السجائر أفضل من ذوقه في أشياء كثيرة. إنه يفضل النوع الروسي على النوع الفرنسي.»
انفجر كاسبلييه ضاحكا.
وقال: «هذه صفعة على وجهك يا تنيس.»
قالت تنيس: «على وجهي؟! كلا، فهي تتحدث عن السجائر، أنا نفسي أفضل النوع الروسي، لكنها غالية جدا.»
لاحت على وجه فالدوريم المعبر نظرة حماس غريبة، رققتها مسحة من الاستجداء. كانت عيناها مرتكزتين على زوجها، لكنها قالت للفتاة بسرعة: «انتظري لحظة يا آنستي. لا تشعلي سيجارتك حتى أقول لك.»
التفتت إلى زوجها وحدثته في تضرع بالروسية التي كانت قد علمته إياها في الشهور الأولى من زواجهما.
وقالت: «يوجينيو، يوجينيو! ألا ترى حمق هذه الفتاة؟ كيف لها أن تجذب انتباهك؟ لم تكن سعادتها لتقل لو كانت برفقة أول رجل تصادفه في الشارع، أما أنا، فلا أفكر في سواك. عد إلي، يا يوجينيو.»
مالت نحوه على الطاولة، وأمسكت معصمه بقوة. وأخذت الفتاة تراقبهما مبتسمة. ذكراها بمشهد في عرض أوبرا استمعت إليه ذات مرة بلغة غريبة. كانت البطلة تنظر وتترجى مثل فالدوريم.
هز كاسبلييه كتفيه، لكنه لم يسحب معصمه من قبضتها المحكمة.
قال لها: «لم نستفيض في الجدال الممل نفسه من جديد ؟ فإن لم تكن تنيس، كانت امرأة أخرى. لم يكتب لي أبدا أن أكون زوجا مخلصا، يا فال. فهمت من لاكور أننا لن نخوض في المزيد من هذا الكلام الفارغ.»
أرخت ببطء قبضتها على معصمه الذي لم يقاومها. وعادت إلى وجهها النظرة المأساوية القديمة وهي تأخذ نفسا عميقا. واستعر لهيب النار في أعماق عينيها الكهرمانيتين، بينما غاب عنهما أي حنو.
خاطبت تنيس بما يشبه الهمس قائلة: «يمكنك إشعال سيجارتك الآن يا آنستي.»
صاح زوجها: «أقسم إن بإمكاني إشعال سيجارتي بهذه النار التي في عينيك يا فال.» ثم أردف: «يمكنك اكتساب شهرة في المسرح. سأكتب لك مسرحية تراجيدية، وسن...»
أشعلت تنيس عود ثقاب. فملأ الغرفة ضوء كالبرق وضجيج كالرعد. وسقط زجاج النافذة في الشارع مهشما. كانت فالدوريم تقف مستندة بظهرها إلى الباب. ذهبت تنيس إلى النافذة المهشمة وهي تترنح ويداها الصغيرتان ترتعشان بشدة. ونهض كاسبلييه على قدميه مترنحا يتنفس بصعوبة، وقال لاهثا: «أيتها الشيطانة الروسية! المفتاح، المفتاح!»
حاول أن يقبض على رقبتها، لكنها دفعته بعيدا.
وقالت: «اذهب إلى امرأتك الفرنسية. فهي تستغيث.»
انهارت تنيس عند النافذة، بينما كانت إحدى ذراعيها ممددة على إفريز النافذة محترقة، وكانت صامتة. وأخذ كاسبلييه يضرب على يده المرتعشة ليطفئ النار المشتعلة بها، ويئن وينتحب، حتى سقط على الطاولة، ومنها سقط برأسه على الأرض.
ترنحت فالدوريم برفق أمام الباب يمنة ويسرة والنار مشتعلة بها، وهمست بصوت ملؤه العذاب: «يوجين، يوجين!» وألقت بنفسها كملاك مشتعل، أو عفريت، على الرجل المسجى على الأرض.
অজানা পৃষ্ঠা