وما يحدث بين الدواجن المستأنسة يحدث أيضا في حيوان الغابة ونباتها المتوحشين؛ أي: تظهر صفة جديدة لا نعرف سبب ظهورها، فإذا كانت تعين على البقاء؛ لأنها تزيد الملائمة، بقيت وتفشت، وإذا كانت تضر صاحبها مات هو وانقرض.
كان هذا جل اعتماد داروين في تعليل التطور، ولكنه أيضا التفت إلى ما يسمى «الانتخاب الجنسي» عازيا إلى الحيوان اختيارا فنيا في الجمال والذوق، والتفت قليلا جدا، إلى ما أشرنا إليه وهو العادات والصفات المكتسبة، فقال: إنها تورث ولكن بعد أجيال عديدة، حتى لا نستطيع أن نعتمد على أثرها في التغير والتطور.
وانتشرت نظرية التطور في أوروبا وأصبحت كلمة التطور ترادف كلمة «الداروينية» منذ عام 1859، حتى إذا كانت سنة 1885؛ أي: بعد ثلاث سنوات من وفاة داروين أخرج «فايسمان» البيولوجي الألماني كتابه المعنون ب«نظرية استمرار المادة الوراثية». •••
وفشت هذه النظرية كما لو كانت عقيدة ووقفت البحث نحو أربعين أو خمسين سنة في وراثة الصفات المكتسبة، وأحالت الوراثة إلى ما يشبه الحظ أو القدر الأعمى، فكانت بمثابة الجبرية العلمية، نحن والحيوان نولد وبنا كفايات للكفاح والبقاء أو للموت والانقراض، ومهما جهد آباؤنا ومهما نالوا من كفايات في حياتهم فلن نستطيع الانتفاع بهذه الكفايات؛ لأن طفل الحيوان يولد من الخلية المنوية، وهذه الخلية تعيش حياة مستقلة عن الجسم، جسم الطفل ثم الصبي ثم الشاب ثم الشيخ، وهي تظهر منذ أول التكوين للجنين؛ إذ نجد خليتين إحداهما تلك التي ينمو بها الجسم الحيواني والإنساني والأخرى تلك التي تتخصص للتناسل، وهذه تبقى خادرة كأنها نائمة إلى سن الشباب إلى حين تشرع في التكاثر وتؤدي إلى التناسل، وما يحدث للجسم إذا من ضعف أو جهد أو قطع ذراع أو أي عادات يعتادها الحيوان أو الإنسان، كل هذا لا يؤثر في الخلية المنوية؛ لأنها إنما تقطن الجسم فقط وتتغذى بالدم الذي يجري فيها ولكنها لا تتأثر به.
وإذا مهما يعيش الإنسان في وسط سيئ ومهما يكتسب في هذا الوسط السيئ من عادات مؤذية قد تحيله إلى مجرم أو وحش فإن أبناءه سيخرجون وهم غير متأثرين بحياة الشر والإجرام التي عاشها.
وهذا هو عكس ما كان يفهمه «لامارك» وسائر التطور بين الفرنسيين؛ إذ كانوا يقولون بأن العادات التي تعودها الحيوان والبراعة التي كسبها في حياته تنتقل رويدا رويدا إلى أعقابه؛ أي: أنها تبدأ وظيفية ولكنها تنتهي عضوية؛ كالزرافة تمد عنقها كي تنال الغصون العليا أو الأعشاب البعيدة عن الأرض، فلا تزال هي وأعقابها يفعلن ذلك بضع مئات أو عشرات المئات من السنين حتى تنتقل الوظيفة «مد العنق» إلى العضو «العنق الطويل».
وقد استفظع الأدباء والفلاسفة هذا المذهب، مذهب داروين، فحملوا عليه، وكان أولهم صموئيل بطلر، وكان أعظم من برنارد شو، وذلك لأن لهذا المذهب زاوية اجتماعية هي أنه مهما نشرنا من تعاليم وتربية فلن تتأثر الأجيال القادمة، فكأن في القول باستقلال الخلية التناسلية تبريرا لأي عسف يقع بالجيل الحاضر بل لإهمال هذا الجيل من ناحية تثقيفية أو تمدنية.
كان هذا موقف الأدباء والفلاسفة، أما العلميون فقد استسلموا عند الصدمة الأولى لفايسمان، وقالوا: هذه نظرية قد قامت على التجربة فيجب أن نسلم بها وننتظر تجارب أخرى تنقضها، إلا هربرت سبنسر الذي صرح بأنه ليس هناك ما يعلل التطور غير العادات المكتسبة، والتجارب في الوراثة تقتضي انتظار مئات الأجيال المتعاقبة.
ولكن المشاهدة تقوم مقام التجربة، ولذلك شرع العلميون يستقرئون النبات والحيوان في أوساطها الطبيعية كي يعرفوا إذا كانت العادات الجديدة التي يكتسبها كي يلائم بين كفاياته وبين وسطه تورث أم لا؟
وإنما قلنا: «أوساطهما الطبيعية» لأن داروين أسرف في الالتفات إلى الأوساط غير الطبيعية التي نحدثها نحن للدواجن، فقد رأى أن الدواجن كالحمام والدجاج والخراف والماشية بل حتى الإخوة تختلف، ولا نستطيع تعليل هذا الاختلاف، ولكننا نفرض حدوثه في الغابة وفي السهل والجبل والبحر والنهر، ونقول: إن هذا الاختلاف قد يعمل لبقاء القرد أو لفنائه، ومن هنا تنازع البقاء ثم التطور بتجمع صفات ناجحة نافعة لبعض الأفراد وبجعلها تعيش وتتناسل فتكون السلالة الجديدة بعد ذلك النوع الجديد.
অজানা পৃষ্ঠা