ظل مدة على هذا الحال ولازم غرفته ولم يخرج منها إلا في القليل النادر، بعد أن تلقى من ساعي البريد برقية أهله.
وقد شق ذلك على أصدقائه وهم لا يعرفون سبب هذا التغير المفاجئ، وقد حاولوا أكثر من مرة الكشف عن هذا السر الدفين فلم يفلحوا.
وهنا لا يسعنا إلا أن نقف قليلا مع أصحابه نستطلع سر هذا التبدل العجيب في هذا الشاب الذي كان لوقت قريب جدا يمرح وتملأ البهجة نفسه، ونحاول على قدر المستطاع الوقوف على دخيلته لنعلم أسباب هذا الانقباض وعلة هذا الشحوب، ترى هل أصابه ضر، أم هل داهمته علة، أم ماذا؟
وبالطبع، كان في طليعة من أقلقه حال سليم صديقته «مارغو» لما بينهما من صداقة وود، فجاءته يوما وطلبت إليه القيام بنزهة في الحديقة القريبة، حيث تعودا أن يلجآ إليها الحين بعد الحين، وقد حاولت أثناء النزهة أن تعرف سر هذا الأمر الذي استعصى على الجميع، وما زالت به تسأله أن يبوح لها عما في نفسه من ألم، أو عما يشكوه من علة حتى تساعده في التخفيف عنه، وكان طيلة الوقت مطرقا برأسه إلى الأرض، لا يبدي ولا يعيد، إلى أن خرج عن صمته الطويل بعد إلحاحها الشديد وتوسلها المؤثر، فقدم لها البرقية التي تسلمها من أهله، تعلن عن مرض أمه الشديد وترجوه الحضور بسرعة، ثم كشف لها عن حكايته، وأطلعها على موقفه الحرج من قضاياه المعقدة، مرض أمه، رسالته الفنية لبلاده، وما ينتظره هناك من مستقبل قاتم، ثم وأخيرا.
إن هذا الفتى الذي أقام مدة طويلة في بلاد الغرب، واطلع على ما هو عليه من رقي وتقدم، وما يحفل به من عمران، وما يسوده من نظام، وما في جوه من حرية وصراحة، وما ينعم به الفرد من تحرر ويتمتع به من حقوق لا تتأثر بالزعامات والعصبيات والطائفية والمحسوبية، وما إليها من العلل التي يتألم منها الشرق العربي، وتنخر في صميم كيانه وتعيق من تقدمه ونهضته، ثم فكر سليم في وضعه كفنان في بيئته وما ينتظره هناك من عقبات، فكر سليم في هذا ثم فكر في أهله ووالدته العجوز التي تكتب له باستمرار تنتظر عودته بحرارة، وهو يعرف تماما ما ينطوي عليه قلبها من حب وحنان، وهي اليوم تعاني المرض، وهو في خوف عليها، لا سيما أنه لم يفقد شرقيته، ثم فكر أيضا في واجبه نحو وطنه الجميل الذي يدعوه للعمل، هذا الوطن الذي له عليه حق الوفاء وهو بحاجة للفن، ثم جاء أخيرا، وهو المهم، وهنا تلعثم لسان سليم، وساد صمت مؤثر.
ولكن «مارغو» تشجعت وقطعت هذا السكون المؤلم بأن مرت بيدها برفق على شعر سليم الأسود المتجعد قائلة: «تشجع يا عزيزي ولا تحزن، أجل إن في موقفك لحراجة قاسية، وأعلم أن حبنا لا تحده الأبعاد ولا تقف دونه المسافات، وسأحافظ بأمانة على صداقتنا، وسأذكرك كلما نظرت إلى آثار ريشتك في صورة والدي، إنني أقدر موقفك وأشعر معك، فالفن كان دوما أشد من الحب، إني أرجو لك النجاح في رسالتك في وطنك الجميل.»
وهكذا فإن سليما الشاب المثالي، الذي لا يزال يتمسك بتقاليد بلاده الأولى، قدم برهانا جديدا عن مثالية عالية، إذ إنه ضحى بقلبه في سبيل أمه وفنه ووطنه.
وأخيرا عقد العزم على العودة إلى الوطن إلى بيروت، بل إلى أحد أحيائها الغاصة بالسكان ذات البيوت المشوشة التي لا يعرف لها لون من ألوان الهندسة، هي بنت الفوضى، كل يبني على هواه، فلا تخطيط ولا تصاميم ولا بلدية تراقب ولا من يحزنون، ولقد صدق من قال: «إن الهندسة تمثل عقلية أصحابها.» ومن يعود من جو أوروبي ويشاهد الانسجام في البناء والنظام بين أجزائه والوحدة في طرازه، يسهل عليه أن يدرك سبب التأخر الشديد والفوضى الضاربة في محيطنا العجيب.
وصل سليم إلى بيروت، وقصد توا إلى داره وشاهد أمه وأهله واطمأن على أنهم بخير كما تركهم تماما فلا تقدم ولا تغير، فالتطور دليل الحياة.
وفي الصباح الباكر سمع صراخا يتعالى من عند الجيران، فتذكر جاره العزيز معروفا، وقد عرف من الأهل أن معروفا أصبح من زعماء المحلة، وأنه بنى طابقا رابعا جديدا في الدار التي اشتراها في السنة الماضية، وأصبح عنده سيارة خصوصية، يزوره كبار الحكام، وأصحاب المصالح يخطبون وده، ويلتمسون مساعدته في أيام الانتخابات، فهو ممن يشار إليه بالبنان في هذه الأزمان، وعلم سليم أن لجاره مكتبا، ولما سأل عن نوع الأعمال التي يتعاطاها مكتبه الكريم، ومعروف كما هو معروف رجل أمي، كان الجواب علامات استفهام مرفوقة بقلب الشفة السفلى! وقد أدرك سليم أن التهريب على أنواعه، هو اختصاص هذا المكتب المحترم.
অজানা পৃষ্ঠা