إن الحياة كما قال بعض العقلاء، تحسب في عمقها وليست في طولها، أجل ألف مرة أجل! أعطني عشر سنين أعيش بها سعيدا في مثل هذا الجو الزاخر في ألوان الجمال والمعنى حتى في الطعام، وخذ بدلها عشرين؛ إذ لا معنى لتلك السنين العجاف ، يقضيها المرء في قيل وقال، وشقشقة لسان، وطعام ثقيل، وفكر خامل، ودس لئيم.
بالله! ما معنى هذه الحياة الرتيبة المملة القائمة على الرياء والكبت والملق؟ وما معنى هذه الحياة التي يدور محورها على صغائر الأمور من طعام ممرغ بالوحل، وبيع للنفس والكرامة، وتمريغ للوجوه على الأعتاب، والتملق صباح مساء لمن تعتقد بدناءتهم وكذبهم وضلالهم؟ بل، ما معنى تلك الحياة التي تقوم على لقمة خبز وإغفاءة عين وبيع وكرامة؟
إن الحياة الحقة، هي حياة الفكر أولا وحياة الروح والتمتع بأوسع ما يمكن من الحرية الشخصية والاحترام المتبادل، إن الحياة هي كتاب وزهرة ولوحة حب خالص، هذا هو الإنسان وهذه حياته، وما تبقى فحيوانية لا تعرفها النفوس الكبيرة.
الخلاصة: إن مواطني وصديقي العزيز، قد عاد وتذكرني، فتلفن لي كي أوافيه في مقهى «كابولاد»
2
ولم أشأ أن أرفض طلبه حبا بالوفاء والقومية، فاعتذرت من رفيقي مسيو «دورييه»، وذهبت لمقابلته، فوجدته برفقة بعض أبناء العرب البيروتيين، فسلمنا وبثثنا الأشواق وحار العواطف، وما إليها من المنتجات العربية وهي كثيرة عندنا ولله الحمد، وكانوا يلعبون النرد ويتحدثون، وكان صراخهم يملأ المقهى وإشارات أيديهم تظهر عن بعد، وكان منهم من يناقش في السياسة فينرفز ويزعق ويثور، وذاك قد خسر «البرتيتة» فيغضب ويعربد، وكانت هذه الزاوية من المقهى المكان الوحيد الذي تعلو منه هذه الضجة، ويثار النقاش، ولذلك لا يصعب على أحدنا أن يعرف حالا أن هؤلاء من أبناء قحطان الأشاوس.
سلام وكلام وبث لوعج الأشواق، ثم عودة إلى النرد ثم الصراخ، وبعد مدة سئمت وبدت لي الحالة مزعجة كأغنية الشيطان ليس لها نهاية، وقد ضاق صدري وشعرت بالفرق العظيم بين الحياة الأولى، اتنقل بها من متحف لآخر، ومن أوبرا لمسرح، ومن حديقة لمكتبة، وكانت المعرفة تأتيني من كل صوب، أما هنا فأحسست كأنني عدت إلى موطني الأول، ثم خسارة الوقت وتلاشي الأعصاب، ولذلك استأذنت وانصرفت وقد أخذت طريقي نحو حديقة «اللكسمبرج» القريبة من المقهى، حيث وجدت في الحديقة العائلات تسرح وتتنزه، وحيث الزهور تملأ جوانب المكان تقطعها بعض البرك الجميلة، يلعب بقربها الأولاد، وهناك أكوام من الرمل أعدت ليلعب بها الأطفال وبقربهم أمهاتهم اللواتي يرعينهم ويعملن في شغل الصوف، وهناك بعض الناس مدوا أيديهم ببعض الحب الذي يباع هناك، فتأتي العصافير وتتناول الحب منها دون خوف؛ لأن روح الأذى والضرر للطير والحيوان أو الزهر ليست معروفة هناك، فلا أحد يفكر بأن يقطف زهرة عن غصنها أو يقتل عصفورا، أو يؤذي حيوانا، لقد نشأ القوم على حب الزهرة والحيوان وصداقة الطير، وهذا من تأثير الثقافة الفنية والمدنية الصحيحة التي يدور محورها على الجمال، وهذه من لب الجمال، فلا هو يقتل عصفورا يغرد على شجرة، ومن أحب الجمال فلا يستطيع أن يؤذي حيوانا أو يشوه زهرة.
وهكذا ترى أن هذه الروح منتشرة في الغرب بشكل واضح، لذلك ترى كل شيء جميلا لطيفا نظيفا، وهذه التربية في الشعب تساعد الحكومات في رسالتها التمدينية ونهضتها العمرانية، بينما نرى في الشرق العربي جهل الشعب لروح الجمال، وفقده للتربية الجمالية هذه يعرقل، بل يقف سدا منيعا في طريق الحكومات فيه، فنرى مثلا أن بلدية بيروت أنشأت حديقة، فإذا بالرواد يقطفون الأزهار ويشوهونها، ويكسرون المقاعد، ووضعت سلالا من حديد للفضلات، رأينا أفراد هذا الشعب يبادر لكسرها، حتى إن السلاسل الحديدية التي وضعتها مصلحة السير في المدينة قد كسروها، أما الأشجار التي تنصبها البلديات في المدينة أم في قرى الاصطياف فكثيرا ما يحطمونها حبا بالأذى، لذلك أرى أنه يجب أن يبدأ بالتربية الجمالية مع سن قوانين شديدة تطبق بقوة، حتى يصبح عند الشعب روح المحافظة على هذه الأشياء، والشعور بأنها له ومنه ولمصلحته، فيحبها ويغار عليها.
وبينما أنا في نزهتي في هذه الحديقة الجميلة رأيت بناء ضخما جميلا، خصص لعرض الصور والتماثيل الحديثة، وهو يحمل اسم الحديقة «متحف اللكسمبرغ»، فقصدته وكانت الجماهير تملأ ردهاته تتأمل روائع الفن الحديث، وتتثقف بأسلوبه الجديد، وتتبع الحركة الفنية وتطورها، لذلك فالجماهير هناك تفهم ما يجري في عالم الفن من حركات وما يحدث فيه من أدوار ومناقشات، فليس هو يعيش على هامش الحياة الفكرية، يدفن في مهنته ويموت في عمله اليومي، كلا، فهو إلى جانب أشغاله الخاصة دائم الاتصال في ما يحصل في الحياة من شتى الأمور والتطورات.
والمتاحف في الغرب هي كالمكاتب العامة، لها أثرها ولها اعتبارها عند مجموع الشعب، فهو يقبل عليها بلذة؛ لأن له من ثقافته الصحيحة ما يؤهله لتذوق ما فيها، فيصقل معلوماته الأولية التي لا تنفصل بانفصاله عن المدرسة، ففي الغرب يظل الإنسان تلميذا في الحياة، كما قال لي أحد رواد بعض المكاتب العامة في يوم شتاء عاصف وكان رجلا هرما.
অজানা পৃষ্ঠা