وأيضا فإن القرآن نطق بذلك فإنه قال في أول هذه الآية: " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين " . فصح أن لا شفاعة لهم لأجل كفرهم، وصارت في النار، وجدا لهم لأجل كفرهم وصارت الآية إلى آخره حجة عليهم، إلا أن الله تعالى أخبر أن ثم شفاعة، وأنتم تقولون أن لا شفاعة؛ غير أنه تعالى أخبر أنها لا تنفع للكافرين، فدل على أنها تنفع المؤمنين.
فإن قيل: ما تقولون فيمن حلف بالطلاق الثلاث أنه يفعل فعلا ينال به شفاعة الرسول عليه السلام، ويستحق به شفاعة الرسول، أو قال: أفعل فعلا يجوز أن يشفع لي فيه الرسول مما أستحق من العقاب بماذا تأمرونه ؟ أتأمرونه بالمعصية أم بالطاعة ؟. قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أنا نقول نأمره بالتمس بالتوحيد والإيمان دون فعل الذنوب، لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب ، وهذا كما أن زيدا يشفع في ذنب صديقه، أو قريبه، أو حبيبه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، لا يقال أنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب أو الخطأ الذي أخطأ، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة أو القرابة المتقدمة أو السؤآل المتقدم، لا نفس الذنب، ونأمره أيضا بفعل الطاعات حتى ينال بذلك شفاعة الرسول عليه السلام في الزيادة له من البر والنعيم ونحو ذلك.
الجواب الثاني: أنا نعارضكم بمثل هذا: لا تجدون أنتم عنه محيصا، فنقول لكم: ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى: " يحب التوابين. ويحب المتطهرين " فحلف رجل بالطلاق الثلاث ليفعلن فعلا يجب عليه فيه التوبة أو الاستغفار حتى يتوب منه ويستغفر، ما تأمرونه ؟ فإن قالوا: نأمره بالطاعة، وفعل الخير. قلنا لهم هذا لا يصح؛ لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة أو الاستغفار من فعل الطاعة والخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم: نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه فقد استحللتم ما حرم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم: لا نأمره بفعل المعصية ولكن إن ابتلى بشيء من ذلك قلنا له قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم: نحن أيضا نقول لمن حلف ليفعلن فعلا، يجوز أن يشفع فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول عليه السلام، نقول له تمسك بالطاعة والإيمان، فإن ابتليت بشيء من المعاصي فقد خرجت من اليمين، ويجوز أن يشفع لك الرسول، لا أنا نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه.
رؤية الله تعالى
اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة من جهة العقل، وهي واجبة للمؤمنين في الآخرة من طريق الشرع، وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه، وإنما ختمنا بها لأنها أعلى الأشياء وأجلها، وبها يختم للمؤمنين المصدقين لها حتى يستحقروا كل نعيم في جنبها، جعلنا الله من أهلها بمنه وفضله، إنه جواد كريم.
اعلم أن أهل السنة والجماعة قد جوزوا الرؤية على الله تعالى شرعا وعقلا بلا خلاف بينهم على الجملة، وإنما وقع الخلاف بينهم هل يكون ذلك ويجوز في الدنيا أم ذلك في الآخرة خاصة.
فكل الصحابة أجمعوا ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الجنة، يراه المؤمنون بلا خلاف في ذلك. واختلف الصحابة في الرسول عليه السلام هل رآه ليلة المعراج بالقلب أو بعيني الرأس على قولين: فكانت الصديقة عائشة رضي الله عنها في جماعة من الصحابة يقولون: رآه بقلبه دون عيني رأسه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون: إنه صلى الله عليه وسلم رآه ليلة المعراج بعيني رأسه. ونحن نقول بقول ابن عباس رضي الله عنهما، فإذا تقرر هذا: فإن المعتزلة، والنجارية، والجهمية، والروافض. والخوارج: الكل منهم ينكرون الرؤية ولا يجوزونها بوجه، حتى قالوا: ولا يرى ولا يرى هو نفسه. وقد قدمنا الأدلة على صحة الرؤية وجوازها فيما تقدم، ولا بد أن نذكر ها هنا طرفا من الأدلة أيضا يؤكد ما تقدم ويقويه إن شاء الله.
ودليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع ممن يعد إجماعه إجماعا، ودليل العقل.
পৃষ্ঠা ৬৮