فتجلدت توحيدة وقالت: «شيرين ليست هنا، ولا أدري إلى أين ذهبت!» وكانت تتوقع أن يشاركها طهماز الدهش والحيرة، فإذا هو تحول إلى الصنبور وأخذ يعالج الصابون ليغسل وجهه وهو يقول: «ولا أنا أدري، يظهر أنها توجهت إلى بعض صواحبها اللواتي يوافقنها على التحدث بالحرية والطعن في السلطان وأعوانه ... إنها سترمينا في ورطة لا خلاص لها منها.» وأخذ في غسل وجهه كأن الأمر لا يهمه، فخفف استخفافه هذا بغياب ابنته دهشة توحيدة، وظنت نفسها مبالغة في الخوف، فقد تكون شيرين في زيارة بعض صواحبها كما قال. على أنها لم يطل صبرها على هذا الاعتقاد، فعادت إلى الوجل وأحبت أن تبعث من يفتش عنها في مظانها، وليس عندهم أحد، ولم تجسر أن تطلب إلى زوجها أن يذهب بنفسه فأخذت تستعد للذهاب فلبست ثيابها، ولم تقل شيئا حتى فرغت من اللبس. وكان طهماز قد فرغ من غسل وجهه، وهي تعلم أنه سيطلب القهوة ثم الطعام فإذا وافقته ضاع الوقت، فغافلته وخرجت إلى الأماكن التي تظن شيرين ذهبت إليها وهي قريبة من المنزل، فغابت نصف ساعة ثم عادت دون أن تقف لها على خبر هناك، فوجدت زوجها قد صنع القهوة لنفسه وأخذ في لبس ثيابه.
فقالت: «ذهبت للبحث عن شيرين عند صواحبها فلم أجدها.»
فقال: «ستجدينها بعد قليل، ولكن يظهر من ذهابها مع خريستو أنها هربت، وكم من مرة أردت إخراج هذا اللعين من بيتنا وأنت لا تريدين! إنه من أسباب تمسك شيرين بعنادها ومتابعة أولئك الأغرار الذين يسمون أنفسهم أحرارا، لأنه من أهل ذلك الجنون أيضا. إذا كنت تظنين شيرين قد هربت فلا حيلة لنا فيها ولا ذنب لنا، لأننا نصحنا لها وكدنا نقبل يدها لترجع عن غيها وتوافق على طلب صائب بك لتنجو وتنجينا من الخطر، لكنها لم ترض. وها قد هربت وتركت الخطر محدقا بنا، فالحكومة إذا طلبتها ولم تجدها سوف تتهمنا، وأخاف أن يكون صائب بك قد دفع كتابها إلى ناظم بك رغم التماسنا ألا يفعل.»
قال ذلك وهو يلبس ثيابه وتوحيدة واقفة بباب الغرفة مطرقة لا تدري ما تقول، ولما ذكر صائبا وكتاب شيرين خافت أن يصح قول طهماز ويكون صائب قد بعث بالكتاب إلى أولي الأمر غيظا من شيرين، فقالت: «صدقت، إني أخاف أن يفعل صائب بك ذلك، فما العمل؟»
قال: «لقد وعدني أمس بأنه يصبر إلى صباح اليوم، فإذا لم ترض شيرين بعث بالكتاب. وتواعدنا على أن يأتي إلينا في الصباح، فلا يلبث أن يكون هنا. أعدي لنا الفطور.»
فنهضت إلى المطبخ وأخذت في إعداد الطعام وركبتاها ترتجفان من شدة التأثر، وتعجبت كيف يخطر لزوجها أن يطلب الأكل وهم في تلك الحال من الاضطراب!
وبعد ساعة سمعت توحيدة قرقعة مركبة تقف بجانب البيت فعلمت أنها مركبة صائب، فأخذتها الرعدة غير أنها تشاغلت بإعداد المائدة ريثما يدخل، ثم سمعت وقع خطواته وطرق عصاه على السلم، وما لبث أن صار في الدار ووضع عصاه على الحامل، وخف طهماز لاستقباله وهو يهش له. فتصافحا ودخلا حجرة الاستقبال وصائب يمشي مرحا مشية الظافر، ويتكلف التواضع والتلطف. وجاءت توحيدة بعد قليل للسلام عليه، فلحظ دمعا في عينيها فسأل عن السبب، فقال له طهماز: «لا شيء، ولكننا أصبحنا اليوم فلم نجد شيرين في البيت فاضطرب بالنا قلقا عليها.»
فأجفل صائب، وكان أول شيء خطر بباله أنها هربت فصاح: «إلى أين تهرب؟!» ونهض كأنه يهم بالخروج وقد بدا الغضب في عينيه، فاستوقفه طهماز قائلا: «تهرب؟ لا نظنها تفعل ذلك، إنها لا تلبث أن ترجع إلينا. أفرض أنها اختبأت عند بعض صواحبها يوما أو يومين ثم ...»
فابتدره صائب قائلا: «كيف تذهب وحدها؟!»
قال: «يظهر أنها ذهبت مع خريستو الخادم، لأننا لم نجده في البيت.»
অজানা পৃষ্ঠা