فقالت توحيدة: «يكفي يا بني. إن الحديث قد طال فاحتفظ بسرك، وإني أنبهك إلى شيء طالما نبهتك إليه، احذر أن تذكر شيئا من هذا القبيل أمام طهماز والد شيرين، فإنه ضعيف الإرادة بسيط القلب إلى حد لا يؤمن معه أن يستميله بعض الجواسيس ويعرف منه خبرك. إن طهماز قوي البدن لكنه ضعيف الإرادة.» قالت ذلك وتنهدت. •••
كانت الشمس قد غربت وأخذ خدم الحديقة في إنارة القناديل، والناس يتزاحمون دخولا وخروجا، ولاحت من شيرين التفاتة فرأت أباها قادما فصاحت: «هذا أبي قد جاء!»
قالت ذلك مظهرة البغتة لتنبه رامزا إلى قدوم أبيها، فالتفت رامز فرأى طهماز ومعه شاب يعرفه من أيام المدرسة حسن البزة قد أرخى لحيته على الطراز التركي، وعلى عينيه نظارة مذهبة، وقد ارتدى ثوبا أسود تعلوه «الستامبولينا» التي يلبسها الأتراك في المواقف الرسمية. ورأى طهماز يحادث الشاب ويلاطفه، فلما اقتربا منه تقدم رامز لملاقاة صديقه ورحب به وقدمه لشيرين ووالدتها قائلا: «صديقي صائب بك.»
فلما رأته شيرين نفرت منه وبان الانقباض في عينيها، لكنها تجلدت تأدبا وحنت رأسها احتراما. أما أبوها فكان كبير الجسم كبير الرأس، واسع الفم غليظ الشفتين معروفا بين أهله ومعارفه بقوة الساعدين، يلبس ثوبا واسعا أشبه بما يلبسه أهل الأناضول، وقد بلغ من قوته أنه يستطيع أن يرفع الرجل بيده الواحدة ويرميه إلى الأرض، وكان كثير الإعجاب بقوته، وهي الهبة الوحيدة التي وهبته إياها الطبيعة لأنه كان ضعيفا فيما خلا ذلك. وكان بطينا نهما لا تكاد تراه إلا وفي فيه شيء يمضغه، وكان ساعتئذ يأكل كعكة ابتاعها في الطريق. فلما دنا من امرأته وابنته ألقى التحية ببرود، ولم يسلم عليهما إلا ليقدم لهما صديقه صائب بك، فرحبتا به. فصفق صائب بك لخادم الحديقة طالبا أن يأتي ببعض المشروب، فاعتذر رامز بأنه لا يشرب شيئا وكذلك فعلت شيرين وأمها، فأبى إلا أن يفتح زجاجات البيرة والكازوزة ويدعوهم أن يشربوا فكان أكثرها من نصيب طهماز.
وفي أثناء ذلك اجتهد صائب بك أن يستلفت انتباه شيرين إلى حديثه بما أخذ يقصه من أحاديث نفوذه في دوائر الحكومة، وما أتاه من الجرأة على كبار المقربين مثل عزت باشا وتحسين باشا وغيرهما، وأنهم يخشون بأسه ويهابون جانبه، وأنه طالما انتقد رجال الحكومة على مسمع منهم.
على أن شيرين لم تزدد إلا نفورا منه، ثم تظاهرت أنها أحست بالبرد فوافقتها والدتها على ذلك التماسا للنهوض، فاستاء طهماز وقال: «ألم تشعروا بالبرد إلا الآن، وأنتم هنا من ساعات؟!» قال ذلك بخشونة تعودتا سماع مثلها منه، فلم تنبسا بكلمة.
أما صائب فالتفت إلى رامز وقال له: «إني لا أنسى الأيام التي قضيناها معا في المدرسة. إن أيام الصبا ألذ أيام الحياة. هل تذكر من كانوا معنا؟»
فلم ير رامز بأسا من مسايرته فقال: «كان معنا كثيرون، أذكر منهم نيازي و...»
فقطع صائب كلامه قائلا: «نيازي؟ أظنه الآن ضابطا في الجندية.»
قال: «نعم.»
অজানা পৃষ্ঠা