يأتي عمها مصطفى (شقيق أبيها) في زيارة من حين إلى حين، ويشارك في الجدل الدائر، كان مصطفى عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، يقول: إن الإسلام هو الحل لكل المشاكل.
لا تفهم الطفلة شيئا من النقاش الدائر بين أبيها وأمها وخالها وعمها، قد تعلو أصواتهم الزاعقة وهي نائمة في غرفتها، تتصور أحيانا أن معركة ستنشب، ويضرب كل منهم الآخر بالكراسي أو اللكاكيم، لكن سرعان ما تهدأ أصواتهم، ثم تسمع ضحكاتهم المرحة في غرفة الطعام، واصطكاك أسنانهم وملاعقهم وسكاكينهم، في أثناء تناولهم العشاء الشهي من اللحم المشوي، رأت أمها تبكي ذات يوم وتصب اللعنات على عبد الناصر وأعوانه. - شوية عساكر مجرمين يا فؤادة، حطوا خالك محمود وعمك مصطفى في السجن. الكلمة ترن مفزعة بصوت أمها. - السجن؟
تشرح لها أمها ما حدث، محمود ومصطفى وغيرهما من الشباب في السجون، يعاقبون على نقدهم «سياسة عبد الناصر» بالحرق بأعقاب السجائر المشتعلة، ونفخ بطونهم بالخراطيم والضرب بالشوم. - شوية عساكر مجرمين يا فؤادة.
لم تكن تفهم بعد لا في السياسة، ولا في الشيوعية، ولا الإخوان المسلمين، رأت أمها تبكي ذات يوم، وأبوها يلوح بيده في وجه مذيع الأخبار في التلفزيون ويزعق: هزيمة منكرة مش نكسة يا عبد الناصر يا كذاب.
لم تعرف حينئذ ما الفرق بين الهزيمة والنكسة، كان زميل لها في المدرسة الابتدائية، اسمه جابور، أبوه ملحق ثقافي في سفارة المجر، أمه من أب إسباني وأمها جزائرية وجدتها نرويجية، خليط من الدماء والأجناس يبدو ساحرا، طويل القامة ممشوق الجسم، يلعب التنس ويعزف على الكمنجة، أصابعه طويلة نحيفة ممشوقة العظام.
لم تكن تحب الأولاد من ذوي الأصابع القصيرة السمينة، مثل خالها محمود، كانت أصابعه قصيرة سمينة، تشبه أصابع أمها، عمها مصطفى كانت له أيضا هذه الأصابع القصيرة البضة، بالرغم من أنه شقيق أبيها.
كانت فؤادة معجبة بقامة أبيها الطويلة النحيفة، يمارس الجري والسباحة في النادي، وأحيانا التنس، ورث أبوها قامته الفارعة من جدته، لم تدخل جدته مدرسة، علمت نفسها بنفسها، وكتبت قصائد الشعر منذ طفولتها، كان جابور أول حب في حياة فؤادة من أول لقاء، أصابعه النحيفة تضرب أوتار الكمنجة بقوة، تصورت أنها يمكن أن ترحل معه إلى المجر أو إلى آخر الدنيا.
لم تكشف سرها الخطير إلا لزميلة لها في المدرسة، تسكن في بدروم العمارة المجاورة لها، أبوها عامل فقير في مصنع لكنه أب حنون، يحب ابنته وزوجته، ويشتري لهما الجمبري، تأكل فؤادة مع صديقتها الجمبري الذي تطبخه أمها، تندهش الأم لأن ابنتها لم تصادق من بنات العمارة إلا ابنة العامل ساكن البدروم، كانت تترك لابنتها بعض الحريات غير الضارة، مثل حرية اختيار الصديقات، أما جابور فلم تعلم عنه الأم شيئا، إلا بعد سنوات من رحيله مع أبيه إلى المجر.
يوم الوداع أعطى كل منهما الآخر خصلة من شعر الرأس، خلط كل منهما قطرة دم من إصبع الآخر، تبادلا القسم على الزواج بعد أن يكبرا ويستقلا عن الأب والأم.
شاركت فؤادة، وهي طالبة في الجامعة، في تظاهرات الخبز، نسيت حبيبها القديم جابور بمرور الأيام وحرارة الأحداث، وقعت في حب ماجد أحمد زميلها في الجامعة، لم يكن حبها الجديد «قويا» مثل السابق في المراهقة، ربما نضجت أكثر، أو أن «ماجد أحمد» لم يكن هو الحب.
অজানা পৃষ্ঠা