يقهقه بالرغم من كلمة جدا، غباوة العقل أم غباوة الإحساس، يظن أنها تحبه لمجرد لحظة حزن عابرة منحته فيها نفسها مرة واحدة، سقطت من ذاكرتها، راحت في العدم، لكنه لا ينساها، يتصور أنها تحبه أو يمكن أن تتزوجه لمجرد هذه المرة الوحيدة في حياتها. - يا كوكب، السنين بتجري مش خايفة من سن اليأس؟ - مش خايفة من حاجة؟ - مش عاوزة تكوني أم لأطفال حلوين زيك؟ - مش عاوزة أطفال. - أمال عاوزة إيه؟ - ماعرفش.
تخرج من فمها كلمة «ماعرفش» كالقذيفة في وجهه، حركت رأسها في ضجر إلى الناحية الأخرى، كان بكري يتحدث مع آخرين وقفوا في جواره وهو جالس، تحرك رأسه ناحيتها فالتقت عيونهما في لحظة خاطفة كالبرق، كأنما انفتحت خلية في عقلها ثم انغلقت، برغم سرعتها انتقلت رسالة منه إليها: أنا أشعر بما تشعرين به، أعرف كراهيتك لكل هذا الرياء، أعرف الكره المتراكم في قلبك لهذا النظام، لكن لا تقلقي أنا أفهمك وواقف إلى جانبك.
مرت الرسالة مثل بارقة ضوء انطفأت كأن لم تكن، عاد وجه بكري جامدا كما كان، لحظة حدثت وانتهت، لم تتيقن قط حدوثها، ربما كانت من صنع خيالها.
عادت إلى مكتبها وجلست ساهمة، زميل لها في الجورنال يشعر مثلها بفساد العالم، يكره الحزب الحاكم مع أنه من أعضائه البارزين، ربما ينتمي إلى المتمردين من أعداء النظام؟ كانت تسمع الهمس يدور في الجورنال عن جماعات وخلايا سرية من الثوار تعمل تحت الأرض، تطلعت حولها تتفقد الجدران، كانت أجهزة حديثة توضع داخل الحيطان في المكاتب والبيوت، تلتقط أي نفس وأي حركة توحي بالتمرد.
كوكب
اعتقل سكرتير التحرير منذ يومين، التقطت الأذن السحرية حديثه مع زوجته في غرفة النوم، قبض عليهما البوليس في الصباح قبل أن يرتديا ملابسهما، وقدما للمحاكمة بتهمة الخيانة الوطنية. الساعة فوق مكتبها تشير إلى الواحدة والربع، ساعتان إلا ربعا أمامها لتنتهي من كتابة مقالها الأسبوعي، كل يوم أربعاء يظهر المقال في الصفحة الأخيرة، أشادت الصحف العالمية بالديموقراطية في مصر، نشرت النيويورك تايمز أخبار الانتخابات المصرية في الصفحة الأولى، نجح الرئيس بأغلبية كبيرة، أعلن الرئيس الأمريكي وقوفه مع الرئيس المصري في خطواته الحثيثة نحو الديموقراطية، صدر قرار من رئيس التحرير بخصوص سفر الصحفية كوكب إلى مدينة نيويورك لتغطية المؤتمر الصحفي الدولي عن الديموقراطية، لم يبق على موعد السفر إلا أسبوع واحد، كان رئيس التحرير قد كلمها عبر التلفون الشهر الماضي، مقالك الأربع اللي فات كان رائع يا كوكب، ناس كثير مدحت المقال منهم معالي الوزير، سألني عنك، قلت له دي أحسن صحفية عندي في الجورنال، ولها قراء كتير، سألني هي حلوة زي صورتها المنشورة مع المقال، قلت له هي أحلى من الصورة مليون مرة. يقهقه رئيس التحرير من خلال سماعة التلفون، تهتز الأسلاك مع الجدران مع الصورة فوق الحائط، إنتي عارفة يا كوكب إن الوزير بتاعنا من أقرب الناس للراجل الكبير، ويمكن تبقي رئيسة التحرير وأنا أروح في شربة ميه.
هذه هي طريقة رئيس التحرير في التعبير عن أي حدث، ربما لم يحدث شيء على الإطلاق، وربما حدث العكس، أي أن الوزير أبدى غضبه من مقالاتها، لا يمكن معرفة إن كان رئيس التحرير جادا أم هازلا. - أنا مش عاوزة أكون رئيسة التحرير. - عاوزة تكوني إيه؟ - عاوزة أكون زوجة وأم. - اتجوزي بكري هو غرقان في حبك لشوشته.
الاجتماع الكبير في قاعة التحرير، حضرته كوكب قبل سفرها، كانت القاعة مزدحمة بالمحررين، أصوات مناقشات وصخب ودخان سجائر، وغليون بني غامق من هافانا يهتز بين شفتي رئيس التحرير، وشفاه المحررين الكبار ذوي الأعمدة اليومية، بينما هي جالسة رأت بكري جالسا في الصف الأمامي، يتابع ما يدور باهتمام كبير، أنفه من الجانب مقوس قليلا شفتاه مطبقتان، يبدو عليه الاستغراق، أو النوم العميق وعيناه مفتوحتان.
كان رئيس التحرير يتحدث بصوته الجهوري عن الديموقراطيات في ظل الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة في القرن الواحد والعشرين، يقول: إن العالم سيشهد نوعا جديدا من الديموقراطية، يجمع بين مزايا الرأسمالية ومزايا الاشتراكية، إيجابيات القطاع الخاص وإيجابيات القطاع العام، لن يكون للدولة سيطرة على رجال الأعمال إلا بالقدر الضروري لضمان حرية التجارة، والديموقراطية، وعدم هروب المستثمرين الأجانب.
قال محرر في الصفوف الخلفية: إن دور الدولة لا بد أن يزداد، وإلا طغى المال على السياسة وتجاوز الفساد ما هو عليه الآن.
অজানা পৃষ্ঠা