فوق عمود النور في الشارع أرى الصورة الضخمة معلقة، الوجه المربع بأنفه الطويل وشاربه الأسود وأسنانه البيضاء الحادة في ابتسامة تشبه التكشيرة، صورته كانت معلقة في صالة بيتنا، وفي المدارس والشوارع والأبنية وأعمدة النور، ترمقه عيون الناس في وجل، يهمسون من دون صوت «الراجل الكبير».
يخلع أبي الصورة من فوق الجدار في الصالة، إلا يوم الإثنين، حين يبقى في البيت مرتديا البذلة ومنتعلا الحذاء، بذلته أنيقة وحذاؤه لامع يشبه حذاء جدي، يقرأ الصحف في غرفة الصالون، ينتظر مجيء رجل نحيف أسمر اللون يرتدي بذلة صفراء شاحبة، يحمل حقيبة رمادية باهتة، تقدم أمي له القهوة أو الشاي، وقطعة من الكيك أو البسكوت، وأحيانا تناوله بضعة جنيهات داخل مظروف أبيض مغلق، تهمس في أذنه: مصاريف المواصلات يا أستاذ.
يخرج الرجل مع أبي من الصالون، الحقيبة تحت إبطه، يبتسم في وجهي، أسنانه صفراء مشرشرة، عند زوايا فمه لعاب أبيض متجمد.
ويسألني: اسمك إيه يا شاطرة؟ - داليا. - عمرك كام سنة؟ - ثمانية. - في مدرسة إيه؟ - ماعرفش.
تخرج كلمة «ماعرفش» من فمي مثل قذيفة ألقي بها في وجهه، في عينيه نظرة مخيفة تتخفى تحت جفونه، كنت في المدرسة النموذجية للبنات، أشعر بنوع من السرور حين أخفي عنه اسم مدرستي، في زوايا عينيه الغائرتين دموع متجمدة تشبه العمش، تبربش عيناه بحركة خفيفة، يتلصص على كل شيء في بيتنا، حتى صدر أمي يرمقه حين تنحني لتقدم له القهوة قبل أن يخرج.
يتطلع إلى الوجه المربع في الصورة المعلقة في الصالة، ينحني قليلا يؤدي له التحية، ثم يرشقني بنظرة فاحصة: معبود الجماهير، عارفاه يا شاطرة؟ - ماعرفوش.
تنطلق من فمي كلمة «ماعرفوش» حادة مدببة مثل قطعة لعاب متجمدة في حلقي.
بعد أن يخرج الرجل تقول أمي إنه مخبر في الجهاز السري. يضحك أبي من دون صوت أو يبتسم، كان الضحك غائبا في بيتنا، تنفرج شفتا أبي المطبقتان عن ابتسامة أو نصف ابتسامة، لم أسمعه يضحك بصوت مسموع، أمي تضحك بصوت عال مع الضيوف في غرفة الصالون، كانت لأمي ضحكة ترن في الجو فيزول عني الخوف الغامض الدفين، وأحيانا أسمعها تغني لنفسها أو مع الراديو، فأغني معها أغنية أم كلثوم، افرح يا قلبي، من دون أن يفرح قلبي، تحيطني أمي بذارعيها فنرقص معا على إيقاع الموسيقى، كان جسمي نحيفا خفيفا لكن قلبي ثقيل بالحزن، إلا لحظات قليلة مفاجئة يشق ضوء الشمس قلبي، تحت ضلوعي أحس بالخفقان، أتلفت حولي أتوقع شيئا يحدث، أن يدق الجرس ويدخل أبي.
كانت صورته معلقة فوق الحائط، ملامحه لا تشبه ملامح أبي.
أشعر بالفرح حين تصطحبني أمي إلى مكتبها، له نافذة كبيرة تكشف مدينة القاهرة من هضبة الأهرامات إلى جبل المقطم وقلعة محمد علي ونهر النيل، كان لها زميلة في الجورنال اسمها كوكب، سمينة مربعة الجسم تترجح فوق كعبها العالي، تقرصني في خدي. - بنتك حلوة يا فؤادة. - أيوه. - مش شبهك ولا شبه جوزك. - أيوه. - يا ترى جيبتيها منين؟ - من عند ربنا؟ - زي ستنا مريم؟ - أيوه. - لا يمكن حد يغلبك يا فؤادة؟ - لا يمكن. - تمشي من إسكندرية لإيطاليا؟ - أيوه.
অজানা পৃষ্ঠা