غابت سعدية عن شغلها بعض أيام، جاءت الأستاذة تزورها ومعها كيس فيه تفاح، التفاح يعوضها عن الدم يا سعدية، إزيك يا هنادي؟
ترمقها هنادي بعينين حمراوين ولا ترد.
تمد يدها بتفاحة. - كلي التفاحة دي يا هنادي.
تدفع هنادي التفاحة من يدها بغضب فتسقط على الأرض، تلتقطها الأم بسرعة وهي تلهث. - عيب عليكي يا هنادي. - معلهش يا ست فؤادة، اعذريها، نزفت دم كتير وراسها سخنة زي النار.
باين عندها حمى، خايفة عليها تروح مني. - تروح منك ازاي يا سعدية؟ العملية نجحت والحمد لله وكلها يومين وتقوم بالسلامة، إديها قرص كل ست ساعات من الدوا ده لمدة تلات أيام، وخدي المبلغ ده سلفة تحت الحساب، اعملي لها فرخة وشوربة خضار، لازم تاكل كويس عشان تعوض الدم. - كتر خيرك يا أستاذة ربنا يطول عمرك يا رب، أرد جمايلك دي كلها ازاي؟ - يا سعدية ما تحمليش هم، إحنا عيلة واحدة.
كان العيال في الزقاق قد تجمعوا حول سيارة الأستاذة يتحسسون سطحها الأملس الناعم، تتلصص عيون الجيران وهم يتهامسون يا بختها سعدية بالأستاذة فؤادة، يمصمصون شفاههم، ربنا ياخد بيد بنتها هنادي، ينخفض الهمس فلا يكاد يسمع، فضيحة هنادي وأمها على كل لسان في الحي، لا تنام سعدية طوال الليل، ابنتها راقدة تهذي من الحمى، تبلل الأم منديلها بماء الصفيحة وتمسح جبهتها الساخنة، يجف المنديل فتعود تبلله بالماء، تجس الجبهة وتشهق، مولعة نار يا بنتي، ترفع كفيها نحو السقف الأسود من الدخان، تخاطب الرب يا رحيم يا كريم ماليش غيرها. يغلبها النوم فتغفو لحظة وهي جالسة، ترى نفسها داخل بركة من الدم، من حولها أجسام متكورة حول نفسها بالجلاليب الدمور، ملوثة بالطين والدم، وأطفال عراة يزحفون على الأرض مثل الدود، التقطت عيناها وجه ابنتها تزحف، يشبه وجهها وهي طفلة، مدت إليها يدها عبر أكوام اللحم والدم، فأطبقت الأصابع الصغيرة الدقيقة على إصبعها، تضمها إلى صدرها ترضعها، ثديها جاف تعتصره فلا تسقط منه قطرة لبن، ولدتها فوق الأسفلت في السجن، ضغطت بكفها على بطنها حتى خرجت المشيمة، مثل رغيف ساخن من الدم، حفرت بأصابعها حفرة في الحوش ودفنتها، قطعت الحبل السري بحجر له رأس مدبب، شدت الدوبارة من سروالها وربطت السرة، كانوا ينادونها باسم سعدية القتالة، تقول إنها لا تقتل ناموسة، كانت تشقى في الحقل طوال النهار وهي حامل، زوجها راقد في الدار يأكل ويدخن الجوزة، تخفي نصيب ابنها المريض من الخبز والجبن في حفرة بالجدار، والنقود تدخرها لتشتري له الدواء وتخبئها تحت الأرض، يسهر زوجها في الغرزة يدخن الحشيش ويعود آخر الليل، يأكل طعام ابنها المريض ويفتش عن النقود، إن لم يعثر على شيء يضربها حتى تعض الأرض، في يوم عادت من الحقل فلم تجد النقود، ابنها راقد يلفظ أنفاسه الأخيرة، مات ابنها بين يديها، لفت رأسها بالطرحة السوداء وسارت إلى الغرزة، رأته متربعا وسط الرجال يتعاطون الحشيش، أمسكت الشومة وضربته فوق رأسه، نقلوه إلى المستشفى وأخذوها إلى السجن، كانت حاملا بهنادي. فتحت ابنتها جفونها الحمراء الوارمة وشهقت، أمه إنتي فين؟ أفاقت سعدية وهتفت أنا هنا جنبك يا هنادي. عطشانة يامه. أسرعت الأم وناولتها كوب الماء، اشربي يا بنتي بالشفا، ناولتها قطعة من تفاح الأستاذة، وضعتها بين أسنانها ثم بصقتها على الأرض: مش عاوزين منهم حاجة يامه. - إحنا عايشين من خيرهم يا هنادي. - مش عاوزة منهم حاجة. - ربنا يشفيكي يا بنتي.
في السجن
غابت سعدية عن الشغل أسبوعا ثم عادت، نهضت الأستاذة تفتح الباب، تعرف أنها سعدية من دقة الجرس، تبتهج فؤادة بعودة سعدية، لا تستريح لأي شغالة غيرها، تشعر معها بالطمأنينة، أمينة لا تسرق شيئا من البيت، لا تختلس أي نقود مما تشتريه من السوق، مستقيمة الأخلاق، لا تصدر منها كلمة خارجة على الأدب، تعرف حدودها، لا تتعدى المسافة بين الخدم والسادة، ملابسها نظيفة دائما بالرغم من الفقر، لا تشم منها رائحة عرق، رغم التعب والشغل طوال النهار، كانت زميلتها في السجن، نزفت الدم فوق الأسفلت وهي تلد ابنتها هنادي، كما نزفت هي دمها في السجن ذاته وهي تلد ابنتها داليا، خرج شاكر بيه من غرفته مرتديا البيجامة البيضاء الحريرية. - اعملي النهارده صينية مكرونة بالبشامل. - حاضر يا بيه. - وحشتنا الصواني بتاعتك في الفرن. - ماتشوفش وحش يا بيه.
يجلسان في غرفة الطعام يتناولان الفطور، يقرآن الصحف في صمت، يعلقان على الأخبار بكلمات قليلة، يتناقشان في موضوع ما، يتبادلان بعض الفكاهات، ينظر شاكر إلى التايير الأنيق ويقول لزوجته: لازم عندك ميعاد مهم؟
تضحك فؤادة في مرح وتتساءل: ميعاد مهم؟ مع مين؟ - إيش عرفني أنا؟ - فيه حد مهم في البلد؟
অজানা পৃষ্ঠা