توقفت لحظة، هدأت أنفاسي والخفقات تحت ضلوعي، مددت يدا مرتعشة تدق الجرس، كنت أرتدي ثوبي الأرجواني الغالي، الذي يشبه فستان الفنانة في الفيلم، يلتف حريره الناعم مشدودا حول الردفين الممتلئين بأنوثة بارزة متحفزة، فتحة صدره واسعة تكشف الشق العميق بين النهدين، يتفجران بالشبق العنيد، اشترى هذا الثوب لي رجل اسمه أشرف نور، يرفعني هذا الثوب من طبقة الشغالات وخريجات السجون إلى طبقة الدكاترة وسيدات الطبقة العليا، كانت أمي تعرف بيوت العائلات الراقية، في حي الزمالك وجاردن سيتي، والشقق المفروشة للسائحين العرب والأجانب، تدعك ظهورهم ومراحيضهم، ثم تشتري لي البسبوسة وتدفع إيجار الغرفة ومصاريف المدرسة، ضميري ينزف دما يا أمي، كنت لا أطيق ملمس يديك المشققتين، ولا رائحة المراحيض في أنفاسك المتقطعة، يصحو ضميري في النوم ليؤنبني، في الصباح أنسى أمي وكل نزيلات السجن، أرتدي ملابسي وأندفع نحو الشغل، حلم الطفولة لا يفارقني، هو بنفسه فتح الباب، وليس الخادم أو الخادمة، كان وحده في الشقة، زوجته مسافرة، والخادمة في إجازتها الأسبوعية، خفق قلبي في توثب، هو بنفسه حدد الموعد والمكان، اقترحت أن يكون لقاؤنا في حديقة الأتيليه، حيث يلتقي الأدباء والأديبات في أول التعارف، تكتسي القصص الغرامية بأغطية سياسية، وتتخفى شهوات الجسد تحت قصائد من الشعر، لم أكن أديبة أو فنانة معروفة أو غير معروفة، كنت «لا شيء»، لم أدخل مدرسة، لم أتعلم الأدب أو الفن، فتاة معدمة معدومة الأهل، مولودة في الزقاق، اشتغلت أي شيء لأعيش، كانت أمي تقول: العيش فوق كل حاجة يا بنتي، الجوع كافر مالوش رب. بعد موتها بدأت أفحت الأرض، وأحش البرسيم، أحمل السباخ وروث الجاموس على رأسي، ادخرت أجرة القطار إلى القاهرة، في أعماق رأسي صورتها محفورة، أرسمها بالقلم على قصاصة ورق، أرسم العينين والأنف والفم والخدين، ملامحها تشبه ملامح الفنانات على الشاشة وخصوصا العينين والأنف، في عالم القاهرة الضخم عشت، قطرة في بحر أو ذرة تذروها الرياح، ليس لي اسم ولا أهل ولا بيت ، أعيش تحت جبل المقطم، في حي القبور، بيوت الأحياء الموتى، يرقدون في قبر واحد، رجال ونساء وأطفال لا جنس لهم ولا عمر، كالقرش الممسوح تتلاشى ملامح الوجوه، ينامون مع البراغيث والناموس والبق، وذباب الليل والخنافس والدود، يبلعون الدخان مع السم، أملا في الموت والنسيان، كنت أعيش على مبالغ صغيرة من أعمال غير نظيفة، ورثت مهنة أمي في دعك المراحيض، ذهبت لتنظيف بيت أستاذ من سويسرا اسمه «جوزيف جورج»، نشأ بيننا نوع من العلاقة استمرت ستة شهور، ثم عاد إلى بلده، كان يمنحني أجرة قيمة تقيني الأعمال غير الشريفة، يحوطني بذراعيه في حنان، يضعني على السرير الناعم الوثير، يقبل شعري وعنقي وفمي، ويمص الحلمتين كالطفل الرضيع، يهبط بشفتيه حتى أسفل بطني، يفرق شعر العانة ويقبل الشفتين النديتين بخشوع، يقبل كل شيء باحترام يقترب من التقديس، ثم يدخلني برفق، برقة شديدة، لا أشعر بألم أو هوان، يبدو جسدي من تحته مقدسا بالرغم من العري الكامل، ناديته مرة أبويا، تصورت أن الأب يكون على هذه الشاكلة، لم أعرف شكل أبي، سمعت أمي في الليل تقول: كان أبوك يسكن في قصر على النيل، لونه أبيض، حواليه جنينة ملأى وردا وزهورا، في وسطها تمثال لملاك له جناحان. كانت أمي تصف لي الشارع، تقول: كان اسمه شارع الجنائن، تظلله الأشجار، وشبابيك القصر لونها أخضر، كان أبي يطل من الشرفة على النيل، مرتديا بذلة أنيقة من الصوف الإنكليزي لونها رصاصي، فيها خطوط زرقاء رفيعة، ربطة العنق براقة من الحرير، لونها أحمر فيها خطوط زرقاء أيضا، ولون جوربيه من لون ربطة العنق. عرفني جوزيف جورج، قبل سفره، بصديق له من السويد اسمه غريب يصعب نطقه، عشت معه شهرا واحدا ثم سافر، كان مثل جوزيف في الرقة والحنان، بكيت في حضنه الليلة الأخيرة، علمني جوزيف شيئا من الإنكليزية يكفي للتحاور البسيط، لماذا تبكين يا حميدة؟ - أريد أن أكون امرأة محترمة. - أنت امرأة محترمة يا حميدة. - إذا كنت محترمة فلماذا لا تأخذني معك إلى السويد؟ - السويد؟ - ممكن أن أشتغل هناك . - تشتغلي إيه يا حميدة؟ - أشتغل فنانة.
ابتسم السويدي في حنان، وهو يربت كتفي. - سأكتب لك من السويد يا حميدة.
لم يكتب رسالة واحدة، وصلتني منه بطاقة صغيرة في السنة الجديدة فيها كلمتان فقط بحبر أحمر، هابي كريسماس ثم لم أسمع عنه، عرفني جوزيف قبل سفره بمنتج في السينما اسمه «أشرف نور»، من أثرياء الخليج العربي، قال: وجهك فوتوجينيك. خبطني على مؤخرتي بيده، طيزك مغرية يا بت. أردت أن أصفعه على وجهه أو أركله في بطنه بقدمي، لكني ابتلعت الإهانة، تدربت على ابتلاع الإهانات من أجل العيش، صوت أمي «العيش فوق كل حاجة.»
الجوع كافر ما لوش رب، كنت أومن بوجود ربنا، لكن حين يقرصني الجوع أو يهدر رجل كرامتي أكف عن الإيمان بشيء، كان أشرف نور سمينا مربعا أبيض، وجهه مستدير مثل القمر، دون الجاذبية أو الجمال، كان يسكن في الزمالك في جوار بيت أم كلثوم، أنام وأحلم بأن أكون محترمة مثل أم كلثوم، كانت فقيرة مثلي وأصبحت فنانة كبيرة، وأسأله هل تأخذني فنانة في فيلمك الجديد؟ يقبض بأسنانه على شفتي السفلى فأصرخ، تشتعل شهوته مع شدة ألمي، يهمس في أذني بخوار ثور، أنت فنانة في الحب، صدره يغطيه شعر أسود كثيف، له عضو ضخم لونه أحمر، يندفع داخلي بسرعة النفاثة، أحس بأنه في عمق بطني، يضربني في أحشائي برأس شاكوش، ضربتين أو ثلاثا ثم ينسحب متأوها، مرتخيا صغير الحجم، مبللا كالخرقة البالية برائحة منفرة، ثم أسمع شخيره بعد أن ينام فجأة، أتركه نائما وأتقيأ في الحوض، لا شيء في معدتي إلا ماء أصفر كلون الكركم، بطعم المرارة والمهانة، ذقت طعم الاحترام مع رجال من سويسرا والسويد، يعتبرون المرأة إنسانا وإن كانت فتاة ليل، أسوأ نوع من الرجال هم أثرياء النفط، يعتبرون المرأة بلغة ينتعلونها في القدم، أو نعجة يركبونها في الليل، كنت أحلم بالسعادة والاحترام، مثل نجوم السينما، أمي قرأت أسرار الغيب في قاع الفنجان، قالت: حتبقي نجمة فنانة. غرست أمي في عقلي بذر الطموح، استحال في جسدي فيروس مرض، زحف السم الزعاف في كل كياني، ينخر عظامي، يجري في عروقي مع الدم، سرقت من «أشرف نور» مبلغا من المال، كان يخبئ أوراق البنكنوت تحت البلاطة بلا عدد، داخل جراب من الجلد تحت السرير، دخلت بالمبلغ المسروق مدرسة الكومبيوتر، تفوقت على زملائي في حركة الأصابع فوق الحروف، بدأت أكسب رزقي في الكتابة على الكومبيوتر، رسائل الدكتوراه والماجستير لطلبة الجامعات، أو سيناريوهات أو روايات مكتوبة بخط اليد، أقوم بنسخها على شاشة الكومبيوتر، ثم حظيت بوظيفة سكرتيرة لرجل أعمال في شركة بمصر الجديدة، نام معي ثلاث مرات في أسبوع واحد، دفع لي راتب ثلاثة شهور، بدأت سمعتي تسوء، ترمقني عيون الرجال بنظرة أعرفها، أصدها عني كالموت، الموت أخف من الهوان، قررت أن أترك الشركة وأبدأ حياة نظيفة، قبل أن يهجرني «أشرف نور» عرفني بأديب اسمه شاكر، كان ينوي إنتاج روايته للسينما، عنوانها رغبات دفينة، تتسرب من صفحاتها الخمسمائة والخمسين رائحة العقم والشيخوخة، وشيء من المراهقة المتأخرة، يغرق بطلها العجوز في خيالات شبقية كلما وقعت عينه على لوليتا الصغيرة، خط يده أيضا كان لا يقرأ، دفع لي مقدما لأكتبها على الكومبيوتر، معتذرا عن خطه الرديء، لكن روايته كانت أصعب في القراءة من خط يده، ناولني الأجرة داخل مظروف أبيض بأصابع مرتعشة مكرمشة، تعلوها بقع نمش سوداء، يلعق شفته السفلى بطرف لسانه وهو يتكلم، من تحت النظارة الطبية السميكة يرمقني، يتطلع إلى لوليتا البريئة، كنت أرتدي وجهي العذري بمهارة تدربت عليها وبذكاء فطري، أجلسني في الصالة التي تغطي جدرانها رفوف الكتب، الأغلفة الجلدية الرصينة، يستمد من رصانتها ملامح الأستاذ الكبير، يرتدي بذلة لونها رصاصي فيها خطوط بيضاء رفيعة، من الصوف الإنكليزي، الجو يميل إلى الحرارة أول الربيع، من وراء الصالة شرفة كبيرة تطل على كورنيش النيل. - تشربي إيه يا أستاذة حميدة؟ - ولا حاجة يا أستاذ. - لازم تشربي حاجة يا حميدة.
خلع علي بسرعة لقب الأستاذة، حافظت على لهجتي المتحفظة، لا ألغي المسافة الضرورية لاحترامي، تدربت ألا أرفع الكلفة بيني وبين الرجال، يرتفع ثمني بازدياد المسافة، فهم النظرة في عيني: تشربي إيه يا أستاذة حميدة؟
كانت موسيقى حالمة تنبعث من ركن المكتبة، يحوطه ضوء غير مباشر، يكشف عن تمثال برونزي للإلهة إيزيس، ترتدي ثوبا شفافا لا يخفي نهديها وفخذيها، تحمل فوق رأسها قرص الشمس. - تشربي إيه يا أستاذة؟ - ولا حاجة يا أستاذ شاكر. قلتها بحزم ودخلت في الموضوع: كان ممكن أكتب رواية حضرتك ع الكومبيوتر لكن أنا مسافرة الإسماعيلية خالتي عيانة، عندي زميل ممتاز مستعد يكتبها. - إنتي عارفة خطي كويس يا حميدة، وأخطائك قليلة، عندك دقة في شغلك، بتاخدي بالك من الهمزة والنقطة والفواصل، أكتر شيء يتعبني هو التصحيح ع الكومبيوتر، معظم خريجي الجامعات النهارده ما يعرفوش مبادئ اللغة، وكمان مهملين، إنتي يا أستاذة حميدة أنقذتيني من العيال دول. - زميلي مختلف عنهم يا أستاذ، ومجتهد، وعنده ضمير، حضرتك جربه في الرواية دي، والرواية الجاية أنا أكتبها. نهض ليرد على جرس التلفون، ظهره منحن نحيف منكمش، يشد عضلات ظهره ليبدو أكثر طولا، مفاصله ليست مرنة، يمط عضلات عنقه ويمشي بخطوة يجعلها رشيقة، كانت ضفائري مصففة لأبدو في العشرين أو أكثر قليلا، لم يعد أمامي إلا ثلاث سنوات وأصبح في الأربعين، كلمة عانس تؤلمني مثل الخنجر، فكرت في اصطياده كزوج، لكن عندي بعض مبادئ، لا أسبب ألما لامرأة مثلي ولا أقبل أن أكون زوجة ثانية، يبدو لين العريكة من نظرته المنكسرة، سهل الوقوع في الحب، كلما تقدم الرجل في السن أصبح فريسة سهلة، في عينيه شيء من حنان، يذكرني بجوزيف وصديقه السويدي، أنا في حاجة إلى حنان الأب قبل الحب والجنس، لا توحي يده أنه قادر على الضرب، كرهت أعضاء الرجال الضخمة القوية، ترتعش أصابعه قليلا وهو يمسك القلم أو الفنجان، ليس ممشوقا، وليس لجسده جاذبية الرجولة، البذلة الأنيقة لا تكفي، تخيلته في السرير عاريا، قلت لنفسي: لا يمكن أن أدخل معه الفراش وإن دفع مال قارون. تشربي عصير لمون؟ - كوكا كولا يا أستاذ. - أنا لا أشجع المنتجات الأمريكية يا أستاذة. - متأسفة، هل أنت شيوعي؟ - أنا اشتراكي مش شيوعي. - وإيه الفرق يا أستاذ شاكر؟
الشيوعي عضو في الحزب وأنا مستقل تماما. بسط ذراعيه في الهواء وهو يردد: مستقل تماما. كأنما يهم بالطيران فارتطمت ذراعه برأس نفرتيتي فوق رف المكتبة، سقط التمثال البرونزي على السجادة العجمية السميكة من دون صوت، انحنى ببطء وأعاده إلى الرف، نهضت أستعد للخروج على مهل، لم أشأ أن أفقده الأمل، تعودت أن أترك الباب مفتوحا أو مواربا أمام الرجل، أملا في العودة عند الحاجة، روايتك عجبتني جدا يا أستاذ، كان نفسي أكتبها ع الكومبيوتر لولا السفر.
اتجهت عيناي إلى عينيه مباشرة، لا أخشى النظر إلى عمق عينيه.
لا يملك القدرة على رؤية الكذب في عيني إلا الأذكياء الموهوبون، لمعت عيناه الذابلتان بالفرح الطفولي. - صحيح عجبتك روايتي؟ - جميلة جدا يا أستاذ.
لم أعد أشك في قدرتي على الكذب كما كنت منذ عشر سنوات، تدربت خلايا جسدي وعقلي على امتصاص السموم وهضمها من دون أن يهتز لي جفن، روايتك يا أستاذ جميلة قرأتها بمتعة.
অজানা পৃষ্ঠা