قصدي يا فؤادة أنك ترفهي عن نفسك شوية، إنتي أخلاقية أوي، إنتي جادة زيادة عن اللزوم، الحياة مش كلها شغل، الترفيه مهم والاسترخاء، ابتسمت فؤادة، كانت جالسة في مقعدها مسترخية، أنا في حالة استرخاء يا كوكب أعرف، لكن ليه ترفضي دعوتي؟ - أقبلها ليه؟ لأي سبب يا كوكب؟
هل كل شيء عندك له سبب يا فؤادة؟ ألا تفعلين شيئا بدون سبب؟ لمجرد الترفيه أو التسلية مثل غيرك من الناس، حياتك وشخصيتك وكلامك كله جد، كل حاجة عندك مهمة، كل دقيقة من وقتك مهمة، حتى وأنت قاعدة ساكتة في الكرسي، ألا يمكن أن تكوني غير مهمة مرة واحدة في حياتك. - لأ. - ألا تشعرين بالتعب من مناطحة القدر، من حكاية البطولة دي؟ - بطولة إيه؟
ماعرفش يا فؤادة، يمكن لم تقومي بعمل بطولي لكن شكلك وكلامك وطريقتك وشخصيتك كلها توحي للناس بالبطولة، لا أفهمك يا كوكب، يمكن كلمة البطولة غلط يا فؤادة، قصدي إنك مختلفة عن كل الناس، كأنك تضعين نفسك في جانب والعالم كله في الجانب الآخر، أنا أختلف معك يا فؤادة، لا أريد أن أغرد خارج السرب، أريد الانتماء إلى هذا العالم، إنه مليء بالأشياء الجميلة، ليست الحياة كلها حربا وقتالا. - قتال إيه يا كوكب؟ - أيوه قتال، أنت تقاتلين العالم يا فؤادة، قد ترتكبين جريمة قتل لتكتبي ما تريدين.
ماذا يضايقك في طريقتي يا كوكب إذا كنت راضية عن طريقتك؟
سكتت كوكب لا تعرف الرد، ثم سألت: ليه بتكرهيني يا فؤادة؟ - أنا مش باكرهك يا كوكب. - طيب ليه مش بتكرهيني؟ - وليه أكرهك يا كوكب ؟
يبدو الحوار بينهما غريبا مضحكا، تريد كوكب أن تتوقف عن الحديث وتتركها تمضي، لكنها لا تستطيع، شيء في داخلها يدفعها إلى الاستمرار. - أعرف يا فؤادة أنك لا تحبينني لأنك لا تحبين ولا تكرهين أي أحد. - مش فاهمة يا كوكب! - أنت لا تشعرين بوجود أحد، إلا ... - إلا إيه؟ - إلا أنت. - غير صحيح. - ما هو الصحيح إذن؟ - لا شيء يا كوكب، أظن أنك تشعرين بالإرهاق والأفضل أن تستريحي قليلا. - سأراك الإثنين المقبل يا فؤادة. - إلى اللقاء يا كوكب.
عندي سؤال أخير: إنتي بتشوفي حميدة؟ - أحيانا. - كانت زميلتي في المدرسة. - أيوه عارفة يا كوكب. - وكانت بليدة وبتسقط في الامتحانات. - ما فيش علاقة بين البلادة والسقوط في الامتحانات. - إزاي ده؟ - بعدين نتكلم إلى اللقاء يا كوكب.
كان شاكر يقود سيارته الخاصة بنفسه، أكبر من سيارة زوجته ومن طراز أحدث، يميل شاكر إلى السيارات الكبيرة الحديثة، بخلاف زوجته، كان عائدا إلى بيته حين لاحظ في المرآة سيارة زرقاء تتبعه، يضع السائق نظارة سوداء، في جواره رجل يضع كاسكيت يخفي نصف وجهه الأعلى، انحرف إلى شارع صغير متفرع من شارع التحرير، تبعته السيارة الزرقاء، أيقن أنه مراقب والأفضل ألا يتوقف عند البيت، فوق المقعد في جواره كانت حقيبته الجلدية السوداء منتفخة بالأوراق والصحف والمجلات، ومنشورات الحزب السرية وكان عنده موعد مهم لم يسجله في مفكرته الصغيرة خوفا من أن تقع في يد زوجته، لم تكن فؤادة تراقبه أو تشك فيه، منحته ثقة كاملة وكانت هي مشغولة بالكتابة، لا تكاد ترفع وجهها عن المكتب، تعود شاكر منذ طفولته إخفاء أشياء عن الآخرين، كانت له حياته التي لا يمكن البوح بها، منها العادة السرية في المراهقة، في مكتبها كانت فؤادة جالسة مستغرقة في الكتابة، حين دخلت كوكب حاملة بعض الأوراق وضعتها فوق المكتب، وقالت: فؤادة ممكن تراجعي المقال ده، أنا كتبته بسرعة، لازم يروح المطبعة خلال ساعة، عندي اجتماع دلوقتي مع الريس. خرجت كوكب بسرعة قبل أن تنتبه فؤادة، قبل أن تحدق إليها، قبل أن ترى هل غضبت أم لم تغضب، وهل جرحت كرامتها؟
لكن فؤادة راجعت المقال، كان ركيكا حافلا بالأخطاء، صححته قدر الإمكان وأرسلته إلى المطبعة، بعد أيام قليلة، دق جرس التلفون في مكتب فؤادة، جاءها صوت سكرتيرة كوكب، يا أستاذة فؤادة، سعادة رئيسة التحرير تطلب حضورك إلى مكتبها حالا. تذهب فؤادة وتستمع إلى ما تقوله كوكب رئيسة التحرير، تشكرها على تصحيح المقال ثم تعطيها مقالا آخر لتصححه أيضا، في البداية تخوفت كوكب، هل فؤادة تغضب؟ لكن فؤادة تأخذ المقال وتراجعه وترسله إلى المطبعة، تشجعت كوكب وبدأت تعطي أوامرها لفؤادة، تشعر بلذة غامضة ترتعش لها جوارحها وهي تعطيها أمرا، تتوقع غضبها، تتمنى أن تجرح شموخها، أن تخدش كرامتها أي خدش وإن كان طفيفا، لكن فؤادة لا يظهر عليها أي غضب أو ضيق، تواصل تصحيح المقالات الركيكة وترسلها إلى المطبعة، تصورت كوكب أنها تكتم الغضب وسوف تنفجر يوما ما، لكن الأيام مرت، ستة شهور مرت، دون أن تفقد فؤادة هدوءها، كلما ازدادت هدوءا ازداد غضب كوكب وكادت تنفجر.
كانت فؤادة قد بدأت تكتب رواية طويلة، تستغرق النهار والليل، في المكتب والبيت والشارع، تمشي كالنائمة مستغرقة في الرواية لا ترى أحدا، تخطو بحذر فوق الرصيف خشية الاصطدام بشيء، لا تحس بشيء خارج الرواية، إن قامت القيامة وسقط النظام، إن اشتعلت المؤسسة بالنار، أو سقطت السماء على الأرض، أو مات الناس فهي منصرفة إلى الكتابة لا تدري بشيء، يدق جرس التلفون وهي تكتب، يأتيها صوت كوكب أو أي صوت كأنما من كون آخر، تقول: أيوه، نعم، حاضر. كمن تتكلم في النوم، ثم تضع السماعة وهي مغمضة، لا تصحو إلا وهي تكتب، لا تنتبه لشيء إلا ما يدور في الرواية.
অজানা পৃষ্ঠা