وردت واحدة بسخرية: طلبة الطب لا يهمهم إلا المذاكرة والصم، أما طلبة الحقوق والآداب، هناك الإضراب الحقيقي.
وضحكت واحدة: فلنذهب إلى هناك.
وشدتها زميلتها ناحية الترام: فلنذهب إلى البيت، الامتحان بعد شهر واحد.
وتجمعن متكئات، متلاصقات، وسرن نحو الترام برءوسهن المطرقة إلى الأرض، وعيونهن المنكسرة، وسيقانهن المتلاصقة في تلك الخطوات الدودية الزاحفة.
وبقيت بهية واقفة وحدها، ترمق الطلبة المتجمهرين من بعيد، تحاول أن تلتقط من بين الوجوه الوجه غير العادي، والعينين السوداوين الزرقاوين القادرتين على رؤيتها والتقاط وجهها من بين الوجوه. كانت واقفة، تسند ظهرها إلى الحائط، وتتدلى من يدها الحقيبة الجلدية المنتفخة بكتب التشريح، وعيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى تبحثان، وأنفها المرتفع الحاد يشق الكون نصفين، وشفتاها مزمومتان في غضب. لم تكن تحب طلبة الطب وبالذات حين يتجمهرون في أعداد كبيرة. صورتهم وهم يتدافعون داخل المدرج لا زالت في رأسها، بنظاراتهم السميكة، وظهورهم المحنية، وكيعانهم المدببة، وعيونهم المشدودة النهمة لكل شيء له طراوة اللحم.
وفجأة اهتز الكون اهتزازة عنيفة، كصوت زلزال ارتجت له السماء والأرض، وأدركت بعد لحظة أنه ليس صوت زلزال، ولكنه صوت بشري، آلاف الحناجر البشرية تنطق بصوت واحد في لحظة واحدة، كصوت السماء حين ترعد، كملايين الأصوات التي تصنع صوتا واحدا ضخما يملأ الكون، ولا يدخل من الأذنين فحسب ولكنه يخترق مسام الجلد ويغزو جميع فتحات الجسد، ويصبح كالغاز ينتشر في لحظة ويسري كالدم في كل خلايا الجسم.
مضت دقائق قبل أن يألف جسدها الارتجاجة، ويألف معها الصوت. لأول مرة في حياتها تسمع هتافا ينطلق من آلاف الحناجر في نفس واحد طويل عريض، بطول السماء وعرضها، قوي كالريح العتية تقتلع من أمامها البيوت والشجر، ولم تكن أذناها من ضخامة الصوت قادرتين على تبين الكلمات، ثم رنت في أذنيها كلمة «مصر». لم تكن هي مصر التي كانت تسمعها من فم أبيها أو أمها أو أحد المدرسين أو المدرسات أو أحد الزملاء أو الزميلات، ولكنها «مصر» بذلك الصوت القوي الضخم، الذي يملأ الكون ويرج السماء والأرض، وسرت فوق جسدها قشعريرة، وأحست حركة الشعر فوق جلدها وهو ينتصب، وحركة تحت جفنيها دافئة ناعمة كحركة الدموع حين تتجمع، وصور قديمة من طفولتها بدأت تتابع أمام عينيها مهتزة كأنها من وراء ماء متحرك، صدر أمها الدافئ تحت وجهها ورائحة اللبن في أنفها، ورائحة التراب وأشجار التين في قريتهم، ويد أبيها الكبيرة تمسك يدها وهي تجتاز الشارع، ووجه عمتها الطويل النحيل وهي تسعل وتبصق الدم وعيون إخوتها الصغار المغمضة وهم نائمون متلاصقون وأفواههم مفتوحة يريلون فوق الوسادة، وعيون الأطفال الجائعة من حول الترعة، وطوابير المرضى في فناء المستشفى ونحيب النسوة بملابسهن السوداء المتربة مندفعات وراء الجثة الخارجة من المشرحة.
ابتلعت الدموع وظلت واقفة. كانت القشعريرة لا تزال فوق جسدها، والصوت الضخم لا زال يتردد، ومرت المظاهرة أمامها، ورأت وجوها غير التي كانت تراها في المشرحة وأجساما غير الأجسام التي كانت تندفع داخل المدرج، فالملامح أصبحت بارزة حادة كالسيف والبشرة محتقنة بالدم، والعيون مرفوعة إلى أعلى، والظهور مشدودة بغير انحناء، والسيقان مشدودة مستقيمة عضلاتها قوية، والأقدام تدب على الأرض وتهز السماء وتهز الشجر.
ووجدت نفسها بينهم كقطعة منهم، كجزء من جسد ضخم، حرارته من حرارتها، وملامحه تشبه ملامحها، وبشرتها محتقنة بالدم، وأنفها حاد يشق الكون، وعيناها شاخصتان إلى الأمام، ورأسها مرفوع، وظهرها مشدود، وساقاها عضلاتهما قوية، وقدمها تدب على الأرض، وتهز الأرض، وصوتها ينطلق وحده من حنجرتها قويا ضخما يملأ الكون، وبكل ما تملك من قوة تهتف: «الحرية لك يا مصر!»
إحساس غريب بالذوبان في الكون الضخم، في الجسد اللانهائي الممتد، في أن يصبح الإنسان جزءا من كل، ويذوب في كل ما حوله كقطرة ماء في بحر، وذرة هواء في الجو. إحساس غريب، له طعم لذيذ في الفم، وسعادة طاغية ينتشي لها الجسد، كالنشوة التي أحست بها بالأمس، في ذلك المكان البعيد في حضن الجبل، كنشوتها وهي طفلة حين كانت ترى الإله الخرافي يضغط على الشيء ثم يفتح يده فإذا هي فارغة، وضحكتها الطفولية حين كانت أمها تضغط عليها بكل قوتها ويكاد جسداهما يصبحان واحدا.
অজানা পৃষ্ঠা