كانت أمها تشهق حين تراها تقفز من فوق السلم القفزة العالية، وتسمع قلبها يدب في صدرها، وتتقلص عضلات ساقيها، وتضم فخذيها بقوة، وتسير نحو أمها بمشية البنات المألوفة، ساقاها ملتصقتان، لا تكاد الساق تنفصل عن الساق، وفي اللحظة التي تنفصلان فيها يخيل إليها أن شيئا من بينهما سيسقط، شيئا على شكل الزجاج المكسور.
وحين تختفي أمها داخل المطبخ تعود إلى القفز. لا يكفيها القفز من فوق السلم، فتقف على حافة الشرفة (كان بيتهم في الدور الأول)، وتقفز في الهواء وتصرخ من الفرح حين تحس جسمها طائرا في الهواء بغير ثقل، خفيفا كذرة هواء، والأرض لم تعد تشدها إليها، وقد تخلصت إلى الأبد من قبضتها الحديدية. لكنها ليست إلا لحظة خاطفة، وصرخة فرح واحدة، ثم تشدها الأرض إليها بقوتها المجنونة وتهبط بسرعة كنجم يهوي، ويرتطم جسدها بالأرض كقطعة حجر.
كانت تنهض، وتنفض التراب عن ملابسها، وتتفقد ذراعيها وساقيها. كل شيء في مكانه، وعظامها كما هي لم تنكسر، وتدرك بإحساس خفي لكنه يقيني أن أمها تخدعها، وأن شيئا لا ينكسر في جسدها، وتقفز وهي تمشي، وتحرك ساقيها بحرية، وتفصل بينهما بقوة، وتدرك عن يقين أن لا شيء زجاجيا بينهما، وتصعد فوق الشرفة وتقفز مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، وعشرين، وفي كل قفزة يزداد يقينها بأن شيئا لا ينكسر فيها، وأن عضلاتها قوية، وعظامها متينة، وتضرب الهواء بركبتيها في كبرياء كما يفعل أخوها حين يمشي، وتشد قامتها، وترفع رأسها، وتصوب إلى الحياة عينيها السوداوين مفتوحتين وحادتين، لا يرمش لها جفن. وبزهو غريب تحرك قدميها فوق الأرض، وحين تقف ترفع قدما فوق أي كرسي أو منضدة، ترفعها بكل ثقة فوق أي حافة عالية، كما يفعل أبوها حين يقف في الصالة، وبالكبرياء نفسها.
وتضربها أمها على ركبتها لتخفض قدمها قائلة: «عيب يا بهية، ألا ترين كيف تقف أخواتك البنات؟» وتنظر إلى أخواتها البنات وترى سيقانهن السمينة الملتصقة، وعيونهن المنكسرة، كعيني الجثة الراقدة فوق المنضدة، والمشرط في أصابعهن يرتجف حين يقترب من الرحم، أو عضو الذكر.
كانت تغضب من عيونهن المنكسرة، وتدرك عن يقين أنها لا تنتمي إلى هذا الجنس، وأن شيئا فيها لا ينكسر، وعيناها حين ترفعهما ترتفعان، وحين تثبتهما تثبتان، وليست هناك من قوة فوق الأرض تستطيع أن تجعل عينيها تنكسران. •••
في الصباح التالي ذهبت إلى الكلية ككل يوم، ودخلت المشرحة ككل يوم، لكن أبدا لم يكن دخولها ككل يوم ، ولم تكن قدماها هما قدماها، ولم تكن يدها التي تمسك بالحقيبة هي يدها، ولم تكن عيناها اللتان تنظر بهما إلى الأشياء هما عيناها، من يراها يظن أنها هي نفسها التي كانت هنا بالأمس وأول أمس وأول أول أمس، لكن أبدا لم تكن هي بالتأكيد، كانت واحدة أخرى مختلفة، والأشياء أصبحت أمام عينيها مختلفة. أحجامها أصغر مما كانت، وألوانها أخف مما كانت، وحركتها أبطأ مما كانت. أجسام الطلبة أصبحت أصغر حجما، وسيقان الطالبات أكثر بطئا، كالزواحف يسرن فوق الأرض، لا تكاد الساق تنفصل عن الساق، وإذا انفصلت عادت والتصقت بسرعة، بقوة تضم الفتاة فخذيها كأن شيئا ثمينا سيسقط من بينهما في اللحظة التي ينفصلان فيها، والحقيبة الجلدية المنتفخة بكتب التشريح فوق صدرها، تخفي تحتها شيئا ثمينا عن عيون الطلبة وكيعانهم المدببة. والطالبة منهن لا تستطيع أن تسير منفردة، وإنما يسرن دائما على شكل جماعات، كأسراب البط. فإذا ما وجدت الواحدة منهن نفسها منفردة في فناء الكلية أو في المدرج أسرعت الخطى تطرقع بكعبها العالي لتلحق بزميلاتها وتخبئ جسدها بين أجسادهن.
لمحت الدكتور علوي يمر بين المناضد، فخرجت من الباب الخلفي للمشرحة. سارت في الفناء الواسع تتلفت حولها كأنما تبحث عن أحد. دخلت المعرض ودارت حول اللوحات تتأمل خطوطها، وعيناها السوداوان تبحثان في العيون عن العينين السوداوين الزرقاوين والوجه النحيل بملامحه المرهقة المحددة. خرجت وسارت في الفناء بخطوات بطيئة، تتفحص وجوه الطلبة. وجوه كلها متشابهة، وحركاتهم متشابهة، وأصواتهم متشابهة، وعيونهم حين تنظر إليها لا تراها، وتغرق في البحر دون أن يراها أحد، ودون أن يميزها أحد، ووجهها يصبح كوجه زميلاتها لا فرق بين بهية أو علية أو زكية أو إيفون.
جرت بغير وعي في الشارع. وقع قدميها في أذنها تعرفه، والشارع ليس أفقيا ككل الشوارع، ولكنه يرتفع إلى أعلى، وجسدها يرتفع إلى أعلى وهي تلهث، وعيناها مشدودتان إلى ذلك البيت الرمادي بلون السحب، مشدودتان بأسلاك رفيعة كخيوط حريرية غير مرئية، مشدودتان بكل قدرتها على الحركة، بحركة الدم في شرايينها، بحرارة الدم وسخونته كانت تصعد، بقوة الانجذاب نحو مصيرها أيا كان هذا المصير، أيا كان، وإن كان هو الموت والفناء الكامل.
بأصابع مرتجفة وضعت المفتاح في الباب، ودخلت، وظلت واقفة في الصالة الخالية، دقات قلبها في أذنيها وأنفاسها تتلاحق، وصدرها يعلو ويهبط. نادت بصوت خافت: سليم. لكن البيت كان خاليا. دهشت الدهشة نفسها التي تحدث في الأحلام، حين تتلاشى الأشياء التي تمسك بها في لحظة، ويختفي الجسد الذي نحوطه بذراعينا في غمضة عين، وحين نفتح عيوننا لا نرى في الظلام إلا الحائط ومن تحتنا السرير.
تحسست بيدها الشيء الذي تحتها، فوجدت أنها الكنبة التي جلست عليها بالأمس. مدت ذراعها في الظلام فاصطدم بالحائط الصلب البارد. أغمضت عينيها مرة أخرى وظنت أنها تحلم. لكنها لم تكن تحلم، وعن يقين أدركت أن سليم غير موجود، وأنها وحدها في بيته الخالي، جالسة فوق الكنبة ويقظة. حاولت أن تتأكد من يقظتها اليقينية ولكنها عجزت. فليست هناك وسيلة للتأكد سوى أن تلمس جسدها، ولكنها تفعل ذلك في الأحلام أيضا حين تتشكك في نومها. وهذا العجز يرعبها، فهي غير قادرة بحال من الأحوال على التأكد من شيء في حياتها. إن محاولة التأكد لا تفعل شيئا سوى أن تزيد شكوكها.
অজানা পৃষ্ঠা