ঈমান ও জ্ঞান ও দর্শন
الإيمان والمعرفة والفلسفة
জনগুলি
وقد غيرت الحرب من تصور الناس لمعاني الوجود تغييرا كبيرا هو الانقلاب بعينه. وإذا عمت الحرب العالم كله، فتناولت آسيا وأمريكا وأستراليا وأفريقيا كما تناولت أوروبا نفسها؛ فالانقلاب الذي حدث في هذا الشأن عالمي عام. وأنت تقدر مدى الانقلاب، إذ ترى هذا الإخاء بين أهل الأديان المختلفة في بلاد كالهند كان يظن هذا الإخاء فيها محالا، وإذ ترى الأمم الأوروبية التي كانت تفاخر؛ إلى ما قبل الحرب: بأنها اهتدت إلى سبيل الحق من طريق العلم تشعر الآن بتداعي كثير مما آمنت به وتلتمس في ماضي الشرق الروحي وسيلة للإيمان على أنه سبيل السعادة. وهذا الإخاء الديني الذي ظل زمنا في الهند، وهذا الوهن في العقيدة بالعلم مما لا يزال في أوروبا ليسا إلا مظهرين لظمأ النفس إلى أخلاق جديدة، وإلى مثل عليا غير تلك التي كانت تؤمن بها. وهذا الظمأ بالغ اليوم غاية الشدة، وهو السبب في الفوضى وفي الإباحية وفي الاضطراب، وفي كل ما يشكو الناس منه وما يرونه شرا، ثم ما يعجزون عن وصف الدواء له؛ ذلك بأنهم يشعرون أن التماس الدواء في الماضي لا فائدة منه بعد هذه الخطى الواسعة التي خطاها العالم منذ الحرب إلى عصرنا، فباعد ما بينه وبين الماضي بما لا يبقي بينهما صلة نافعة؛ ولأنهم لما يتبينوا الخلق والإيمان الجديدين اللذين يملآن الفراغ الحاضر، ويكونان دعامة الحياة الاجتماعية في المستقبل.
ولعلك إذا أردت أن تعرف السبب الصحيح لانقطاع الصلة، ولو انقطاعا مؤقتا بين الحاضر والماضي موفق إلى ذلك فيما كان من اختلاط أمم العالم وأجناسه في أثناء الحرب اختلاطا أظهرها إلى عقائد وأخلاق وعادات ومعارف جديدة، ودلها على سوء تقديرها الماضي لما كانت تسمع عنه من ذلك عند الأمم والأجناس الأخرى. فهذه الألوف من جنود الهند السذج الجهلاء الذين كانوا معتقلين في سياج حصين من عقائد بلادهم وأخلاقها، قد رأوا في مصر وفي أوروبا، وفي مختلف الجهات التي مروا بها شيئا غير الذي ألفوه وألفه آباؤهم وأجدادهم. ومثلهم جنود السنغال وجنود الروس. وقد وقف الأوروبيون من هؤلاء على تصور جديد لمعاني الوجود لم يكونوا يألفونه بل كانوا يحسبون أن جماعة من الجماعات الإنسانية لا يمكن أن تقوم به. وهذه الألوف من الجنود السذج الجهلاء من أهل الأمم المختلفة هي التي يتكون منها السواد، والجماهير أكثر ثقة بها وبما ترويه منها بمنطق الفلاسفة وبحوث العلماء وتجاربهم؛ لذلك ليس عجبا بعد ما عاد هؤلاء وقصوا ما رأوا وما سمعوا أن تبهم عليهم، وعلى من يستمعون لهم صور الحياة التي ألفوا، وأن يلتمسوا جديدا يحسبونه أدنى إلى حظ من النعمة والسعادة أوفى مما كانت الصور القديمة تتيحه لهم. وإذا كانت الشهوات الدنيا هي أقرب ما يتصوره الإنسان العادي من سعادة الحياة، فقد كانت الإباحية في العالم وكان ما ترتب عليها من الفوضى ومن الاضطراب.
إلى جانب ما أحدثت الحرب من الاختلاط بين أمم العالم وأجناسه قربت الاختراعات بين أجزاء العالم تقريبا، لم يكن يدور بخلد أحد إلى ما قبل الحرب بزمن قليل، حتى لقد أصبح العالم ضيقا، وأصبح صغيرا تستطيع ان تقف على مختلف ما يدور فيه بأوفى وأسرع مما كنت تستطيع في الماضي القريب أن تقف على أخبار أمة من أممه، بل مقاطعة من مقاطعات تلك الأمة. وقد تناول هذا التقريب بين أجزاء العالم كل ما يمكن تصوره من أسباب. فأنت مستطيع أن تنتقل بين جوانبه المختلفة في وقت قصير، وأنت قدير على معرفة أخباره جميعا بالدقة والتفصيل في الساعة التي تقع فيها، أو بعد ذلك ببضع ساعات قليلة. ولم يصبح أمر إمداد الناس بالأخبار مقصورا على الصحافة، بل تعددت الأسباب وصرت ترى على شريط السينما أو تسمع من طريق الراديو ما يحدث في أكثر بلاد العالم بعدا عنك كما لو كان إلى جانبك. هذا بعد أن كانت تلك البلاد خيالات وأحلاما، فإذا سمعنا عنها سمعنا مثل أقاصيص ألف ليلة وليلة، وانتهينا إلى أن ما نسمع ليس إلا خيالا يقصد به إلى التسلية لا أكثر ولا أقل، فلم يزعزع ذلك من تصورنا للوجود ولا من إدراكنا لمعانيه.
ولم يقف الأمر عند اختلاط الأجناس وتقارب الممالك. بل لقد تقاربت أفلاك الوجود كلها بما كشف، وما لا يزال يكشف العلم عنه من كنه هذه الأجرام وصلاتها بالأرض. ولم تبق معرفة مقصورة على طائفة محصورة، بل أصبح كل يستطيع الوقوف على كثير منه بما تنشره الكتب والمجلات والصحف والمحاضرات التي أصبح سماعها ممكنا في أنحاء العالم المختلفة عن طريق الراديو. ولئن لم يقف سواد الجماهير بعد على تفاصيل هذا وعلى دخائله، فإنه يتصور وجوده على نحو أزال من نفسه الصورة القديمة التي كان يؤمن بها على أنها حقيقة هذه الأفلاك. ومجرد زوال هذه الصورة القديمة كاف ليزعزع من قواعد الاعتقاد والخلق شيئا كثيرا.
هذا الاختلاط بين الأمم وهذا التقارب بين البلاد وبين الأفلاك نفسها لم يكن ذائعا قبل الحرب ذيوعه اليوم، ولم تكن جماهير الأمم المختلفة قد اقتنعت به اقتناعها اليوم. وقد زلزل هذا الاقتناع كثيرا من قواعد إيمانها القديم، وإن لم يضع مكانها قواعد أخرى: وإذ كانت الجماهير لا تطيق العيش من غير قواعد ومثل عليا، فقد تدافعت إلى ما تدفعها سلائقها إليه من الاستمتاع بالحياة، وبكل ما فيها في أبسط صور الاستمتاع وأقربها لإشباع الشهوات. ولما كان هذا خروجا على متعارف الناس إلى العصر الأخير، فقد ذاعت دعوة الفوضى والإباحية.
طبيعي أن ما أحدثت الحرب من انقلاب لم يحدث فجأة، وأنه يستمد أصوله من تطورات العالم في الأجيال الأخيرة. بل إن كثيرا مما يقع اليوم ليتصل اتصالا مباشرا بما خلفت الثورة الفرنسية الكبرى وثورة سنة 1848 من آثار. لكن هذه الأصول لم يظهر أثرها قبل الحرب إلا في بيئات خاصة هي البيئات المستنيرة. فلما كانت الحرب انتشرت تلك الآثار بين سواد الجماهير، وزادها انتشارا تزايد المكتشفات والمخترعات، وتقريبها مبادئ العلم وقواعده من أفهام السواد؛ لذلك تقبل الكل الانقلاب من غير أن تقف في سبيله فطرة المحافظة التي تهاب كل جديد وتقف في وجهه وتحاربه. وهذا هو السر في أن الانقلابات العظيمة التي حدثت في روسيا وفي إيطاليا وفي تركيا لم تلق من جماهير العالم حربا لها إلا ما اتصل منها بمصالح أصحاب الأموال مما هددته البلشفية. فأما الانقلابات الاجتماعية فقد تمت في كل هذه الأمم على صورة لم تكن تخطر بحلم الحالمين، وتمت مع ذلك من غير أن تثير من عداوة الدول المختلفة ما أثارت مبادئ الثورة الفرنسية، مما أدى إلى تألب ممالك أوروبا عليها والعمل لمقاومتها والاضطرار آخر الأمر للأخذ بها؛ لأنها كانت المبادئ التي تتفق والتطور النفساني الكمين في أرواح الشعوب.
وثم انقلاب في تقدير الأفراد للنظام الاجتماعي يتصل بهذه الانقلابات العامة، بل يتقدمها. فقد كان الناس، إلى زمن قريب، يقدرون لطوائف الجماعة المختلفة حدودا خلقية يعتبر تخطيها جناية على الشرف وعلى الكرامة، وتحاربه كل طائفة بكل ما أوتيت من وسائل. وها نحن أولاء لا نزال نسمع من بقايا هذا التقدير تقرير الحكومة الرومانية نزول البرنس كارل عن ولاية العهد، وعن عرش أبيه، ورفع ابنه الطفل ميخائيل إلى هذا العرش، لإطاعته عاطفة الحب وعدم إخضاعه إياها لموجبات السياسة. على أن تصرف كارل في اتصاله بامرأة يعتبر المسئولون عن مصير رومانيا الاتصال بها مزريا بملك هو لذاته أثر من آثار الانقلاب العالمي؛ فالناس ينظرون اليوم إلى هذا التصرف الذي أتاه الأمير من غير أن تأخذهم دهشة. بل ربما كانت دهشتهم من إنزاله عن عرش لآبائه أكبر من دهشتهم للسبب الذي أدى إلى هذا القرار، ولو أن تصرفا كهذا تم منذ سنوات لاضطربت له بلاطات الملوك، ولاعتبر حادثا خارقا لقوانين الطبيعة. وما أتاه البرنس كارل ليس إلا مثلا مما يحدث اليوم من غير أن تثور له نفس أو تهتز له عاطفة. ألم تخبرنا الصحف أن ابنة أخت الجنرال هندنبرج رئيس الجمهورية الألمانية تقوم بالتمثيل السينمائي؟ أولم تفعل زوج ابن السلطان عبد الحميد مثل تلك الفعلة؟ وهذان مثلان من كثير يقع في عالم السينما وفي عوالم الفن والعلم المختلفة. ولو أن شيئا من مثله حدث في الماضي القريب لكان أعجوبة الأعاجيب، ولكان خروجا على قواعد الدين ومبادئ الخلق، ولاستحق مجترحوه حرمان الكنيسة وزراية الناس.
ومن العبث الآن محاولة العود بالعالم؛ ليخضع إلى ما كان خاضعا له قبل الحرب من عقائد وأخلاق وعادات. صحيح أن كثيرا من هذه سيعود قويا كما كان. لكنه في عودته سيضطر إلى الاصطباغ بلون حياة العالم العقلية والروحية الجديدة، وهذه الحياة الجديدة هي ما يفكر اليوم فيه العلماء والمفكرون، وإن كانوا لما يهتدوا إلى شيء صالح. ويخيل إلينا أن الإنسانية ما تزال بعيدة عن هذه الهداية، وأنها ستظل سنوات طويلة في اضطرابها الحاضر إلى أن يتاح لها رسول جديد من العلماء والفلاسفة يهديها طريق الحق. وآية هذا البعد عن الهداية ما يبدو على أدب العصر من الانحلال والاضمحلال، وعلى تفكيره من القصور عن تناول المسالة العالمية بصورة جريئة واضحة يصيح بها صاحبنا في الناس بما يؤمن هو به أنه الحق، أي: أنه أقوم طريق يمكن للإنسانية من تحقيق أكبر حظ مستطاع من السعادة في ظروفها الحاضرة.
في انتظار اليوم الذي تعلو فيه صيحة الهدى والحق يجب تمهيد الإنسانية لسماعها، وهي في اعتقادنا لن تخرج عن دائرة العقل والعلم. قد تظل الشئون الروحية فوق متناول هذه الصيحة. لكن ما كانت هذه الشئون الروحية تعتبره داخلا في نطاقها من قواعد السلوك ومبادئ الخلق والجزاء عن العمل، وما إلى ذلك مما يتصل بتصرفات الأفراد أو الجماعة الماسة بحياتهم سيصبح غير روحي، وسيخضع لقوانين العلم ومبادئه. بل ربما لا يكون محالا أن ترتبط هذه الصيحة المنتظرة ارتباطا وثيقا أو غير وثيق بصيحات أوجست كومت وفلناي وروسو وغيرهم، ممن أرادوا أن يجعلوا العقل والعلم وحدهما المدبرين لحياة الأفراد والجماعات والمنظمين لكل شيء فيها.
وما دام ذلك هو الشأن فتمهيد الإنسانية للصيحة المرجوة لا يكون إلا بكشف قناع الوهم عن عيون الجماهير، وإظهارها على كل آثار العلم ونتائجه. يجب ألا يعتبر أمر من الأمور سرا يتحتم ستره من عيون الأطفال في أثناء تعليمهم، وعن عيون السواد في حياته العامة، بل يجب أن يعرف كل فرد ما يستطيع أن يعرفه، وأن يعرفه على طريقة علمية صحيحة. وأن يبني على هذه المعرفة عقائده وعاداته وأخلاقه. ويجب كذلك أن يعلم أن ليس شيء من هذا الذي يلقي به إليه مقدسا غير خاضع للتطور أو التغير. وإن عقائدنا الأخلاقية والاجتماعية ليست أمرا واجب الطاعة لذاته؛ ولكن لأنها هي التي تقربنا من السعادة؛ وعلى الأقل تبعد عنا هموم الحياة وآلامها. وأن الحقيقة الإنسانية هي ما أدى إلى هذه الغاية.
অজানা পৃষ্ঠা