لذلك أستطيع أن أقول - بصراحتي المعهودة - أنني شرعت في ترجمة هذا الشعر الجليل، وأنا بعد طالب في السنة الثالثة من حياتي الجامعية، نعم، شرعت في صمت الراهب، ولم أكن واثقا آنذاك، من أنني سأتمكن في يوم ما، من أن أنجزه أو أصل به إلى حد الكمال والتمام، ثم شغلت في السنين الأولى بعد تخريجي، في أعمال أخرى برزت أهميتها، كالإعداد للحصول على درجة الماجستير، وتأليف أول كتاب عرفته مصر في تعليم مبادئ اللغة اليونانية القديمة، وآخر في تعليم مبادئ اللغة اللاتينية. وكاد تيار التأليف يجرفني فينسيني تماما ذلك العهد الذي قطعته على نفسي وأنا طالب، والذي كنت قد بدأت فيه فعلا، ولم أفق إلى نفسي وأصح لعهدي القوي الصادق إلا بعد أن اهتز مركزي في الجامعة واهتزت حياتي هزة شديدة، فوجدت نفسي - بلا جريرة - في الطريق العام، لا أفيد ولا أستفيد، وتوقف عمري وضاقت الدنيا أمام ناظري، وأظلمت الحياة من حولي، وصرت في حيرة من أمري، وكاد اليأس يدب في أوصالي ويفقدني حبي للحياة والدنيا وذاتي.
تذكرت الإلياذة الحلوة، ووجدت نفسي معها، أنا وهي ولا ثالث لنا إلا الله سبحانه وتعالى، فاستعنت به واستغثت برضوانه كي يساعدني ويشد من أزري ويقويني على نسيان مأساتي، وشعرت أنكب على العمل الذي طالما شغلني وداعب فكري وخيالي، وكانت المعجزة، كان الوقت عندي واسعا فسيحا، فليس لدي عمل يستنفد طاقتي أو يستهلك وقتي الثمين، ولست مرتبطا بأي رباط أو مسئوليات تستوجب مني إنفاق الوقت وتبديده، وعشت على الكفاف، وكنت كلما أنجزت صفحة من الترجمة أشبع وأرتوي وأرتاح قليلا كأنني أكلت وجبة شهية مبتغاة منتقاة.
حملت الترجمة معي إلى السودان حيث جاد الله علي بعمل هناك في التدريس، ولم يكن العمل هناك مرهقا بقدر ما كان الحر معوقا، وبعد أن تعرضت لأزمتين صحيتين شديدتين كدت أموت خلالهما، تأقلم الجسد وتعود جو السودان، وزالت الغمة، فتفرغت تماما للترجمة بالساعات الطوال أقضيها عصر كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وساعدني جو العزلة والتفرغ كثيرا، وكأن الله، جلت قدرته، قد أراد لي كل ذلك حتى يتحقق حلم التلمذة، فأقدم للعالم العربي أول ترجمة مستساغة لا يمجها القارئ، لا تصد نفسه عن الإقبال عليها ومواصلة قراءتها بارتياح واشتياق واستمتاع.
وانتهى العمل بعد خمس سنوات كاملة لم أنشغل فيها بأي عمل أدبي آخر، ولكن فرحتي لم تكتمل إذ تعذر علي العثور على الناشر الذي يستطيع أن يقدم على نشر هذا العمل الكبير الجديد في موضوعه، القديم في فكرته، العتيق في قيمته، العظيم في مكانته.
صدمت إذ بقيت الترجمة حبيسة مكتبي وأسيرة حجرتي سنتين كاملتين، ظللت طوالهما أراجع وأصحح وأنقح وأجود وأمحص وأدقق وأتفنن، وفجأة أشرقت الشمس الدافئة على الإلياذة الكسيرة الأسيرة، فاشتراها مني من كان يعلم حق قدرها وقيمتها ومكانتها وصلاحيتها. ولم أدقق معه في السعر، وقبلت أن يشتريها مني لقاء حفنة صغيرة من الدريهمات؛ إذ كان جل همي وأملي أن ترى إلياذتي النور، وتخرج بسطورها من قمقمها وسجنها المظلم الأبدي، وزنزانتها الكئيبة الموحشة، وتشع بنورها الساطع على العالم. ولا يمكنني أن أنكر بأية حال أن الأستاذ الكبير حلمي مراد صاحب مطبوعات «كتابي» الشهيرة، قد وفى هذا العمل البالغ الأهمية كل حقه، فطبعه طبعة أنيقة شيقة طيبة جيدة في حدود إمكانياته المتاحة، ولم يبخل عليها بالدعاية اللازمة حتى أصبح رجل الشارع يعرف الإلياذة، أو بالأصح يسمع عنها ويتحدث بما تتضمنه من أحداث وروائع، إن جاز لي هذا الافتراض.
نفدت أعداد الإلياذة المطبوعة في ثلاثة أجزاء، نعم، نفدت كلها، وكان المطبوع منها بالآلاف، واعتبر كل من حظي بنسخة منها، أنه قد فاز بكنز ثمين، وغنم غنما هائلا، وزود مكتبته بكتاب نافع جدا، هو الأصل، بل هو جذور الأدب في العالم كله.
وراحت الأيام تجري، والسنون تعدو عدوها السريع، والناس لا ينسون أبدا إلياذة هوميروس ولا اسم ناشرها أو اسم مترجمها. وهكذا اقترن اسمي بهذا العمل الجليل الكبير الخطير، وكنت بعد ذلك قد عكفت على ترجمة الملحمة زميلتها، وهي «أوديسة هوميروس»، التي شاء سوء حظها أيضا أن يظهر منها الجزء الأول أما الجزء الثاني، فقد ظل سنوات دون أن يظهر أو ينشر، إلى أن رأت دار الفكر العربي لصاحبها الأستاذ محمد محمود الخضري، ضرورة ظهور الأوديسة كاملة في مجلد واحد يليق بمكانتها ومكانة مؤلفها، وقد كان. وكان لظهورها وقع كبير في جميع الأوساط الأدبية، وتناولها النقاد بالحمد والثناء والتقدير.
واليوم تعود دار الفكر العربي من جديد، وبإصرار شديد، تريد العودة إلى نشر إلياذة هوميروس في مجلد واحد، وبصورة محترمة فذة جليلة تخدم النص، وتحفظ للإلياذة هيبتها ومكانتها في دنيا الفكر والأدب العريق، ولكي يكون لها فضل احتضان أعمال هوميروس، أول شاعر عرفته البشرية، وأول من عرف الناس بالأدب الملحمي ووضع بذور فن الأدب والإنتاج الأدبي، على أرقى صوره وأشكاله، موضع التنفيذ، فولد على يديه عملاقا شامخا بصورة لم تشهد البشرية له ضريبا حتى يومنا هذا، وهيهات.
والملحمة التي بين يديك أيها القارئ العزيز، قديمة المضمون عتيقة الفكر والفحوى والمكنون، ولكنها زاخرة بالروعة والجمال، وبالمعاني الراقية والمفاهيم السامية والتعاليم النادرة، والغريب، أنها تدور كلها في ساحة القتال بين جيشين، ومع ذلك فإنها تشدك وتشدوك معا؛ لأنها ترسم لك صورا نادرة من البطولة الفذة الرائعة، وتجسم لك خيالا أشد واقعية من الواقع، وأقسى إيلاما من الألم ذاته، وأروع جمالا من الجمال نفسه.
كل من يقرأ شيئا عن أبطال هذه الملحمة القوية، يزدد إعجابا بقدرة هوميروس، ذلك الكاتب الأعمى، الذي راحت البلاد تتنافس وتتشاحن ... كل تريد أن يكون لها شرف انتسابه إليها، نعم إن قدرته على خلق هذه الأفكار العميقة المثيرة، وتصويرها بما صورها به من إبداع خلاق يفوق الإبداع نفسه، وبجدارة حسدته عليها البشرية جميعا، جعلته يستحق بجدارة أن يكنى بأبي الشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين أجمعين.
অজানা পৃষ্ঠা