الإجماع
تصنيف
الإمام ابن المنذر ﵀
وثق نصوصه وعلَّق عليه
أبوعبد الأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
الطبعة الأولى
حقوق الطبع محفوظة لدار الآثار-القاهرة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الْمُقدمة
إن الْحَمد لله نَحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمَّدًا عبده ورسوله.
﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد؛ وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد؛ فإن كتاب "الإجماع" لابن المنذر هو واحد من سلسلة مؤلفاتٍ له اعتنى فيها عناية فائقة بمسائل الاختلاف والاتفاق؛ حَتَّى صارت كتبه في هذا الباب مرجعًا أساسيًا لكل من أتى بعده، بِها يعرف مواطن الاختلاف والاتفاق بين الأئمة في المسائل الفقهية.
1 / 5
وهذه السلسلة تتضمن الكتب التالية (١):
١ - كتاب السنن والإجماع والاختلاف: وكتاب مبسوط حافل، روى فيه كل ما وصله من أحاديث وآثار في الباب بأسانيده.
٢ - مختصر كتاب السنن والإجماع والاختلاف.
٣ - اختلاف العلماء، وتوجد نسخ منه في دار الكتب المصرية.
٤ - المبسوط.
٥ - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، وهو مختصر كتاب المبسوط.
٦ - الإشراف على مذاهب العلماء، وهو مختصر كتاب الأوسط.
٧ - الإقناع.
٨ - الإجماع.
والإجماع هو أصغر هذه الكتب حجمًا؛ وهو من أشهر كتب الإجماع على الإطلاق خاصةً عند طلبة العلم المبتدئين، حيث إنه سهل المأخذ موجز العبارة.
وأما عن الكتب التي أُفردت لنقل الإجماع في المسائل الفقهية، فهي:
١ - نوادر الفقهاء لمحمد بن الحسن التميمي (ت ٣٥٠ هـ).
٢ - مراتب الإجماع لابن حزم (٢) (ت ٤٥٦ هـ).
٣ - الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (ت ٦٢٨ هـ).
٤ - الإجماع لابن عبد البر (جمعه: فؤاد الشهلوب وعبد الوهاب الشهري).
٥ - موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية (جمع: عبد الله بن المبارك البوهي).
٦ - البرق اللماع لما في المغني من اتفاق وافتراق وإجماع (جمع: عبد الله بن عمر
_________
(١) انظر مقدمة كتاب "الأوسط في السنن" للدكتور أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف (١/ ٣٦، ٢٢).
(٢) وقد نقد بعض مسائله: شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ كتاب "نقد مراتب الإجماع".
1 / 6
البارودي).
٧ - موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبو جيب (١).
٨ - كتاب "الإشراف على مذاهب الأشراف" للوزير ابن هُبَيْرة الحنبلي، وقد نشرته دار الحرمين بالقاهرة تحت عنوان: "الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة"؛ وهو قطعة من كتابه الكبير "الإفصاح عن معاني الصحاح" الذي شرح فيه الصحيحين (٢).
هذا بِخلاف كتب الاختلاف والمطولات التي اعتنت أيضًا بنقل الإجماع مثل: كتب ابن المنذر-التي سبق الإشارة إليها-، "اختلاف العلماء" لمحمد بن نصر المروزي، "الاستذكار" و"التمهيد" لابن عبد البر، "اختلاف الفقهاء" لابن جرير الطبري، "المحلى" لابن حزم، "المغني" لابن قدامة، "شرح معاني الآثار" للطحاوي، "بداية المجتهد" لابن رشد، "المجموع" للنووي، "فتح الباري" للحافظ ابن حجر، "نيل الأوطار" للشوكاني.
ومن الكتب التي نُقِلت غالب نصوص كتاب الإجماع من خلالها: المغني لابن قدامة، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان.
قلت: وهنا أمر هام ينبغي التفطن له، وهو أن المسائل التي اتفق عليها الأئمة المجتهدون من أهل السنة والجماعة كثيرة؛ ولكن تشغيب أهل الأهواء والمتعصبين من المذهبيين والحزبيين من الفرق المناهضة لأهل السنة هم الذين يظهرون علماء هذه الأمة بمظهر المتصارعين المختلفين على الكبيرة والصغيرة؛ فإذا طرحنا خلاف هؤلاء، ظهر لنا أن الاختلاف ليس هو الغالب على أهل الحق كما يظن البعض.
لذلك فإن أهل الأهواء المتعصبين -خاصة الدعاة منهم- لا عبرة بخلافهم لا في
_________
(١) وثَمَّ كتب أخرى أُلفت في الإجماع بعضها قد يكون في حيز المفقود، قد أشار إليها أصحاب كتب الفهارس؛ مثل كتاب "تشنيف الأسماع بمسائل الإجماع" للسيوطي، ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (١/ ٤٠٩)، وكتاب "الإجماع في الفقه" لأبي الحسن الدقيقي الحلواني الطبري، ذكره ابن نديم في الفهرست (ص ٣٢٧).
(٢) انظر الذيل على طبقات الحنابلة للحافظ ابن رجب (١/ ٢٥٢).
1 / 7
الأصول ولا في الفروع، فقد يُخالف صاحب هوى في مسألة من مسائل العبادات أو المعاملات، ويكون قد بنى خلافه على هوى وتعصب مذهبي لا عن اجتهاد في معرفة الحق بدليله؛ فمثل هذا الصنف لا ينبغي أن يُعتبر بِخلافه أو أن يُحسب خلافه مناقضًا لاتفاق أهل السنة، أو لإجماعهم على مسألة فقهية في العبادات أو المعاملات.
قال العلامة المحدث مقبل بن هادي ﵀ في نصيحته لأهل السنة (ص ١٣): "وبعد: فإنَّا قد نظرنا في المسائل التي يختلف فيها أهل السنة المعاصرون الذين لا يختلفون عن هوى، فوجدناها تقارب ثلاثين مسألة ووزعناها على إخواننا أهل السنة يذكرون -إن شاء الله- الأحاديث بأسانيدها، وينظرون في أقوال الشرَّاح في فهم هذه الأحاديث، وإن احتيج إلى نظر في كتب الفقهاء ﵏ نُظر فيها، وبعد الانتهاء -إن شاء الله- سينشر في رسالة صغيرة".اهـ
قلت: واعلم -رحمك الله- أن قاعدة: "نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" (١)، هي قاعدة باطلة، المقصود بها ليس العمل على اجتماع أهل الإسلام لكن المقصود بِها هو تمييع الحق والانصياع للأهواء بحجة الاتفاق؛ فهي دعوة لتمييع الخلاف بين أهل السنة وغيرها من طوائف الضلال من شيعة وخوارج ومعتزلة ومرجئة وغيرها.
فالزم -رعاك الله- غرز السلف الصالِح، ولا تعزب عن فهمهم مثقال ذرة، فإن السلف هم القوم، فلا تعدو عيناك عنهم تريدُ كلام أهل الأهواء المزين ببهرج القول، فالثبات! الثبات! على سبيل السلف؛ وإياك! ثم إياك! أن تخرج على إجماعهم في صغير أو كبير؛ فإن السلف الصالح لا يجتمعون على ضلالة أبدًا؛ سواء كان في مسألة تتعلق بأصول الدين أو في مسألة فقهية - مثل جواز المسح على الخفين -، ونحوها من
_________
(١) وضع هذه القاعدة محمد رشيد رضا ثم شهرها حسن البنا؛ ثم طورها إبراهيم أبو شقرة، فزاد عليها: "ونتحاور فيما اختلفنا فيه".
1 / 8
المسائل التي قد يُخالف فيها بعض المعاصرين بحجة الاجتهاد وعدم التقليد؛ وهذا من الخلط؛ فإن عدم التقليد لا يقتضي الخروج على إجماع الصحابة والسلف الصالح؛ أو حتى الخروج عن أقوالهم التي اختلفوا عليها؛ فلو اختلف الصحابة في مسألة على قولين؛ فإن الصحيح أنه لا يَجوز إحداث قول ثالث؛ فإن الخروج عن أقاويل الصحابة بدعة وضلالة كما قرر هذا إمام السنة الإمام أحمد ﵀ وغيره من الأئمة.
وأما عن عملي في الكتاب؛ فقد قمت بمقابلة النسخة المطبوعة على النسخة الخطية الوحيدة له؛ وكذلك قمت بمقابلته على نسخة كتاب الإقناع لابن القطان؛ وأثبت الفروق بين النسخ في الحاشية.
وأثبت في الحواشي أيضًا بداية كل صفحة من المخطوط؛ بأن أضع الرقم بين قوسين هكذا: (١/أ)، (١/ب)، (٢/أ)، .....
وقمت بتخريج الأحاديث والآثار التي مرت في المتن؛ ثم علَّقت على بعض المواضع التي تحتاج إلى بيان؛ وإن كان هناك فائدة في كتب الإجماع الأخرى أو كتب المطولات أثبتها؛ إثراءً للكتاب.
وأخيرًا؛ هذا جهد المقل، أسأل الله القبول ومغفرة التقصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب
خالد بن محمد بن عثمان
١٨ - من جمادى الأولى ١٤٢٥ هـ
1 / 9
مبحث عن الإجماع
- تعريف الإجماع:
أولًا: لُغة: قال الرازي في المحصول (٤/ ٢٠، ١٩): "الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين:
أحدهما: العزم (١)، قال الله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ [يونس: ٧١]، وقال ﵊: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل» (٢).
وثانيهما: الاتفاق يقال أجمع الرجل إذا صار ذا جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر فقولنا اجمعوا على كذا أي صاروا ذوي جمع عليه .. ".اهـ
وقد نقل الشوكاني في إرشاد الفحول (ص ١٣١) كلام الرازي ثم عقَّب عليه قائلًا: " واعترض على هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بـ: (على)، والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بـ: (على)، وأجيب عنه بما حكاه ابن فارس في المقاييس، فإنه قال: يقال أجمعت على الأمر إجماعًا وأجمعته، وقد جزم بكونه مشتركًا بين المعنيين أيضًا الغزالي؛ وقال القاضي: العزم يرجع إلى الاتفاق لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه؛ وقال ابن برهان وابن السمعاني: الأول أي العزم أشبه باللُغة، والثاني أي الاتفاق أشبه بالشرع .. ".اهـ
وقد ذكر محب الله الشكور في "مسلَّم الثبوت" (٢/ ٢١١) أن كلا المعنيين: "مأخوذان من الجمع، فإن العزم: فيه جمع الخواطر؛ والاتفاق جمع الخواطر".اهـ
ثانيًا: اصطلاحًا: قال التفتازاني في شرح التلويح على التوضيح (٢/ ٨٢): "اتفاق المجتهدين من أمة محمد ﵊ في عصر على حكم شرعي، والمراد
_________
(١) قال الآمدي في الإحكام (١/ ١٧٩): "وعلى هذا فيصح إطلاق اسم الإجماع على عزم الواحد".اهـ
(٢) الراجح في هذا الحديث الوقف، كما بينته بتوسع في تخريجي على كتاب السنة للمروزي (٩٩) (ص ١٣٤ - ١٣٦) (ط. دار الآثار).
1 / 10
بالاتفاق: الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل؛ وقيَّد بالمجتهدين إذ لا عبرة باتفاق العوام".اهـ
قلت: وأطلق الغزالي الاتفاق فلم يَخصه بعصر من العصور، فقال في الْمُستصفى (ص ١٣٧): "اتفاق أمة محمد ﷺ خاصة على أمر من الأمور الدينية".اهـ
وقال الآمدي في الإحكام (١/ ١٨٠) عن تعريف الغزالي: " وهو مدخول من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة
فإن أمة محمد جملة من اتبعه إلى يوم القيامة ومن وجد في بعض الأعصار منهم إنما يعم بعض الأمة لا كلها وليس ذلك مذهبًا له ولا لمن اعترف بوجود الإجماع.
الثاني: أنه وإن صدق على الموجودين منهم في بعض الأعصار أنهم أمة محمد غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار عن أهل الحل والعقد وكان كل من فيه عاميًا واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعًا شرعيًا وليس كذلك.
الثالث: أنه يلزم من تقييده للإجماع بالاتفاق على أمر من الأمور الدينية أن لا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة شرعية وليس كذلك لما يأتي بيانه.
والحق في ذلك أن يقال الإجماع: عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع هذا إن قلنا إن العامي لا يعتبر في الإجماع وإلا فالواجب أن يقال الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد إلى آخر الحد المذكور".اهـ
قلت: ووافق الآمدي على عدم اختصاص الإجماع بالأمور الشرعية:
الشوكاني في إرشاد الفحول (ص ١٣٢)، فقال: "يتناول الشرعيات والعقليات واللغويات". اهـ
وكذلك قال به: السبكي كما في جمع الجوامع، والزركشي في البحر المحيط،
1 / 11
وعبد العزيز البخاري في كشف الأسرار، والفتوحي في شرح الكوكب المنير، والعطار في حاشيته على الجلال المحلى.
وذهب الشنقيطي في مذكرته إلى اختصاصه بالأمور الشرعية.
وقال الغزالي في المستصفى (ص ١٣٧): "وذهب النظَّام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قولٌ واحد، وهو على خلاف اللُغة والعرف".اهـ
قلت: لكن قال محب الله في مسلَّم الثبوت (٢/ ٢١١): "بعض النظامية والشيعة قالوا إنه -أي الإجماع- محال، ونسبه غير واحد إلى النظَّام، قال السبكي: إنما هو قول بعض أصحابه، وأما رأي النظَّام نفسه فهو أنه متصور، لكن لا حجة فيه".اهـ
قلت: وممن أنكر حجية الإجماع أيضًا الخوارج كما في الإحكام (١/ ١٨٣)، وطائفة من المرجئة كما في المسودة (٢/ ٦١٥) حيث قالوا يجوز اجتماع الكل على خطأ.
- هل حجية الإجماع قطعية أم ظنية؟
خلاصة المذاهب في هذه المسألة ذكرها الزركشي في البحر المحيط (٦/ ٣٨٩، ٣٨٨)، والشوكاني في إرشاد الفحول (ص ١٤٤).
قال الزركشي: " المبحث السادس: في أنه حجة قطعية؛ قال الروياني في البحر: إذا انعقد الإجماع على أحد أدلته، فهل يقطع على صحته؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم; ليصح قيام الحجة؛ الثاني: المنع اعتبارًا بأهله في انتفاء العصمة عن آحادهم، فكذا عن جميعهم؛ وأطلق جماعة من الأصوليين بأنه حجة قطعية منهم: الصيرفي، وابن برهان، وجزم به من الحنفية الدبوسي، وشمس الأئمة، وقالا: كرامة لهذه الأمة، وقال الأصفهاني: إنه المشهور، وإنه يقدم على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلًا، ونسبه إلى الأكثرين؛ قال: بحيث يكفر أو يضلل ويبدع مخالفه؛ وخالفه الإمام الرازي والآمدي، فقالا: إنه لا يفيد إلا الظن، والحق التفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فحجة قطعية، وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي، وما ندري مخالفه، فحجة
1 / 12
ظنية؛ وقال البزدوي وجماعة من الحنفية: الإجماع مراتب: فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر، وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث، والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السالف بمنزلة خبر الواحد، واختار بعضهم في الكل أنه يوجب العمل لا العلم، فصارت المذاهب أربعة: يوجب العلم والعمل، لا يوجبهما، يوجب العلم حيث اتفقوا عليه قطعًا، يوجب العلم في إجماع الصحابة؛ وقد أورد صاحب التقويم: "أن الإجماع قد يقع عن أمارة، فكيف يوجب العلم إجماع تفرع عن الظن؟ وأجاب بأن الموجب لذلك اتصالها بالإجماع، وقد ثبت عصمتهم من الخطأ، فكان بمنزلة الاتصال برسول الله ﷺ وتقريره على ذلك؛ وأما أن الإجماع من الأصول الكلية التي يحكم بها على القواطع التي هي نصوص الكتاب والسنة المتواترة، فلا بد أن يكون قاطعًا; لاستحالة رفع القاطع بما ليس بقاطع، وحكى الأستاذ أبو إسحاق في تعليقه، والبندنيجي في الذخيرة: "قولين في أن لفظ الإجماع هل يطلق على القطعي والظني، أو لا يطلق إلا على القطعي؟ وصرحا بأنه خلاف في العبارة".اهـ
قلت: وبعض هذه الأقوال نابع من قول طائفة المتكلمين من أن خبر الواحد يفيد الظن؛ وهذا القول بظنية حديث الواحد بله الإجماع لم يُعرف في عصر الصحابة، وإنما نشأ مع نشأة علم الكلام؛ أما قول أصحاب الحديث والأثر الذين بنوا دينهم على أصول الصحابة؛ فهو: إن خبر الواحد الثابت يفيد العلم اليقيني ويوجب العمل.
- شروط صحة الإجماع:
أولًا: الشرط الخاص بِحال من ينعقد بِهم الإجماع: وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): الإجماع المعتبر في كل فن:
قال الزركشي في البحر المحيط (٦/ ٤١٥): "يشترط في الإجماع في كل فن من الفنون أن يكون فيه قول كل العارفين بذلك في ذلك العصر، فإن قول غيرهم فيه يكون بلا دليل بجهلهم به، فيشترط في الإجماع في المسألة الفقهية قول جميع الفقهاء، وفي
1 / 13
الأصول قول جميع الأصوليين، وفي النحو قول جميع النحويين؛ وخالف ابن جني، فزعم في كتاب: "الخصائص " أنه لا حجة في إجماع النحاة ... ".اهـ
(المسألة الثانية): مدى اعتبار قول المجتهد المبتدع في الإجماع:
قال أبو بكر الرازي في الفصول (٣/ ٢٩٣): " لا نعرف عن أصحابنا كلاما في تفصيل من ينعقد بهم الإجماع، وكيف صفتهم، وقد اختلف أهل العلم بعدهم في ذلك؛ فقال قائلون: لا ينعقد الإجماع الذي هو حجة لله ﷿ إلا باتفاق فرق الأمة كلها، من كان محقًّا، أو مبتدعًا ضالًا، ببعض المذاهب الموجبة للضلال، وقال آخرون: لا اعتبار بموافقة أهل الضلال، لأن الحق في صحة الإجماع؛ وإنما الإجماع الذي هو حجة لله تعالى ﷿: إجماع أهل الحق، الذين لم يثبت فسقهم، ولا ضلالهم؛ قال أبو بكر: وهذا هو الصحيح عندنا".اهـ
قلت: وقد فصَّل الزركشي في ذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة في البحر المحيط (٦/ ٤١٩) حيث قال: "أحدها: اعتبار قوله، لكونه من أهل الحل والعقد، وإخباره عن نفسه مقبول إذا كان يعتقد تحريم الكذب، وقال الهندي: إنه الصحيح،وكلام ابن السمعاني كما سنذكره يقتضي أنه مذهب الشافعي; لنصه على قبول شهادة أهل الهوى.
والثاني: أنه لا يعتبر، قال الأستاذ أبو منصور: قال أهل السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية، والخوارج، والرافضة، ولا اعتبار بخلاف هؤلاء المبتدعة في الفقه، وإن اعتبر في الكلام، هكذا روى أشهب عن مالك، ورواه العباس بن الوليد عن الأوزاعي، وأبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن، وذكر أبو ثور في منثوراته أن ذلك قول أئمة أهل الحديث. اهـ؛ وقال أبو بكر الصيرفي: هل يقدح خلاف الخوارج في الإجماع؟ فيه قولان: قال: ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم، وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر من حملة الآثار، ومن رأى الإرجاء، وغير ذلك
1 / 14
من اختلاف آراء أهل الكوفة والبصرة إذا كان من أهل الفقه؛ فإذا قيل: قالت الخطابية والرافضة كذا، لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه; لأنهم ليسوا من أهله، وقال ابن القطان: الإجماع عندنا إجماع أهل العلم، فأما من كان من أهل الأهواء، فلا مدخل له فيه؛ قال: قال أصحابنا في الخوارج لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف; لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه; لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين. انتهى؛ وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي، ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه من كلام أحمد لقوله: لا يشهد رجل عندي ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوِّز حكمه؛ قال القاضي: يعني الجهمي.
والثالث: أن الإجماع لا ينعقد عليه، وينعقد على غيره، أي أنه يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز لأحد أن يقلده، حكاه الآمدي وتابعه المتأخرون، وأنكر عليه بعضهم، وقال: أرى حكايته لغيره؛ والظاهر أنه تفسير للقولين المتقدمين، ومنع من بقائهما على إطلاقهما; لوقوع مسألتين في بابي الاجتهاد والتقليد، تنفي ذلك؛ إحداهما: اتفاقهم على أن المجتهد بعد اجتهاده ممنوع من التقليد، وأنه يَجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده، فالقول هنا بأنه يَجب عليه العمل بقول من خالفه معارض لذلك الاتفاق؛ وثانيهما: اتفاقهم على أنه يَجوز للمقلد أن يقلد من عرف بالعلم والعدالة، وأنه يحرم عليه تقليد من عرف بضد ذلك، وإذا ثبت هذا استحال بقاء القولين في هذه المسألة على إطلاقهما، وتبين أن معنى قول من يقول: لا ينعقد الإجماع بدونه، يعني في حق نفسه، ومعنى قول من يقول: فينعقد، يعني على غيره، ويصير النزاع لفظًا، وعلى هذا يجب تأويل هذا القول، وإلا فهو مشكل.
والرابع: التفصيل بين الداعية فلا يعتد به، وبين غيره فيعتد به، حكاه ابن حزم في كتاب الإحكام، ونقله عن جماهير سلفهم من المحدثين، وقال: وهو قول فاسد; لأن المراعى العقيدة".اهـ
1 / 15
(المسألة الثالثة): اعتبار أهل الظاهر في الإجماع:
قال الزركشي في البحر المحيط (٦/ ٤٢٥، ٤٢٤): "ذهب قوم منهم القاضي أبو بكر، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ونسبه إلى الجمهور أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس في الحوادث الشرعية، وتابعهم إمام الحرمين، والغزالي، قالوا: لأن من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر، فهو كالعامي الذي لا معرفة له، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي بن أبي هريرة، وطائفة من أقرانه، وقال الأصفهاني شارح المحصول: "يلزم القائل بذلك أنه لا يعتبر خلاف منكر العموم، وخبر الواحد، ولا ذاهب إليه"؛ قلت: نقل الأستاذ عن ابن أبي هريرة ﵁ أنه طرد قوله في منكر أخبار الآحاد، ومن توقف في الظواهر والعموم؛ قال: لأن الأحكام الشرعية تستنبط من هذه الأصول، فمن أنكرها وتوقف فيها لم يكن من أهل الاجتهاد، فلا يعتبر بخلافه.
قال النووي في باب السواك في شرح مسلم: "إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون، وكذا قال صاحب المفهم: جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم، بل هم من جملة العوام، وإن من اعتد بهم فإنما ذلك; لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع، والحق خلافه؛ وذكر غيره أنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات، وكذا قال أبو بكر الرازي من الحنفية: لا يعتد بخلافهم، ولا يؤنس بوفاقهم؛ وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل، ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب; لأن مدار الفقه على هذه الطرق، ونقل ابن الصلاح عن الأستاذ أبي منصور أنه حكى عن ابن أبي هريرة وغيره: أنهم لا يعتد بخلافهم في الفروع، ويعتد بخلافهم في الأصول، وقال إمام الحرمين: المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنًا; لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها؛ وقال في
1 / 16
كتاب اللعان: إن قول داود بإجزاء الرقبة المعيبة في الكفارة نقل الشافعي-رحمه الله تعالى- الإجماع على خلافه؛ قال: وعندي أن الشافعي لو عاصر داود لما عده من العلماء، وقال الإبياري: هذا غير صحيح عندنا على الإطلاق، بل إن كانت المسألة مما تتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي، ولا مخالف للقياس فيها لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ؛ فإن قلنا: بالتجزؤ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية; لأن له فيه مدخلًا، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم؛ وقال ابن الصلاح: الذي استقر عليه الأمر ما اختاره الأستاذ أبو منصور، وحكاه عن الجمهور، وأن الصحيح من المذهب الاعتداد بخلافهم، ولهذا يذكر الأئمة من أصحابنا خلافهم في الكتب الفرعية؛ ثم قال: والذي أجيب به بعد الاستخارة: أن داود
يعتبر قوله، ويعتد به في الإجماع إلا ما خالف القياس، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه على خلافه إجماع ينعقد، فقول المخالف حينئذ خارج عن الإجماع، كقوله في التغوط في الماء الراكد، وتلك المسائل الشنيعة، وفي: "لا ربا إلا في النسيئة"، المنصوص عليها، فخلافه في هذا وشبهه غير معتد به. اهـ".اهـ
(المسألة الرابعة): هل يشترط شهرة المجتهد الذي يُعتبر قوله في الإجماع؟
ذهب الزركشي في البحر المحيط (٦/ ٤٣٠) إلى عدم اشتراط الشهرة، وقال: "بل يعتبر قول المجتهد الخامل خلافًا لبعض الشاذين حيث فصل المشهور بالفتوى فيعتبر قوله دون غيره ... ".اهـ
(المسألة الخامسة): هل يعد خلاف الواحد والاثنين مانعًا من الإجماع؟
قال ابن حزم في الإحكام (٤/ ٥٣٨): "وقالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد وقول الجمهور هو إجماع
1 / 17
صحيح؛ وهذا قول محمد بن جرير الطبري.
وقالت طائفة: ليس هذا إجماعًا.
وقالت طائفة: قول الجمهور والأكثر إجماع وإن خالفهم من هو أقل عددًا منهم؛ وقالت طائفة ليس هذا إجماعًا ... ".اهـ
قلت: قال د. أبو حماد صغير في مقدمة الأوسط (١/ ٤٨): "أما ابن المنذر فقد تابع فيه الطبري؛ فهو يذكر المسألة وإذا كان فيها خلافٌ شاذ أو رأي منفرد ليس له سند صحيح، فهو يعتبره إجماع أهل العلم ولا عبرة عنده بخلاف رجل أو رجلين.
ومن عرف نهج ابن المنذر ثم تتبع نهج الطبري في تهذيب الآثار وتفسيره، وابن نصر المروزي في اختلاف العلماء، ومالك في الموطأ والمدونة الكبرى، والشافعي في الأم، وأبو عُبَيْد في كتاب الطهارة وكتاب الأموال، وغيرهم كثيرون، يَجد أن نَهج بعضهم لا يختلف عن بعض آخر.
إذن إجماعات ابن المنذر ليست من قبيل إجماع الأصوليين ولا فيها نكارة، إذ سبقه العلماء وسلك هو أثرهم فيها".اهـ
وقال ابن مفلح في الفروع (١/ ٤٦٥): " ... قال العلامة ابن القيم: وهذه عادة ابن المنذر أنه إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعًا".اهـ
قلت: وقد قال المقري في قواعده الفقهية: "إياكم وإجماعات ابن المنذر" (١).
وهذا التقرير من المقري قد يكون صوابًا إذا وزنا إجماعات ابن المنذر على تعريف الأصوليين للإجماع؛ أما إذا اعتبرنا ما ذكره ابن حزم من مذهب الطبري في تعريف الإجماع؛ ففي هذه الحالة يعتبر قول المقري فيه شيء من الإجحاف.
وقال الشيخ عبد الله بن الجبرين في مقدمة تحقيقه لكتاب الإقناع لابن المنذر
(١/ ٢٠): "إن من يدرس المسائل التي حكى الإمام ابن المنذر فيها الإجماع عليها تتبين
_________
(١) أفادني بهذا النقل: الشيخ مشهور حسن آل سلمان -جزاه الله خيرًا-.
1 / 18
له دقته في ذلك، فلا تكاد تجد مسألة حكى إجماع أهل العلم عليها إلا وقد وافقه في ذلك بعض إئمة هذا الشأن كابن حزم أو ابن رشد أو ابن قدامة أو غيرهم؛ وقد يوجد في بعض هذه المسائل خلاف شاذ من بعض أهل العلم، وهي قليلة إذا قورنت بالمسائل التي لم يعثر فيها على خلاف، كما أن هذا الخلاف قد لا يثبت عمَّن نسب إليه، وإن ثبت عن أحد منهم قد يكون قولًا رجع عنه أو اشتهر عنه خلافه أو أن الإجماع سابق لخلافه أو أن المخالف في ذلك ممن لا يعتد بخلافه عند أهل العلم أو عند بعضهم.
وإن لم يوجد شيء من هذه الاحتمالات فلا ينبغي أن يتخذ من ذلك وسيلة إلى القدح في جميع الإجماعات التي حكاها المؤلف أو الحكم بأنه متساهل في حكاية الإجماع أو أنه يحكي الإجماع مع علمه بوجود مخالف، أو مع عدم جزمه بعدم وجود مخالف؛ فهذا كله غير مسلَّم .... ".اهـ
قلت: وكذلك فإن بعض المسائل قد يظهر فيها الخلاف بعد عصر ابن المنذر؛ وأما قبل ابن المنذر أو في حياته لم يكن يُعرف في المسألة خلاف معتبر؛ فلا ينبغي القدح في إجماع نقله ابن المنذر لمجرد وجود خلاف من بعض المتأخرين عنه.
ثانيًا: انقراض عصر المجمعين هل هو شرط في اعتبار الإجماع؟
نسب الفتوحي في شرح الكوكب المنير (ص ٢٣٣) اعتبار هذا الشرط إلى الإمام أحمد وأكثر أصحابه، ثم قال: "وفي المسألة أقوال غير ذلك؛ أحدها: وهو قول الأئمة الثلاثة وأكثر الفقهاء والمتكلمين: أنه لا يعتبر انقراض العصر مطلقًا؛ والقول الثاني: أنه يعتبر انقراض العصر للإجماع السكوتي لضعفه دون غيره؛ اختاره الآمدي وغيره؛ ونقل عن الأستاذ أبي منصور البغدادي؛ وقال: إنه قول الحذاق من أصحاب الشافعي، وقال القاضي أبو الطيب: هو قول أكثر الأصحاب، ونقله أبو المعالي عن الأستاذ أبي إسحاق واختاره البندنيجي؛ وجعل سليم الرازي محل الخلاف في غير السكوتي؛ والقول الثالث: أنه يعتبر انقراض العصر للإجماع القياسي دون غيره؛
1 / 19
والقول الرابع: أنه يعتبر انقراض العصر إن بقي عدد التواتر؛ وإن بقي أقل من ذلك لم يكترث بالباقي؛ وحاصله: أنه إذا مات منهم جمع وبقي منهم عدد التواتر، ورجعوا أو بعضهم لم ينعقد الإجماع، وإن بقي منهم دون عدد التواتر، ورجعوا أو بعضهم لم يؤثر في الإجماع؛ والقول الخامس: أنه يعتبر انقراض العصر في إجماع الصحابة دون إجماع غيرهم، وحيث لا يعتبر انقراض العصر لا يعتبر تمادي الزمن مطلقًا، بل يكون اتفاقهم حجة بمجرده، حتى لو رجع بعضهم لا يعتد به، ويكون خارقًا للإجماع؛ ولو نشأ مخالف لم يعتد بقوله، بل يكون الإجماع حجة عليه، ولو ظهر لجميعهم ما يوجب الرجوع فرجعوا كلهم حرم؛ وكان إجماعهم حجة عليهم وعلى غيرهم، حتى لو جاء غيرهم مجمعين على خلاف ذلك لم يَجز أيضا، وإلا لتصادم الإجماعان ..... ".اهـ
وقال الغزالي في المستصفى (ص ١٥٢) عن القول باشتراط انقراض العصر: "وهذا فاسد لأن في اتفاقهم لا في موتِهم، وقد حصل قبل الموت، فلا يزيده الموت تأكيدًا".اهـ
قلت: وهذا تعليل له وجه مُعتبر.
ثالثًا: هل المعتبر إجماع الصحابة فقط دون من بعدهم؟
قال الغزالي في المستصفى (ص ١٤٩): "ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة؛ وهو فاسد لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة، أعني الكتاب والسنة والعقل، لا تفرق بين عصر وعصر، فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماعٌ من جميع الأمة، ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين".اهـ
قلت: وقد نُسب القول بعدم الاعتداد بغير إجماع الصحابة إلى أحمد ﵀، فقد جاء في المسودة (٢/ ٦١٦): "قال القاضى الإجماع حجة قطعية يَجب المصير إليها وتُحرم مخالفته ولا يجوز أن تُجمِع الأمة على الخطأ؛ وقد نص أحمد على هذا في رواية عبد الله وأبى الحارث في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج عن أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا
1 / 20
له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث قول أهل البدع لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا.
قال شيخنا ﵁: قلت قال فى رواية عبد الله: الحجة على من زعم أنه إذا كان أمرًا مجمعًا عليه ثم افترقوا أنَّا نقف على ما أجمعوا عليه إلى آخره؛ قال: "وقد علَّق (١) القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس قد اختلفوا، وهذه دعوى بشر المريسي والأصم"، ولكن يقول: "لا نعلم الناس اختلفوا"، إذا لم يبلغه، وكذلك نقل المروذى عنه أنه قال: "كيف يَجوز للرجل أن يقول أجمعوا؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إنى لم أعلم مخالفًا، جاز"، وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: "هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله إجماع الناس"؛ وكذلك نقل عنه أبو الحارث: "لا ينبغي لأحد أن يدعى الإجماع لعل لناس اختلفوا".
قال القاضي: "وظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإجماع، وليس هذا على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف، لأنه قد أطلق القول بصحة الإجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث، وادعى الإجماع في رواية الحسن ابن ثواب، فقال: "أذهب في التكبير من غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ فقال: بالإجماع، عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس."
قال شيخنا: قلت: الذي أنكره أحمد دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة أو بعدهم وبعد التابعين أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج
_________
(١) قال د. أحمد الذروي - محقق نسخة المسودة-: "في م - أي المطبوعة القديمة- زعم المحقق أنها محرفة، وصوابها أطلق".اهـ؛ وقال الشيخ عبد الله بن محسن التركي في "أصول مذهب الإمام أحمد" (ص ٣٥١): "هكذا في مخطوطة العدة، والظاهر أنها تحريف، وصوابها: وقد أطلق".اهـ
1 / 21
بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو في التابعين ثم هذا منه نهى عن دعوى الإجماع العام النطقي، وهو كما قال: الإجماع السكوتي أو إجماع الجمهور من غير علم بالمخالف، فإنه قال في القراءة خلف الإمام: ادعى الإجماع في نزول الآية، وفي عدم الوجوب في صلاة الجهر، وإنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع، ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين، وقد ادعى الإجماع فى مسائل الفقه غير واحد من مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وأبي عبيد في مسائل وفيها خلاف، لم يطلعوه، وقد جاء الاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع في كلام عمر بن الخطاب وعبد الل بن مسعود وغيرهما حيث يقول كل منهما: أقضي بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما أجمع عليه الصالحون، وفى لفظ: بما قضى به الصالحون، وفى لفظ: بما أجمع عليه الناس، لكن يقتضى تأخير هذا عن الأصلين وما ذاك إلا لأن هؤلاء لا يخالفون الأصلين".اهـ
وقال الرازي في المحصول (٤/ ٢٣): "ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه لكنه قال لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيًا أو لا يكون؛ أما الوجداني فكما يجد كل واحد منا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه إلى غير ذلك، ولا شك أن العلم بحصول اتفاق أمه محمد ﷺ ليس من هذا الباب، وأما الذي لا يكون وجدانيًا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته إما الحس وإما الخبر وإما النظر العقلي، أما النظر العقلي فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به؛ بقي أن يكون الطريق إليه إما الحس وإما الخبر لكن من المعلوم أن الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه لا يمكن إلا بعد معرفته؛ فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد من الأمة، لكن ذلك متعذر قطعًا فمن
1 / 22
الذي يعرف جميع الناس الذين هم بالشرق والغرب، وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة لا خبر عندنا منه فإنا إذا أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا خبر عندهم من أحد من علماء الغرب فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذاهبه؛ وأيضًا فبتقدير العلم بكل واحد من علماء العالم لا يمكننا معرفة اتفاقهم لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى كل واحد منهم وذلك لا يفيد حصول الاتفاق لاحتمال أن بعضهم أفتى بذلك على خلاف اعتقاده تقية أو خوفاأو لأسباب أخرى مخفية عنا، وأيضًا فبتقدير أن نرجع إلى كل واحد منهم ونعلم أن كل واحد منهم أفتى بذلك من صميم قلبه فهو لا يفيد حصول الإجماع لاحتمال أن علماء بلدة إذا أفتوا بحكم فعند الارتحال عن بلدهم والذهاب إلى البلدة الأخرى رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى؛ بذلك
وعلى هذا التقدير لا يحصل الاتفاق، لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى قسمين وأحد القسمين أفتى بحكم والآخر أفتى بنقيضه ثم انقلب المثبت نافيًا والنافي مثبتًا لم يحصل الإجماع، وإذا كان
كذلك فمع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين بحصول الإجماع؛ بل ها هنا مقام آخر وهو أن أهل العلم بأسرهم لو اجتمعوا في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة وقالوا أفتينا بهذا الحكم فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم كان مخالفًا فيه فخاف من مخالفة ذلك الجمع العظيم أو خاف ذلك الملك الذي أحضرهم أو أنه أظهر المخالفة لكن خفي صوته فيما بين أصواتهم فثبت أن معرفة الإجماع ممتنعة"، إلى أن قال في
(٤/ ٤٤): "والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمن الصحابة حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم على التفصيل".اهـ
قلت: ولا يخفى أن هذا الكلام لا يخلو من تكلف، وإن كان في الجملة قد أجاد في إثبات القول بتعذر معرفة إجماع من بعد الصحابة.
وذكر العلامة ابن عثيمين في "الأصول من علم الأصول" (ص ٨٣) أن الإجماع
1 / 23