تصدير
مقدمة الناشرين
موضوع القصة
إحسان
أشخاص القصة
نسق التمثيل
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
نظرات وملاحظات
الأوپرا والأدب المصري
فصل ختامي
نقد الأوپرا إحسان
رد المؤلف
تصدير
مقدمة الناشرين
موضوع القصة
إحسان
أشخاص القصة
نسق التمثيل
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
نظرات وملاحظات
الأوپرا والأدب المصري
فصل ختامي
نقد الأوپرا إحسان
رد المؤلف
إحسان
إحسان
مأساة مصرية تلحينية
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
تصدير
لما اعتزمت وضع هذه المأساة التلحينية الواقعة في نيف ومائتين من الأبيات الغنائية المتنوعة كنت أرمي إلى غرضين: أولهما خدمة الشعر القومي عن طريق المسرح أو بعبارة أخرى خدمة الشعر التمثيلي، وثانيهما خدمة فن الأوپرا فيما إذا نالت هذه القصة التمثيلية العناية بها من ملحن قدير ثم من إحدى الفرق التمثيلية الممتازة بمصر.
فأما عن غرضي الأول فهذه ثمرة جهدي في سبيله، وإن يكن جهدا متواضعا ولكنه يتناسب والحالة الفكرية الراهنة في مصر بل لعله سابق إياها، وحسبي أن تنشر القصة لتنال نصيبها من النقد الأدبي؛ ولتكون أساسا صغيرا لمجهود أجل، ولتغدو مشجعة غيري على العمل والإجادة.
وأما عن غرضي الثاني فلست مسئولا عن تحقيقه بأكثر من توفير المعاونة الواجبة، فقد راعيت ظروف المسرح المصري الحاضرة مراعاة وافية: فاقتصرت على إعداد القصة في ثلاثة فصول متوسطة رغم وقائعها الكثيرة مع تجنب الغلو في كل اعتبار يقتضيه الإخراج الفني السليم، ولا سيما في الأوپرا المجهدة بغنائها المتواصل، ومع تقدير مناسبة هذه القصة التلحينية لأية فرقة منظمة مختصة بتمثيل هذا النوع من القصص، بحيث لا تحتاج إلى تحوير أو تعديل في إنشائها وتقسيمها.
وحبا في خدمة التمثيل المصري قد حلت دون التبكير بطبعها لفائدة الأدباء حتى لا يعرقل المجهود الفني التمثيلي، وأرجو أن يتحقق هذا الأمل، فإن لم يتحقق فحسبي أني أرضيت ضميري بما قدمت من خدمة أدبية وإن كانت صغيرة. وقد أوحى بها تاريخ مصر الحديث والأدب العصري المصري، فإلى مصر أرفعها وإلى أدباء مصر أهديها.
أحمد زكي أبو شادي
الإسكندرية في 7 أبريل سنة 1927
مقدمة الناشرين
من أخص مبادئ (رابطة الأدب الجديد) - التي تتشرف بنشر هذه الدرامة الشعرية - خدمة الثقافة العصرية عن طريق التأليف والنشر أولا، والخطابة والتمثيل ثانيا. ومن حظها أن تتولى نشر هذه الدرامة التي تنزع إلى خدمة فن الأوپرا كما ترمي إلى خدمة الشعر والتأليف الدرامي معا. وفي قيامها بهذا التعاون الأدبي وفاء عملي لمبادئها، وتقدير لهذا الأثر الذي يصح أن يسمى أول أساس جدي للدرامة الشعرية العربية وبالأخص للدرامة المصرية، والباعث بين الأدباء على الاهتمام بهذا النوع من التأليف منذ أعلن الأستاذ الجداوي في سنة 1925م عناية شاعرنا به واعتزامه إنصاف هذا الجيل بالتوفر على خدمة القصص الشعري.
أما وقد وفى الدكتور أبو شادي في نظراته وملاحظاته المنشورة في ختام هذه القصة موضوع البحث في «الأوپرا والأدب المصري»، فحسبنا أن نسجل هنا فاتحة عهد جديد في التأليف الشعري، بعد أن طال زمن المعارضات للمتقدمين من «نهج البردة» إلى «يا ليل الصب»، وبعد أن نكبنا طويلا بالمدائح والتهاني والمراثي والأوصاف المبتذلة ونحوها من ضروب العبث اللفظي واضطراب الفكر والذبذبة السياسية مما شغل «أمراء» شعرائنا «ووزراءهم» حتى في العصر القريب ربع قرن بل أكثر، دع عنك المجهود الضائع في القرون الطويلة السابقة ... ومهما تجاوزنا في تفسير التآليف الأولى التقليدية الركيكة، فيستحيل علينا في أمانة إلا أن نعترف بأنه لم تظهر لنا قبل الآن درامة شعرية عربية مؤلفة بالمعنى الصحيح. فإذا ما حيينا في مؤلف هذه القصة مؤسس الدرامة العربية الشعرية أو باعثها، فإنما نحيي الروح الوثابة الناهضة التي نعتمد عليها في غذاء رابطتنا: رابطة الأدب الجديد الحي، والتي نرجو منها أن تزجي كبار الشعراء المحافظين إلى طريق المجددين سواء اعترفوا بفضل الأخيرين ونشاطهم وحميتهم، وإرشادهم التجديدي أم لم يعترفوا ... ونحن نرحب مقدما بما سيتبع هذه القصة المصرية البديعة من آثار جليلة لمؤلفها النابغة القدير على خدمة الشعر القصصي للأدب وللمسرح، ونهنئه بهذه الزعامة الأدبية والفتح الجديد في سبيل وعر غير مطروق بينما أساتذته السابقون ما يزالون يعبثون بصنوف من اللهو النظمي التقليدي وإن اختلفت أسماؤه، ونرجو أن يكون في هذا المثل العالي من الغيرة الأدبية والقومية خير ما يحتذيه شعراؤنا النابهون.
رابطة الأدب الجديد
موضوع القصة
أحب ضابط مصري (أمين بك) ابنة عمه الحسناء (إحسان)، وكان يتيما من الوالدين قد تربى معها كما تربى أخوه (كمال) منذ الصغر.
ثم دعي إلى الحرب المصرية الحبشية (سنة 1876م)، فأوصى أخاه (كمالا) خيرا بحبيبته التي كانت يتيمة من الأم، كما أوصاه بالزواج منها إذا مات، وأوصاها بذلك أيضا.
وقام أثناء تلك الحرب المشئومة التي نكب فيها الجيش المصري بدور عظيم من الشجاعة أسر فيه ومات من معه من رفاقه ما عدا صديقه الضابط (حسن بك)، الذي أشاع عنه كذبا وخداعا بأنه مات، بينما كان يعرف الحقيقة التي كتمها طمعا في نيل (إحسان) خطيبة (أمين بك)، حيث كان قد عرفها بواسطته باعتباره صديقه الحميم ولم تمنع ذلك التقاليد الأرستقراطية حتى في ذلك العهد.
ثم يفر (حسن بك) على إثر إحدى المعارك الخطيرة هاربا إلى مصر من ويلات الحرب متسترا، فيصل إليها بعد زمن طويل عن طريق السودان ويجد (إحسان) قد تزوجت (كمالا)، فينقم عليه (حسن بك) ويدبر تسميمه تدريجيا ويصاب (كمال) أيضا بالسل من ضعفه، فيعجل المرض موته، ولكن بعد أن يعدي (إحسان) بمرضه ...
ثم يخلص (أمين بك) من أسره في الحبشة بعد خمسة أعوام تقريبا ويعود إلى مصر فيعلم من بعض رفاقه ومن خادمه القديم (الحاج رضوان) بجناية صاحبه (حسن بك) الذي أذاع البلاغ الكاذب عنه مع أنه رأى (أمين بك) يؤسر أمام عينيه، بينما هرب هو ونجا بحياته ممالئا العدو، ويعلم (أمين بك) أيضا أنه قبض على صاحبه هذا الخداع - بعد أن افتضح أمره أخيرا - للتحقيق معه كفار من الجيش ومجرم، ثم يدرك (أمين بك) محبوبته (إحسان) في النزع الأخير، فتصيح صيحة الدهشة والفرح بلقائه وتموت.
الشعر والمسرح
بقلم محمد لطفي جمعه
الأستاذ لطفي جمعه.
تفضل حضرة الدكتور العالم والشاعر الأديب النسيب أحمد زكي أبو شادي وطلب مني مقدمة نقدية لهذه القصة الغنائية التي نغم
1
في وضعها شعرا ووسمها باسم (إحسان)، ولما كنت شهدت زهور
2
نبوغ هذا الشاعر النجيب كما يشهد البستاني جمال الأزهار عند أول تفتحها - وذلك منذ أكثر من عشرين عاما مذ كنت أشارك المرحوم والده في القيام بعبء تحرير جريدة (الظاهر) - فقد وجدت في نفسي سرورا عظيما لتلبية هذا الطلب. وإني أذكر مقدم أحمد زكي من أوروبا بعد أن حاز أعلى الشهادات في فنونه وتخصص في علوم البكتريولوجيا والأبقلطوريا وألقى محاضرة في مدرسة الزراعة العليا بالجيزة منذ بضع سنين، وقد هنأته إذ ذاك بنجاحه الباهر وتمنيت له أن يكون كالنحل في حسن الأثر، فصدقت تلك الأمنية وصح تنبئي، وما زالت نفسه - تلك «النحلة» ذات النشاط والحركة - تخرج شهدا بغير إبر، ذا ألوان شتى وطعم حلو لا يسلوه من يذوقه ويستوعبه: فمن شعر مبتكر المعاني طريف الأسلوب، إلى قصة في شكل قصيدة أبيقية (Epie)
إلى أن شاءت مواهبه الفياضة أن تجود بهذه التحفة الفنية الجديدة وهي أعلى ما يرمي إليه متفنن وشاعر وأديب. وقد قرأت قصة (إحسان) مرارا وتكرارا، وتذوقت أبياتها المنظومة، ووقفت بقوافيها التي كانت تجيب نداء الشاعر في طاعة وخفر كأنها الحور العين تحيط بالمصلي الورع قبيل السحر! وأطربتني موسيقى تلك القصة، فعددتها فتحا جديدا في فنون الأدب العربي المصري، وجوابا يجابه به كل من ادعى أن الشعر العربي كجميع أنواع الشعر السامي قاصر عن القصة والرواية، ولو أن الشعراء المصريين - ولا سيما شوقي وحافظ - أخذوا بأهداب نظم القصص الغنائية منذ بدء نهضتنا الأدبية، إذن لبلغت تلك الصناعة الفنية المكانة التي تستحقها وتشرفنا في نظر الغربيين. فنعم الشاعر الذي يخرج بالشعر العربي من الدروب المطروقة إلى الجادة الرحبة الفسيحة؛ ليظهر أن الشعر واللغة غير قاصرتين عن التحليق في أفق الفنون العليا!
وإني أشبه الشاعر الذي تدركه الشجاعة والنبوغ فيقصد إلى هذه الغاية بذلك الطيار (لندبرج
Lindbergh ) الذي طار بمفرده عابرا بحر الظلمات (الأقيانوس الأطلنطي) دون تردد ولا فزع، فشق طريقا في الأفق لم يسبقه إليها سابق، وكانت قبله من الممكنات ولكنه وحده الذي جرأ عليها، وتغلب على ما كان يكتنف غيره من المصاعب، فإلى الأمام أيها الشاعر كما نقول ... إلى العلا أيها الطيار! ... وما أعظم الشبه بين الشاعر والطيار، فلكليهما أجنحة يحلق بها في الفضاء بعيدا عن غوغاء العالم وجلبته!
لم تظهر الفنون في أوروبا بمظهرها الصحيح قبل ولادة الأوپرا. وقد ولدت الأوپرا الراقية في ألمانيا والنمسا، ثم في إيطاليا وفرنسا وكان تأليف الأوپرا دائما مقترنا بظهور شاعر قادر وموسيقار ماهر، ولم يجمع الموهبتين سوى واحد فقط هو النابغة الفذ ريشارد فجنر (Richard Wagner)
الذي أكرمه مواطنوه وشادوا له في مدينة بيروث
Bayreuth (من أعمال ألمانيا) ملعبا خاصا به، ووقفوه على تمثيل رواياته الغنائية، وجعلوا له في كل عام موسما تحج إليه الشعوب من سائر أنحاء الأرض لتشهد عجائب فنه في الشعر والموسيقى!
وكانت أوروبا كلها تسير خلف هذا المؤلف الشاعر بخطوات منتظمة حتى إن الفيلسوف الألماني الأكبر فردريك ولهلم نيتشيه (Frederich Wilhelm Nietzsche)
كان من أنصاره إلى أن وقع بينهما شقاق أدى إلى فراقهما، وألف نيتشيه في ذلك كتبا، وظهر أنه في أول عهده تأثر بموسيقى فاجنر (Wagner) ، وكان لها فعل قوي في آرائه الفلسفية. أما موسيقى فاجنر فهي موسيقى علمية كأنها معادلات الجبر والرياضيات العليا، بعكس الموسيقى الفرنسية والإيطالية (التي لم يكن وحيها ألمانيا) فأساسها الملوديا (Mélodie)
كما أن أساس الموسيقى الڨاجنرية وتد العودة أو اللازمة الموسيقية (Leite Motive) .
وفي الغالب لا يكون لموضوع القصة الغنائية شأن يذكر بجانب الموسيقى، حتى إن ڨردي (Verdi)
استعان بموضوع قصة غادة الكاميليا وصاغها في الأوپرا لاتراڨياتا (LaTraviata) .
وكثيرة من القصص الغنائية قائمة على قصص خرافية مثل قصة (Lohengrin) - من صنع الخالد الذكر ڨاجنر - التي هي حلقة من سلسلة قصص الجرال المقدس، وهي بحسب ما قرره علماء الفولكلور (Folklore)
عين القصة العربية المعروفة باسم (عويد السدب).
أما رواية (إحسان) التي نسج بردها بشعر نادر المثال النابغ أحمد زكي أبو شادي فمبنية على قصة حقيقية أو على الأقل معقولة وممكنة الوقوع في كلمتين (الحب والحرب)، وهكذا الإنسانية تمر حياتها وتضمحل بين هاتين الكلمتين القويتين: «الحب» الذي تحيا به المخلوقات وتنجذب بسحره نحو بعضها، و«الحرب » التي تفنيها وتقضي عليها ...
غير أن موضوع قصة زكي أبو شادي أميل إلى الدرامة منه إلى الأوپرا المألوفة؛ لأن الأوپرا عادة ليست في حاجة إلى إيراد الوقائع معقدة ثم تحليلها، ولكنها في حاجة إلى وصف عناصر الطبيعة وعواطف الإنسان؛ ليكون امتزاج تينك الحالتين مع الموسيقى أقرب إلى الغاية المرغوبة، فهنا نقطة في فن تأليف الأوپرا نفسه سوف يستكملها ذلك الشاعر المبتكر في المستقبل القريب عندما تنفتح له أبواب تلك الصناعة على مصاريعها.
على أن تنقله في تلك القصة بين موضوعات شتى وتوفيقه بمهارة بين روح كل موضوع وبين الشعر الواجب نظمه للأداء أمر جدير بالإعجاب، وإن كان الشعر في بعض المواقف لم يكسب المرونة المطلوبة للإنشاد الموسيقي، وهذه علة سوف تزول عندما يعاني هذا المؤلف القدير الإشراف على تلحين تلك الرواية وصبها في القالب الموسيقي، وهذا هو المجهود الأخير الذي يظهر قصته في ثوبها القشيب الجدير بها.
بيد أن الحياة المصرية بصفة خاصة والحياة الشرقية الإسلامية بصفة عامة لا تؤهلان الشاعر للتغلغل في تفهم العواطف البشرية على حقيقتها بسبب غياب عامل الحب الصحيح؛ ولهذا كان المؤلفون في أوروبا نفسها يختارون موضوعات تكاد تكون خالية لاتقاء الوقوف في ذلك المأزق، وليس أدل على هذا من رواية (فاوست
Faust ) التي ألفها أعظم شاعر في الدنيا، العظيم ذو العبقرية الكونية المطلقة
Absolute Univereal Genius
ولفجان جوت
Johann Wolfgang Von Goethe ، وهي تلك القصة الفلسفية التي نقلت إلى جميع لغات الدنيا وعجز الشعراء والكتاب في مصر عن نقلها إلى العربية، بل لا أكون مبالغا إذا قلت: إنهم يعجزون عن قراءتها ما عدا واحدا هو خليل مطران. فإن هذه القصة النادرة المثال - التي قضى فيلسوف ألمانيا وشاعرها الفذ وأديبها المفرد أكثر من ستين عاما في تأليفها - على الرغم من كونها تنطوي على موضوع خيالي، فإنها قد تناولت جميع حقائق الحياة؛ ولأن أحمد زكي أبو شادي حاول أن يكون مؤلفا في الشعر القصصي التمثيلي وسائرا على خطوات هؤلاء العظماء فنحن نحييه ونشجعه، ونتمنى له الثبات والصبر في تلك الطريق الوعرة ونستحثه على الاستمرار حتى يبلغ الكمال، ويتسنم ذروة هذا المجد الذي يعادل المجد العلمي في أرقى وأسمى مراتبه.
هوامش
الشعر الحي ونزعة التجديد
واجب التنويه بفضل الشاعر
بقلم حسن صالح الجداوي
ما أحسب أن بين الأدباء من هو أشد اغتباطا مني بظهور هذه الدرامة الشعرية التلحينية (أو الأوپرا الشجية) لا لما هو معروف عن تقديري الكبير لشعر أبي شادي فقط؛ بل كذلك لأنها جاءت مؤيدة لإيماني بعزيمة الشاعر وحبه لفنه ومواصلته الجهد لتحقيق ما يعتزم إظهاره من عمل أدبي مهما عظمت الصعاب في طريقه. وما أشك في أن هذه الأوپرا الطريفة المؤثرة ستعد حلقة أولى في سلسلة طويلة متينة من المؤلفات الفنية الشائقة؛ لأن مثل شاعرنا الفنان المطبوع إذا قال فعل، وإذا اعتزم نفذ عزمه، وإذا وهب وقت راحته للأدب كما يهب وقت عمله للعلم فهو لا بد خادم العلم والأدب. ومما يزيد اغتباطي أن تظهر القصة في هذا المظهر الأدبي الجليل محاطة بمجموعة نقدية في الأدب المسرحي سواء للمؤلف أو لمريديه مما يجعل هذا الكتاب - أسوة بمؤلفات أبي شادي الأخرى - تحفة أدبية رائقة ومتعة لكل أديب حر الفكر مقدر لروح الإنشاء والتجديد. وإني العليم بسمو خيال الشاعر وتفننه أفهم جد الفهم أسباب اختياره في ظروفنا القومية الحاضرة لدرامة شعرية أساسا للأوپرا الأولى التي أهداها إلى وطنه وأقره على هذا الاختيار.
الأستاذ الجداوي.
وقد تحدث غيري عن قصة (إحسان)، وشرح الشاعر وجهات نظره في تأليفها، فحسبي إذن أن أقول في تقديرها: إنها تأليف جريء في الأدب العربي؛ لأنها مثال لأرقى الدرامات الشعرية التلحينية التي يشع منها التفكير والعاطفة كما يشع الروح الفني، وقد أراد منها الشاعر أداء حقوق شتى للشعر العصري، ولفن الأوپرا، وللوطنية المصرية، فضلا عن أساس القصة الخلقي النفساني، وكل ذلك في نيف ومائتين من الأبيات المتنوعة، وفي ثلاثة فصول وأربعة مشاهد. وهذه مقدرة لا يعرف قيمتها حقا إلا من عالج التأليف، وكثرت مشاهداته في المسارح الغربية، واتسع اطلاعه ووقوفه على آراء كبار النقاد للأدب عامة وللمسرح خاصة.
بيد أني وإن زففت إلى صديقي الشاعر تهنئة الإكبار والتشجيع فما يداخلني الشك في أنه أبعد الناس عن الغرور والحاجة إلى التهليل والتهاني، فإني أعلم علم اليقين أنه يبذل جهده الصادق وإخلاصه الوافي لعمله، ولكنه متى فرغ منه دب إلى نفسه القلق والطموح إلى ما هو أصلح وأسمى، وما يزال هذا أقوى حافز فني له على بلوغ الإتقان المستطاع. والقارئ الأديب لا يجهل كم من أدباء، أكابر وأصاغر، تسرب إليهم الغرور والتحاسد والأنانية، وقد لا يدفع بعضهم إلى العمل سوى حسده فيهدم بحسده أضعاف ما يبني بجهده، ولكن شاعرنا لا يدفعه إلى الأمام سوى ولوعه بفنه وإخلاصه وعدم رضائه عن جهده، وما اعتداده بنفسه في موقف الدفاع عنها إلا مظهر الغيرة على الأدب والشمم والكرامة النفسية، لا أكثر ولا أقل.
بمثل هذه المبادئ والعواطف يبني لنا الأستاذ أبو شادي صروحا من الشعر الحي، وبمثل خلقه الكريم وحرصه على الإنشاء والتجديد ومسايرة الزمن - بل مسابقته أحيانا - يكون للجيل الناشئ ثروة أدبية فكرية قمينة بالبقاء والإعزاز. ففرض على الأديب المتصفح لهذا الكتاب الحي أن يهب الشاعر عواطف الحب والتكريم، وأن يشترك في التنويه بفضله حتى يؤازر حركة التجديد الرشيدة التي يدفعها شاعرنا إلى الأمام بكل قواه، وما إكرام مثله إلا في إكرام عمله. •••
وإذا كان في مقدمة بواعث التقدير أثر الشاعر في الفن وفي بيئته، فمن الحق أن نسجل أهم ما نعرفه من فضله - ولا أقول كل ما نعرفه - ذلك الفضل الذي بث الأمل في نفوس كثيرة بين الأدباء والمتأدبين، ورفع مستواها الفكري، وجعلها تلمس الرجاء بعد أن كانت تتخيله، أو بعد أن كانت تصطدم باليأس مرارا: (1)
كان الأستاذ أبو شادي أجرأ شعرائنا على احترام الفكر والعاطفة الحرة الكريمة في أي مظهر شريف، ومن ثم داس بجراءة على الأساليب التقليدية في التعبير، وابتدع من وحي عصره وبيئته في أسلس لغة أساليب جديدة سخط عليها المحافظون، ولكن قدرها كل من يحترم الفكر الحر السليم والنظر البعيد الدقيق إلى الحياة وأسرارها ووحيها وبيانها البليغ. (2)
أعلن تقديره «للإخلاص الفني » وإن خالف في التفصيل مشربه أحيانا، فما احتقر أناتول فرانس لمذهبه الإباحي، ولكنه احتقر المخادع المذبذب الذي يتشدق بفلسفة الأخلاق وإصلاح المجتمع، وهو مثال الانحطاط الخلقي وأسوأ قدوة. وكانت الفكرة الشائعة بين المجددين بل وبين المحافظين أيضا التسامح مع رجال الأدب والفنون في شذوذهم، فصحح ذلك بمذهبه وهو أن الفنان الكامل الجدير بالاحترام وبالاتباع لا بد أن يكون فيلسوف النزعة، ذا شخصية جليلة وإرشاد سام صادق عن مبادئ وعواطف ممتازة، وإلا فلا معنى ولا قيمة لذبذبته وشعوذته، إذ غاية الفن أن يخدم الحقيقة وأن يسعد الإنسانية، لا أن يكون عبثا وبهرجا كاذبا، ولا أن يغدو مفسدة لها ووبالا عليها. (3)
ثار على مقاييس الحكم التقليدي العتيق المبنية على المعارضات والمناظرات، ولم يعترف إلا بالرأي النزيه والشعور الصادق والفكر المستقل والأثر الباني المجدد القرين للابتداع المغذي للمشاعر الإنسانية المهيب بها إلى الأمام وإلى العلاء وإلى الحرية. (4)
بث روح العلم والحقيقة الفنية الجميلة في الشعر بعد أن كانت روح الأوهام والأكاذيب الضالة والمبالغات السقيمة هي الغالبة، حتى عد العلم والأدب زمنا طويلا خصمين مع أن الأدب الحي لا مفر له من أن يستمد قوته من العلم ومن الفكرة العالمية ومن تفهم الحقيقة الفنية، وهو الآن حامل لواء هذا المذهب في الشعر العربي. (5)
بث روح القومية المصرية في شعره بإخلاص هو التفاني في حب مصر، حتى عد بجدارة شاعر الشباب الأول بل شاعر النهضة الفكرية الوطنية، وهذا واضح التجلي في شعره الوطني المشتعل حماسة وقوة وإخلاصا وهداية منذ نيف وعشرين عاما، بينما كان كثيرون غيره من الشعراء يعتبرون الشعر الوطني مديح تركيا أو الجامعة الإسلامية أو نحو ذلك من الروابط الثانوية. (6)
أبى أن يحكم على العربية بالعقم وعلى الشعر العربي بالجمود الدائم، فأخذ بيد الشعر القصصي والشعر التمثيلي مفسحا المجال للأوصاف المتنوعة للعواطف والمواقف والمرامي والنظرات، كما تفنن في أساليبه النظمية مجاراة للأدب الأوروبي الراقي. (7)
نشر نزعة التعاون الأدبي وحب الشعر للشعر، بعد أن طال زمن الحرب والهدم بين الأدباء وعهد «الإمارة» الشعرية والاستئثار بالظهور حتى يصح لنا بصدق أن نقر بأن له أثرا غير قليل في تكوين هذه السجية الشريفة بين أدبائنا الناشئين على الأخص؛ أولئك الذين يطالعون كتبه بشغف وعناية وإكرام. (8)
جدد في الشعر العربي روح الافتتان بالطبيعة عن مؤمن بها، فذكرنا بأيام (البحتري) و(ابن حمديس) و(ابن خفاجة) وأضرابهم، بعد أن كاد ينعدم هذا الفن من فنون الشعر لانصراف الناس إلى الماديات والسياسيات وتفشي التقليد والجمود. وحسبنا قصائده «صور وأنغام» و«بسمة الطبيعة» و«فتاة الريف» وأمثالها. (9)
أظهر لنا أمثلة من الفلسفة الشعرية الحقة التي يوحيها تفكيره الهادئ العميق، كما نرى في قصيدته «أقصى الظنون» وغيرها من المنظومات الآخذة باللب في ديوان (الشفق الباكي) وسواه من مؤلفاته الشعرية. (10)
رفع أحلامنا - بما عالجه من موضوعات نفسية وذهنية، وبما بثه من آراء وعواطف ومبادئ، وبما نشره من تفاؤل جميل، وبما تغنى به من حب ومواساة - إلى مثل عليا قلما تزجينا إلى بعضها معظم أشعار معاصريه.
ومن كانت هذه منزلته في نفسي وعند الشباب الناهض المتعلم الحر، فحسبه من هذا التقدير الوجيز تجديدا لعهد الولاء، ومن الدعوة إلى احتذاء خطواته وإكبار فنه إكبارا شخصيا له.
تحية الشعر
إلى مؤلف (إحسان)
بقلم أحمد محرم
يا مولعا بالفن يستفني النهى
عن كنزه المدفون: أين مكانه؟
الفن أنت! ... فإن أبيت فقد مضى
بين الأئمة حكمه وبيانه!
نقبت في دول البيان فلم يطب
لك ملك قيصره ولا سلطانه!
أفما تزال تهز راية محرب
عجل الإغارة ما يرد عنانه؟!
لك في الصحائف كل يوم جحفل
تغزو جبابرة النهى فرسانه!
لولا دفاع أولي الحفاظ لزلزلت
سرر البيان وروعت تيجانه!
اعكف على أدب لصحبك ناضر
شاب الزمان وما انقضى ريعانه!
وخذ السبيل إلى الخلود وكن فتى
يطوي الزمان إذا طواه زمانه!
لا تخش في الأدب الرفيع ظلامه
يوم الحساب ففي يدي ميزانه!
إن (الرواية) ذكر قومك هجته
ملء الزمان فهاجني رنانه
سر أذعت به الحياة لأمة
حيرى الظنون يضرها كتمانه
قل: يا (أبا الصداح )! ... روضك ضاحك
وهواك تسنح عطفا غزلانه
لا يصدفن بك الوشاة عن الحمى
لك في الحمى حق علي ضمانه!
انشر علينا الشعر! ... من يؤمن به
يعصمه من فتن الهوى إيمانه
الشعر إن نبض الزمان فقلبه
وإذا تكلم ناطقا فلسانه
من لم يذق دنيا الشعوب فما صفا
منه الشعور ولا وفى وجدانه!
الأستاذ أحمد محرم.
إحسان
أشخاص القصة
أمين بك:
ضابط ممتاز بالجيش المصري.
إحسان:
ابنة عم أمين بك وخطيبته.
كمال:
أخو أمين بك.
حسن بك:
ضابط بالجيش المصري والصديق المخادع لأمين بك.
عمر بك:
والد إحسان.
الحاج رضوان:
الخادم الوفي القديم لأمين بك.
مربية إحسان.
الأمير حسن باشا:
القائد الأعلى للجيش المصري المحارب (أشير إليه ولم يظهر في التمثيل).
راتب باشا:
قائد الجيش.
الحاكم الحبشي:
الأمير ولد نيكاييل صديق المصريين.
ضابط - حراس - جند - الجاريتان الراقصتان - الشحاذ وابنته.
نسق التمثيل
الفصل الأول
يمثل الفصل الأول في مطلعه جلسة غرامية لطيفة ما بين (أمين بك) وخطيبته (إحسان) في قاعة الاستقبال بقصر عمه، حيث يتطارحان أحاديث الحب والوفاء، ويذكر أمين بك تخوفه من الفراق المحتمل، وكان الوقت زمن الحرب بين مصر والحبشة وكان مشاعا قرب إرسال نجدات مصرية تلبية لطلب الجيش المحارب، وبينما (إحسان) تنشد على عزف البيانة أنشودة غرامية أطربت (أمين بك) إذا بهما يسمعان قرعا على الباب فتظن (إحسان) أن الطارق والدها، ولكنه كان رسولا من الضابط (حسن بك) صديق خطيبها حاملا رسالة مقلقة إليه، فيتردد أمين بك في قراءتها ولكنها تلح عليه وتعاتبه على إخفاء ما بها عنها أو تردده في إطلاعها على ما فيها، وأخيرا يتلوها عليها فإذا بها إفادة من صديقه بأنه مدعو إلى الانتظام في سلك المحاربين، وأنه قد صدر أمر مليك البلاد بذلك، ثم تشجيع منه له بل حث عظيم، فينال التأثر والجزع من (إحسان). ولكن (أمين بك) يحاول أن يخفف من شعورها هذا، فتسترجع ثباتها ووطنيتها مما يشجع (أمين بك) أيضا. وفي هذه اللحظة يحضر والدها (عمر بك) ومعه (كمال) شقيق (أمين بك)، وكلاهما في لهفة لما ذاع في القاهرة عن أخبار النجدات المطلوبة، فضلا عن صدور النشرة الرسمية وفيها استدعاء أمين بك وطائفة كبيرة من الضباط والجند إلى ميدان القتال. ولكن (أمين بك) يتغلب على هذا الجزع بعواطفه الوطنية الشريفة، ويوصي أخاه (كمالا) خيرا بخطيبته، كما يوصيها خيرا به، بل يشير في لطف إلى زواجهما من بعضهما في حالة موته. وتنزل الستار العامة في موقف التشجيع والتوديع.
الفصل الثاني
يمثل الفصل الثاني معسكر الجيش المصري في (قرع) بالحبشة بعد أن ظفر الجيش بالنجدات المطلوبة، وقد اجتمعت طائفة من الضباط عند خيمة القائد سعادة (راتب باشا)، وبينما هم في نشيدهم الحماسي الوطني إذ يقبل القائد فيحييهم تحية طيبة ويخطب فيهم خطبة شريفة ذاكرا أنه ليس قصد (مصر) اغتيال حقوق الحبشة، وإنما الدفاع عن كرامتها وحقها فقط، فإنها لن تصبر على الإساءة والضيم، فيرد عليه (أمين بك) بصفته رئيس الضباط ردا جميلا معززا هذه الروح الأبية الكريمة. ثم ينصرف الضباط مؤقتا ويبقى (أمين بك) مع القائد حيث يستقبلان أحد حكام الأحباش الموالين، وهو حاكم الحماسين الأمير (ولد نيكاييل) الذي يكرر تعهداته بالولاء والإخاء، كما ذكرها قبلا أمام (الأمير حسن) القائد الأعلى للجيش المصري المحارب. ويعرض على (راتب باشا) - هدية منه - جاريتين شركسيتين، دليلا على الصداقة والإخلاص، محتفظا بهما وديعة لديه حتى نهاية الحرب، فتعرضان على راتب باشا وترقصان، فيشكره ويتبادلان عبارات المودة، ويؤكد الأمير (ولد نيكاييل) أنه يؤمن بضرورة إخاء شعوب (النيل) المبارك؛ لأنهم مهما افترقوا أهل وأبناء جنس صغيرهم والكبير، و(النيل) أب لهم جدير بالتفافهم حوله، وهذه الوحدة خليقة بعنايتهم بل بتقديسهم كأنها دين قومي بل رمز حياتهم ورجائهم. ثم يستأذن الحاكم الحبشي في مقابلة الأمير (حسن) القائد الأعلى للجيش المصري، وبعد انصرافه يعود القائد إلى مخاطبة (أمين بك) بحضور بعض الضباط الكشافين، فيلفت نظره بصفته رئيس الضباط الكشافين إلى مسئوليته الجسيمة في الاستكشاف؛ لأن الجيش المصري في حاجة إلى تعرف مواقع العدو وحركاته، فإذا نجح في هذه المهمة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تدمير العدو، وإن فشل فستكون العقبى مصاب الجيش المصري. وهنا يرى الضابط (حسن بك) - وهو الصديق المخادع (لأمين بك) - الفرصة سانحة للاجتهاد في جعل مهمة الاستكشاف المستعجل قاصرة على (أمين بك) وعليه، ولكن (راتب باشا) يرفض هذه الفكرة ويعتبرها مجازفة، بينما (حسن بك) يهنئ نفسه بأن الفرصة على كل حال سانحة للتخلص من (أمين بك)، ثم الهرب بعد ذلك إلى مصر إثر إعلان وفاة (أمين بك)، وهناك يبذل الجهد للتزوج من (إحسان) ... ويكرر القائد العام التأميل في (أمين بك) وإخوانه الضباط وفي عاقبة مهمتهم، فيشكره (أمين بك) شكرا جزيلا ويردد صدى أمانيه بأسلوبه الحماسي المؤثر، وما يكاد يختم شكره حتى يفاجئوا بصوت إطلاق القنابل من الاستحكامات المصرية، ويدخل أحد الضباط مسرعا معلنا: «مولاي! قد هجم العدو!» فيهمون بالخروج وتسدل الستار العامة فورا.
الفصل الثالث
يدافع الجيش المصري عن كيانه وكرامته دفاع الأبطال ويذيق الأحباش أنواع البلاء، ويعلق أهمية كبرى على بعثة (أمين بك) الاستكشافية قاصدا من ورائها إلى معركة حاسمة، ولكن ممالأة (حسن بك) للعدو - وهي التي أدت إلى فناء البعثة وأسر (أمين بك) وكاد يقتل أيضا - سببت هزيمة الجيش المصري؛ لأن (حسن بك) عاد إلى المعسكر المصري بأخبار ملفقة كاذبة، وأشاع فيما أذاع وفاة (أمين بك) كما أنه انتهز أول فرصة فهرب إلى مصر عن طريق السودان. وهذا الجزء من الحوادث الأليمة التاريخية لا يمثل على المسرح لسببين: أولهما نفساني، والثاني الرغبة في حصر مشاهد هذه الأوپرا في دائرة معينة غير متسعة. وعلى ذلك يبدأ الفصل الثالث بمنظره الأول في غرفة حقيرة هي مسكن (الحاج رضوان) خادم (أمين بك) القديم بعد أن انتهت الحرب، وعاد الأخير من أسره غائبا عن وطنه خمس سنوات، وقد علم بأن صاحبه المخادع (حسن بك) لم يكتف بإشاعة موته، مما أدى إلى بقائه في الأسر والهوان هذا الزمن الطويل، بل أيضا حقد على أخيه (كمال) الذي تزوج من (إحسان) عملا بوصيته، فسممه تدريجيا وأصيب (كمال) بالسل أيضا، فنقل العدوى إلى (إحسان) ومات تاركها على فراش المرض الأليم.
نرى في أول هذا الفصل (أمين بك) جالسا حزينا مفكرا يندب حظه بينما (الحاج رضوان) يؤاسيه ويعزيه ويدعوه إلى الاهتمام (بإحسان)؛ لأنها كل ما بقي له من ذكرى شبابه ومن ذكرى أخيه أيضا، وإن للحي حقا عليه قبل الميت، ويخبره مؤاسيا أن الجاني قد افتضح أمره وأصبح رهن العقاب، وأخيرا يثوب إلى (أمين بك) رشده ويذهب إلى قصر عمه حيث المشهد الأخير من الرواية، وهو مشبع بصنوف من العواطف الإنسانية من يأس إلى صبر إلى مواساة إلى تحايل الطبيب إلى عذاب الفراق وآلام المرض، فيجد (أمين بك) أن (إحسان) في حالة الاحتضار ومعها والدها والطبيب وبجانبها مربيتها، وهي في حالة إغماء ووالدها في أشد حالات الجزع، فيحال بينه وبين رؤيتها خشية أن تعود إلى اليقظة، وهي تعلم أنه مات منذ خمس سنوات، ولكنه يهيب بهم طالبا توديعها، وتسمع هي صوته فتتملكها الدهشة ثم الفرح برؤيته، فتموت لافظة اسمه المحبوب، ويجاوبها باسمها ويبللها بدموع الحزن، والوفاء راكعا مقبلا باكيا ...
الفصل الأول
(أمين بك وإحسان في بهو الاستقبال بقصر عمه وأثاث البهو شرقي فخم يدل على سعة وبذخ، وعلى أن أصحابه أهل ذوق وتهذيب من طبقة السراة.)
أمين بك (جالسا في زي ضابط بالجيش على ديوان أو صفة بجانب إحسان جلوس الحبيبين) :
والآن يا (إحسان) هل يرضي الهوى
عهدي؟! وهل يكفي سناك غرامي؟!
حسن كحسنك لن يكون، وهكذا
حب كحبي لن يكون لظامي!
الشمس كم عبدت عبادة صلة
أما سناك فطوعه لوامي!
عبدوك مثل عبادتي لكنهم
لم يبلغوا وجدي وفرط هيامي
لا تحرميني من حنانك يا منى
روحي، ويا لبي، ويا إلهامي!
إحسان :
رفقا حبيبي ... إنني لك دائما
وكذاك أنت على الدوام أمامي!
روحي فداؤك يا (أمين) فإن مضت
فلسوف تخلصك الوفاء عظامي!
أنا من عرفت من الطفولة فالصبا
ماذا تفيد صراحتي وكلامي؟!
سائل فؤادك يا رفيق صبابتي
ينبيك عن شغفي وعن أحلامي!
أمين بك :
أنا ما شككت، وهل أشك بربتي
وبمرتقى أملي ونور ظلامي؟!
لكنني أخشى الزمان وغدره
وتقلب الأحداث والأيام
وأروم منذ اليوم بث ضراعتي
لسناك، فهو مثابتي وقوامي
بددت أشجاني بحبك مثلما
ضمدت من جرح الفؤاد الدامي!
إحسان :
دع يا (أمين) مخاوفا لك طالما
رددتها فأهجت نار فؤادي
واسمع حبيبي ما يلذك سمعه
من وحي وجداني ومن إنشادي (باسمة)
ماذا تريد؟ ... أنغمة تذكي الهوى؟
أمين بك (مقاطعا) :
صفحا، وهل يذكى هواي البادي؟!
أمين بك :
هاتي غناءك كيف شئت فإنني
أحيا بما يوحي هواك الشادي!
إحسان (تغنى هذه القطعة على البيانة مصحوبة بعزف الأركسترا) :
اسمع إذن يا حياتي
عهد الفؤاد
يهواك حتى مماتي
رغم البعاد
اسمع إذن!
لا تشكني يا غرامي
واشك الغرام
يأبى الغرام اتهامي
فيك الملام
أنت الفنن
أمين بك :
رددي سحرك النشيد الجميلا
إنني أشتهي سماعك جيلا!
بل إلى موعد الخلود ولو أن
ني أراك الخلود قربى جميلا!
إحسان :
اسمع إذن يا حياتي
عهد الفؤاد
يهواك حتى مماتي
رغم البعاد
اسمع إذن! (يسمع دق على الباب.)
أمين بك :
من يا ترى بالباب يطرق؟
إحسان :
انظر حبيبي عل من
بالباب يطرق والدي! (يذهب أمين بك ليفتح الباب ثم يعود بعد برهة ومعه رسالة يقرؤها.)
إحسان :
ماذا جرى يا مهجتي
أمين بك :
هذا رسول قد أتى
من صاحبي الوافي (حسن)
وأخاف أن أتلو علي
ك رسالة تذكي الشجن
إحسان :
إن كنت لا تفضي إلي
بما بها، فلمن إذن؟ (قلقة)
قل يا حبيبي لا تخف
كلي فداك بلا ثمن!
أمين بك :
لم أتل إلا بعضها
فرأيت منه رسول حزني
لكنني طوعا لأم
رك لن أحجب عنك بيني
ولسوف أقرؤها علي
ك فأنت وجداني وعيني
فإليك ما فيها من ال
خبر الأليم المر عني (يعيد نظره إلى الرسالة وبعد برهة يقرأ منشدا، والتأثر باد عليه وعلى إحسان حيث تستمع إليه.)
صديقي أمين
يا صديقي وأنت خير صديق
أنت من يرتجى بخطب وضيق
كن شجاعا كما عهدتك غلا
با على اليأس لا تكن كالرقيق
يطلب الجيش نجدة حيث أضحى
في اقتراب إلى اشتباك وثيق
وبلاد (الأحباش) أشبه بالأش
راك والسجن والبلاء المحيق
كلها صورة من الخطر المح
دق بالجند بين ألفي مضيق
حالة تبعث الشجاعة في الما
جد يا سيد الوفاء العريق
فتمضي سيد البلاد بأن تد
عى إلى الحرب فلتجب يا صديقي
وأنا مثلك المجاهد لكن
أنت أهل لكل مجد أنيق
أنت زين الشبان والبعد يش
قينا ولكن أراك عون الرفيق
وأراك المثال يتبعه الأب
طال بالفخر للإباء الحقيقي
سوف ألقاك في غد وأنا الآ
ن أبث الشقيق روح الشقيق
الوافي حسن
إحسان (متأثرة وعاطفة على أمين بك) :
يا إلهي! يا إلهي!
لا تروعني بحبي!
إن دنياي حبيبي
إن مضى ضيعت قلبي
أمين بك (ضارعا) :
إحسان! إحسان! رفقا بالهوى الشاكي
وشجعي صبك المحزون لولاك
منذ الطفولة يا شمسي ويا قمري
عمري ينميه بعد الحب مرآك
واليوم تقضي فروض لا مرد لها
بأن أجزئ نفسي دون إشراك
أسير للحرب بساما على شجن
كمن يفديك مدفوعا بذكراك
لا يرهب الحرب مجبول على شمم
تعشق الوطن الغالي بمغناك!
إحسان (مسترجعة ثباتها ووطنيتها) :
سامح تدفق لوعتي وشجوني
واذهب بحفظ الله نور عيون
تغزو (لمصر) معاقلا ومدائنا
وتعيد لي تاجا يزين جبيني
لله إثرة من تعز عزيزها
أكذا نسيت (لمصر) بعض ديوني؟!
أمين بك (متشجعا) :
أكرم بوحيك يزجيني لما يجب
هيهات وحيك عن عيني يحتجب
في ذمة الله ما قدست فيك إلى
أن يجمع الشمل من نصر لنا سبب (تسمع طرقات على الباب.)
إحسان :
صبرا حبيبي وانظر
من ذا يريد الحضور! (يتجه أمين بك إلى الباب فيفتحه ثم يعود وصحبته عمر بك والد إحسان وأخوه كمال.)
عمر بك (والد إحسان) (بلهفة منزعجا من أخبار النجدات المطلوبة ومن دعاء أمين بك إلى ميدان القتال.) :
ماذا جرى يا بني!
ماذا جرى يا فتاتي!
أهكذا يتقضى
صفو ودهر مؤات؟
ويل الحروب وويل
لكل باغ وعات!
كمال (جازعا) :
أحقا يا أخي هذا؟ أحقا؟
أتمضي للجهاد ونحن نبقى؟
لأهون أن أسير إلى فناء
بقربك من فراق أخي فأشقى!
أمين بك :
يا سيدي العم مهلا
ويا أخي كن شجاعا
وكن (لإحسان) عونا
مراعيا ما استطاعا
ما كنت أول حر (لمصر) ضحى وباعا
أجدر بمثلي أن لا
يأبى الوفاء التياعا
فإن أعد عود ظفر
نلنا نعيما مشاعا
وإن أمت في جهادي
أكرم بذاك ارتفاعا
وأنت يا بنت عمي
يا من حبتني شعاعا
يا من أراها ملاكا
بينا يراعي يراعى
وصيتي عند موتي ...
أخي ... (لحظة قصيرة) ... ... ... ...
وداعا! ... وداعا! (ينشد الأبيات الأخيرة مقتربا منها، ماسكا أناملها في تأثر مشترك بين الجمع، ويقبل رأسها في ختام الأبيات، بينما تسدل الستار العامة.)
الفصل الثاني
(مشهد المعسكر الرئيسي للجيش المصري في (قرع) بالحبشة ومنظر خيمة القائد العام التي تشغل جزءا كبيرا من المسرح، بحيث يظهر جميع ما بداخلها، ويراعى نقش خيام الجند ومنظر جبلي واستحكامات على ستارة المسرح الخلفية، كما تفرش أرض المسرح خارج خيمة القائد العام بالرمل والحصى وتبث فيها الأعشاب.)
نشيد الضباط (حيث توجد طائفة منهم بجوار خيمة القائد العام) :
نحن يا (مصر) فداء
ولنا فخر الفداء (نيلك) الوهاج تبر
ليس صلصالا وماء
شهده أهل لتق
ديس وبذل الشهداء
وثراك العسجدي
كنز معتز الثراء
جنة قد باركتها
نفحات الأنبياء
أنت دنيانا وأخرى
لبنيك الأوفياء
كلنا يفديك حبا
إن ذكراك البقاء
قائد الجيش (راتب باشا) (يقبل وخلفه حارسه الخاص فيحييه الضباط) :
يا رجالي! يا رجالي!
نحن في حرب الإباء
ما أتينا قصد عسف
رغم إهراق الدماء
بل لنحمى حق (مصر)
من جحود واعتداء
كل جبار نعادي
غير جبار السماء
برهنوا برهان صدق
أنكم رمز الولاء
واهتفوا بعدي كراما: (مصر) عيشي في علاء!
الضباط (يهتفون) : (مصر) عيشي في علاء
الضابط الرئيسي (أمين بك) :
مولاي أمرك فرض
وطاعة لا ترد
ما جيش (مصر) بعد
لكن يقين وقصد
إذا اندفعنا فحاشا
أن يصدم الجيش حد
1
على السلام جبلنا
وللسلام نود
حتى إذا ما أهنا
لم يبق للحرب رد!
القائد المصري (مخاطبا أمين بك) :
أحسنت إحسان شهم
مستكرم يا (أمين)
بمثل نفسك إني
على الوغى لضنين
لكن قلبك حر
وبالأذى يستهين
والباسل الشهم حقا
يعين لا يستعين (ثم مخاطبا بقية الضباط):
وأنتم أيها الأبطال أنتم
رجاء الجيش في اليوم العصيب
فشكرا للذي قد لاح منكم
فناب عن الخطابة والخطيب (ثم ينصرف الضباط الأخيرون بعد أداء التحية العسكرية، ويدخل القائد العام خيمته ويشير إلى أمين بك بأن يتبعه، وحينئذ تسمع أصوات أقدام وبوق التحية العسكرية، ويدخل حاكم الحماسين الحبشي مع بعض حرسه.)
الحاكم الحبشي (الأمير ولد نيكائيل) (يتبادل والقائد المصري وأمين بك التحية، فيدعوه القائد مرحبا بإشارته إلى الجلوس فيجلس بحضور أمين بك) :
لقد عرضت ولائي
عرض الصديق الوفي
واليوم عدت لأهدي
رمز الإخاء النقي
من فتنة الترك توحي
كلتاهما لنبي
فاسمح بعرضي فحظي
حظ الفتى الجوهري
القائد المصري :
شكرا ولكن هذا
أوان حرب وضرب
فهل يليق الطرب؟
الحاكم الحبشي :
أجل ولا بأس عندي
من حفظ هذي الوديعه
حتى يحين الجلاء
القائد المصري :
أجز لهما الدخول إذن ودعني
أكرر شكر مغتبط صديق
الحاكم الحبشي (مناديا من جانب الخيمة) :
هلما يا فتاتي هلما ...! (ثم يأخذ مقعده ثانيا وتدخل الجاريتان الشركسيتان ويصحبهما أحد الحراس الأحباش حتى باب الخيمة، ثم يرجع بعد أداء السلام العسكري فتبدي الجاريتان تحايا الخضوع، فيهيب بهما الحاكم وهما مطرقتان منحنيتان قليلا.)
ارقصا رقصة الحياة وبثا
من معاني السلام فيها كثيرا
أودعاها أغاني البشر إبدا
عا يرد الشجي سمحا قريرا
وانشرا أجمل الضياء إلى النف
س لكي تبهجا الزعيم الكبيرا (فتأخذان في الرقص على نغم الأركسترا نحو خمس دقائق.)
القائد المصري :
أحسنتما ...
الحاكم الحبشي :
أحسنتما
القائد المصري :
أحسنتما فانصرفا (تؤديان التحية وتخرجان، ثم يدخل أحد الحراس، فيقدم القهوة وينتظر حتى يشرباها ويتبادلا التهنئة المعتادة ثم يغادر الحارس الخيمة.)
القائد المصري :
لقد أمرنا بأن تذ
بح للجنود الذبائح
تحية يا صديقي
لكم وتكريم مادح
فإنكم قد بررتم
بعهدكم بر صالح
بصدقكم سوف يغدو
هذا المعادي المصالح
الحاكم الحبشي :
يا سيدي الشهم حسبي
تكرار ما قلت أمس
لما رأيت الأمير
2
قد جئت حيا بسلم
قد جئت طوعا لنفسي
ومن دواعي الضمير
ومذهبي أن نعيشا
على الإخاء الأمس
على الولاء النضير
فنحن مهما افترقنا
أهل وأبناء جنس
صغيرنا والكبير
و (النيل) أصلا وحالا
أب جدير بغرس
لكل شعب جدير
وروضة (النيل) هذي
عنوان دين أمس
إلى الرجاء الأخير!
القائد المصري :
أسأل الله أن يعيد السلاما
ويبث الإخاء فينا دواما
رب حرب ترد للسلم روحا
بعد سلم أضاع منا السلاما
الحاكم الحبشي :
والآن أذهب إن سمح
ت لكي أرى المولى الأمير
وأبثه الإخلاص من
قلبي وتأميلي الكبير
القائد المصري :
لا شك مولاي الأمي
ر يسر من هذا اللقاء (ثم يهم الحاكم الحبشي بالذهاب فيشيعه القائد والضابط أمين بك، ثم يتبعه حراسه ويحييه بوق الحرس المصري من الخارج. ثم يعود القائد إلى مجلسه مع الضابط أمين بك آذنا له بالجلوس ويحضر بعض الضباط وبينهم الضابط حسن بك، فيتبادلون التحية ويسمح لهم بالجلوس أيضا.)
القائد المصري :
سمعا (أمين) تشجع
عليك عبء خطير
فكر ودبر لتسعى
سعي الشجاع الخبير
مستكشفا فإذا ما
علمت علم البصير
ألفيتنا أي جيش
يصلي العدو السعير
فإن تمادى وعادى
مثل السفيه الغرير
دوت مدافع (مصر)
بصوت بأس نذير
فمزقته فأودى
به القضاء الأخير
وإن فشلت فخطب
لنا، وبئس المصير
هذي مجاهل موت
تخفي البلاء الكثير
والجيش دون عيون
يضل مثل الضرير
حسن بك (أحد الضباط وصديق أمين بك) :
مولاي يكفي اصطحابي
له، كلانا شجاع
مر في وثوق بأنا
نقضي الذي يستطاع
بل فوق ما يستطاع
فما تراه المطاع!
القائد المصري :
هذا شعور جليل
لكن أحكم حل
أن تذهبا في جماعه!
إن الوفاء جميل
وما الوفاء لخل
سعي يجر ضياعه! (ثم يخاطب القائد أمين بك سرا.)
حسن بك (محدثا نفسه على جانب) :
هذه فرصتي ليقضى عليه
ثم أسعى لعودتي لبلادي
فأنال النعيم من قرب (إحسا
ن) قرينا لها ويحظى فؤادي
القائد المصري (عائدا إلى حديثه العلني مع حسن بك وأمين بك والضباط جميعا) :
تأهبوا واستعدوا
أنتم دليل رجائي
أنتم أشعة فكري
وهمتي ومضائي
أمين بك :
إني المقدر جهدي
فرضي وحق بلادي
كذاك صحبي جميعا
مرادهم كمرادي
وسوف نبذل أقصى
مجهودنا بذل هاد
فإن كشفنا الأعادي
فالويل عقبى الأعادي
وإن قتلنا فذكرى
نذكي أحر الجهاد
وإن أسرنا (فمصر)
بخفق كل فؤاد (يفاجئون بصوت إطلاق القنابل من الاستحكامات المصرية، ويدخل أحد الضباط مسرعا معلنا: «مولاي قد هجم العدو!» فيهمون بالخروج سريعا وتنزل الستار العامة فورا.)
هوامش
الفصل الثالث
المنظر الأول (أمين بك في غرفة حقيرة هي سكن خادمه القديم الحاج رضوان، وذلك إثر رجوعه من الحبشة بعد غياب خمس سنوات في الأسر، ويراعى إظهار أثاث الغرفة نقشا على الستارة الخلفية لمناسبة تقسيم هذا الفصل إلى منظرين، كما يراعى أن يكون النور وسطا.)
أمين بك (ينشد حزينا وهو جالس على كرسي حقير في جانب الغرفة) :
أكذا تكون نهاية الإيمان!
أكذا تحول صداقة الخلان؟
أيشيع موتي من مضى بمحبتي
لم يكفه أسري وطول هواني
قتل الرفاق وفر وهو مدنس
بالعار من جبن ومن خذلان
كان الممالئ للعدو، فيا له
من خائن دنس وأي جبان
وأنى فهد أخي بسم خاتل
وا حسرتاه على الشباب الفاني
مات القتيل بسمه فسلاله
وكأنما أكفانه أكفاني!
بئس التحاسد والتحايل والأذى
والغدر ... يا لقساوة الإنسان!
الحاج رضوان (واقفا على مقربة من سيده تجاهه) :
هون عليك فسوف يلقى خسره
والموت مشتق من الحدثان
فاحفظ حياتك للدفاع عن التي
تركت ضحية ما جناه الجاني
ذكرى أخيك وذكر مبكي المنى
بعد الشباب لقلبك الولهان
فقدتك أعواما ولم يهنأ لها
عيش، وها مات الرجاء الثاني
وكأنما كان الزواج بلاءها
وردى أخيك، فهدم الاثنان
أمين بك (متعجبا متأثرا) :
أي انتفاع لي، وقد ذهب الردى
بأخي، إذا لقي العقاب الجاني؟ (يفاجآن بسماع صوت مستجد مصحوبا بصوت ابنته.)
الشحاذ وابنته (ينشدان معا في الخارج) :
المال والله فان
مهما اغتنى الإنسان
والذكر أبقى الأماني
بالبر والإحسان
أمين بك (مخاطبا الحاج رضوان) :
خذ أعطه هذا القلي
ل لعله فأل لخير
ما أظلم الإنسان لل
إنسان في بؤس وضير
الحاج رضوان (ذاهبا لإعطاء الشحاذ النقود مخاطبا أمين بك) :
شكرا لكم ألف شكر
من الفقير الضرير
والله ربي سميع
إلى ثناء الفقير
بنت الشحاذ :
أدعو دعاء وفيا
من كل قلبي الكسير
لكم ثواب جزيل
من الإله القدير (يعود الحاج رضوان إلى الغرفة.)
الحاج رضوان (يخاطب أمين بك وهو مطرق حزين) :
هكذا الدنيا عناء في عناء
للذي ينسى تصاريف العزاء
والحكيم النفس لا يبكي على
ضائع لن يرتجى بعد البكاء
أمين بك (متأثرا منه) :
أكذا يكون وفاء خل واف؟
أنسيت حق البر والإنصاف؟
أنا ما نسيت، فإن نسيت فخلني
أشقى كما يشقى الحبيب الوافي!
الحاج رضوان (في صوت المعاتب) :
يا سيدي رفقا بنفسك ولتكن
ملكا بإحسان إلى (إحسان)
قد نال منها السقم أيضا فاتئد
واذهب لتنقذها من الأحزان
في ذمة الله الذي عانيته
في البر بالخلان والأوطان
أمين بك :
صدقت ... للحي حق
علي هيهات ينسى
إن جل همي فحسبي
أن أنقذ اليوم نفسا
أغلى مرارا لنفسي
من نفس روحي المؤسى
هلم كيما نراها
قد يدفع اليأس يأسا
يرعاك يا نور قلبي
ربي إذا الدهر قسى! (يخرجان فيطفأ النور سريعا، ويبعد الكرسي عن المسرح، ثم يرفع الستار الممثل لظهر الغرفة السابقة، فتظهر غرفة إحسان وهي على فراش المرض، ومعها مربيتها ووالدها والطبيب.)
المنظر الثاني (في غرفة إحسان وهي على فراش المرض مشرفة على الموت، وبقربها مربيتها جالسة على كرسي، ونور الغرفة متوسط حيث يوجد مصباحان وفيهما شمع مضاء والوقت غروب، ويوجد بالغرفة أيضا الطبيب ووالد إحسان.)
عمر بك - والد إحسان (حزينا ينشد بصوت متهدج مخاطبا الطبيب) :
أتظل في غيبوبة التعذيب؟
قل يا طبيب فأنت خير طبيب!
هي كل ما أبقى الزمان من المنى
والآن أذوي مثلها بلهيبي!
سامح نضوب الصبر مني بعدما
هدمت في دمعي وطول نحيبي! (يسمح دموع عينيه ويستند إلى بعض الأثاث.)
الطبيب :
هي لا تحس بحالها، ولربما
عادت ليقظتها فكن كطبيب!
إن الشجاعة كالدواء لذي ضنى
فكن الشجاع تكن أبر رقيب
فوصيتي أن لا تشاهد
1
ما أرى
من مدمع أو زفرة ووجيب (يسمع صوت سعالها ثم تأوهها.)
الطبيب :
حاذر! فخير البر نحو مودع
صبر الشجاع ورحمة التطبيب
عمر بك :
جزعي عليك بنيتي جزع الذي
يفنى من التقطيع والتعذيب
أواه من آهاتك الحسرى ومن
كمد أذبت به وكان مذيبي! (يسمع صوت سعالها.)
إحسان (بصوت ضعيف مؤثر راقدة فيقترب إليها الطبيب ووالدها) :
يا حياتي أي قلب لي هلك
مات موتين بنار وحلك!
يا غرامي عن غرام ضائع
فاتني الحظان: ملك وملك!
ليتني ما جئت في الدنيا ويا
ليتها ردت تصاريف الفلك!
قتلتني نكبة قد أسلفت
قسوة أوحت إلى من قتلك!
الطبيب (بعد أن يتأمل وجهها ويجس نبضها) :
أضغاث أحلام فلي
ست يقظة الذهن البصير
عمر بك (حائرا وجلا) :
لكن إذا عادت إلى الر
رشد المرجى لو يحين
أتجيز أن تبقى هنا
وتجيز رؤيتها (أمين)؟
لا سيما بعد الفرا
ق وحزنها الحزن الدفين
فلقد علمت بأنه
آت إلينا بعد حين
ولقد أشيع كما علم
ت مماته الخمس السنين
وهو الذي كان الخطي
ب لها، وكان بها الضنين
فقدته ثم أخاه فق
دانا يجن به الحزين
وأصابها الداء المكي
ن فهدم الحسن الثمين! (يسمع دق على الباب يدخل أمين بك متلهفا متجها نحوها، فيمنعه الطبيب وعمر بك، ويسمع سعالها في الوقت ذاته ...)
الطبيب :
صه! لا تجازف! إنها
لم تدر أنك هاهنا ...
واعلم بأنك سوف تش
هد موتها موت الضنى
أشفق عليها لا تنر
أحزان ما لا يجتنى! (يحاول رؤيتها فيمنعه الطبيب ووالدها.)
أمين بك (منشدا في اضطراب وجزع بصوت الحزين المتهدم) :
يا عزائي عز لي فيك العزاء
حينما ألقاك لا يرجى اللقاء!
يا مصابي فيك لم أعرف له
حد تعذيب وبؤس وشقاء
حرماني من نعيمي بعدما
كنت لا تأبين لي حظا أشاء
كيف أغضي الآن عمن نورها
في سبات الموت من رب السماء؟!
أنصفيني يا حياتي! كذبي!
قسوة الطب ووعظ الحكماء
أسمعيني صوتك الحي الذي
يرجع الموتى ولا يرضى الفناء
أنت مثل البدر في صفرته
عندما يشجى بأحزان المساء! (يسمع سعال إحسان ثم تأوهها، فيذهب إليها الطبيب فاحصا نبضها، وتنشف مربيتها الباكية عرق جبينها بمنديل، ويمنع والدها أمين بك من الدنو منها.)
إحسان :
يا موت صفحا فإني
أطلت يوم وداعي! (تفتح عينيها وتتأوه.)
الطبيب (مواسيا وهو يجس نبضها) :
تبسمي يا فتاتي
لا تسرفي في التياع
أرجو شفاءك لكن
لا تهملي في الدفاع
تحملي دون خوف
وأملي باتباعي
إحسان (بصوت ضعيف) :
يا موت صفحا فإني
أطلت يوم وداعي!
أمين بك (بائسا باكيا ومحاولا الدنو منها بينما والدها في أشد حالات الجزع) :
لم يبق لي إلا الودا
ع فكيف أحرم من وداع؟!
من يبكها فلينعني
إني الأحق بكل ناع (إحسان)! روحي! مهجتي!
ردي على الصب المضاع!
إحسان (ترفع رأسها فاتحة عينيها في ضعف ودهشة ناظرة إلى أمين بك) :
من هذا؟ ... من هذا؟ (بصوت أعلى)
أمين! ...
أمين بك (متجها نحوها مندفعا إليها) (يرد فورا) : ... إحسان! ... ...! (فتقع رأسها على وسادتها مائتة.)
الطبيب (بعد أن يجس نبضها فيجدها مائتة ويغطي وجهها) :
لكمو العزاء ... (وحينئذ يرمي أمين بك رأسه على سريرها، مقبلها، راكعا باكيا فتنزل الستار العامة فورا.)
هوامش
نظرات وملاحظات
الأوپرا والأدب المصري
(1) ما هي الأوپرا؟
تعرف الأوپرا أو القصة التلحينية عادة بأنها تلك الرواية الملحنة التي لروح الموسيقى
1
السيادة عليها، وبعبارة أخرى إنها الحكاية الغنائية التي تمثل للذة الاستماع إلى غنائها.
هذا هو التعريف المألوف، ومن يقبلون هذا التعريف يذهبون في تأريخهم للأوپرا إلى أنها نشأت في فرنسا سنة 1240 ميلادية.
أما إذا ترقينا في فهمنا للأوپرا واعتبرناها مجمع الفنون الثلاثة: الشعر في أرقى أساليبه وصوره، والموسيقى في أشجى نغماتها وأصدقها وفاء لموضوعها، والتمثيل في أبرع مظاهره المجسمة لفكرة الشاعر الفنان، فإننا نرجع بنشأتها الحقيقية إلى أواخر القرن السادس عشر حينما وضع چاكوبو بري (Jacopo
قصته (دفني
Dafne ) سنة 1570م. حيث أخرجت في البلازو كورسي (Plazzo Corsi)
بمدينة فلورنس (فلورنزة). بيد أننا كلما دققنا في تطبيق هذا التعريف الأخير، وجدنا أن الأوپرا الراقية الجديرة به لم تنشأ قبل القرن الثامن عشر.
الأستاذ زكي أبو شادي في الخامسة والثلاثين (صورة حديثة من تصوير كانتون).
وسواء اتفقنا أو اختلفنا في تقسيم القصص التلحينية إلى أوپرا كبرى (Grand Opera)
مثل (فاوست
Faust ) و(مانون
Manon ) و(شمشون ودليلة
Samson and Dalilah ) و(ريجوليتو
Rigoletto ) و(توسكا
La Tosca ) و(برسيفال
) وإلى أوپرا خيالية - (Romantic Opera)
مثل (الفتاة البوهيمية
The Bohemian Girl ) و(تاييس
Thais ) و(كارمن
Carmen ) و(عايدة
Aida )، وإلى أوپرا خفيفة (Light Opera)
مثل (جميلة
Djamileh ) و(أبو حسن
Abu Hassan ) و(حلاق بغداد
The Barber of Bagdad ) و(حانة تراسينا
The Lun Terracina ) و(حلاق أشبيليا
The Barber of Seville ) ونحوها، فكلما أمعنا الفكر في دراسة الأوپرا عدنا إلى وقف تقديرنا الأوفى على ذلك النوع الراقي منها الذي يجمع بين جمال البيان الشعري الكامل وجمال الموسيقى البارة به، وجمال التمثيل الصادق، وتشبثنا بأن هذا النوع وحده هو الذي يصح أن يسمى بالأوپرا. وأما الأوپريت ونحوها من المهازل الموسيقية والروايات التلحينية الفكهية (Musical Comedies)
والاستعراضات الموسيقية (Reviews)
فليست من صميم الأوپرا في شيء، ولا يجوز الجمع بينها في تعريف واعتبار. (2) لمحة تاريخية
يشير المؤرخون إلى نشأة الأوپرا في فلورنس في أواخر القرن السادس عشر، حيث اتفقت طائفة من الأدباء المغنين والملحنين على تبيان المآسي الإغريقية في أسلوب موسيقي تسميعي، وكان ذلك كافيا لأن يعد فتحا تمثيليا عظيما في ذلك الوقت. ثم ظهرت أول أوپرا عصرية (دفني
Dafne ) السالفة الذكر بمدينة فلورنس في سنة 1597م. وإن لم تمثل تمثيلا عاما. فنالت تقديرا كبيرا لها حتى إنه طلب إلى واضعها چاكوبر پري بعد ذلك بثلاث سنوات (1600م) أن يؤلف مثيلة لها لتناسب حفلة زواج هنري الرابع ملك فرنسا من ماري دي مديسي، فوضع الأوپرا (يوريديس
Euridice ) المعدودة أول قصة تلحينية من نوعها مثلت أمام الشعب (وهذه غير قصة (أورفياس ويوريديس
Orfeo ed Euridice ) التي وضعها جلك
Gluck ، وظهرت سنة 1762م، والتي ما زالت تعد أولى الأوپرات العصرية الكبرى)، وقد نال فن الأوپرا الناشئ في ذلك الوقت معاضدة مأثورة من كلوديو مونتڨردي (Claudio Montverde)
الذي كان رئيس الفرقة الموسيقية لدوق مانتوا (Duke of Mantua)
فوضع بنجاح باهر وتقدم عظيم الأوپرا المسماة «أورفيو أو أورفياس
Orfeo »، وأبدع فيها إبداعا يتناسب والجو الفني في ذلك الوقت، وقد قلل من النسق التسميعي وأكثر من الموسيقى المفردة إراحة للمغنين وللنظارة المستمعين أيضا. وقد تبعه وتدرج في طريقته الموسيقار كاڨلي (Cavalli)
ثم سكارلاتي (Secarlatti)
الذي يعد بحق مؤسس الأوپرا الإيطالية التي تجنح إلى ترقية الإيقاع الجميل المصاحب لصوت المغني مع بساطة المصاحبة (Accomponiment) ، وقد كان سكارلاتي أخصب الموسيقيين إنتاجا في القرن السابع عشر.
وقد أوجد لويس الرابع عشر الأوپرا في باريز بواسطة الموسيقار الإيطالي للي (Lully)
سنة 1672م. فجاءت نشأتها في فرنسا متأخرة عن نظيرتها في إيطاليا زهاء قرن، ولكنها كانت نشأة قوية واستفادت من هذا التمهل وسارت إلى الأمام.
أما في ألمانيا فقد ألف الموسيقار رينهارد كيزر (Reinhard Keiser)
الذي عاش ما بين 1679م و1739م نيفا ومائة أوپرا وكذلك أنتج مثله تقريبا الموسيقار يوحنا أدولف هاس (Johann Adolph Hasse) ، وبين ما وضعه الأوپرا المسماة (أرتازكس
Artaxerxes ) التي اعتاد كارلو بروسكي (Carol Broschi)
أن يغني منها لحنين كل مساء لفيليب الخامس ملك أسبانيا مدة عشر سنوات!
ولقد نشأت بمرور الزمن وتقوت «مدارس» الأوپرا الثلاث هذه: وهي المدرسة الإيطالية فالفرنسية فالألمانية، وتكاد تكون جميع الأوپرات الأخرى تابعة لها، بل وربما لم يكن لها النضوج الكافي لتستحق شخصية ممتازة واستقلالا في الاعتبار. فمثلا لا تزال الأوپرا الصميمة متعثرة في إنجلترا حيث يميل جمهورها كل الميل إلى الأوپريت أو إلى أنواع مشتقة منها (Musical Comedies) ، وإن كان نورها قد ظهر في إنجلترا في القرن السابع عشر حيث كان يمثل في لندن نوع من الأوپرا بإدارة السير وليم داڨنانت (Sir William Davenant)
حوالي سنة 1684م، وقد مثلت في سنة 1711م. قصة (رينالدو
Rinaldo ) لهاندل (Handel)
في مسرح هييماركت (Haymarket)
بلندن، كما مثلت في سنة 1727م للمرة الأولى (أوپرا الشحاذ
Beggar’s Opera ) للفنان جيي (Gay) ، واستدعى الإقبال عليها أن تمثل ثلاثا وستين ليلة متلاحقة! واشتهر بالأوپرات الخفيفة في إنجلترا السير أرثر سليڨان (Sir Arthur Sullivan) ، كما جاهد المصلح الكبير هاندل (Handel) ، وكما وجدت من قبل آثار هنري برسل (Henry Purceil)
الذي لحن 42 قصة بينها عدد من الأوپرات الوافية، ولكن رغم هذا الجهد لا يزال الشعب البريطاني أميل إلى الأوپرات الأجنبية، وعلى الأخص إلى الأوپرات الألمانية، وهذا من عوامل تأخر الأوپرا الوطنية في إنجلترا. (3) مذاهب الأوپرا
مذاهب الأوپرا - أو مدارسها - كما أسلفنا ثلاثة: الإيطالية والفرنسية والألمانية. فأما الإيطالية فهي ولا شك أغرقها في الطرب وأكثرها عذوبة، وهذا الإطراب هو وحده الكفيل بأسر الحواس المفتونة، فإن قصرت من هذه الوجهة لم تكن نغماتها إلا مدغدغة للأذن، مسيئة إلى المدارك السليمة، على رأي جوستاف كوبي (Gustav Kobbé) ، ولم يكن المؤلفون الإيطاليون يعنون في بادئ الأمر بغير الغناء فكانت قصصهم جوفاء، لا قيمة أدبية ولا فنية لها، وكان الملحنون ينزعون إلى إخضاع التأليف إخضاعا للغناء بدل الجمع المتناسب بينهما، إذ كان كل غرضهم إرضاء المغنين فقط. ولكن النزعة الفكرية الإصلاحية الأولى التي وضع أساسها جلك (Gluck)
في قصة أورفياس ويوريديس السالفة الذكر والتي تبعه فيها للي (Lully)
وفاجنر (Wagner)
وفردي (Verdi)
كان لها الأثر الطيب في إيطاليا على الأخص، حيث غدا الملحنون أحرص على كرامة الأوپرا، لا يعنون بالقصص التي لا يسمو مستواها الأدبي ولا تستأهل حفاوة النغم بها، وإن لم تزل على الأوپرا الإيطالية جملة مسحة الطرب الأولى، ولكن الأمثلة القديمة للطرب المطلق قد ماتت ولم تعش إلا الأمثلة الجامعة بين العاطفة والفكر والأدب والنغم، فعاشت آثار لروسيني (Rossini)
وبليني (Bellini)
ودونزتي (Donizetti)
وڨردي (Verdi)
الذي فتح فتحا مبينا في الأوپرا الإيطالية بتلحينه قصة «عائدة» التي نظمها أنطونيو جسلانزوني (Antonio Ghislanzoni) ، فخلدت بينما ماتت آثار تلحينية سابقة لڨردي لم يخدمها الفكر والتأليف، واقتصر جمالها على طرب الأنغام، وكان خليفة ڨردي في هذا التجديد والإصلاح الذي ما يزال مستمرا الملحن الفنان الشهير پتشيني (Puceini)
2
الذي يحمل فنه الآن علم النهضة الموسيقية في إيطاليا، ومن أشهر آثاره البوهيمية (La Bohéme)
ومدام بترفلاي (Madame Butterfly) ، وقد زار لندن في سنة 1911م؛ ليشرف على إخراج (فتاة الغرب الذهبي
The Girl of the Golden West ).
وأما الأوپرا الفرنسية فقد كانت نشأتها الأولى على يد الملحن الفرنسي (رامو
Rameau ) الذي عاش ما بين 1683-1764م. وكان لروايته (كاستر وپرلو
Castor and Pollux ) شهرة ومنزلة إلى أن تجلت مؤلفات جلك (Gluck) ، ولكن المشهود به أيضا أن للي (Lully)
الموسيقار الإيطالي كان الباعث الحقيقي لنهضة الأوپرا في فرنسا، كما كان من أقوى رافعيها الملحن الألماني مير بير (Meyerbeer) ، وعلى هذا فقد نشأت الأوپرا الفرنسية الراقية بمجهود أجنبيين عن فرنسا، وإن حق لها أن تفتخر - كما لاحظ جوستاڨ لوبي - بمجهود الموسيقيين الفرنسيين: أمثال هاليڨي (Halévy)
وأوبر (Auber)
وجونوه (Gounod)
وبيزيه (Bizet)
وديبسي (Débussy)
وافنباك (Offenbach)
وماسينيه (Massenet)
الذي يعد خير خلف لجونوه وميربير، كما تعد عبقرية بيزيه المتجلية في (كارمن) على الأخص من مفاخر الأوپرا الفرنسية العصرية . وتمتاز الأوپرا الفرنسية فنيا بسخاء المصاحبة والمعاونة الوترية للصوت.
فاجنر (1813-1883) نابغة الإصلاح الموسيقي في القرن التاسع عشر ومهذب فن الأوپرا.
بحيث يكون الأثر الناشئ من اقتران الصوت بالتوقيع قويا، وأكثر ظهورا منه في الأوپرا الإيطالية، وتمتاز تأليفا بدقة الوضع دقة تكاد لا تدع نقدا لناقد، بحيث يؤدي كل سطر منها معنى مقصودا ويعبر عن موقف خاص أو خوالج معينة لا مفر من إظهارها، وهي بذلك أقل ازدهارا من الأوپرا الإيطالية التي تحفل كثيرا بالمظهر وبالتأثير الأول، وقد أصبح ديبسي (Débussy)
وأنصاره معدودين في مقدمة الموجدين للأوپرا الفرنسية العصرية المستقلة بمشخصاتها الواضحة، بعد أن كانت في أول الأمر ربيبة للأوپرا الإيطالية.
وأما الأوپرا الألمانية فأخص مميزاتها التعاون الكلي بين الموسيقى والشعر على التعبير عن الدرامة الممثلة تعبيرا قويا لن يؤديه لا التمثيل وحده ولا الغناء مستقلا، ومن طبيعتها أن لا تحفل مطلقا بالغناء لأجل الغناء فقط، وإنما تعنى - بروح جدي صادق - بالجمع بين الفنون الثلاثة (الموسيقى والشعر والتمثيل) جمعا مقبولا بعيد الأثر. ومعروف أن الموسيقار كيزر (Keiser)
هو مؤسس الأوپرا الألمانية، حيث وضع في هامبرج عددا عظيما منها معبرا أصدق تعبير عن الروح الألمانية، وبذلك مهد الطريق وهيأ الأسباب لظهور ريتشارد ڨاجنر (Richard Wagner)
وهو الذي قضى بنفوذه العظيم في القرن الماضي بعد جهاد شاق على التفكك الذي كان عيبا ظاهرا في الأوپرا عامة، فجعلها وحدة متماسكة بحيث أصبحت القصة التلحينية - كيفما كان عامل الخيال فيها - قرينة الدرامة الخالية من الموسيقى في الانسجام وحسن التأليف بين أجزائها، وهذه العقيدة واضحة أجمل وضوح في الأوپرا الشائقة (برسيڨال
) التي أخرجت في سنة 1882م. وكانت آخر أعماله. فالمذهب الألماني إذن هو أرقى مذاهب الأوپرا في نظر من لا يرضيه أن يضمحل التأليف الأدبي، بل والتأليف الموسيقي أيضا مرضاة لغرور المغنيات والمغنين، حيث تغدو الأوپرا مظهرا من مظاهر الإعلان عن الأصوات الغنائية المتنوعة فحسب. وأكبر الفضل في هذا الإصلاح الفني بأوروبا يرجع إلى جلك (Cluck)
ثم إلى فاجنر (Wagner) . (4) الأوپرا المصرية
ليس لنا حتى الآن ما يصح أن يسمى «بأوپرا مصرية »، وإن كنا نرى أن هذا من الواجبات التي تحدو بنا إلى تكوينها بدل أن نكتفي بالأسف واليأس. على أن بعض من لا يعرفون شيئا عن الأوپرا ثم يتصدرون للنقد الفني يزعمون أننا عريقون في التمثيل الغنائي وفي الأوپرا على الأخص، ويستشهدون على ذلك بالأغاني التي كانت تتخلل الروايات القديمة التي كانت تمثلها أجواق القرداحي وفرح والشيخ سلامة حجازي والشيخ إبراهيم الإسكندري والشيخ أحمد الشامي، وغيرها مما عرفنا معظمها في حداثتنا منذ خمس وعشرين سنة، ثم بالأوپرا (عايدة) التي ألفت ولحنت ومثلت في القاهرة بأمر المغفور له الخديوي إسماعيل باشا. فأما عن الأغاني المجردة في الدرامات فهي بدعة منتقدة غالبا ولا تخلق أوپرا ولا شبه أوپرا، ولا يمكن أن يعرض مثل هذه الملاحظة إلا من لا يدري شيئا عن الأوپرا سواء بالنسبة لروحها وتأليفها أو بالنسبة لألحانها ومظهرها. وإذا كانت الهزليات الموسيقية (
Musical Comedies
أو
Opera Bouffe ) في أوروبا لا تعتبر من قبيل الأوپرا الصادقة، رغم ما فيها من أغان كثيرة موقعة ومن رقص موسيقي، وإذا كانت الأوبرا المجونية (Opéra comique)
التي يكون فيها الحوار حديثا لا غناء يكاد يخرجها بعض النقاد المتطرفين عن الأوپرا الأصيلة، فالأولى بنا أن ننزه الأوپرات عن أن تقبل في عشيرتها الروايات العادية أو الممتازة التي تطرق إليها الغناء قليلا لمناسبة أو لغير مناسبة.
وأما عن الأوپرا (عايدة) فلا بأس من ذكر كلمة عنها، بل لا بد لنا من ذكر تلك الكلمة لنستخلص منها العبرة الواجبة فيرى الغافلون كيف أصبحت تلك الأوپرا غريبة عنا، وكيف أننا بتقصيرنا لم ننتفع بالمنشط الفني العظيم الذي بثه الخديو إسماعيل.
شاء بذخ الخديو إسماعيل وحبه للفن ورغبته في إظهار مصر بمظهر الحضارة العصرية أمام ضيوفه في حفلة افتتاح قناة السويس أن لا تعدم مصر الأوپرا الممثلة لتاريخها وفنها، فأمر بتشييد دار الأوپرا المعروفة بأقرب وقت، فتم ذلك في خمسة شهور تحت ملاحظة المهندس المعماري فوسكاني، وبلغت نفقات إنشائها وتنسيقها مائة وستين ألفا من الجنيهات، وفي الوقت ذاته عهد إلى مارييت باشا المصريولوجي الشهير (مارييت بك في ذلك العهد) بوضع قصة مصرية تاريخية تصلح لأن تكون مادة لأوپرا عظيمة، فوضع قصة «عايدة». ثم صاغها نظما فرنسيا الشاعر كاميل دو لوكل (Camille du locle)
مدير الأوپرا كوميك في باريز، وكان حينئذ في زيارة ڨردي، وبعدئذ نقلها إلى النظم الإيطالي الشاعر الفنان أنطونيو جيزلنزوني (Antonio Ghislanzoni)
ليوقعها الموسيقار العظيم (ڨردي)؛ ولتناسب الفرقة الإيطالية التي قامت بتمثيلها في القاهرة في مساء 24 ديسمبر (ليلة عيد الميلاد) سنة 1871م ...
ڨردي (1813-1901) ملحن (عايدة) وأشهر الملحنين الإيطاليين للأوپرا في القرن التاسع عشر.
وقد أعجب بها الخديوي إسماعيل إعجابا عظيما ونفح ڨردي بمائة وخمسين ألف فرنك (أو عشرين ألف دولار)، وهو المبلغ الذي طلبه، ورغم تأخر تمثيل هذه الأوپرا بسبب نشوب حرب السبعين وانقضاء حفلات افتتاح القناة (وكانت دار الأوپرا المصرية قد فتحت في أول نوفمبر سنة 1869م. ومثلت فيها الأوپرا ريجوليتو
Rigoletto
لڨردي)، حيث عطلت الحرب استحضار الملابس المطلوبة لها من فرنسا، فقد نجحت نجاحا باهرا تجاوز كل تخمين أو تقدير، ولما مثلت بعد ذلك على مسرح لاسكالا (La Scala)
بميلان في 7 فبراير سنة 1872م، برعاية ڨردي نفسه أحرزت من إعجاب الجمهور ما استدعى دعوته إلى خشبة المسرح للترحيب به، وأهديت إليه عصا من العاج لقيادة الأركسترا (ivory baton)
كما أهديت إليه حلية نجمية مرصعة بالماس، وقد نقش عليها اسم «عائدة» بالياقوت كما كتب اسمه بالجواهر الأخرى الثمينة!! وقد نالت (عائدة) أيضا ترحيبا كبيرا بها عندما مثلت للمرة الأولى في نيويورك بأكاديمية الموسيقى “Academy of Music”
في 26 نوفمبر سنة 1873م بإشراف الموسيقار ماكس ستراكوش (Max Strakoseh) ، وهكذا ظفرت بغاية الترحيب واستقبلت بكل إكبار في القارات الثلاثة!
ولكن ماذا جنت مصر من هذه الصفقة الباهظة في سبيل إخراج «عائدة»؟ (1)
أما من وجهة النهوض بفن الأوپرا في بلادها، فلم تغنم شيئا رغم غيرة الخديو إسماعيل، وما ذلك إلا لطوارئ الظروف السياسية المعلومة التي عملت فيما بعد كل هذا الزمن الطويل لإطفاء النهضة الوطنية التي أذكاها إسماعيل، ولكن العناية بالتمثيل نشطت بعض النشاط. (2)
ومن وجهة الأدب المسرحي لم تظفر مصر بجديد، فإن (عايدة) لم تترجم ترجمة راقية بل وحرمت من الصياغة الشعرية العربية أو حرم الشعر العربي من تضمينه إياها، وعادت قيمتها الأدبية الشعرية إلى النظم الأوروبي وحده. (3)
ومن الوجهة التاريخية القومية لقد كسبت حقا التنويه الحي بمصر القديمة، فقد أعادت القصة - كما وصفت - الحياة المصرية القديمة في عهد الفراعنة، وأرجعت أمام النظارة عهد طيبة وممفيس ومعبد فتاح ومجد مصر الغابر، ولكن الفخر بذلك عاد طبعا إلى مارييت بك وإلى فرنسا في النهاية. (4)
ومن وجهة التلحين - الذي بلغ غاية من الإتقان - لم تعتبر إلا نصرا باهرا للموسيقى الإيطالية وفتحا جديدا لڨردي، أو لتعليم ڨاجنر، أو لما شئت أن تتخيله من عوامل الثقافة الأوروبية الناهضة، ولكن لم تعتبر مطلقا أثرا من إلهام التاريخ والحضارة لمصر القديمة.
وهكذا أصبحت «عايدة» غريبة عنا، وذهبت آمال إسماعيل سدى بعد أن بلغ ما أنفقه على إخراجها نحو مليون فرنك، ولعله أضخم مبلغ أنفق حتى الآن على إخراج أية قصة مسرحية. نعم ذهبت آمال إسماعيل سدى ولم نجن شيئا سوى الذكرى الأليمة التي تحرك شجون كل أديب غيور، وتلهم فيه العزم على تعويض هذه الخسارة بالتعاون على تكوين الأوپرا المصرية. وهذا كل ربحنا النفساني من مجهود إسماعيل، وما هو بالربح القليل إذا أعاد لنا الآمال المفقودة، والنهضة المنشودة.
لقد أنفق خديوي مصر، ولكن الفخر الأدبي والفخر الفني عادا إلى غير مصر. فماذا نستنتج من ذلك؟ لا أقل من أن الفن كالأدب ذو شخصية مستقلة عن مظاهر المادة والمال، وأن الأمة التي تعتز بفن غيرها إنما تخدم سواها ولا تنفع نفسها إلا بالتعلم فقط إذا ما تبعه الاستقلال بالإنتاج. ولكننا لم نعرف هذا الدرس قديما، فلم ننتفع الانتفاع الحق بشاعر غنائي مجيد مثل الشيخ نجيب الحداد، وتركنا الشاعر الوجداني الرقيق طانيوس عبده يموت بائسا دون استثمار مواهبه في نظم الأوپرا.
لقد بدأت الأوپرا الروسية تستقل وتكون لها مدرسة خاصة بها (راجع كتاب
The Russian Opera
تأليف
R. Newmarch )، وكذلك أوپرات الأمم الراقية الأخرى تحاول أن تثبت لها «شخصية» جلية، بينما نحن لا نزال بعيدين عن معرفة أبجدية الأوپرا المصرية، ومنا من يتصور أن كل ما نحتاج إليه إنما هو ترجمة الأوپرات الإفرنجية بأسلوب نثري، أو الاقتباس منها ثم تلحين ذلك كيفما أردنا، وحينئذ يصح لنا أن نباهي بأننا ذوو أوپرا وطنية! ... ولكن هيهات! هيهات!
لقد أوضحنا أن الأوپرا إنما هي توافق فني ما بين الشعر والدرامة والموسيقى والتمثيل، وإنه ما لم يكن التأليف والتلحين قوميا في اللون والذوق والنزعة، فحينئذ لا مفر من اعتبار القصة الملحنة أجنبية، بيد أنه لا عيب في نقل الأوپرا من لغة إلى أخرى حبا في نشر الثقافة، وإن تشدد بعض النقاد في وجوب تمثيل الأوپرا بلغتها الأصلية حفظا لروح التعابير الإنشائية التي استوحى منها الموسيقي ألحانه. وإنما يجب عند النقل مراعاة الأصل البياني قدر الاستطاعة، وصياغته في قالب نظمي أمين، ونقل الموسيقى الأصلية وتطبيقها على النظم المترجم بقدر الإمكان، وما كل هذا الجهد إلا لتتذوق جمهرة الشعب الأوپرا الأجنبية طمعا في تعضيد الجمهور للأوپرا الوطنية عند إظهارها. أما إذا انقلب الغرض وصارت للعوامل المادية سلطة الإرشاد، فحينئذ لن يكون هذا الجهد إلا عبثا ولهوا، ولن تخدم الأوپرا الوطنية أية خدمة، وإنما تكون مقضيا عليها باستمرار الفناء ولن يكون لها وجود حقيقي. وهذا للأسف الوافر هو الواقع الآن في مصر دع عنك غيرها من الممالك العربية. أقول ذلك بصراحة من يريد التشجيع والإصلاح لا بلهجة اليائس الشاكي الذي لا يعرف غير تثبيط الهمم. وكيف يجرؤ ناقد أمين على إنكار هذه الحقيقة المرة بينما يرى التأليف الشعري للأوپرا المصرية لا وجود له، وبينما يحزنه تشويه الموسيقى الغربية التي تنقل ممسوخة إلى مسارحنا لمجرد الطرب، وإن خالف قواعد الفن المرعية، وبذلك لا يخدم التأليف ولا الموسيقى ولا التمثيل، ولا ينتفع الشعب الانتفاع الفني المنشود. (5) وسائل الإصلاح
لما أخرج الموسيقار النابغة جلك (Gluck)
الأوپرا التاريخية الشهيرة «أورفياس ويوريديس» السالفة الذكر في سنة 1762م عبر بها تعبيرا عمليا ناطقا عن عقيدته في أن «رسالة الموسيقى إنما هي تزكية الشعر بتقوية تعابير العواطف وزيادة الاهتمام بالمواقف دون إعاقة أو إضعاف العمل بزخارف زائدة عن الحاجة لا قصد منها سوى دغدغة الأذن والإعلان عن نشاط الأصوات الغنائية»، وهذا هو عين المذهب الذي عمل ڨاجنر على تقويته بعبقريته، ثم ڨردي ومن نهج نهجهما من فطاحل الموسيقيين الذين - مع تقديرهم للعوامل الخيالية ولعوامل الطرب الكلي في بعض أنواع الأوپرا - لم ينسوا ولم يتناسوا رسالتهم من جعل الأوپرا وحدة فنية متماسكة لا خليطا مفككا من الخرافة واللهو والعبث. وقد مر أكثر من قرن ونصف القرن على هذا الإصلاح الفكري الفني الذي ينتظر منا أن ننتفع به؛ لأننا لسنا بمعزل عن تيار الحضارة والثقافة، فهل يجوز بعد ذلك أن نعود القهقرى بمسرحنا إلى ما قبل 165 سنة؟! هل تفهم فرقنا التمثيلية حقيقة الأوپرا كما يجب أن تفهم؟ هل تعمل هذه الفرق لإرضاء شهوة الظهور عند المطربات والمطربين؟ أم تعمل لإحياء الشعر التمثيلي؟ أم تعمل لتكوين موسيقى جديدة هي موسيقى الأوپرا المصرية؟ أم تعمل بالإجمال لتهذيب الذوق التمثيلي المصري؟ أم تعمل للكسب فقط؟! فالمشاهد المحسوس أن الشعر التمثيلي لم يشجعه ممثلو الأوپرات في مصر أقل تشجيع، والتمثيل لم يكتسب فائدة تذكر، بل ربما لم يستفد شيئا منها؛ لأن الإهمال في إخراج الأوپرات - اللهم إلا في مناظرها - محسوس، والموسيقى لم تغنم غنما مذكورا منها؛ لأن الموسيقيين أسرى أوامر الفرق بدل أن يكونوا في منزلة المبدعين المرشدين، والذوق المصري الفني لا يزال هو هو: يجارى ولا يقاد ... وإذن فليس من المبالغة أن نقول: إن الفائدة الكبرى من إيجاد أوپرات أو شبه أوپرات في مصر حتى الآن إنما هي مادية فقط، وعائدة على فرق التمثيل وحدها.
وبعد هذه المقدمة فلننظر في وسائل الإصلاح ولندرسها بإنصاف وإخلاص:
التأليف
إذا شئنا أن تكون لنا أوپرا مصرية صميمة، فأول ما يجب علينا أن نعنى به التأليف. وخير لنا أن نعترف بأننا نحكم على أنفسنا بالبلادة والجمود إذا كان كل مجهودنا في التأليف النقل أو الاقتباس عن الغربيين. ولا أنكر أن النقل أو الاقتباس لا يخلو من فوائد، خصوصا إذا كان مصحوبا باقتباس موسيقي أمين، ولكن هذا لا يجدي نهضة التأليف المنشودة. وهذه مصر غنية بتاريخها وقصصها القديمة، ولديها في كل ذلك ثروة لا تفنى؛ ليستمد منها مؤلفو الأوپرات موضوعاتها، ولو لم تكن لدينا «مادة» تاريخية لكفتنا قصص (ألف ليلة وليلة)، للتأليف الخيالي أو الرومانتيكي على الأقل، ومنها استمد الأوروبيون أكثر من أوپرا. فلا عذر لنا في النقل عنهم إلا إذا شئنا الانتفاع بالموسيقى الأوروبية، وإلا فلدينا في تاريخ مصر قديما وحديثا، وفي قصص البردي وفي حكاياتنا الوطنية غنية وافية للمؤلف الجريء الذي يعرف واجباته القومية نحو الأدب والمسرح معا ولا يتشدق بحب الفن للفن دون أن يفهم من فلسفة الفن، ولا من فلسفة الحياة ولا من حق الوطن عليه شيئا.
هذا عن الموضوع، وأما عن لغة التأليف فالمفروض في الأوپرا أنها تمثل الفن بأرقى صوره؛ ولهذا لا يكفي أن تكون لغتها مهذبة بل لا بد أن يتجلى فيها الشعر الراقي السليم. نحن لا ننتصر للغة التقعر، وكذلك لا ننتصر للغة الابتذال ولا للعامية المجردة، وإنما نحب الاعتدال. وحسبنا أنه من الميسور جدا التأليف - سواء نظما أو نثرا - بلغة صحيحة سهلة لن يشق على العامة فهمها ولن يأباها الخاصة: كذلك كان معظم ما أنشأه فقيدا الأدب والمسرح المرحومان نجيب الحداد وطانيوس عبده. بيد أن هذا لا يعني أننا نطعن في استعمال اللغة العامية على المسرح في مواقف درامية أو مجونية معينة (وقد نجح في هذا النوع من الصياغة الأستاذ أنطون بزبك المحامي صاحب «عاصفة في بيت» و«الذبائح»)، ولسنا من يقف دون صقل الألفاظ العامية عند الحاجة والاقتباس منها «وتطعيم» اللغة الفصحى بها، ولكننا في الوقت ذاته نعتقد أن المؤلف القدير يستطيع أن يكسو روايته بلباس من الأسلوب السهل الجميل الذي لا يسيء إلى اللغة، كما لا يسيء إلى المدارك رغم تباين طبقات السامعين، ونرى أنه من الواجب أن تكون لغة الأوپرا من السمو بمكان وأن يكون نسقها النظم ولن يرضينا - مهما سمت المعاني والتلحين - أن يساء إلى اللغة بمثل هذا الشعر الذي نقتطفه من رواية (شهرزاد):
أنا إن سالت دموعي
ولا هبت نار ضلوعي
كل ده طالب رجوعي
تاني للبر الجميل!
طول ما نهر (النيل) بيجري
أنا لا أنذل عمري
وإن حكمت أي مصري
تحكمي ع المستحيل!
كما لا ترضينا لغة الأسجاع التي اتبعها المرحوم إسماعيل بك عاصم في تأليفه. خذ مثلا رواية (حسن العواقب) التي ظهرت سنة 1894م. واقرأ قوله على لسان طاهر لفاخرة: «أحسنت يا فاخرة، وبخ لأفكارك السافرة، وإن الثلاثة التي يحيا بها الإنسان، متوفر عندنا منها اثنان، وهما الصدقة الجارية، وكتب العلم الوافية» إلخ، على أن هذه اللغة أشرف مرارا من لغات بعض التآليف الحديثة، فالأولى سلسة رغم تكلفتها، كما أنها غالبا سليمة ونظمها رقيق، كما ترى في قوله على لسان سعيد مخاطبا سعاد:
يا (سعاد) ودعيني
واحفظي عهدي المصان
وإلى الهم دعيني
هكذا حكم الزمان (وقد أخطأ في قوله: «المصان» فصوابها «المصون»، و«المصان» لغة غلاف القوس.) وهي بحق لغة لم يصل إليها بعض مؤلفي اليوم الذين يتصدون بجراءة للنظم المسرحي على الأخص، فتخرج آثارهم خليطا عجيبا من الفصحى والعامية ...
ومن العجيب أن مديري الفرق التمثيلية يدعون أن شعراء البلد الممتازين وكتابه لا يتعاونون معهم، فيضطرهم ذلك إلى الانتفاع من أقلام من لم يبلغوا مرتبة الأدب الناضج، ويلجئون عادة إلى الترجمة والاقتباس، ويعتذرون بقولهم: إن جهدهم كيفما كان خير من لا جهد ... وهذه مغالطة واضحة، فهم يعلمون حق العلم أنه إذا كان بين شعراء مصر وكتابها من قد تسمح له الظروف وتدعوه العاطفة الشريفة إلى التبرع بآثار قلمه لفائدة جمعية خيرية أو ملجأ إحسان مثلا، فجميعهم تقريبا في حاجة إلى التعاون المادي وإن قل، ومن الفضيحة أن تبلغ الأنانية بأصحاب الفرق التمثيلية مبلغ البخل المتناهي بتشجيع التأليف المسرحي بينما نهضة التمثيل مرتبطة كل الارتباط بنهضة التأليف، وهذه الحقيقة منطبقة بالأخص على الأوپرا. فما على حضرات مديري الفرق إلا أن يتقدموا بمكافأة معقولة إلى المؤلفين، وهم لن يعدموا حينئذ القصص الراقية على اختلاف أنواعها تلبية لتشجيعهم. وهذا التشجيع تحتاج إليه الأوپرا على الأخص إذا كنا جادين، ومن المغالطة المخجلة أن تربح الفرق التمثيلية الغنائية المئات من الجنيهات بل الألوف من قصص تافهة لا قيمة أدبية لها ولا تخدم الأوپرا أقل خدمة حقة، ثم يضن على الشاعر العصري المؤلف بعشرات قليلة ثمنا لجهده وإبداعه القيم.
التلحين
للموسيقى منزلة عظيمة في الأوپرا، وهي منزلة التزكية للشعر كما قال جلك (Gluck) ، وقد أشرت سابقا إلى ضرورة احترام الألحان الأصلية أو روحها على الأقل في الأوپرات المترجمة، وإذا لم يكن هذا مستطاعا استطاعة وافية فلا أقل من أن نحترم أنفسنا باحترامنا الفن، فنشجع تمثيل الأوپرات الأجنبية بلغاتها وألحانها الأصلية لفائدة الخاصة والمتعلمين منا الذين يعدون بعشرات الآلاف، وفي وسعهم تفهم هذه الأوپرات وتقديرها. ولم توجد الأوپرات في الأصل لمرضاة العامة، وإنما هي نوع راق من الفن، بل مزيج من فنون لن يقدره التقدير اللائق به غير المتعلمين، فلن يحرم عامة الشعب من فائدة ما بوجود هذا التمثيل الأجنبي سواء باستمرار أو في موسم السياح فقط، أضف إلى ذلك أن لثقافتنا كل الفائدة من هذا الجوار والاتصال.
وإنما الذي ينتفع منه الشعب جملة من خاصته إلى بعض عامته هو تكوين الأوپرا المصرية تكوينا قوميا: تأليفا وتلحينا، ثم تحبيبها إلى الجمهور. وقد أشرنا إلى التأليف في السطور المتقدمة والآن نشير إلى التلحين، ونرانا في غنى عن البرهنة على ضرورة التعاون بسخاء مع الملحنين، فالمؤلف والملحن عمودا النهضة المسرحية للأوپرا، مهما أطنبنا في فضل المغنيات والمغنين. وما لم ينفق بسخاء لتشجيع التلحين فسيطول الزمن قبل أن ينشأ في البيئة المصرية ملحن وطني ضليع في فنه علما وعملا، غيور على إنشاء موسيقى مصرية يرضى عنها علماء الموسيقى النابغون في العالم، وتمثل عواطفنا وحياتنا المصرية أصدق تمثيل. ومثل هذا الإنشاء سيعد طبعا ثورة فنية، وقد تعد هذه الثورة من الآن مستحيلة نظرا للاختلاف الكبير بين أصول الموسيقى المصرية الحاضرة وبين أصول الموسيقى الغربية عامة، ولكن الغربيين أنفسهم لم يبلغوا بموسيقاهم مرتبة النهضة الحاضرة إلا بثورة وتضحية وبالتخلي عن كثير من النظم القديمة، وهكذا لا بد لنا من الإقدام والتجربة، وإن طال الزمن. ومن أقدر على هذا الجهد والإبداع من أعضاء (نادي الموسيقى الشرقي) أو جمعية خاصة تتفرع منه وتجعل عملها مطابقا لشعارها ولاسمها: (جمعية الموسيقى المصرية)؟ نحن لا نجهل الاعتراضات الفنية الحاضرة على مثل هذا الرأي، ولكننا نعلم أيضا أن التجارب العلمية والتعاون لتحقيق هذا الانقلاب الفني أو لتقدير العقبات، وما يمكن التغلب عليه منها لم تقدم. وبغض النظر عن هذه النقطة، وكيفما كان قصور موسيقانا المصرية، فلا غنى لنا من الوجهة القومية عن تطبيقها على أوپرانا والسير بها مع الشعر التمثيلي جنبا لجنب إلى الأمام، وهذا يستدعي التشجيع المادي الوافي للشعراء والملحنين من المسارح الراقية، والتشجيع الأدبي بالأوسمة أو الألقاب أو نحوها - من حكومة جلالة الملك - شأن جميع الحكومات المتمدينة في أنحاء العالم التي تعرف أن لا تقصر الاحترام والتشجيع الأدبي على طبقة الموظفين أو طبقة الأعيان، وقد يكون بين الأخيرين طائفة كبيرة منزلتها من الثقافة وأثرها في النهضة الفكرية الوطنية صنو العدم ...
الغناء والتمثيل
أما واعتمادنا الفني قاصر على مواطنينا ولم نغنم غنما وطنيا ما من ڨردي وأمثاله، ولم يتمصر بيننا مثل هاندل (Handel)
الموسيقي الألماني الشهير الذي قضى معظم حياته الخصبة (1685-1759م) في إنجلترا وخدم الموسيقى الإنجليزية والشعب الإنجليزي الذي عاش بينه كأحد أفراده خدمة عظيمة بتآليفه العديدة (وبينها «المسبح» و«إسرائيل في مصر» و«إستر» و«ديبورا»). أما وهذا هو الواقع الأليم فمن الخطل في عزلتنا هذه التي أوجدتها ظروفنا الأهلية من جنسية ولغة ومشرب أن لا نحرص على استثمار رجالنا الملحنين أولا ثم مغنياتنا ومغنينا.
وما يكون هذا التشجيع أو الاستثمار بالمكافآت الحكومية المسرحية فقط، وما يكون بنقل تبعية دار الأوپرا إلى وزارة المعارف فحسب، وما يكون بإنشاء معهد فني يرتبط بدار الأوپرا، ويختص بالعمل على ترقية موسيقى الأوپرا وغنائها أيضا، وإنما يكون بالجمع بين هذه العوامل المفيدة مضافا إليها تنظيم البعثات إلى أوروبا من بين أعضاء هذا المعهد الذي لا نرى مندوحة عن إنشائه، لا سيما إذا توانى (نادي الموسيقى الشرقي) عن القيام بالواجب عليه نحو الأوپرا المصرية. وربما لم يغن جهد النادي وحده على أي حال عن إنشاء المعهد الفني المشار إليه.
هذا ولا فائدة من ضم دار الأوپرا إلى وزارة المعارف إذا لم تعتبر الوزارة تلك الدار كمدرسة فنية شعبية، كما تنظر ألمانيا على الأخص إلى دور الأوپرات: مشجعة طلبة العلم على التردد عليها بأجور مخفضة وامتيازات حسنة، وكذلك إذا لم تنشط الوزارة فرق الأوپرا على الأخص، وإذا لم تسمح لها جميعها بالانتفاع بدار الأوپرا بشروط مشجعة، تضمن لها النفع والبقاء والتقدم المستمر.
يعوزنا أن نعتبر الغناء في الأوبرا متمما للموسيقى لا سيدا لها، كما يعوزنا أن نعتبر التمثيل من المتممات للعوامل الأخرى التي تؤلف تلك الوحدة الفنية القوية المتضامنة التي نسميها «الأوپرا»، وإذا قدرنا هذا التقدير الصحيح تركنا للملحن أن يضع ألحانه بحرية فنية معقولة تطابق روح القصة، كما تركنا للشاعر من قبل أن يؤلف تأليفا وجدانيا غير متأثر بالصناعة، وحينئذ نبحث عن المغنيات والمغنين والممثلات والممثلين ممن يحتاج إليهن وإليهم لتقوية الفرقة في سبيل إخراج أوپرا معينة جديرة بالظهور. ورأيي أنه من الإسراف في العبث أن تترك أية مغنية قديرة أو أي مغن نابغة خارج دور الأوپرا.
تنفق بلدية فينا - مدينة الأوپرات - إعانة سنوية للأوپرا كما كان يفعل الإمبراطور سابقا، وتحذو حذوها بلديات أخرى كثيرة رغم نهوض تلك الأوساط بالأوپرا، وترجع هذه الحفاوة (الجديرة بالتقليد) بالأوپرا في ڨينا إلى القرن السابع عشر حينما عني إمبراطور النمسا ليوبولد الأول ثم ابنه شارلس السادس باستدعاء مشاهير الموسيقيين إلى البلاط، وكانا يدفعان من جيبهما الخاص بسخاء نفقات التمثيل الموسيقي في مسرحي ڨينا المعروفين في ذلك الوقت. وإن التاريخ ليعيد نفسه الآن في مصر: فنهضة الأوپرا المصرية في أمس الحاجة إلى رعاية صاحب الجلالة الملك، كما أنها في حاجة إلى زيادة عناية الحكومة المصرية بها، وإلى تنظيم هذه العناية الواجبة وتوجيهها بدقة إلى شتى الأسباب التي لا غنى لنهضة الأوپرا عنها: من تأليف وتلحين وغناء وتمثيل.
لقد كان عهد اكتفى فيه طالب الأدب العالي أو الأدب المدرسي (elassical literature)
في أوروبا بدراسة الكتب والدواوين، وجاء العصر الحديث الذي اعتزت فيه الأوپرا، فإذا به يراها مدرسة سامية للأدب، فيجد مثلا من مؤلفات شكسبير كعطيل (Othello)
والزوجات القريرات (Merry Wives)
ومن مؤلفات سكوت كعروس لامرمور (Bride of Lammermoor)
ما يمثل تمثيلا موسيقيا بروح الأوپرا وما يذكره على رأي ووكر ماكسبادن (J. Walker Me Spadden)
بأن العلم بالأوپرات القياسية في هذا العهد ضروري كالعلم بالأدب المدرسي، فكل منهما يلقي ظل نفوذه على الآخر، والحد بينهما متنقل باستمرار من مجال إلى آخر.
وإذن فنحن في مصر لن نكون أقل من نظرائنا في الغرب إلى هذه الحاجة الدراسية، ولن يستوفي الأديب بيننا حاجته من الثقافة بالاكتفاء بدرس القديم مهما جل سواء سمي «ديوان البحتري» أو «رسائل بديع الزمان» أو «الأغاني» أو غيرها، وإذا أدرك ممثلات وممثلو الأوپرا قيمتها الأدبية الفنية هكذا فما من شك في أن فرق الأوپرا تبذل أقصى المجهود لخدمة التمثيل مثل خدمة الموسيقى والغناء. وهكذا تتم عوامل الإتقان لفخرنا جميعا.
صحيح أن بعض الأوپرات تجملها بعض القطع الموسيقية أو الغنائية المحضة، كما نعرف في قصة «حلاق أشبيلية (The Barber of Seville)
مثلا وقطعة غناء الجوهرة (The Jewel Song)
في قصة (فاوست
Faust )، ولكن كل هذا في حكم الشاذ الذي لا يعارض المذهب الأصح: وهو أنه لا بد - لكي تبلغ الأوپرا أرقى مكانة من السمو - من تضافر عوامل الشعر والموسيقى والغناء والتمثيل تضافرا كليا لتخرج وحدة منسجمة آسرة للمشاعر، بحيث يكون التأليف الشعري مبعث إلهامها، والموسيقى مزكية له، والغناء صلة الارتباط بينهما، والتمثيل موحدا للجميع بتصويره الشكلي، ولكنه لن ينجح في مهمته النجاح التام ما لم يبذل كل من الشاعر والملحن والمغني أقصى المجهود لأداء التصوير الفني في دائرة اختصاصه على أحسن ما يكون كأنما لا يعتمد إلا على مجهوده وحده. فإذا ما قامت نهضة الأوپرا في مصر على هذه الأسس المتينة، وإذا ما كان رائدنا الإبداع لا الجمود ولا التقليد - اللهم إلا في محاولة التوفيق ما بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وإيجاد موسيقى خاصة بنا على أرقى المبادئ العصرية - وإذا ما راعينا دائما تمثيل قوميتنا التمثيل الأوفى في عملنا الفني هذا، فمن المعقول تدريجيا أن تنشأ لنا أوپرا وطنية على مرور الزمن، وأما إذا اكتفينا بالتواكل أو النقل عن الأجانب أو مراعاة الفائدة المادية وحدها فلن تقوم لنا قائمة، ولن ننتفع من هذه المجهودات المبتورة بأكثر من انتفاعنا من كل عمل أجنبي محدود الأثر يعود فخره لغيرنا، ولا يكسبنا اعتدادا بالنفس أو تشجيعا. وقل ذلك أيضا عن التأليف - (وإن كان وطنيا) - الذي لا يقصد منه سوى التهريج وإدهاش النظارة المستمعين إلى ألحان ومشاهد غير مألوفة لا يعززها نصيب من الأدب العالي سواء من الشعر أو روح الدرامة، فإن كل ذلك مصيره الاندثار كالفقاقيع، دون أن يربح الشعب ربحا فنيا خالدا من وراء ذلك.
وأخيرا لا بد لنا من التنويه تكرارا بضرورة اجتذاب عباقرة المغنين والمغنيات إلى المسرح، فإنه أرقى من التخت وأنفع للأمة، وفي استطاعة هؤلاء النوابغ والنابغات بتفهمهم وبتشربهن روح الفن إخراج نغم الأوپرا إخراجا هو صفو الجمال الحي، وفي ذلك أيه خدمة لثقافة الأمة بخدمة فنونها المسرحية وبتحبيبها إلى الأوپرا، وكل ذلك مما يعين في النهاية على تكييف الأوپرا تكييفا قوميا ممتازا لن يتطرق إليه الفناء. (6) نظرة إلى إحسان
للحق علينا بعد هذا البحث المتقدم واجب النظرة النقدية إلى «إحسان» خدمة للأدب وللأوپرا، وتدريبا للأذهان على التقدير النقدي، ولكن علينا قبل ذلك أن نشير بالاطلاع على كتب النقد الغربية مبتدئين بالموسوعات أو دوائر المعارف المختلفة ثم بالكتب النقدية أو الشرحية أو البيانية الخاصة، ونذكر منها على سبيل المثل هذه المؤلفات بالإنجليزية: (1)
The opera Past and Present. By W. F. Apthorp. (2)
The Complete Opera Book. By Gustav Kobbé . (3)
A Critical History of Opera. By A. Elson . (4)
Opera Synopses. By. J. Walker Me Spadden . (5)
Knoch’s Opera Guide . (6)
Dictionary Of Music. By G. Grove . (7)
The Story of Opera. By E.M. Lee . (8)
Opera and Drama. By R. Wagner. translated from German By E. Evans. (9)
Mozart’s Operas. By E. J. Dent . (10)
The Rise and Development of Opera. By J. Goddard . (11)
Some Forerunners of Italian Opera. By W. J. Henderson . (12)
Shakespeare . (13)
Richard Wagner. By W. L. Henderson . (14)
The Life of Johann Sebastian Bach. By sir Hubert
. (15)
Light Opera. By Sterling Mackinlay . (16)
Favourite Operas. By Cuthbert Hadden . (17)
The Stories of the Great Operas With Music. By Ernest Newman and Sir Landon Ronald . (18)
The Standard Operaglass. By Charles Annesley .
وإذا كنا نرى أن دراسة الأوپرا فرض على الأديب الفنان في هذا العصر، فالأولى بها أن تكون واجبا مقدسا على الناقد المسرحي.
ومن الجدير بأهل الأدب في هذا العصر أن يعنوا بحيازة الأهم من مؤلفات الأوپرا ومباحثها النقدية، فقد أصبحت الأوپرا معدودة أرقى مظهر للأدب الحديث، وصار لها من التعريف ما لم يكن مقدرا منذ قرنين، فليس اسم الأوپرا الآن دليلا على اشتقاقه الأصلي حيث يعني تأليفا موسيقيا (اختصارا من التعبير اللاتيني
Opera in musica )، وإنما يعني أجمل معنى ومبنى لاقتران الفنون الثلاثة (الشعر والغناء والموسيقى) في كنف التمثيل، فأصبحت بذلك فرعا هاما من فروع الأدب العصري الراقي، وأصبح من لا يعرف شيئا عنها لا يستحق أن يسمى بالأديب المثقف. وقد يأتي الزمن الذي تمثل فيه الأوپرا ما هو أكثر من هذه الفنون في انسجام لطيف مقبول، كما قد يأتي العصر الذي يطالب فيه الأديب المؤلف النابغة بأن يكون فنانا كاملا، فلا يتنحى عن نصيبه في تمثيل الأوپرا التي ألفها ما لم يعقه عائق طبيعي أو اجتماعي، وبناء على هذا فليس من المبالغة في الرأي والتقدير أن ألح في ضرورة توجيه أهل النبوغ من مغنياتنا ومغنينا إلى التمثيل، ولا أرى خوفا على مستقبل الأوپرا مهما تبدلت الأذواق بين مختلف الأجيال؛ وما ذلك إلا لأن أساس الأوپرا الثقافة الراقية، وكلما ارتقت الثقافة (Culture)
كان حظ الأوپرا زيادة العناية بها وزيادة تهذيبها، وهذا ضمان حياتها ورقيها وبقائها في عزة وإجلال.
وإنه ليشق على الأديب العصري الغيور أن يتصفح أي كتاب جامع من المؤلفات الحديثة الممتازة عن الأدب العربي وتاريخه فلا يجد أي ذكر للتأليف المسرحي أو القصة عامة ولا أية إشارة للأوپرا على الأخص، كأنما نظم الباعونية وابن معتوق أولى بالإشادة من جهد نجيب الحداد وطانيوس عبده للمسرح في القرن الماضي وأوائل الحاضر، ومن مجهود الحداد ومطران والسباعي في ترجمة آثار شكسبير كيفما كانت عيوب الترجمة ... وهكذا لا يفهم الطلبة المنزلة الأدبية الراقية للتأليف المسرحي، وقد يحسبون الأوپرا نوعا من اللهو المجرد، بينما نظراؤهم في الغرب يعرفون قيمتها الدراسية والأدبية الفنية العالية، وحسبهم أن يعلموا في إعجاب أن الأوپرا (إرناني
Ernani ) والأوپرا (ريجوليتو
Rigoletto ) من أبدع آثار فيكتور هوجو، وأن (فاوست
Faust ) من طرائف (جبتي
Goethe ) وكذلك (تراڨياتا
Traviata ) من دوماس، و(كارمن
Carmen ) من (مرميه
Mérimée ) و(فولستاف
Falstaff ) من شكسبير، وهكذا معظم الأوپرات إما مؤلفة بأقلام أدباء الغرب أو مقتبسة من آثارهم الجميلة بأقلام أدباء كبار.
وبعد هذا، فلن يعوزني العذر والبيان ولن أحتاج للدفاع عن نفسي أمام جمود الجامدين لعنايتي بالتأليف المسرحي في أسلوب الأوپرا. وما أنكر أننا في حاجة إلى التأليف القصصي والمسرحي عامة، ولكني أرى أن الشعر أحوج من النثر إلى هذه الخدمة، لا سيما وقد ظهرت طائفة من الكتاب القصصيين والمؤلفين للمسرح نثرا في العهد الأخير. وما (إحسان) إلا أولى الحلقات في سلسلة من التأليف أرجو أن تكون طويلة ومفيدة، وأن أبرئ بها ذمتي أمام أهل الأدب عند استعراض الحقوق والواجبات.
نوع القصة
تحدثنا في أول هذا البحث عن تقسيم الأوپرا، وما كان ذلك التقسيم إلا نوعا من التقاسيم العرفية قد لا يتفق أو لا يختلف أكثرنا فيه. وإنما لا نظن أن في استعراضنا الوجيز الآتي - الذي لا بد من ذكره لتعيين نوع هذه القصة - موضع خلاف.
الأوپرا في أسمى مظاهرها الحاضرة نتيجة التطور في ثلاثة قرون، فهي نتيجة النمو العلمي بعوامل النشوء والارتقاء ولها أساس من الفن الصحيح. نشأت في أكاديمية فلورنس (فلورنزة أو فيرنزة) غناء مفردا لقطع تراجيدية مستقلة ثم تدرجت فاستعانت بالمناظر المسرحية وبالتأليف المسرحي، فظهرت في مظهر من النضوج النسبي في الأوپرا (دفني
Dafne ) من وضع (پري
) وكاسيني (Caccini)
سنة 1594م، ثم تبعها بعد ست سنوات ظهور «يوريديس
Euridice » ثم أخذت تتمشى فكرة تمثيل الأوپرا فانتقلت إلى نابولي والبندقية حيث عني بها أكبر عناية سكارلاتي (Scarlatti)
ومنتڨردي (Monteverde)
ثم انتقلت بمرور الزمن وتبادل الثقافة إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا وأسبانيا وروسيا إلخ، ثم تطورت إلى تأليف مذاهب الأوپرات السالفة الذكر: الإيطالية والفرنسية والألمانية، وهي التي تكون مذاهب الأوپرات الكبرى (Grand Opera) ، وبمرور الزمن تفرع في فرنسا من الأوپرا الكبرى نوع سمح فيه بالكلام بدل الغناء، فلم تسمح دار الأوپرا الكبرى في باريز بتمثيل هذا النوع الجديد، وبناء على ذلك مثل في الأوپرا كوميك (Opéra Comique)
الباريزية، ثم بمرور الزمن نشأت أيضا الأوپرا الإنشادية (Lyric Opera)
التي يعد بعض النقاد (كارمن
Carmen ) و(فاوست
Faust ) أمثلة صادقة لها. وما كانت هذه الأنواع إلا أمثلة للأوپرا الخفيفة المشتقة من الأوپرا الكبرى فاستحقت أن تسمى (Light Grand Opera)
ومن صفاتها الجمع بين الغناء والحديث كما تتضمن شيئا من الأوپرا الإنشادية (Lyric Opera)
ومن الأوپرا المجونية (Comic Opera) ، وبناء على ذلك فقد اتسعت مسافة الخلف بين واضعي الأوپرات الكبرى وبين واضعي الأوپرات الخفيفة، ولكل فريق تشبثه بمذهبه وتعصبه له.
ولو شئنا أن نذكر قائمة التقاسيم للأوپرا ومختلف الآراء في التقسيم لنال القارئ السأم على غير جدوى، فحسبنا إذن أن نكتفي بالتقسيم الكلي المتقدم ذكره إلى أوپرا كبرى (Grand Opera)
وأوپرا خفيفة (Light Opera) ، فتشمل الأولى أنواع الدرامة والمأساة الملحنة الغنائية، وتشمل الثانية الأوپرا الخيالية الرومانتيكية والأوپرا المجونية، وكلما قل فيها الكلام والنثر تجوز الأساتذة المدرسيون في قبولها بهذا القسم المتفرع عن الأوپرا الكبرى، ولا بد في كل من القسمين من مراعاة وحدة التأليف والتناسب بين الموسيقى والغناء، وتجنب التفكك والعناية العظمى بالإخراج الفني وبموضوع التأليف، وإلا خرجت القصة عن دائرة الأوپرا الحقيقية سواء أصلا أو تجوزا، وانتقلت إلى شبيهات الأوپرا التي لا تمت لها بصلة وافية: كالمضحكات الموسيقية (Musical comedies)
التي لا يعنى فيها بموضوع القصص، وكالروايات الموسيقية العامة (Musical Plays)
التي لا يحفل فيها بالغناء ما يحفل بالموسيقى، وكالهزليات الرقصية (Dance Comedies)
التي ينال فيها الرقص العناية الكبرى، وكالاستعراضات (Revues)
التي هي خليط مفكك من كل شيء! ويجب أن لا ننسى عندما نعنى بتمييز أوپرا من الأوپرات أن أحدث أنواع التقسيم للأوپرا الخفيفة الخيالية أو الرومانتيكية يشترط أن تكون خالية الموضوع من المأساة. •••
هذا الاستعراض لا بد منه تذكيرا للقارئ حتى يشترك معنا في الحكم بأن الأوپرا (إحسان) تابعة للتقسيم الأصيل، وأنها من نوع الأوپرا الكبرى، بغض النظر عن حجمها الصغير؛ لأن الحجم لا شأن له بالتقسيم وإنما روح القصة ومادتها وصياغتها هي التي ترشد إلى ذلك: فالقصة مأساة بالمعنى الصادق، وكلها منظومة بروح شعرية ومشترط فيها أن تمثل غناء، وكلها وحدة متصلة الأجزاء أتم اتصال، وبذلك تستوفي الشروط الأساسية المطلوبة في الأوپرا الكبرى التي أعتقد أننا أحوج ما نكون إليها في مصر من الوجهة الفنية التهذيبية.
موضوع القصة
أما عن موضوع القصة فتاريخي وعصري معا، ذو مسحة وطنية ومسحة خلقية أيضا، وذو صبغة سياسية وهي الدعوة إلى «الاتحاد النيلي» الذي كثيرا ما أشرت إليه نثرا ونظما منذ سنين عن عقيدة من يؤمن بأن خير مصر ومستقبل نهضتها ليس إلا في اتحادها بالقطرين الشقيقين وهما الحبشة والسودان؛ أي في اتحاد ممالك حوض النيل، ولا رجاء لوطن الفراعنة في العزلة أو في الطموح إلى تبعية السودان له تبعية السيادة القهرية أو الاسمية الوقتية، وإنما كل الرجاء في تعاون هذه الشعوب الأفريقية الثلاثة تعاون الإخاء الصادق والارتباط الودي كتعاون إنجلترا وأسكوتلندا وويلز، بل كتعاون الممالك المستقلة التي تؤلف الإمبراطورية البريطانية دون أن تفقد شخصياتها.
وكان في وسعي بدل ذلك أن أؤلف أوپرا عن توت-عنخ-آمون أو عن كليوباترة، وموضوع كليهما أصبح مبتذلا، وليس الأول بأعظم من (أخناتون فرعون مصر) الذي هو موضوع إحدى الأوپرات المقبلة لي، كما أن كليوباترة ليست بموضوع فخرنا القومي، وإذا كان الإنجليز لم يفخروا بل لم يعنوا باللادي هاملتون (Lady Hamilton)
معشوقة أميرالهم العظيم نلسون، فما أجدرنا نحن بتجنب سيرة ملكة فاجرة هدمت المملكة المصرية بخلاعتها وضعفها الخلقي، وكانت معشوقة يوليوس قيصر ومارك أنطوان، فقصتنا إذن ترمي إلى أغراض شريفة متنوعة تتفق كل الاتفاق ومذهب الأوپرا الكبرى، وتغالي في الحرص على حرمة التأليف حتى لا يكون مظهرا ضعيفا لعبث الغناء والموسيقى.
صياغة القصة
أما وهذه أول أوپرا مصرية مؤلفة من هذا النوع، فقد حرصت على أن تكون لغتها في منتهى السلاسة حتى لا تعد نافرة من الغناء شاقة على الفهم، وقد راعيت منتهى الإيجاز المقبول حتى لا تجهد المغنيات والمغنين، فيعرض عنها لا سيما في أول نهضتنا بالأوپرا، ولو كان من المصلحة الإسهاب لكان هذا أهون علي من وضع ثلاثة فصول في هذا العدد القليل نسبة من الأبيات، وأرجو أن تكون هذه الأوپرا ممهدة ومجيزة لي الإطالة في أختها التالية (إخناتون - فرعون مصر) وفي غيرها مما وضعته.
ومع مراعاتي الروح الشعرية، فأرجو أن أكون قد وفقت إلى تجنب التعابير اللغوية التي يرفضها الذوق الفني في هذا المقام، وأن أكون قدمت بها خدمة مقبولة إلى الأدب العربي المصري، وأن يكون منها البرهان الكافي على أنه من الميسور التأليف باللغة الفصحى السهلة تأليفا أفضل مرارا من التأليف بالعامية في المقام الذي لا يناسب فيه مطلقا التأليف العامي الذي يحبذه الأستاذ أنطون يزبك وأنصاره. كذلك أرجو أن يكون منها الدليل الكافي على أن الشعر المنظوم قادر على أداء جميع مطالب الدرامة وعلى التوفيق ما بينها وبين الغناء والموسيقى والتمثيل العصري، وتجنبا للتكرار ألفت نظر القارئ إلى مراجعة فصول القصة وتطبيق هذه الملاحظات تطبيق نقد وإمعان.
مناظر القصة
بين النقاد المحافظين من يغالون في تحتيم المناظر الفخمة للأوپرا، ولكن هذه عقيدة طال عليها القدم ولم يبق لها نفوذها السابق في الأوپرا الناهضة، فلم يعد يؤمن بها المفكرون الذين يحفلون بالدرامة وارتباطها الوثيق بالموسيقى والغناء قبل أن يحفلوا بالزخرفة والبهرج، وبين هؤلاء سترلنج ماكنلي (Sterling Mackinlay)
صاحب كتاب (الأوپرا الخفيفة
Light Opera )، وهو من أنفس الكتب النقدية الإرشادية التي لا غنى عنها لكل ذي صلة بهذا النوع من الأوپرا تأليفا وتلحينا وتوقيعا، وإخراجا وتمثيلا ورقصا إلخ. وقد صدق المستر ماكنلي في سؤاله الإنكاري:
منذ أي عهد كان الفن عالة على الفخامة؟ وكيف يمكن تطبيق ذلك التعريف على الفصل الأول من (البوهيمية
La Bohéme ) حيث يمثل المنظر غرفة في سطح البيت؟ لا! إن كلمة الفخامة للمناظر واجبة الحذف من تعريف الأوپرا.
ولم يكن شاقا علي خلق المناظر الفخمة الرائعة وتجديد قصر إسماعيل في الجزيرة وغيره مثلا، ولكننا أحوج من الأوروبيين إلى تجنب البهارج المفسدة للذوق الفني، ويجب أن ننتفع بخبرتهم النقدية وأن نتحاشى المغالاة في الزخرفة التي قد تسقط بالأوپرا إلى البنتوميم (Pantomime)
أو إلى مجرد الاستعراض (Revue)
الذي لا روح له من الفن الحقيقي. وقد دلت الخبرة على أنه كلما قلت المبالغة بالزخرفة استطاع الجمهور أن يلتفت إلى موضوع القصة، وأن يتذوق بلذة معانيها الأدبية وتعابيرها الموسيقية بل وحدتها الفنية الكاملة، وهذا ما نزعت إليه في هذه الأوپرا وإن ترك فيها مجال كاف لإخراج مناظر شائقة ومؤثرة، وأرجو أن أكون قد هيأت بذلك سببا آخر قويا من أسباب نجاحها.
التمثيل والتلحين
التمثيل للأوپرا (ويشمل الغناء) والتلحين (الذي هو إمام الموسيقى والمغني الممثل) خارجان بطبيعة الحال عن دائرة نفوذ المؤلف، اللهم إلا من قبيل الإرشاد العام. ولعلي بما قدمت من تعابير شعرية منظومة متنوعة الأوزان، وبما ذكرته من الإرشاد التمثيلي قد نقلت إلى الملحن العواطف الجياشة في نفسي حينما تخيلت هذه القصة ونظمتها، كما أرجو أن يكون منها المعين أيضا للمغني الممثل، وكذلك أن تكون في هذه النظرات والملاحظات فائدة ذهنية تساعد على إخراج الأوپرا بحماسة فنية وتقدير صحيح، ولن يكون ذلك ما لم يعرف أهل المسرح حق المعرفة مغزى الأوپرا ومرماها، وما لم تتسع معارفهم بتاريخ الأوپرا ونهضتها وبالواجب القومي المنشود منهم في هذا المجال؛ ولهذا لم أدخر وسعا في إنشاء هذا البحث النقدي ليكون جامعا أقصى المستطاع - في الفراغ المتيسر - للضروري من معلومات عن الأوپرا مما هي خليقة بعناية الأدباء وأهل التمثيل معا. ولفرقنا مديروها الغنيون الذين بخبرتهم الطويلة واطلاعهم المستمر على المؤلفات الغربية النقدية يستطيعون أن يخدموا تمثيل الأوپرا في مصر خدمة جليلة نازعة دائما إلى التقدم المستمر.
تلخيص
تمثل الأوپرا (إحسان) نموذجا متواضعا للأوپرا المصرية الصميمة التي تفتقر إليها موضوعا وتفكيرا وأسلوبا، والغرض من إظهارها خدمة الشعر العصري والأدب المسرحي معا، والتعاون على إيجاد أوپرا مصرية أصيلة واعتبارها فرعا ساميا جديرا بالإكبار من الثقافة الحديثة، بدل أن نعيش عالة على المتقدمين لا نتعدى حدود تبويبهم وتفكيرهم وتعريفهم لمعنى الأدب الفكري، ومن أجل ذلك كله ونظرا لكونها الأولى من نوعها في العربية تحاشيت كل تعقيد في إخراجها المسرحي وكل ما يمكن أن يقف في سبيل إظهارها وتحبيبها إلى الجمهور، فتجنبت الإطالة وتحاشيت ما يستدعي النفقة الباهظة، وراعيت سهولة التعبير مع المحافظة جهدي على سمو التفكير، وضمنتها أخلص العواطف الوطنية التي يصونها فؤاد مثلي الذي يعتقد أيضا بأن الإنسانية لا تتجزأ. وإذا كان الرأي الشائع أن المجتمع هو الذي يكيف أدباءه قبل أن يكيف الأدباء المجتمع، فقد تخطيت هذا الرأي ولم أتخذه عذرا للتواني، وقمت رغم شواغلي العلمية بفرض الزكاة الأدبية الواجبة على كل أديب، والآن أنتظر بدوري تشجيع المجتمع الذي كنت الأسبق إلى خدمته برا بنفعه قبل نفعي، حتى استمر بالعزيمة الواجبة في خطة التأليف المسرحي التي أقدمت عليها بقلب مخلص ووجدان غيور يعشق الفن للفن،
أحمد زكي أبو شادي
هوامش
فصل ختامي
نقد الأوپرا إحسان
للشاعر المطبوع زكي أبو شادي
بقلم الأستاذ الأديب محمد علي حماد
الأستاذ حماد.
أولا:
لم تجر العادة بعد أن تحدث وقائع الروايات التي من هذا النوع - الأوپرا - في أجواء عصرية وبين قوم معاصرين، بل تلتمس مواضيعها دائما في ثنايا التاريخ أو في أوساط غريبة غير مألوفة، كأن تحدث بين أصناف من مخلوقات الله لا عهد لنا بها كالجن مثلا أو يكون قوام القصة خرافة شائعة أو أقصوصة متداولة.
والمهم في كل هذا شيئان؛ أولا: يحسن أن يرجع المؤلف الفاضل بوقائع قصته إلى التاريخ القديم - تاريخ الفراعنة - وليس عليه في هذه الحالة إلا أن يغير أسماء أبطاله ويبقي للقصة قوامها الأصلي من الحرب بين مصر والحبشة. فتاريخنا القديم مملوء بمثل هذه الحروب كما ستظل الصلة كما هي بين أبطالها من سفر أمين بك إلى الحرب، ثم خيانة صديقه له ثم رجوعه.
وثانيا: يستطيع المؤلف إذا غير في عهد حدوث روايته على النسق الذي تقدم أن يعين الفرقة التي ستتولى إخراجها على وضع مناظر فخمة لها. وما أظن منظرا من مناظر غرف قصورنا العصرية مهما كان بهاؤه ورواؤه يعادل في الفخامة والجلال أو على الأقل في الإعجاب لدى الجمهور منظرا مصريا قديما بأعمدته وهيكله وأنموذجه الخاص.
ولا يفوت المؤلف الأديب أن قوام الأوپرا ثلاث: (1) فخامة المناظر والملابس. (2) سلاسة الشعر والحادثة. (3) جلال الموسيقى وقوة تعبيرها.
أما عن الثاني فالأستاذ زكي خير من يركن إليه في هذا السبيل، وأما عن الثالث فوديعة بين يدي الملحن، وأما عن الأول فأمره موكول إلى الفرقة التي ستخرج الرواية. فيا حبذا لو أعانها المؤلف فوضع قصته في العهد الفرعوني؛ ليتسع لها مجال إعداد المناظر الفخمة الرائعة والملابس الثمينة المنتقاة.
وأريد أن أشير هنا إلى نقطة بسيطة سأعود إلى شرحها بعد قليل: تلك أن الرواية مع أنها أوپرا تكاد تخلو من الفرق المنشدة (كورس
Chorus )، ولعله وجد صعوبة في إيجادها في وسط مصري عصري تمنع التقاليد والعرف السائد من اختلاطه مع غيره، كما في الفصلين الأول والثالث، ولكن في الجو المصري القديم ممكن أن توجد الفرق المنشدة في كل فصل في الرواية وبمناسبات معقولة: فمثلا في الفصل الأول يصح أن تدخل جماعة: (1) في ثوب أصدقاء أمين بك آتين لوداعه قبل رحيله. (2) أو بعض زملائه الراحلين معه إلى الحرب. بل ويمكن للمؤلف إن شاء أن يدعو أفراد قرية أمين بك كلهم نساء ورجالا لوداعه، فيكون ثمة منظر جميل وتسدل الستار في روعة وجلال.
ويمكن مثلا في الفصل الأخير: (1) أن نرى جماعات الكهنة من قدماء المصريين يطيبون إحسان بأدعيتهم وبخورهم، ويسألون السماء شفاءها، وكل هذا في لحن بديع يأخذ بالقلوب. (2) وممكن مثلا أن تسدل الستار على لحن مفجع حزين بعد موت بطلة القصة ينشده الجميع.
كل هذا في حيز الإمكان وكل هذا يكسب الأوپرا: (1)
جوا ممتعا لدى الجمهور. (2)
ويريح أبطالها من الغناء المتصل، وسأشرح هذه النقطة أيضا. (3)
ويعطي الملحن فرصة للتنويع والإجادة.
وكل هذا ممكن أن يتم بإدخال تعديل بسيط على (الهيكل) الموضوع الآن لا يئود المؤلف الفاضل ولا يشق عليه، والأمر بين يديه ...
ثانيا:
مع اعتراف المؤلف الفاضل في كلمة «تصديره» بأن الأوپرا مجهدة بغنائها المتواصل فإنه يرهق أبطاله بالغناء. (1)
المشهد الأول من الفصل الأول بين أمين بك وإحسان مسهب طويل أخشى أن يرهق المنشدين. ثم الرسالة التي تأتي لأمين بك من صديقه أظن من الخير لو كانت كلاما مرسلا يوقع على الموسيقى؛ لأني أظن أنه من العسير على الملحن أن يضع موسيقى لأبياتها الإحدى عشر، وفي لهجة من يقرأ رسالة. هذه القطعة يجب أن لا تغنى بل يجب أن تكون طبيعية ما أمكن، وأن يلمس فيها الجمهور لهجة الرجل الذي يقرأ رسالة لا نغم الذي ينشد؛ ولذلك يجب أن تقتضب في بيتين أو ثلاثة أو توضع كلاما مرسلا. (2)
وكذلك المشهد الأول من الفصل الثالث بين أمين بك والحاج رضوان فهو طويل، ولكنه على العموم محتمل قد يسهل على أفراد الرواية القيام به دون تعب أو مشقة. (3)
أرجع إلى نقطة أشرت إليها في سياق الحديث، وتلك هي خلو الرواية من الفرق المنشدة (كورس
Chorus )، فدعا ذلك المؤلف إلى إطالة المواقف بين أفراد الرواية، ولو أتى لنا بهذه الفرق المنشدة لاستطاع أن يختصر في غناء أبطاله، فيريحهم من ناحية ويكسب روايته مظهرا جميلا من ناحية أخرى. (4)
طول البحور الشعرية التي لجأ إليها المؤلف، فإن فيها صعوبة كبرى على الملحن وعلى المغني معا، ويا حبذا لو لجأ إلى بحور صغيرة ومتغيرة من حين لآخر، وأجدني هنا مضطرا إلى أن أعجب كل الإعجاب ببعض مقطوعات الرواية: (أ)
قطعة الغناء التي تنشدها إحسان في الفصل الأول:
اسمع إذن يا حياتي
عهد الفؤاد ... ... (ب)
عمر بك:
ماذا جرى يا بني؟! «ماذا جرى يا فتاتي»؟! (ج)
أمين بك «الفصل الثاني»:
إني المقدر جهدي
فرضي وحق بلادي (د)
إحسان «الفصل الثالث»:
يا حياتي أي قلب لي هلك ... ... ... ... (5)
لست بالشاعر وما أظنني أكونه يوما، ومع ذلك إذا سمح لي المؤلف الأديب أبدت له إعجابي بسلاسة شعره وجزالته، اللهم إلا في بعض ألفاظ قليلة من السهل إبدالها، واللهم أيضا في هذا البيت من الفصل الأول، على لسان إحسان:
روحي فداؤك ما حييت فإن أمت
فلسوف تخلصك الوفاء عظامي!
ليس لي من اعتراض على هذا المعنى الجميل الذي تضمنه البيت غير أني أخشى أن يتقول عليكم دعي فيقول: إنه هو هو البيت المشهور:
فلأشكرنك ما حييت فإن أمت
فلتشكرنك أعظمي في قبرها!
هذا مجمل ما أردت قوله عن الأوپرا (إحسان) مع ملاحظة أني لم أتعرض لوضع القصة المسرحي؛ لأن الأوپرا عادة لا يتطلب في مسرحها الكثير من الدقة والتتابع.
وأقرئ سيدي المؤلف تحياتي
رد المؤلف
كان هذا الفصل الختامي الذي دبجته يراعة الأستاذ حماد آخر ما كتب تعقيبا على هذه القصة ما عدا مقدمة الأستاذ لطفي جمعه الذي أطلعته أولا على رأي الأستاذ حماد ، ويرجع إلى حسن ظن الأستاذين حماد وأبي طائلة إتحاف الأدباء بهذا الفصل النقدي الذي يصح اعتباره من خير ما يمكن الحصول عليه من رأي نقدي في مصر؛ نظرا لما عرف عن الأستاذ حماد من النزاهة والغيرة الأدبية والخبرة المسرحية. فلحضرة الكاتب الناقد ولحضرة الدكتور أبي طائلة الذي عني باستخراج هذا النقد الشكر الجزيل على هذا التعاون الأدبي.
وقد كان مرمى الأستاذ حماد في بادئ الأمر أن تكون ملاحظاته خاصة للاستفادة منها، ولكني استأذنت في نشرها؛ لأني رأيت أن نقده إنما يمثل المذهب المحافظ القديم، بينما قد عمدت في هذه الأوپرا إلى التجديد طفرة وعمدا لنستفيد من الأطوار التي مرت بها الأوپرا في أوروبا في هذا الزمن الطويل بدل أن نبدأ مراحل التقدم من أولها.
وأظن أن في بحثي الطويل المتقدم في موضوع «الأوپرا والأدب المصري» ما يغنيني عن الرد المسهب على مقال الأستاذ حماد، بيد أنه لا مفر من التعليق على ملاحظاته نقطة نقطة بإيجاز معقول مع تجنب التكرار، تاركا للقارئ الحكم بعد قراءة البحث السابق أيضا، وبذلك نخدم الأدب والفن معا بصدق وإخلاص. (1) وقائع الرواية وزمنها
النزعة الحديثة في تأليف الأوپرا لا تتشبث بالتعلق بأزمنة التاريخ القديم ولا بالمشاهد الغريبة ولا بالأحلام والخيالات، وإن كنت أميل إلى التنويع في التأليف، وسيرى الأستاذ حماد أني لن أخيب حسن ظنه وآماله في تآليفي الأخرى. ولكني لم أر موجبا للأخذ برغبته في هذه القصة بالذات؛ لأني عمدت من بادئ الأمر إلى اختيار موضوع تاريخي عصري قومي النزعة ذي أثر وطني في الجيل الحاضر، وحاولت الجمع بين الدرامة والأوپرا، وهي محاولة شاقة في التأليف الغنائي وإن بدت ميسورة لمن لا يعرفون معاناة التأليف الجدي مهما كان الأديب مطبوعا على قرض الشعر ذا موهبة قصصية.
فأما عن عصرية الموضوع والزمن للأوپرا، فمن أشهر الأمثلة الحديثة لذلك رواية (رفيق البحار
The Boatswain’s Mate ) وهي تمثل العصر الحاضر، وقد أخرجت للمرة الأولى سنة 1916، ورواية (البوهيمية
La Bohème ) وهي تمثل سنة 1830م. وأخرجت لأول مرة سنة 1896م. فكان الوقت بين زمن وقائعها وعهد إخراجها ستة وستين عاما وهو زمن ليس بالمديد، ورواية (الشرف الريفي
Cavalleria Rusticana )، فإن وقتها هو الوقت الحاضر، ورواية (فاوست
Faust ) التي تمثل بوقائعها القرن الثامن عشر وإن كانت أرقى مثال للتأليف الفلسفي البديع، وقد أخرجت للمرة الأولى في منتصف القرن التاسع عشر (سنة 1859م)، فكانت إذن عصرية في وقتها وإن كانت غريبة بموضوعها، وقس على ذلك رواية (فيدليو
Fidelio )، فقد أخرجت للمرة الأولى في سنة 1805م. ومثلت في وقائعها القرن الثامن عشر، وكذلك رواية (الطيار الهولاندي
The Flying Dutehman )، فقد أخرجت للمرة الأولى سنة 1843م. ومثلت وقائعها القرن الثامن عشر أيضا، وقس على ذلك أيضا (قصص هوفمان
The Tales of Hofmann ) التي مثلت القرن التاسع عشر وأخرجت سنة 1881م. وكل هذا لا ينفي جمال التنويع في التأليف واستيحاء التاريخ القديم، ولكني آثرت الابتداء بالنوع العصري وبالنوع الدرامي أيضا، كما آثرت تعزيز نزعة الإصلاح المسرحي المتمشية في أوروبا درءا لطوفان البهرجة والزخارف الذي كاد يغرق المسرح المصري ... وسيرى الأستاذ حماد في أوپراتي الأخرى أني شديد الغيرة على تمثيل تاريخ مصر القديم وقصص البردي، ولن تفوتني خدمة الفلسفة الكونية بجانب غيرتي على خدمة الأدب العصري في التآليف المسرحية، وإني لن أنقطع لنوع معين، فلن أكون متطرفا في المحافظة أو التجديد إلا لمناسبات تهذيبية محسوسة تستأهل ذلك التطرف.
وليس من الشاق علي الرجوع إلى حكاياتنا المتداولة في (ألف ليلة وليلة) وفي (ألف يوم ويوم) ونحوها لاقتباس مادة الأوپرا، ولكني أوثر الابتكار وأوثر الغرض الأدبي الإصلاحي، ولا أود أن يحكم علينا بجدب القرائح والكذب على التاريخ بعد أن أصبحت قدرة مؤلفينا محصورة في مسخ ما كتبه الإفرنج عنا مقتبسا من نثر سلفنا أو اعتبار تآليفهم مشقا لهم، بدل كد قرائحهم في التأليف الصادق ... وقد أخطأ الأستاذ حماد في تصوره أن الموضوع لا يهمني، إذ لا فائدة لنا من تكرار مشاهد (عايدة)، وإنما يهمني حقا أن تؤدي القصة الخدمة الوطنية التهذيبية المرجوة فضلا عن التأثير الخلقي المنتظر منها، فإرجاع زمنها إلى عهد الفراعنة يذهب بصبغتها التي أنشدها للتأثير على هذا الجيل أو بمعظمها على الأقل، وما أظن الأستاذ حمادا ينكر أن معاصرينا أكثر تأثرا بتاريخ العرب وبالتاريخ الحديث منهم بتاريخ الفراعنة.
وأما عن مشاهد القصة فقد تحدثت عنها في البحث التحليلي السابق، وفي يقيني أن الفصل الأول من الرواية يمكن إظهاره في مشهد رائع على النسق الشرقي العربي الأندلسي مثلا، حيث تتوسط الغرفة الجميلة الرحيبة أو بهو القصر فسقية صغيرة بديعة ذات فوارة شائقة، وحولها أصاصيص الأزهار، وتتدلى المصابيح الشرقية وسط الغرفة ومن جوانبها، وتتمثل فخامة الفن العربي في نقوشها وتنسيقها وتفصيلها وأثاثها، وقد تخيلت هذا المنظر غير شاك في قدرة المدير الفني؛ لأية فرقة راقية على إظهاره بأي تنويع تسمح به ظروف الفرقة. وقس على ذلك مشهد الفصل الثاني، فإنه منظر جبلي طبيعي حربي كثير الروعة. وأما منظرا الفصل الثالث فلا بد لهما من الصبغة الحزينة حتى يتم بذلك تأثير القصة، ومن العبث الفني تحويل الأذهان إلى فخامة المناظر بهما. وكم جنت المشاهد الفخمة والملابس الثمينة على روح الأوپرا، كما نشاهد ذلك على الأخص في رواية (الديك الذهبي
LE Coq D’OR ) وأمثالها، وإن كان كثيرون في مصر لا يقدرون هذه الحقيقة؛ ولهذا أعتقد أني لم أقصر في معاونة أية فرقة ممثلة على الإخراج دون نفقة باهظة، وكم من الأوپرات الأوروبية الراقية لا تتعدى مشاهدها ما قدمت بل قد لا تصل إليه؛ ذلك لأن الروح النقدية الغربية قد اتجهت حديثا اتجاها قويا نحو العناية بالدرامة قبل كل شيء آخر.
وأما عن الفرقة المنشدة أو المرتلة (Chorus) ، فالمعتاد وجودها في الأوپرات الكبرى، ولكن ظروف هذه الأوپرا لا تسمح بها، وليست من الشروط الأساسية التي تنهدم الأوپرا بغيابها. وقد استعضت عنها بنشيد الضباط والرقص في الفصل الثاني. ولا يمكن مجاراة حضرة الناقد في ملاحظته إلا إذا أبدلت القصة إبدالا (وكل ذلك من أجل فرقة المرتلين ...!) إذ لن يجتمع المشهد الريفي والفخامة التي ينشدها في مصر على الأقل ... وما أظن أني أسيء إلى الجمهور المصري بتصريحي بأنه في حاجة إلى أن يقاد، وأنه من الإساءة الكبرى إليه تغذيته بالمناظر والأصباغ الخلابة ، وصرفه عن لباب الدرامة والشعر والموسيقى الفنية الحقة. (2) الجهد الغنائي
وأما عن الخوف من إرهاق المغنين والمغنيات، فلا موجب له بشهادة رئيس إحدى الفرق الغنائية التمثيلية الكبرى في مصر (فرقة الأزبكية)؛ لأن مادة القصة متناسبة مع الأدوار، والذي لا يستطيع احتمال هذا الجهد الغنائي المتوسط ليس بصاحب حنجرة جديرة بغناء الأوپرا ... وكان نقد رئيس الفرقة المشار إليه محصورا في قصر الأدوار والروح الحزينة المتسلطة على القصة بينما الجمهور المصري أكثر ميلا إلى الطرب ... فكان جوابي أن (إحسان) على إيجازها أطول من أوپرات أخرى كثيرة، وإن تمثيلها بعناية وإتقان - إذا أعطي الغناء والموسيقى حقهما - لن يقل عن ساعتين؛ لأن مطالعة القصة تستغرق أكثر من نصف ساعة. وأما عن وضع الكلام المرسل في الأوپرا فلا أوافق عليه إلا نظما وشعرا، ولا بأس من إسقاط القافية أحيانا، ورسالة حسن بك لصديقه أمين بك هي في نسقها أقرب للنثر منها إلى النظم، فقد اخترت لنظمها بحر الخفيف ومن عادتي نظم شعري غنائيا، فما وجدت صعوبة عند النظم في إنشاء هذه القطعة مقسمة لتناسب قراءة «الآسف الحزين المتردد في تلاوتها»؛ لعلمه بأنها تحزن (إحسان) وهي تتشبث بأن يقرأها عليها.
وأما عن المشهد الأول من الفصل الثالث، فلا أعتبره طويلا بل لعل الأصلح أن يكون أطول من ذلك لولا رغبتي في الإيجاز، وإخراج القصة في ثلاثة فصول قصيرة فقط. وسبب ذلك أن مسافة الزمن بين الفصلين الثاني والثالث هي زهاء خمس سنوات وقعت في خلالها حوادث تهم أمين بك، ولا غنى له عن الإشارة إليها والاسترشاد بوفاء خادمه القديم الحاج رضوان. وبغير هذا المشهد تتفكك القصة ولا تطابق الوصف النثري مع أني حرصت بطبيعة الحال على هذه المطابقة إما تمثيلا أو إشارة، وأعتقد أنه لم يفتني شيء من هذا القبيل. (3) الفرق المنشدة
وأما عن اهتمام الأستاذ حماد بالفرق المنشدة، فأوافق عليه في حدود، ولا أوافق عليه في مواقف مثل هذه الأوپرا التي للدرامة النفوذ الأول بها، ولا ترتضيها نزعتي المحافظة على صحة التاريخ وصحة الصورة الاجتماعية بقدر الاستطاعة. وإني لم أنس ولم أتناس إراحة المغنين والمغنيات فاكتفيت بالإيجاز وأسلوب الحوار، وما أعتقد أن هذه المواقف أطول من نظيراتها في كثير من الأوپرات الغربية. وأين التعب للمغني المتفوق أو المغنية الممتازة في مثل هذا الجهد إذا قورن بالصياح الفظيع نصف ساعة مثلا على تخت، مرددين بمختلف الأنغام وفي أنفاس طويلة ما لا جدوى منه ولا فن فيه من أبيات أو كلمات سقيمة أو طقطوقة؟!
وأغلب ظني أن الأستاذ حمادا ما كان يتأثر بهذه النقطة لو قدر أن الفرق المنشدة وزخرف الملابس والمناظر، أصبحت تعد من خصائص الاستعراضات (Revues)
والهزليات الموسيقية (Musical Comedies)
غالبا، كما أصبحت الدرامة تعد قرينة للأوپرا، فقامت حركة الإصلاح أخيرا على العناية بالدرامة وبلباب الموضوع بالتعاون مع الموسيقى والغناء، وعلى طرح المظاهر الفارغة التي جعلت من الأوپرا قديما سوقا للاستهواء لا مدرسة للتهذيب الفني، حتى كان الوقت الذي أخذ فيه الأدباء المفكرون في أوروبا - لا سيما في النمسا - يحتقرون الأوپرا ويؤثرون الدرامة البحتة عليها، وما زال أثر هذا الشعور باقيا، فلو قدر الأستاذ حماد هذه النقطة وقصر انتقاده على نزعتي التجديدية التي خلقت رواية أقرب إلى ميول الأوساط المتعلمة الأوروبية لكان لنقده شيء من الرجاحة، ولكنت اقتصرت على إجابته بأنه من مصلحتنا الأدبية إجراء هذه التجربة في مصر أيضا.
بقي لمدير الفرقة التمثيلية إن كان مقيدا لجوقة منشدة أن يسأل في حق: ماذا يفعل بها؟ والجواب سهل، فرواية كهذه لا تمثل كل ليلة، وعلى فرض تمثيلها باطراد فمن السهل أن تسبقها أوپرا صغيرة في فصل واحد مثل أوپرا (أبو حسن
Abu Hassan ) من وضع هيمر (Hiemer) ، وتلحين كارل ماريا (Carl Maria)
ووبر (weber)
وأضرابها، ومن الميسور أن يقوم بمثل هذه الأوپرا الهزلية الصغيرة أفراد الفرقة المنشدة دون الالتجاء إلى أحد من كبار الممثلين المغنين لتمثيل (إحسان). وبذلك تعرض في الليلة الواحدة أوپرتان متنوعتان: إحداهما هزلية والأخرى درامية، وما أشك في أن ذلك يعود على المسرح بفائدة جزيلة. (4) النظم
وأما عن بحور القصة فهي مختلفة منوعة، ومن عادتي غالبا - كما أشرت سالفا - أن أنظم متغنيا، فنظمي نتيجة ميلي الغنائي، وليست العبرة بطول البحور أو قصرها، وإنما بمناسبتها للمواقف وبجريان الألحان بسلاسة وعذوبة عند إنشادها. ونسبة البحور الطويلة في القصة عند مقارنتها بغيرها ضئيلة على كل حال. وإذا تأملنا مبدأها مثلا وجدناها مستهلة ببحر الكامل، وهو من ألطف البحور الغنائية في الشعر العربي وكثيرا ما أبدع فيه المرحوم الشيخ سلامة حجازي وكذلك الشيخ إبراهيم الأسكندري والسيدة منيرة المهدية والشيخ أحمد الشامي، وسواهم من مشاهير المغنين والمغنيات على خشبة المسرح. (5) المعاني الشعرية
وأما عن المعاني فهي وليدة العواطف والمواقف، وأشكر للأستاذ حماد رضاءه عن الأساليب التي اتبعتها في وقت يشق على الأديب إرضاء الأذواق المتباينة سواء لغويا أو أدبيا. فبينما يجد مثلا محمد إبراهيم بك هلال صاحب مجلة (النواب) يعتبرني مفسدا للأذواق وللغة، يجد الأب الكرملي صاحب مجلة (لغة العرب) يعدني خادما مجددا لها لن تجحد خدمته ...! وكيفما كانت حسناتي وسيئاتي فجهدي جهد المخلص الذي ينتقد نفسه بنفسه قبل أن ينقده غيره، ويعمل دائما - في غير قناعة - لبلوغ أقصى ما يستطاع من إتقان دون جمود أو تقليد؛ لذلك أشكر للأستاذ حماد أيضا لفته نظري إلى البيت (روحي فداؤك ...) الذي فاتني وفات غيري من الأدباء الذين اطلعوا على القصة، وقد نقحته هكذا:
روحي فداؤك يا (أمين) فإن مضت
فلسوف تخلصك الوفاء عظامي
تجنبا لتسرب ألفاظ المحفوظ القديم المتروك إلى نظمي دون قصد، وهو ما قد يقع على غير انتباه وإن كان ذلك بنسبة ضئيلة جدا لن تقدر في شعري الكثير.
1
وما يشق علي حذف هذا البيت (وإن أدى معنى آخر غير معنى البيت القديم) وإبداله بسواه، ولكنه جاء عفوا في محله، وكان أنسب ما يقال في هذا المقام، فآثرت إبقاءه وما يهمني بعد ذلك أن ينسب إلي أو أن يعد اقتباسا، فليس من طبعي التقليد ولا إنكار فضل غيري كبيرا كان أو صغيرا. وأقرئ سيدي الناقد تحياتي وأكرر شكراني.
أحمد زكي أبو شادي
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা