الجزء الأول
1 - اليأس والاهتمام
2 - عشاء ثنائي
3 - لقاء مزعج
4 - فطور مع بياتريس
5 - تقديم السيدة وينهام جاردنر
6 - أسئلة وأجوبة
7 - السيد بريتشارد من نيويورك
8 - فتنة امرأة
9 - الحبكة تزداد تعقيدا
10 - متعة المعركة
11 - عرض مذهل
12 - تافرنيك يزل
13 - زيارة مسائية
14 - تحذير من السيد بريتشارد
15 - استياء عام
16 - عرض زواج
17 - الشرفة في إيمانو
18 - مغامرة منتصف الليل
19 - تورط تافرنيك
20 - لقاء ممتع
21 - نصيحة سديدة
22 - عشاء مع إليزابيث
23 - في مهمة شهامة
24 - أقرب إلى المأساة
25 - المجنون يتحدث
26 - أزمة
27 - تافرنيك يختار
الجزء الثاني
1 - آفاق جديدة
2 - الحياة البسيطة
3 - لقاء الأصدقاء القدامى
4 - أخبار بريتشارد السارة
5 - بياتريس ترفض
6 - تأخر الفهم
7 - في بلد بكر
8 - العودة إلى الحضارة
9 - على الدوام
الجزء الأول
1 - اليأس والاهتمام
2 - عشاء ثنائي
3 - لقاء مزعج
4 - فطور مع بياتريس
5 - تقديم السيدة وينهام جاردنر
6 - أسئلة وأجوبة
7 - السيد بريتشارد من نيويورك
8 - فتنة امرأة
9 - الحبكة تزداد تعقيدا
10 - متعة المعركة
11 - عرض مذهل
12 - تافرنيك يزل
13 - زيارة مسائية
14 - تحذير من السيد بريتشارد
15 - استياء عام
16 - عرض زواج
17 - الشرفة في إيمانو
18 - مغامرة منتصف الليل
19 - تورط تافرنيك
20 - لقاء ممتع
21 - نصيحة سديدة
22 - عشاء مع إليزابيث
23 - في مهمة شهامة
24 - أقرب إلى المأساة
25 - المجنون يتحدث
26 - أزمة
27 - تافرنيك يختار
الجزء الثاني
1 - آفاق جديدة
2 - الحياة البسيطة
3 - لقاء الأصدقاء القدامى
4 - أخبار بريتشارد السارة
5 - بياتريس ترفض
6 - تأخر الفهم
7 - في بلد بكر
8 - العودة إلى الحضارة
9 - على الدوام
إغواء تافرنيك
إغواء تافرنيك
تأليف
إدوارد فيليبس أوبنهايم
ترجمة
هبة عبد العزيز غانم
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
الجزء الأول
الفصل الأول
اليأس والاهتمام
وقفا على سطح نزل بلندن في حي ميدان راسل - إحدى تلك الاستراحات القاتمة، التي يلجأ إليها القلة البائسة من عابري المحيط الأطلنطي والبريطانيون الفقراء. كانت الفتاة، التي مثلت النوع الأول، تتكئ على السور الواهن، بوجه تغمره الكآبة وعينين جامدتين كما لو كانت تثبتهما على المشهد البانورامي المحبط متأملة إياه. ووقف الشاب، الإنجليزي بلا أدنى شك، مستندا إلى المدخنة على بعد بضع أقدام، يراقب رفيقته. لم يكسر حاجز الصمت بينهما شيء بعد، منذ أن تسللت من غرفة المعيشة المتهالكة في الدور السفلي، حيث كانت سيدة متوردة تصدح بصوت أجش بأغنية قصيرة من أغاني قاعات الموسيقى. ودون أن ينبس ببنت شفة سار هو في أعقابها. كانا شبه غريبين، باستثناء كلمة أو اثنتين من التحية التي تقتضيها آداب اللياقة في المكان. ومع ذلك فقد قبلت تجسسه عليها دون أي اعتراض بكلمة أو بنظرة. لقد تبعها لغرض محدد للغاية. كان يسائل نفسه، هل استنتجت هذا الغرض؟ لم تكن قد أدارت رأسها أو تعطفت عليه بأي سؤال أو ملاحظة منذ أن شق طريقه في أعقابها مباشرة عبر الباب المؤدي إلى السطح. ومع ذلك فقد تراءى له أنها لا بد قد خمنت.
أسفل منهما، امتدت أسطح منازل، وأبراج ومداخن مكللة بالدخان، بعيدا إلى الأفق الغامض المخضب بحمرة الدم، في منظر بانورامي بدا مثل صورة متخيلة لمدينة مرسومة. حتى وهما يقفان هناك، تلطخت السماء بلون أعمق، وبدأت الشمس الغاضبة تغرق في كتل السحب الكثيفة المتراكمة. كانت الفتاة تراقب المشهد بتجهم، وفي الوقت نفسه باستغراق واهتمام. كانت عيون رفيقها لا تزال مثبتة كلية عليها بنظرة ناقدة متفحصة. تساءل من تكون؟ لماذا غادرت بلدها لتأتي إلى مدينة يبدو أنها لا يوجد لها فيها أي أصدقاء، ولا مصالح؟ في ذلك النزل الذي يلجأ إليه المسافرون المنكوبون، كادت تكون شخصية غير ملحوظة، صامتة، محجمة عن المحادثة، ولم تكن جذابة بأي شكل من الأشكال. ملابسها، على الرغم من أنه بدا أنها فصلت على يد واحدة من خياطات الدرجة الأولى، فقد كانت رثة وغير عصرية، حتى إن أناقتها المفرطة كانت في حد ذاتها مثيرة للشفقة. كانت نحيفة، لكنها لا تخلو من خفة حركة حيوية تتناقض دائما مع عينيها المتعبتين، وإحساسها الدائم بالاكتئاب. وعلاوة على ذلك، كانت متمردة. كان هذا واضحا في أسلوبها، وظاهرا في تعبيراتها العدائية المتجهمة، وفي عينيها اللتين تشعان نارا. كانت تمسك بوجهها الطويل، الذي يميل إلى النحافة، بين يديها، بينما يستقر مرفقاها على حاجز الشرفة المبني بالطوب. حدقت في ذلك العالم من الضباب الدامي، والمباني البشعة القبيحة، والألوان الغريبة الفاقعة؛ وأنصتت إلى مزيج فظ صارخ متواصل من الأصوات، كأنه أنين عالم عار - وكانت طوال الوقت تبدو وكأنها تكره الشيء الذي تنظر إليه.
قرر تافرنيك، الذي لم يرض فضوله بشأن رفيقته بعد، أن الوقت قد حان للحديث. وتقدم خطوة إلى الأمام نحو السطح. وحتى ذلك الحين كان مترددا إلى أن أقدم في النهاية على التقدم إلى الأمام. فيما يتعلق بمظهره، لم يكن هناك ما يلفت النظر فيما عدا الإحساس العام بالتصميم الذي ميز ملامحه غير المميزة. كان طوله يزيد بقليل عن المتوسط، وكان عريض المنكبين، ذا شعر أسود وكثيف لدرجة يصعب عليه معها تصفيفه بشكل أنيق. كان يرتدي قميصا مهترئا نوعا ما وربطة عنق غير مناسبة؛ وكان حذاؤه ثقيلا غير متقن الصنع، وكان يرتدي أيضا بذلة من الملابس الجاهزة ويبدو امرأ يعرف أنها جاهزة ولم تحك له خصوصا ويرضى بها كما هي. سوف يجده الأشخاص العصبيون أو الحساسون، بلا شك، شخصا مستفزا، باستثناء أنه كان يتمتع بهبة معينة منحه الله إياها - تركيز يكاد يضاهي تركيز نابليون على أمور اللحظة العابرة - وكانت هذه الهبة في حد ذاتها مثيرة للإعجاب، وأدت بطريقة ما إلى التقليل من حدة نقده.
تكلم أخيرا وقال: «فيما يتعلق بهذا السوار!»
حركت رأسها ونظرت إليه. لو أنه كان شابا أقل ثقة، لاستدار وهرب. ولكن ليس تافرنيك من يفعل ذلك. عندما يكون متأكدا من رسوخ موقفه، لا يمكن أن يتزحزح عنه. كانت عيناها تقدحان شررا، لكن ذلك لم يهز فيه شعرة.
واصل حديثه قائلا: «رأيتك تأخذينه من المنضدة الصغيرة بجوار البيانو، كما تعلمين. كان تصرفا أهوج للغاية. كانت السيدة فيتزجيرالد تبحث عنه قبل أن أبلغ السلم. أتوقع أنها قد اتصلت بالشرطة بالفعل الآن.»
أدخلت يدها ببطء إلى أعماق جيبها وأخرجتها. كان ثمة شيء يومض للحظة فوق رأسها. أمسك الشاب بمعصمها في الوقت المناسب بقبضة حديدية حقيقية. ثم ومضت في عينيها نيران الشر، وأضاء بياض أسنانها، وأخذ صدرها يعلو ويهبط في عاصفة من التنهدات الصامتة الغاضبة. كانت عيناها جافتين ولا تزال عاجزة عن الكلام، لكنها رغم كل ذلك كانت كالنمرة. كونا معا صورة ظلية غريبة فوق أسطح المنازل، مع خلفية السماء الفارغة، وأقدامهما تغوص في السطح الدافئ للنزل.
قال: «أعتقد أن من الأفضل أن آخذه. اتركيه.»
تخلت أصابعها عن السوار ... كان شيئا مبهرجا سيئ التصميم من الياقوت والماس. فنظر إليه باستهجان.
قال وهو يدسه في جيبه: «إنه لشيء قبيح لا يستحق أن تدخلي السجن من أجله. لقد كان فعلا غبيا، على أية حال، كما تعلمين. لم يكن من الممكن أن تفلتي من العقاب، إلا إذا ...» وأضاف وهو ينظر من جديد إلى حاجز الشرفة كما لو كانت قد راودته فكرة مفاجئة: «إلا إذا كان لديك شريك بالأسفل.»
سمع صوت رفرفة تنورتها ولكنه وصل في الوقت المناسب تماما. لم يكن ثمة شيء يمكن أن ينقذها، في الواقع، بخلاف ما أبداه من قدر كبير من حضور الذهن وقدرة هائلة على استغلال القوة كانا يفاجئان معارفه طول الوقت. أدى صراعهما على حافة السطح إلى زحزحة طوبة من السور، فاندفعت ساقطة إلى الشارع. توقف كلاهما لمشاهدتها، بينما لا تزال ذراعاه تمسكانها وإحدى قدميه تضغط على قضيب حديدي. وفور أن رأيا الطوبة تسقط دون أن تصيب أحدا في الطريق غمر هذا الشاب البارد الطبع شعور جديد. فلأول مرة في حياته، أدرك أنه من الممكن أن يشعر ببعض العاطفة الممتعة في القرب الشديد من كائن من الجنس الآخر. لذلك، فعلى الرغم من أنها توقفت عن المقاومة، فقد أبقى على ذراعيه تطوقانها، ناظرا إلى وجهها باهتمام شديد، ولكن على نحو تحليلي أكثر من كونه عاطفيا، وكأنه يسعى لاكتشاف معنى هذا الخفقان الغريب في قلبه. وهي نفسها، كما لو كانت منهكة، بقيت سلبية تماما، ترتجف قليلا في قبضته وتلتقط أنفاسها مثل حيوان مطارد حانت ساعته الأخيرة. التقت عيونهما. بعدها انتزعت نفسها من قبضته مبتعدة.
قالت عمدا: «أنت شخص بغيض ... شخص بغيض متطفل. أنا أمقتك.»
أجاب: «أعتقد أننا سننزل الآن.»
رفع الباب المؤدي إلى السطح ونظر إليها نظرة ذات معنى. لملمت تنورتها ومرت عبره دون أن تنظر إليه. نزلت بخفة على السلم الخشبي ونزلت دون تردد أيضا مجموعة من درجات سلم العلية غير المفروشة بالسجاد. ومع ذلك، انتظرته عند منبسط السلم بتردد واضح.
سألت دون أن تنظر إليه: «هل سترسل في طلب الشرطة؟»
أجاب: «لا.» «ولم لا؟» «إذا كنت قد قصدت الإبلاغ عنك، فقد كان علي أن أخبر السيدة فيتزجيرالد في الحال بأنني قد رأيتك تأخذين سوارها، بدلا من أن أتبعك إلى السطح.»
واصلت وهي لا تزال تشيح بنظرها عنه، ولا تزال نبرة صوتها لا تنم عن أدنى درجات التقبل: «هل تمانع في إخباري بما تنوي فعله إذن؟»
أخرج السوار من جيبه ووازنه على إصبع يده.
قال: «سأقول إنني أخذته كنوع من الدعابة.»
فترددت.
وحذرته قائلة: «السيدة فيتزجيرالد لا تتميز بحس الدعابة إلى هذه الدرجة.»
ووافقها على ذلك قائلا: «ستكون غاضبة جدا بالطبع، لكنها لن تصدق أنني قصدت سرقته.»
تحركت الفتاة ببطء خطوات قليلة.
قالت متجهمة وهي لا تزال تشيح بوجهها عنه: «أعتقد أنه ينبغي لي أن أشكرك. لقد كنت مهذبا جدا بحق. أنا ممتنة للغاية.»
سألها: «ألن تنزلي؟»
أجابت: «ليس الآن. سأذهب إلى غرفتي.»
نظر نحو منبسط السلم الذي وقفا عليه، إلى الأرضية البائسة غير المفروشة بالسجاد، والأبواب المطلية على نحو رديء، التي برز عليها الورنيش العتيق في بثور، وفوضى علب الماء الساخن المتهالكة، وممسحة، ومزيج من المكانس والخرق ملقاة جميعا معا في أحد الأركان.
وقال: «لكن هذه أماكن إقامة الخدم بالتأكيد.»
قالت له، وهي تدير مقبض أحد الأبواب وتتوارى خلفه: «إنها جيدة بما يكفي بالنسبة إلي؛ غرفتي هنا.» بدت له الإدارة الفورية للمفتاح في الباب شيئا فظا بعض الشيء.
هبط تافرنيك ثلاث مجموعات من درجات السلم والسوار في يده، ثم دخل غرفة المعيشة الخاصة بالفندق الذي تديره السيدة ريثبي لورانس، التي شغل زوجها يوما ما منصبا مرموقا في الهيئة التجارية لبلده، وقد عرف ذلك من تكرارها الدائم لهذه الحقيقة. كان من الواضح أن الصخب والانزعاج الناجمين عن اختفاء السوار في ذروتيهما. كان هناك ما لا يقل عن عشرة أشخاص في الغرفة ، معظمهم كانوا واقفين. وكانت السيدة فيتزجيرالد هي الشخصية المحورية بينهم جميعا، وكانت ضخمة ومتوردة، ذات شعر أصفر بدا واضحا من درجات لونه المتعددة أنها قد صبغته بالبيروكسيد؛ سيدة من النوع الجريء، كانت قد تركت بصمتها في وقت ما في قاعات الموسيقى، لكنها الآن متزوجة زواجا سعيدا من وكيل تجاري متجول، نادرا ما يكون موجودا. وكانت السيدة فيتزجيرالد تتحدث.
قالت مؤكدة بشدة: «في أي نزل محترم يا سيدة لورانس، قد تحدث السرقات أحيانا، أعترف بذلك، في أماكن إقامة الخدم، وفي ظل كل الإغراءات التي تغويهم، هؤلاء الكائنات المسكينة، ليس هذا بشيء غريب يستحق التساؤل بشأنه. ولكن لم يحدث لي شيء مثل هذا من قبل ... أن تؤخذ مني مجوهرات كانت أمام ناظري تقريبا في غرفة معيشة في نزل من المفترض أن يكون جيد الإدارة. وتذكري أنه لم تدخل الغرفة أي خادمة من اللحظة التي خلعتها فيها إلى أن قمت من على البيانو ولم أجدها في مكانها. إنهم نزلاؤك الذين ينبغي أن تعتني باختيارهم، يا سيدة لورانس، وإن كان يؤسفني قول ذلك.»
وهنا تمكنت السيدة لورانس، خلال اللحظة التي عانت فيها الضحية من صعوبة في التقاط أنفاسها، من أن تقاطعها محتجة وعيناها مغرورقتان بالدموع.
واحتجت باستضعاف قائلة: «أنا متأكدة تماما من عدم وجود أي شخص في هذا النزل يمكن أن يحلم بسرقة أي شيء مهما كانت قيمته. أنا أدقق كثيرا بشأن اختيار زبائني.»
واصلت السيدة فيتزجيرالد بذلاقة لسان متزايدة: «قيمته، حقا! أود أن أفهمك أنني لست من أولئك الذين يرتدون مجوهرات عديمة القيمة. لقد كلفني هذا السوار خمسة وثلاثين جنيها، ولو كان زوجي في البلد، لكنت أريتك الإيصال.»
ثم حدثت مقاطعة أثارت انتباههم بطريقة تكاد تكون تراجيدية. توقفت السيدة فيتزجيرالد فجأة عن حديثها المتدفق، بينما لا يزال فمها مفتوحا، ووقفت وعيناها المكحلتان مثبتتان على الشخص المتبلد الحس الرابط الجأش الذي يقف في المدخل. وكان الجميع يحدقون في الاتجاه نفسه. كان تافرنيك يحمل السوار في راحة يده.
كرر قولها: «خمسة وثلاثين جنيها! لو كنت أعرف أنه يساوي كل هذا المبلغ، ما كنت لأتجرأ على لمسه، في رأيي.»
شهقت السيدة فيتزجيرالد قائلة: «أنت ... أنت أخذته!»
اعترف قائلا: «أخشى أنها كانت مجرد مزحة خرقاء. أعتذر، يا سيدة فيتزجيرالد. آمل أنك لم تتخيلي حقا أنه قد سرق.»
كان إنهاء الواقعة بهذه الطريقة مخيبا للآمال. أصيب معظم الأشخاص غير المعنيين بشكل مباشر بالإحباط؛ فقد سلبت منهم الإثارة، وأحبطت آمالهم في حدوث خاتمة مأساوية. أما السيدة لورانس فقد بدا الارتياح بوضوح على وجهها المرهق. ومن ناحية أخرى، انتزعت السيدة ذات الشعر الأصفر، التي نجحت الآن في ضبط أنفاسها أثناء شعورها بأقصى درجات الغضب، السوار من أصابع الشاب وقد توردت وجنتاها بلون أرجواني، وكان من الواضح أنها تقاوم رغبتها الملحة في لكم أذنيه.
صاحت بقسوة: «ما تقوله لا يرقى حتى لأن يكون مزحة! أنا أخبرك بأنني لا أصدق كلمة مما قلت. أخذته على سبيل المزاح، حقا! أتمنى فقط لو أن زوجي كان هنا؛ كان سيعرف ماذا يفعل.»
ردت السيدة لورانس بحدة: «زوجك لم يكن ليستطيع أن يفعل أكثر من استعادة سوارك يا سيدتي. كل هذه الضجة ونعت الجميع باللصوص أيضا! لو أني نزاعة إلى الشك على هذا النحو، لكنت خجلت من نفسي.»
حدقت السيدة فيتزجيرالد بغطرسة في مضيفتها.
وصرحت وعيناها مثبتتان على حلية من الكهرمان الأسود تتدلى من عنق المرأة الأخرى: «من الطبيعي جدا أن يقول هذا الشيء أولئك الذين لا يملكون أي مجوهرات ولا يعرفون قيمتها. هذا ما سأقوله، وسوف تسمعينه مني من الآن فصاعدا. أنا لا أصدق مزحة الديك والثور هذه التي قصها علينا السيد تافرنيك. هؤلاء الذين أخذوا السوار من تلك الطاولة كانوا يقصدون الاحتفاظ به، إلا أنهم لم يمتلكوا الشجاعة لفعل ذلك.» واصلت السيدة بقوة: «وأنا لا أشير إليك يا سيد تافرنيك؛ لأنني لا أعتقد أنك أخذته، على الرغم من كل حديثك عن المزاح. وهؤلاء الذين قد تحميهم لن يستغرق الأمر مني أكثر من تخمينين لاسميهما، ولا بد أن يكون دافعك واضحا للجميع. الفتاة الوقحة الحقيرة !»
قال تافرنيك: «أنت تثيرين نفسك دون داع، يا سيدة فيتزجيرالد. دعيني أؤكد لك أنني أنا من أخذت سوارك من هذه المنضدة.»
نظرت إليه السيدة فيتزجيرالد بازدراء.
وتساءلت: «هل تتوقع مني أن أصدق قصة كهذه؟»
رد تافرنيك: «ولم لا؟ إنها الحقيقة. أنا آسف أنك انزعجت إلى هذه الدرجة ...» «هذه ليست الحقيقة!»
المزيد من الإثارة! دخول آخر غير متوقع! مرة أخرى تجدد الاهتمام بالقضية. ومرة أخرى شعر المتفرجون أنهم لن يسلبوا مأساتهم المثيرة. مالت سيدة عجوز ذات خدين صفراوين وعينين بلون أسود فاحم إلى الأمام ويدها على أذنها، حريصة على عدم تفويت أي مقطع لفظي مما كان قادما. عض تافرنيك شفته؛ لقد كانت الفتاة التي كانت معه فوق السطح هي من دخلت الغرفة.
واصلت الفتاة بنبرة هادئة وواضحة: «ليس لدي شك في أن تخمين السيدة فيتزجيرالد الأول كان صحيحا. أنا أخذت السوار. لم آخذه على سبيل المزاح، ولم آخذه لأنني معجبة به ... أعتقد أنه قبيح إلى حد بشع. أخذته لأنني لم يكن لدي مال.»
توقفت والتفتت ناظرة إليهم جميعا، بهدوء، ولكن كان ثمة شيء في وجهها جعلهم جميعا ينكمشون. وقفت حيث سلط الضوء على ثوبها الأسود الرث وقبعتها ذات المظهر الكئيب. كانت وجنتاها الغائرتان شاحبتين، والهالات السوداء تحت عينيها واضحة للغاية؛ ولكن على الرغم من مظهرها الهش، فقد وقفت برباطة جأش وهدوء، بل ربما بعزة نفس. لا بد أن تكون قد مرت عشرون أو ثلاثون ثانية وهي واقفة هناك، تزرر ببطء قفازيها. لم يحاول أحد كسر حاجز الصمت. لقد هيمنت عليهم جميعا - شعروا أن لديها المزيد لتقوله. حتى السيدة فيتزجيرالد شعرت بثقل في لسانها.
وتابعت: «لقد كانت محاولة خرقاء. لم يكن لدي أي فكرة عن المكان الذي أبيع فيه هذا الشيء، لكن، مع ذلك، فإني أعتذر منك، يا سيدة فيتزجيرالد، للقلق الذي لا بد أنه قد سببه لك أخذي لملكيتك القيمة» أضافت ناظرة إلى صاحبة السوار، التي توهج خداها مرة أخرى غضبا من الازدراء في نبرة صوت الفتاة. «أفترض أنني يجب أن أشكرك يا سيد تافرنيك، أيضا، لجهودك الحسنة النية للحفاظ على ماء وجهي. في المستقبل، سوف تكون هذه مسئوليتي وحدي. هل لدى أي منكم أي شيء آخر ليقوله لي قبل أن أذهب؟»
بطريقة أو بأخرى، لم يكن لدى أحد أي شيء ليقوله. كانت السيدة فيتزجيرالد تستشيط غضبا ولكنها اكتفت بالتعبير عن سخطها بإصدار صوت من أنفها. كان ردها حاضرا بما فيه الكفاية في الغالب، ولكن كانت هناك نظرة في عيني هذه الفتاة جعلتها مسرورة بمجرد ابتعادها. قامت السيدة لورانس بمحاولة واهنة قبل أن تذهب.
استهلت حديثها قائلة: «أنا متأكدة، أننا جميعا آسفون لما حدث ولأنك يجب أن تذهبي ...» ثم أضافت على عجل: «هذا لا يعني أن الأفضل بالطبع أن تذهبي، في ظل هذه الظروف. فيما يتعلق ...»
قاطعتها الفتاة بهدوء: «لست مدينة لك بأي شيء. يمكنك أن تهنئي نفسك على ذلك، فلو كنت مدينة لك بأي شيء، لما حصلت عليه. ولم أسرق أي شيء آخر.»
سألت السيدة لورانس: «ماذا عن أمتعتك؟»
ردت الفتاة: «عندما أحتاج إليها، سأرسل في طلبها.»
أدارت ظهرها لهم وقبل أن يدركوا ذهبت. كان لديها، حقيقة، شيء من العظمة. لقد جاءت لتعترف بمسئوليتها عن سرقة السوار وتركتهم جميعا وهم يشعرون كما لو كانوا أطفالا قد تم زجرهم. كانت السيدة فيتزجيرالد هي أول من جمعت شتات أمرها، بمجرد أن أزيل سحر وجود الفتاة. وشعرت بأنها بدأت تتأجج مرة أخرى مع تجدد الإحساس بالسخط.
صاحت وهي تنظر في أرجاء الغرفة: «لصة! مجرد لصة عادية أدانت نفسها! هذا هو اسمها بالنسبة إلي، ولا شيء غير ذلك. وقد وقفنا جميعا هنا مثل مجموعة من الأطفال الصغار. عجبا، لو أني قمت بما يتوجب علي فعله، لكان ينبغي لي أن أغلق الباب وأرسل في طلب الشرطة.»
أعلنت السيدة لورانس: «فات الأوان الآن، على أي حال. لقد ذهبت إلى الأبد، بلا شك. خرجت من النزل مباشرة. سمعتها توصد الباب الأمامي بعنف.»
قالت السيدة فيتزجيرالد: «وهذا أفضل أيضا. لا نريد أمثالها هنا ... ليس أمثال هؤلاء من تكون لديهم أشياء ذات قيمة. أراهن أنها لم تترك أمريكا إلا بسبب.»
رفعت سيدة ضئيلة الجسم ذات شعر رمادي عينيها من أعمال الإبرة، ولم تكن قد تحدثت من قبل، كما أنها كانت نادرا ما تشترك في أي نقاش على الإطلاق، ونظرت إليها. كانت فقيرة للغاية ولكنها كانت تتمتع بميول خيرية.
قالت بهدوء: «أتساءل ما الذي دفعها إلى السرقة.»
أعلنت السيدة فيتزجيرالد عن قناعة: «إنها لصة بالفطرة، إنسانة سيئة حقا. أعتقد أنها واحدة من المخادعين الغشاشين.»
تنهدت السيدة الضئيلة الجسم.
وتابعت: «عندما كنت أيسر حالا، كنت أساعد في مطعم للفقراء في بوبلار. لم أنس قط نظرة معينة اعتدنا رؤيتها من حين لآخر في وجوه بعض الرجال والنساء. اكتشفت ماذا كانت تعني ... كانت تعني الجوع. في الآونة الأخيرة، مرت الفتاة التي خرجت للتو بجانبي مرة أو مرتين على السلم، وكادت تخيفني. كانت لديها النظرة نفسها في عينيها. لقد لاحظت ذلك بالأمس ... كان ذلك قبل العشاء مباشرة، أيضا ... لكنها لم تنزل مطلقا.»
قالت السيدة لورانس بتفكر: «لقد دفعت الكثير مقابل غرفتها ودفعت زيادة مقابل الوجبات. لم تكن لتحصل على أي وجبة طعام ما لم تدفع ثمنها في الحال. لأصدقك القول، كنت أشعر بعدم الارتياح تجاهها. لم تدخل غرفة الطعام لمدة يومين، ومما قالوه لي لا توجد دلائل على أنها أكلت أي شيء في غرفتها. أما بشأن حصولها على طعام من الخارج، فلماذا تفعل ذلك؟ سيكون الأرخص لها أن تحصل عليه من هنا أكثر من أي مكان آخر، هذا إن كان لديها أي أموال على الإطلاق.»
كان ثمة صمت غير مريح. نظرت السيدة العجوز الضئيلة الجسم إلى أسفل الشارع في الظلام الحالك الذي ابتلع الفتاة.
وقال أحدهم: «أتساءل عما إذا كان السيد تافرنيك يعرف أي شيء عنها.»
لكن تافرنيك لم يكن في الغرفة.
الفصل الثاني
عشاء ثنائي
لحق بها تافرنيك في شارع نيو أكسفورد وسار على خطوتها على الفور. لم يضع أي وقت على الإطلاق في التمهيد والمقدمات.
قال: «سأكون سعيدا إذا أخبرتني باسمك.»
كانت نظرتها الأولى إليه شرسة بما يكفي لإثارة الرعب في نفس أي شخص آخر. أما بالنسبة إلى تافرنيك، فلم يكن لها أي تأثير على الإطلاق.
تابع قائلا: «لست مضطرة إلا إذا كنت تحبين أن تخبريني بالطبع. لكنني أتمنى أن أتحدث إليك بضع لحظات وأعتقد أنه سيكون من الأنسب إذا خاطبتك باسمك. لا أتذكر أنني سمعته يذكر في بلينهايم هاوس، والسيدة لورانس، كما تعلمين، لا تقدم نزلاءها.»
بحلول هذا الوقت كانا قد قطعا عشرين خطوة أو نحوها معا. لم تعره الفتاة، بعد نظرتها الأولى الغاضبة له، أي انتباه على الإطلاق اللهم إلا تسريع خطوتها قليلا. ومع ذلك، ظل تافرنيك بجانبها، لا يظهر أدنى شعور بالحرج أو الانزعاج. بدا أنه راض تماما عن الانتظار ولم تبد عليه أدنى أمارات رجل يمكن إبعاده بسهولة. أما هي، فتحولت فجأة ودون سابق إنذار من نوبة غضب عارمة إلى حالة تفكه شبه هستيرية.
قالت: «أنت شخص أحمق سخيف. ابتعد من فضلك. لا أريدك أن تمشي معي.»
ظل تافرنيك جامدا. وتذكرت فجأة تدخله نيابة عنها.
وقالت: «إذا كنت مصرا على المعرفة، كان اسمي في بلينهايم هاوس بياتريس بيرناي. أنا ممتنة لك كثيرا لما فعلته من أجلي هناك، لكنه أمر وانتهى. لا أرغب في الحديث معك، وأعترض على رفقتك تماما. من فضلك اتركني حالا.»
أجاب: «أنا آسف، لكن هذا غير ممكن.»
كررت بتساؤل: «غير ممكن؟»
هز رأسه.
قال بتأن: «ليس لديك أي مال، ولم تتناولي العشاء، وأظنك ليس لديك أدنى فكرة عن وجهتك.»
امتقع وجهها مرة أخرى من الغضب.
أصرت قائلة: «حتى لو كانت هذه هي الحقيقة، فقل لي ما الذي يهمك في الأمر؟ إن تذكيرك لي بهذه الحقائق ما هو إلا محض وقاحة.»
قال، وما زالت لم تظهر عليه أدنى علامات الانزعاج: «أنا آسف لأنك تنظرين إلى الأمر من هذا المنظور. إذا كنت لا تمانعين، فسوف نؤجل المناقشة في الوقت الحالي. هل تفضلين مطعما صغيرا أم ركنا في مطعم كبير؟ هناك موسيقى في مطعم فراسكاتي لكن ليس هناك كثير من الناس في المطاعم الأصغر.»
استدارت نصف استدارة على الرصيف ونظرت إليه بثبات. بدأت شخصيته في النهاية تثير اهتمامها. فكه المربع وحديثه المحسوب كانا مؤشرين لشخصية أقل ما يقال عنها أنها غير عادية. اكتشفت بعض الصفات التي لا تقهر تحت مظهره الخارجي غير المميز على الإطلاق.
سألته: «هل أنت مثابر هكذا على كل شيء في الحياة؟»
أجاب: «ولم لا؟ أحاول دائما أن أكون متسقا.» «ما اسمك؟»
أجاب على الفور: «ليونارد تافرنيك.» «هل أنت ميسور الحال ... أعني ميسور الحال إلى حد ما؟» «لدي دخل كاف للغاية.» «هل لديك من تعول؟»
قال: «لا أحد على الإطلاق. أنا سيد نفسي بكل ما في الكلمة من معنى.»
ضحكت بطريقة غريبة.
وقالت: «إذن عليك أن تدفع ثمن إصرارك ... أعني أنني ربما أسلب منك جنيها مثل أصحاب المطعم.»
أصر قائلا: «يجب أن تخبريني الآن إلى أين تريدين أن تذهبي. لقد تأخر الوقت.»
أجابت: «أنا لا أحب هذه الأماكن الغريبة. أفضل أن أذهب إلى غرفة الشواء في مطعم جيد.»
فأخبرها: «سنستقل سيارة أجرة. ليس لديك اعتراض، أليس كذلك؟»
هزت كتفيها.
وقالت: «إذا كان لديك المال ولا تمانع في إنفاقه، فأنا أعترف بأنني قد اكتفيت من المشي. إلى جانب أن مقدمة حذائي مهترئة وأجدها مؤلمة. بالأمس مشيت عشرة أميال محاولة العثور على رجل كان يجهز لإقامة حفل موسيقي من أجل الضواحي.»
سألها وهو يلوح لسيارة أجرة: «وهل وجدته؟»
أجابت بلا مبالاة: «نعم، لقد وجدته. حدث معي السيناريو المعتاد نفسه. سمعني أغني وحاول تقبيلي ووعدني بأن يتصل بي. لا أحد يرفض أي شيء في مهنتي، كما ترى. إنهم يعدون بأن يتصلوا بك لإعلامك.» «هل أنت مغنية أم ممثلة؟»
قالت له: «لا هذا ولا ذاك. قلت «مهنتي» لأنها المهنة الوحيدة التي حاولت الانتماء إليها. لم أنجح قط في الحصول على وظيفة في هذا البلد. ولا أفترض حتى لو كنت ثابرت أنني كنت سأحصل على واحدة.»
قال: «إذن، فقد تخليت عن الفكرة.»
اعترفت باقتضاب: «لقد تخليت عنها. أرجو منك ألا تظن لأنني سمحت لك أن تكون رفيقي مدة قصيرة أن بإمكانك أن تطرح علي أسئلة. يا لسرعة سيارات الأجرة هذه!»
توجها إلى وجهتهما ... مطعم مشهور في شارع ريجنت. دفع لسائق الأجرة ونزلا درجا إلى غرفة الشواء.
قال: «آمل أن يناسبك هذا المكان. ليس لدي خبرة كبيرة في المطاعم.»
نظرت حولها وأومأت.
أجابت: «نعم، أعتقد أن ذلك سيفي بالغرض.»
كانت ترتدي ملابس رثة للغاية، وعلى الرغم من أن مظهره كان غير عادي على الإطلاق، فهو بالتأكيد لم يكن من النوع الذي يوحي بالاحترام الفوري حتى في غرفة شواء في مطعم أنيق. ومع ذلك، فقد تلقوا خدمة سريعة وشبه رسمية. وشعر تافرنيك، بينما كان يشاهد سمت رفيقته وطريقة جلوسها وأسلوبها في التعامل مع رئيس الندل، بالدافع المجهول نفسه الذي جعله يلاحقها من بلينهايم هاوس والذي لم يكن بوسعه إلا أن يسميه فضولا، لكنه فضول قوي. كان شخصا شديد الواقعية، وكان أيضا بالفطرة وبحكم العادة قوي الملاحظة. لم يشك لحظة في أنها تنتمي إلى طبقة اجتماعية لم ينتم إليها نزلاء الفندق الذي عاشا فيه إلا نادرا، طبقة هو نفسه لم يعرف عنها إلا القليل. لم يكن هذا الشاب متعجرفا بأي حال من الأحوال، لكنه وجد هذه الحقيقة مثيرة للاهتمام. كانت الحياة بالنسبة إليه تشبه إلى حد كبير دفتر الأستاذ العام ... عبارة عن ديون وائتمانات، ولم يفشل قط في تضمين تلك الهبة المتعلقة بالتربية في الائتمانات، تلك الهبة التي حرم منها هو نفسه، واستبدلها بتلقائية تامة ونادرة للغاية.
قالت وهي تضع قائمة الطعام: «أود أن أتناول سمكا مقليا، وبعض شرائح اللحم، وآيس كريم، وقهوة سوداء.»
انحنى النادل. «وبالنسبة إلى السيد؟»
نظر تافرنيك إلى ساعته؛ كانت تشير إلى تمام العاشرة بالفعل.
أجاب: «سوف آخذ الطبق نفسه.» «والمشروبات؟»
بدت غير مبالية.
وأجابت بلا اهتمام: «أي نبيذ خفيف، أبيض أو أحمر.»
تناول تافرنيك قائمة النبيذ وطلب نبيذا فرنسيا فاخرا. ثم تركا وحدهما في ركنهما بضع دقائق، فكانا تقريبا الشاغلين الوحيدين للمكان.
نظرت إليه نظرة فاحصة وسألت: «هل أنت متأكد من أنك تستطيع تحمل ثمن هذا؟ قد يكلفك جنيها أو ثلاثين شلنا.»
أعاد النظر في الأسعار بالقائمة.
ثم طمأنها قائلا: «أستطيع أن أتحمله تماما ولدي الكثير من المال معي، ولكنني لا أعتقد أنه سيكلف أكثر من ثمانية عشر شلنا. بينما ننتظر السمك، هلا نتحدث؟ أستطيع أن أقول لك، إذا اخترت أن تسمعي، لماذا تبعتك من النزل.»
قالت له: «لا أمانع في الاستماع إليك، وإلا فسأتحدث معك عن أي شيء تحبه. هناك موضوع واحد فقط لا أستطيع مناقشته؛ هذا الموضوع هو نفسي وتصرفاتي الشخصية.»
سكت تافرنيك لحظة.
ثم قال: «هذا يجعل المحادثة صعبة بعض الشيء.» فمالت هي إلى الوراء في كرسيها.
وقالت له: «بعد هذه الأمسية، سوف أخرج من حياتك بشكل تام ونهائي كما لو أني لم أكن فيها بالمرة. لدي رغبة في أن أصطحب معي أسراري البائسة. إذا كنت تريد الحديث، فلتخبرني عن نفسك. لقد خرجت عن طريقك لتحسن إلي. أتساءل لم فعلت هذا. لا يبدو هذا الدور مناسبا لك.»
ابتسم ابتسامة خفيفة. كان وجهه مرسوما على شكل خطوط عريضة وخفف استرخاء شفتيه من حدته على نحو رائع. كان لديه أسنان جيدة، وعيون رمادية صافية، وشعر أسود خشن تركه طويلا بعض الشيء؛ وكان جبينه عريضا جدا بحيث يصعب أن يمنحه مظهرا وسيما.
اعترف: «لا، لا أعتقد أن الإحسان من سماتي المميزة.»
ركزت عيناها الداكنتان عليه بالكامل؛ وبدت شفتاها الحمراوان أكثر احمرارا من أي وقت مضى في ظل شحوب خديها وشعرها البني الغامق الملفوف قليلا. كان هناك شيء يكاد يكون وقحا في نبرتها.
وتابعت: «آمل أنك تفهم أنه ليس هناك ما يمكن أن ترجوه مني في مقابل هذا المبلغ الذي تقترح إنفاقه من أجل ضيافتي؟»
أجاب: «أنا أفهم ذلك.»
وأصرت قائلة: «ولا حتى الامتنان. أنا حقا لا أشعر بالامتنان نحوك. أنت في الغالب تفعل هذا لإرضاء بعض المصالح الأنانية أو حب الاستطلاع. أحذرك من أنني غير قادرة تماما على إظهار أي شيء من مشاعر الحياة اللائقة.»
أكد لها: «امتنانك لن يكون ذا قيمة بالنسبة إلي مهما كان.»
كانت لا تزال غير راضية تماما. تبلد مشاعره الكامل أحبط كل المجهودات التي بذلتها لاختراق ما تحت السطح.
استطردت: «إذا كنت أومن أنك أحد هؤلاء الرجال ... فالعالم مليء بهم، كما تعلم ... أولئك الذين يساعدون المرأة المقبولة المظهر ما دامت مساعدتها لا تتعارض بشكل خطير مع راحتهم ...»
قاطعها: «جنسك لا علاقة له بالأمر. أما بالنسبة إلى مظهرك، فأنا حتى لم أفكر فيه. لا أستطيع أن أخبرك بما إذا كنت جميلة أو قبيحة ... لا أستطيع الحكم في هذه الأمور. ما فعلته، فعلته لأنه أسعدني أن أفعله.»
سألته: «هل تفعل دائما ما يسعدك؟» «غالبا.»
نظرت إليه باهتمام مرة أخرى، باهتمام من الواضح أنه غير شخصي، ومتعجرف إلى حد ما.
قالت: «أفترض أنك تعتبر نفسك من سكان العالم الأقوياء؟»
أجاب: «لا أعلم. فأنا لا أفكر كثيرا في نفسي.»
أوضحت: «أعني أنك واحد من هؤلاء الأشخاص الذين يكافحون بجدية من أجل الحصول على ما يريدون في الحياة.»
انقبض فكه فجأة ورأته يشبه نابليون.
أكد قائلا: «ما أفعله أكثر من الكفاح، أنا أنجح. إذا اتخذت قراري بأن أفعل شيئا، فإنني أفعله. وهذا يعني العمل الجاد في بعض الأحيان، ولكن هذا كل ما في الأمر.»
لأول مرة، بدا في عينيها اهتمام طبيعي حقا. واختفى الازدراء العابس الذي قابلت به محاولاته للتقرب منها. أصبحت في تلك اللحظة إنسانا، نسي نفسه، وتجلى فجأة ما كانت تتمتع به من سحر فطري؛ فقد كان لديها جاذبية تسترعي الفضول، لكنها مؤثرة للغاية. كانت مجرد فرصة لحظية وقد أهدرت تماما. لم يكن أحد من الندل ينظر في ذلك الاتجاه، ولكن تافرنيك كان مستغرقا في التفكير في نفسه.
قالت بتأمل: «إنه لأمر جيد أن تقول ... هذا.»
فقال: «إنه أمر جيد لكنه عادي. كل رجل يأخذ الحياة على محمل الجد يجب أن يقول ذلك.»
ثم ضحكت ... ضحكت بالفعل ... ورأى أسنانها البيضاء تومض، من فم ذي منحنيات لطيفة، وعينين قاتمتين تنيرهما البهجة، لم تعد كامدة، وصارت مثيرة وملهمة . انطباع غامض كأنه انطباع عن شيء مبهج استثاره. كان شيئا نادرا بالنسبة إليه أن يثار بهذا الشكل، ولكن حتى في هذه اللحظة، لم يكن هذا كافيا لتشتيت تركيزه وأفكاره.
سألته: «قل لي، ما عملك؟ ما هي مهنتك أو شغلك؟»
أجاب ببساطة: «أعمل مع شركة مزادات ووكلاء عقارات، اسمها ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني. مقرنا في ووترلو بليس.» «هل تجد عملك ممتعا؟»
أجاب: «بالطبع. ممتع؟ ولم لا؟ أنا أعمل فيه.» «هل أنت شريك؟»
أقر قائلا: «لا. منذ ست سنوات كنت نجارا؛ ثم أصبحت ساعيا في مكتب السيد داولينج كان علي أن أتعلم التجارة، كما ترين. اليوم أعد مديرا. وفي غضون ثمانية عشر شهرا ... وربما قبل ذلك إذا لم يعرضوا علي الشراكة ... سأبدأ عملا خاصا.»
ومرة أخرى، ومضت على زاويتي شفتيها ابتسامة خفيفة.
سألت بسخرية هادئة: «وهل يعرفون ذلك الآن؟»
فأجاب بجدية مطلقة: «ليس بعد. فقد يطالبونني بالرحيل، وما زال لدي بعض الأشياء القليلة التي ينبغي أن أتعلمها. أفضل أن أجرب في شخص آخر وليس في نفسي. يمكنني استخدام النتائج فيما بعد؛ سوف تساعدني في كسب المال.»
ضحكت بنعومة ومسحت الدموع من عينيها. كانتا حقا عينين جميلتين للغاية رغم الهالات السوداء حولهما.
تمتمت: «ليتني قابلتك من قبل!»
سألها: «لماذا؟»
هزت رأسها.
ورجته قائلة: «لا تسألني. لن ترضي إجابتي اعتدادك بنفسك، إذا كنت معتدا بنفسك.»
قال: «لست معتدا بنفسي، ولست فضوليا، لكني لا أفهم لماذا ضحكت.»
في هذه اللحظة انتهت فترة انتظارهما. أحضر السمك وأصبحت محادثتهما متقطعة. أثناء فترة الصمت التي تبعت ذلك، تسلل ظل الكآبة القديم إلى وجهها. لم ترفع وجهها إلا مرة واحدة. كان ذلك عندما كانا ينتظران شرائح اللحم. مالت نحوه، واضعة مرفقيها فوق مفرش المائدة، وأسندت وجهها بأصابعها.
أصرت: «أعتقد أن الوقت قد حان لترك هذه النواحي العامة، وقد أخبرتني بشيء شخصي إلى حد ما، شيء أنا حريصة للغاية على معرفته. أخبرني بالضبط لماذا يهتم شخص متمحور حول ذاته مثلك بإنسان آخر بأية حال. يبدو هذا غريبا بالنسبة إلي .»
اعترف بصراحة: «هذا غريب. سأحاول أن أشرح الأمر لك ولكن سيبدو جريئا جدا، ولا أعتقد أنك ستفهمين. لقد شاهدتك قبل بضع ليال على سطح بلينهايم هاوس. كنت تنظرين عبر أسطح المنازل ولم يبد لي أنك كنت ترين أي شيء على الإطلاق حقا، ومع ذلك كنت أعرف طوال الوقت أنك كنت ترين أشياء لم أستطع أن أراها، كنت تفهمين وتقدرين شيئا لا علم لي به، وهذا أقلقني. حاولت التحدث إليك في ذلك المساء، لكنك كنت فظة.»
قالت: «أنت حقا شخص فضولي. هل أنت دائما قلق، إذن، إذا وجدت أن شخصا آخر يرى أشياء أو يفهم أشياء خارج نطاق استيعابك؟»
أجاب على الفور: «دائما.»
فقالت مؤكدة: «أنت واسع الطموح للغاية. تريد أن تجمع كل شيء في حياتك. ولا يمكنك ذلك. وإذا حاولت، فلن تحصد إلا الشقاء. لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك. يجب أن تعرف حدودك وإلا عانيت طوال حياتك.»
ردد كلمتها بازدراء بالغ: «حدود!» ثم قال بقوة غير متوقعة: «إذا عرفتها بأية حال، فسيكون الأمر مصحوبا بندوب وجروح، فلا شيء آخر يرضيني.»
قالت ببطء: «نحن، على ما أعتقد، في العمر نفسه تقريبا.»
قال لها: «أنا في الخامسة والعشرين.»
قالت: «أنا في الثانية والعشرين. يبدو من الغريب أن يكون هناك شخصان أفكارهما عن الحياة متباعدة بقدر تباعد القطبين ويجتمعان معا هكذا ولو لحظة. أنا لا أفهم هذا على الإطلاق. هل توقعت أن أخبرك حقا بما رأيته في الغيوم في تلك الليلة؟»
أجاب: «لا، ليس بالضبط. لقد تحدثت فقط عن أول شيء جعلني أهتم بك. وهناك أشياء أخرى. لقد كذبت بشأن السوار وتبعتك إلى خارج النزل واصطحبتك إلى هنا؛ لسبب آخر تماما.»
قالت: «أخبرني به.»
وصرح بجدية: «أنا شخصيا لا أعرفه. أنا حقا وبصدق لا أعرفه. هذا لأنني كنت آمل أن يخطر ببالي أثناء وجودنا معا، بما أنني هنا معك في هذه اللحظة. أنا لا أحب الدوافع التي لا أفهمها.»
ضحكت منه بنوع من الازدراء.
وقالت: «رغم كل شيء، ورغم أنه ربما لم يخطر ببالك بعد، فهو في الغالب السبب البائس نفسه. أنت رجل ولديك السم في مكان ما في دمك. وأنا لست امرأة قبيحة، كما تعلم.»
نظر إليها متفحصا إياها. ربما كانت نحيفة بعض الشيء، لكنها بالتأكيد رشيقة بشكل رائع. حتى وضعية رأسها، والطريقة التي تجلس بها على كرسيها، لها طابعها المتفرد. كانت ملامحها أيضا جميلة، على الرغم من أن فمها كان حادا. ولأول مرة زال شحوب الموت عن خديها بلمسة من اللون الوردي. حتى تافرنيك أدرك أنها تمتلك إمكانيات رائعة. ومع ذلك، فقد هز رأسه.
وأكد بحزم: «أنا لا أتفق معك على الإطلاق. مظهرك لا علاقة له بالأمر. أنا متأكد أن السبب غير ذلك.»
اقترحت قائلة: «اسمح لي باستجوابك. فكر جيدا الآن. ألا يمنحك جلوسك هنا معي بمفردنا أي إحساس بالمتعة؟»
أجابها بروية؛ وكان من الواضح أنه يقول الحقيقة.
وصرح: «أنا غير مدرك أن الأمر كذلك. الشعور الوحيد الذي أدركه في الوقت الحاضر فيما يتعلق بك، هو الفضول الذي تحدثت عنه بالفعل.»
مالت قليلا ناحيته، ومدت أصابعها الرشيقة للغاية. ومرة أخرى، غيرت الابتسامة على شفتيها وجهها تماما.
قالت: «انظر إلى يدي. قل لي ... ألا ترغب في الاحتفاظ بها فقط لدقيقة، إذا أعطيتك إياها؟»
كانت عيناها تتحدى عينيه، بهدوء ولكن بغطرسة. ومع ذلك، بدا أن انتباهه بالكامل قد تحول إلى أظافر أصابعها. تراءى له أن من الغريب أن تولي فتاة في مثل محنتها كل هذا القدر من العناية ليديها.
أجاب عمدا: «لا، لا أريد أن أمسك يدك. لماذا علي أن أفعل؟»
أصرت قائلة: «انظر إلي.»
فعل ذلك دون حرج أو تردد ... كان من الواضح أكثر من أي وقت مضى أنه كان صادقا تماما. كانت تجلس مسترخية على كرسيها، ضاحكة بنعومة على نفسها.
ثم قالت: «أوه، صديقي السيد ليونارد تافرنيك، لو لم تكن صادقا بكل هذا القدر من الوقاحة، والروعة، والإعجاز، لكنت ستعتبر مستفزا إلى أقصى درجة! ها قد أتت شرائح اللحم أخيرا، حمدا لله! انتهى الاستجواب. وأنا أعلن أنك «غير مذنب!»»
أثناء تناولهما بقية الوجبة، لم يتحدثا سوى القليل. وفي نهايتها، سدد تافرنيك الفاتورة، بعد فحص كل عناصرها بعناية، ومنح النادل بقشيشا يساوي قيمة المبلغ الذي كان للرجل الحق في توقعه. صعدا السلم معا إلى الشارع، وتأخرت الفتاة بضع خطوات عنه. ولمست أصابعها ذراعه على الرصيف.
سألته بشيء من الخضوع: «أتساءل، هل تمانع في توصيلي إلى إمبانكمنت؟ كان المكان مغلقا جدا بالأسفل وأريد بعض الهواء.»
كانت هذه مبالغة لم يفكر فيها كثيرا، لكنه لم يتردد. طلب سيارة أجرة وجلس بجانبها. بدا أن سلوكها قد أصبح أكثر هدوءا وأكثر خضوعا، ولم تعد نبرتها أشبه بالمحاربين.
وعدته قائلة: «لن أبقيك وقتا أطول. أعتقد أنني لم أعد قوية كما اعتدت أن أكون. لم أتناول أي شيء تقريبا مدة يومين وأصبحت المحادثة رفاهية مجهولة بالنسبة إلي. أعتقد ... هذا يبدو سخيفا ... لكني أعتقد أنني أشعر ببعض الدوار.»
قال: «سرعان ما سينعشك الهواء. بالنسبة إلى محادثتنا، أنا أشعر بخيبة أمل. أعتقد أنه من الحمق الشديد ألا تخبريني بالمزيد عن نفسك.»
أغمضت عينيها متجاهلة ملاحظته. انعطفا في تلك اللحظة إلى طريق أضيق. فمالت ناحيته.
اعترفت بخجل تقريبا: «لقد كنت طيبا جدا معي، وأخشى أنني لم أكن كريمة للغاية. لن يرى أحدنا الآخر مرة أخرى بعد هذا المساء. أتساءل ... هل تود تقبيلي؟»
فتح شفتيه وأغلقهما مرة أخرى. جلس ساكنا وعيناه ثابتتان على الطريق أمامه، حتى قمع داخله شعورا سخيفا للغاية، شعورا لا يمكن إدراكه.
قرر بهدوء: «أفضل ألا أفعل. أعلم أنك تقصدين أن تكوني كريمة ولكن مثل هذا النوع من الأشياء ... حسنا، لا أعتقد أنني أفهمه.» ثم أضاف بارتياح ساذج ومفاجئ، وكأنه أمسك بتلابيب فكرة هاربة، لكنها معقولة: «لو فعلت ما كنت لتصدقي الأشياء التي أخبرتك بها.»
شعر شعورا غريبا أنها أصيبت بخيبة أمل لأنها أدارت رأسها بعيدا، لكنها لم تقل شيئا. وصلا إلى إمبانكمنت، وأبطأت السيارة سرعتها إلى أن توقفت. ونزلت الفتاة. كان هناك شيء جديد في طريقتها، وأشاحت بنظرها عنه عندما تحدثت.
قالت: «من الأفضل أن تتركني هنا . سأجلس على ذلك المقعد.»
ثم جاء ذلك التردد الذي يستولي عليه ثواني قليلة وكان مسئولا عن الكثير في حياته. الدافع الذي دفعه للبقاء معها كان غير قابل للتفسير لكنه انتصر في النهاية.
قال بشيء من الحسم: «إذا لم يكن لديك مانع، أود أن أجلس هنا معك بعض الوقت. النسيم عليل بالتأكيد.»
لم تدل بأي تعليق لكنها واصلت السير. دفع للرجل وتبعها إلى المقعد الشاغر. في الجهة المقابلة، أضاءت السماء المظلمة بنور بعض الإعلانات المضيئة. بين صفي الأضواء الصفراء المقوسين تدفق النهر مظلما، فائضا، بلا أمل. حتى هنا، ورغم أنهما قد هربا من عبودية المدينة المطلقة، فما زال صخبها يقرع آذانهما. استمعت إليه لحظة ثم ضغطت بيديها على جانبي رأسها.
وتأوهت قائلة: «أوه، كم أكره ذلك! الأصوات، الأصوات دائما، تنادي، تهدد، تطردك بعيدا! أمسك يدي يا ليونارد تافرنيك ... احتضني.»
فعل ما أمرته به، دون تفكير، ودون فهم حتى تلك اللحظة.
تمتم: «أنت لست بخير.»
فتحت عينيها وعاد وميض من أسلوبها القديم. ابتسمت له، بضعف ولكن بسخرية.
وهتفت: «أيها الفتى الأحمق! ألا ترى أنني أموت؟ أمسك بيدي جيدا وراقب ... راقب! هنا شيء آخر يمكنك رؤيته ... ولا يمكنك فهمه.»
رأى قارورة الدواء الفارغة تنزلق من كمها وتسقط على الرصيف. فنهض صارخا، وحملها بين ذراعيه واندفع بها نحو الطريق.
الفصل الثالث
لقاء مزعج
كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة والربع وكانت المسارح تسرح حشودها الليلية المعتادة. وكانت أكثر الطرق ازدحاما بالبشر في أي مدينة من مدن العالم العظيمة في أفضل حالاتها وأكثرها إشراقا. وراح حاجبو المسارح في أزيائهم الرسمية في كل مكان يطلقون صفاراتهم، بينما امتلأت الشوارع بالمركبات التي تتحرك ببطء، وكانت الأرصفة تنبض بالحياة. انجرف الحشد الصغير الذي تجمع أمام الصيدلية بعيدا. ففي نهاية الأمر لم يكن أحد منهم يعرف بالضبط ماذا كانوا ينتظرون. كانت ثمة شائعة بأن امرأة قد أغمي عليها أو وقع لها حادث. وبالتأكيد نقلت إلى الصيدلية وإلى داخل الغرفة الداخلية التي كان بابها لا يزال موصدا. وتجمع عدد قليل من المارة معا وحدقوا النظر بإمعان وانتظروا بضع دقائق، لكنهم في النهاية فقدوا الاهتمام وذابوا وسط الحشود. إنه مشهد لأحد الطرق المزدحمة بالبشر، كان هذا الطريق حقا إحدى نبضات المدينة العظيمة التي يدق قلبها ليلا ونهارا لمآسي الحياة. كان مساعد الصيدلي، يخدم اثنين من الزبائن العارضين بلا اكتراث من وراء منضدة البيع. وعلى بعد بضع ياردات فقط، خلف الباب المغلق، كان الصيدلي نفسه وطبيب استدعي على عجل يصارعان من أجل إنقاذ حياة الفتاة التي ترقد على الأرض، مصدرة تأوهات خافتة بين الحين والآخر من شفتيها الزرقاوين.
شعر تافرنيك بعبء ضخم يثقل كاهله وهو يقف بلا حول ولا قوة أثناء هذا الصراع الرهيب؛ ولذا فقد تسلل بهدوء من الغرفة بمجرد أن همس الطبيب بأن الأزمة الحادة قد انتهت، ومر عبر الصيدلية خارجا إلى الشارع، ووقف شاردا مذهولا بين الحشود النابضة بالحياة. حتى في تلك اللحظات القاتمة، كانت فرديته تتحدث إليه. كان متحيرا من تصرفه هو نفسه وطرح على نفسه سؤالا - ليس بندم في واقع الأمر، ولكن بنوع من الفضول واستكشاف الذات الحقيقي - كما لو كان، من خلال تركيز عقله على تصرفاته الأخيرة، سيكون قادرا على فهم الدوافع التي أثرت فيه. لماذا اختار أن يثقل كاهل نفسه برعاية هذه الشابة اليائسة؟ لنفترض أنها عاشت، ماذا سيحدث لها؟ لقد تحمل مسئولية محددة فيما يتعلق بمستقبلها؛ لأنه مهما كان ما فعله الطبيب ومساعده، فقد كانت سرعة استجابته وحضور ذهنه هما اللذين منحاها فرصتها الأولى في الحياة. بدون شك، لقد تصرف بحماقة. لماذا لا يختفي في الحشود وينتهي من هذا الأمر؟ ماذا يعنيه، رغم كل شيء، أن تعيش الفتاة أو تموت؟ لقد أدى واجبه ... بل أكثر من واجبه. لماذا لا يختفي الآن ويدعها تجرب حظها؟ تحدث إليه عقله بصوت عال، وراحت مثل هذه الخواطر تتوارد إلى ذهنه.
مع ذلك، ولأول مرة في حياته، احتل عقله مكانة ثانوية. كان يعرف جيدا، حتى أثناء استماعه إلى هذه الأصوات، أنه كان يعد الدقائق حتى يستطيع أن يعود . بعد أن قرر تماما أن السبيل الوحيد المعقول أمامه للمتابعة هو أن يعود إلى المنزل ويترك الفتاة لقدرها، وجد نفسه داخل الصيدلية في غضون ربع ساعة. كان الصيدلي قد خرج للتو من الغرفة الداخلية ووقف ينظر إليه وهو يدخل.
قال: «ستنجو الآن.»
أومأ تافرنيك برأسه. كان مندهشا من إحساسه بالراحة.
أعلن: «يسعدني ذلك.»
انضم إليهما الطبيب وكانت حقيبته السوداء في يده استعدادا للمغادرة. قدم نفسه إلى تافرنيك باعتباره الشخص المسئول.
قال: «ستكون الفتاة بخير الآن، لكنها قد لا تكون على طبيعتها يوما أو يومين. لحسن الحظ، ارتكبت الخطأ المعتاد الذي يرتكبه الناس الذين يجهلون الدواء وآثاره ... مع أنها تناولت سما يكفي لقتل أسرة بأكملها.» وأضاف بطريقة جافة: «كان من الأفضل أن تعتني بها أيها الشاب. ستواجه مشكلة إذا أقدمت على هذا الفعل مرة أخرى.»
سأل تافرنيك: «هل ستحتاج إلى أي اهتمام خاص خلال الأيام القليلة المقبلة؟ الظروف التي أحضرتها فيها إلى هنا ظروف غير عادية إلى حد ما، ولست متأكدا تماما ...»
قاطعه الطبيب: «خذها إلى المنزل كي تستريح في فراشها، وستصبح بخير عندما تنام. يبدو أن بنيتها وصحتها العامة قوية للغاية، رغم أنها أرهقت نفسها إلى أقصى درجة. إذا كنت بحاجة إلى أي نصيحة أخرى وطبيبك الخاص غير متاح، فسآتي لأراها إذا أرسلت في طلبي. اسمي كامدن؛ رقم الهاتف 734 جيرارد.»
قال تافرنيك: «سأكون سعيدا بمعرفة قيمة أتعابك، إذا سمحت.»
أجاب الطبيب: «أتعابي جنيهان.»
دفع له تافرنيك، وانصرف الرجل. كان ظل المأساة يمر بالفعل. انضم الصيدلي إلى مساعده الذي كان مشغولا في صرف العقاقير من خلف منضدة البيع.
قال لتافرنيك: «يمكنك الدخول إلى الفتاة، إذا أردت. أعتقد أنها ستشعر بتحسن في وجود شخص معها.»
دلف تافرنيك ببطء إلى الغرفة الداخلية، وأغلق الباب خلفه. لم يكن مستعدا البتة لمثل هذا المنظر المثير للشفقة. كان وجه الفتاة شاحبا تماما وهي مستلقية على الأريكة التي رفعوها إليها. كانت الروح القتالية قد استسلمت وخارت قواها، وكانت في حالة انهيار كامل ومطلق. فتحت عينيها على دخوله ، لكنها أغلقتهما مجددا على الفور تقريبا - بدا له أن ذلك لم يكن عن وعي بوجوده أكثر منه بسبب إعيائها التام.
همس وهو يعبر الغرفة متجها إليها: «أنا سعيد لأنك صرت أفضل حالا.»
تمتمت بصوت غير مسموع: «شكرا لك.»
وقف تافرنيك بجانبها ينظر إليها، وشعوره بالحيرة في ازدياد. بدت وهي ممددة على أريكة شعر الخيل الصلبة، نحيفة بشكل مثير للشفقة وأصغر من عمرها الحقيقي. كان العبوس، الذي اختفى من وجهها، بمثابة تمويه.
قال برقة: «يجب أن نغادر من هنا في غضون بضع دقائق. سيرغبون في إغلاق الصيدلية.»
تمتمت قائلة: «أنا آسفة للغاية أن سببت لك كل هذه المشاكل. يجب أن ترسلني إلى المستشفى أو دار العمل الخاصة بغير القادرين ... أي مكان.»
سأل: «هل أنت واثقة من أنه لا يوجد أي أصدقاء يمكنني أن أرسل إليهم؟» «لا يوجد أحد!»
أغمضت عينيها وجلس تافرنيك هادئا تماما في نهاية أريكتها، ومرفقه على ركبته، ورأسه على يده. والآن بعد أن توقف الزبائن عن التدفق إلى الصيدلية، دخل الصيدلي.
قال: «أعتقد لو كنت مكانك، لأخذتها إلى المنزل الآن. في الغالب سرعان ما ستستغرق في النوم وتستيقظ أقوى بكثير. لقد أعددت لها وصفة طبية هنا في حالة شعورها بالإرهاق.»
حدق تافرنيك في الرجل. آخذها إلى المنزل! كان حسه الفكاهي ضعيفا جدا ولكنه وجد نفسه يحاول تخيل وجه السيدة لورانس أو السيدة فيتزجيرالد إذا عاد معها إلى النزل في مثل هذه الساعة.
استفسر الصيدلي بفضول: «أفترض أنك تعرف أين تعيش؟»
أجاب تافرنيك قائلا: «بالطبع. أنت على حق تماما. أستطيع أن أقول إنها قوية بما يكفي الآن للسير حتى الرصيف.»
دفع فاتورة الأدوية، ورفعاها عن الأريكة. وسارت بينهما ببطء إلى الغرفة الخارجية. ثم بدأت تستند إلى أذرعهما ونظرت إلى الصيدلي نظرة مثيرة للشفقة إلى حد ما.
ورجته: «هل يمكنني الجلوس لحظة؟ أشعر بالإعياء.»
وضعاها على أحد الكراسي المصنوعة من الخيزران المواجهة للباب. وخلط لها الصيدلي بعض أملاح النشادر.
تمتمت قائلة: «أنا آسفة، آسفة جدا. سأتحسن في غضون بضع دقائق .»
وفي الخارج، قل عدد المشاة، ولكن السيارات والعربات المنطلقة من أمام المطعم الكبير في الجهة المقابلة كانت لا تزال تتدفق ببطء لتوصيل الزبائن الذين أنهوا عشاءهم. ووقف تافرنيك عند الباب يراقبهم بلا حراك. كانت حركة المرور متوقفة مؤقتا ووقفت أمامه مباشرة تقريبا سيارة ملأته روعتها البسيطة عجبا. كان السائق والخادم على حد سواء يرتديان زيا أبيض تقريبا. بالداخل كان ثمة مزهرية تتدلى من سقف السيارة. وجلس رجل وامرأة في مقعدين وثيرين. كان الرجل داكنا وله مظهر أجنبي. أما المرأة فكانت شديدة الجمال. كانت ترتدي عباءة طويلة من فرو القاقم وتاجا من اللؤلؤ.
وجد تافرنيك، الذي كان اهتمامه بالمارة سطحيا تماما، نفسه لسبب ما ينجذب بفضول من خلال هذه اللمحة السريعة إلى عالم الرفاهية الذي لا يعرف عنه شيئا؛ وينجذب أيضا إلى وجه المرأة الرقيق الذي يتمتع بجمال غير مألوف. التقت عيناهما وهو يقف هناك، جامدا بلا حراك، متحجرا في مكانه عند المدخل. استمر تافرنيك في التحديق، غير مبال، وربما غير واع، لفظاظة تصرفه. أشاحت المرأة بنظرها بعيدا بعد لحظة إلى واجهة عرض الصيدلية. وبدا أن فكرة مفاجئة راودتها. تكلمت عبر سماعة الهاتف الموجود بجانبها والتفتت إلى رفيقها. وفي الوقت نفسه، مال الخادم من مكانه، ومد ذراعه في تحذير وركنت السيارة ببطء إلى جانب الرصيف. تحسست السيدة بيدها لحظة في حقيبة من الساتان الأبيض كانت موضوعة على الطاولة المستديرة أمامها، وسلمت قصاصة من الورق عبر النافذة المفتوحة للخادم الذي كان قد نزل بالفعل وكان يقف منتظرا. وتوجه على الفور ناحية الصيدلية، مارا بتافرنيك، الذي ظل واقفا في المدخل.
سلم الورقة إلى الصيدلي قائلا بلهجة آمرة: «هلا تركب هذا على الفور من فضلك؟»
أخذها الصيدلي في يده واستدار على نحو آلي نحو غرفة تحضير الأدوية. وفجأة توقف ونظر إلى الوراء وهز رأسه.
سأل: «لمن هذه الوصفة الطبية؟»
أجاب الرجل: «لسيدتي. اسمها مدون.» «أين هي؟» «بالخارج؛ إنها في انتظار الدواء.»
صرح الصيدلي: «إذا كانت تريد حقا هذا الدواء الليلة، فعليها أن تدخل وتوقع في الدفتر.»
نظر الخادم عبر منضدة البيع لحظة نظرة خاوية إلى حد ما.
استفسر قائلا: «هل أقول لها ذلك؟ إنها مجرد وصفة دواء منوم. الصيدلي الخاص بها يركبها بلا مشاكل.»
أجاب الرجل الذي يقف خلف منضدة البيع: «قد يكون الأمر كذلك، لكن كما ترى، أنا لست الصيدلي الخاص بها. من الأفضل أن تذهب وتخبرها بذلك.»
انطلق الرجل في مهمته دون أن يلقي نظرة على الفتاة التي تجلس على بعد بضع أقدام منه.
وقال لسيدته: «أنا آسف جدا يا سيدتي، رفض الكيميائي تركيب الوصفة الطبية إلا إذا وقعت في الدفتر.»
صرحت: «حسنا، إذن، سأحضر.»
خرجت المرأة من السيارة بمساعدة خادمها، ورفعت تنورتها البيضاء المصنوعة من الساتان بكلتا يديها وخطت بخفة عبر الرصيف. انتحى تافرنيك جانبا ليسمح لها بالمرور. بدت بالنسبة إليه حقا مخلوقة من ذلك العالم الآخر الذي لا يعرف عنه شيئا. حركتها البطيئة والرشيقة، لمعة تنورتها، جوربها الحريري، وميض الأبازيم الماسية على حذائها، العطر الهادئ المنبعث من ملابسها، اللمسة الناعمة من فرائها وهي تمر بجانبه ... كل هذه الأشياء كانت في الواقع غريبة عنه. تبعتها عيناه باهتمام جذل وهي تقترب من منضدة البيع.
سألت الصيدلي: «هل تريدني أن أوقع على وصفتي الطبية؟ سأفعل ذلك، بكل سرور، إذا لزم الأمر، ولكن شريطة ألا تجعلني أنتظر طويلا.»
كان صوتها منخفضا جدا وموسيقيا للغاية، وكادت الابتسامة الطفيفة من شفتيها المتعبتين تبدو مثيرة للشفقة. حتى الصيدلي شعر بتعاطفه الإنساني معها. واستدار على الفور إلى رفوفه وبدأ في تحضير الدواء.
قال معتذرا: «آسف، يا سيدتي، أن طلبت ضرورة حضروك إلى هنا. سوف يعطيك مساعدي الدفتر لتتكرمي بالتوقيع فيه.»
نزل المساعد تحت المنضدة، ونهض مرة أخرى على الفور وفي يده دفتر أسود وقلم وحبر. وانشغل الصيدلي في مهمته؛ وكانت عينا تافرنيك لا تزالان منصبتين على هذه المرأة التي بدت له أجمل شيء رآه في حياته. لم يكن هناك من يراقب الفتاة. وكان الصيدلي أول من رأى وجهها، وكان ذلك في مرآة. فتوقف عن خلط عقاقيره واستدار ببطء . كان التعبير الذي ارتسم على وجهه كفيلا بأن يتبع الجميع عينيه. كانت الفتاة تجلس منتصبة على كرسيها، وقد تلونت وجنتاها فجأة بلون أحمر دام، وأمسكت أصابعها بالمنضدة كما لو كانت تستمد منها الدعم، واتسعت عيناها، بشكل غير طبيعي، وتوهجت في بياضها بنار مستعرة. كانت السيدة آخر من أدارت رأسها، وفجأة سقطت من يدها زجاجة ماء الكولونيا التي أخذتها من على المنضدة، وتحطمت على الأرض. بدا أن كل التعبيرات اختفت من وجهها؛ بل إن الحياة نفسها بدت أنها فارقته. أولئك الذين كانوا يشاهدونها رأوا فجأة امرأة عجوزا تنظر إلى شيء تخاف منه.
يبدو أن الفتاة وجدت قوة غير طبيعية. جرت نفسها واقفة واستدارت بعنف إلى تافرنيك.
صاحت بصوت منخفض: «خذني بعيدا. خذني بعيدا على الفور.»
لم تتكلم المرأة عند منضدة البيع. وتقدم تافرنيك بسرعة إلى الأمام ثم تردد. كانت الفتاة واقفة على قدميها الآن قابضة على ذراعيه بقوة. وتوسلت عيناها إليه.
توسلت بصوت أجش: «يجب أن تأخذني بعيدا، من فضلك. أنا بصحة جيدة الآن - جيدة جدا. أستطيع المشي.»
افتقار تافرنيك إلى الخيال جعله في وضع جيد في ذلك الوقت. فعل ببساطة ما قيل له، فعله بطريقة آلية تماما، دون طرح أي أسئلة. وخطا إلى الشارع والفتاة تتكئ بشدة على ذراعه، ودلف على الفور تقريبا داخل سيارة أجرة مارة كان قد أشار لها من عند عتبة الصيدلية. ونظر خلفه وهو يغلق الباب. كانت المرأة تقف هناك، نصف مستديرة نحوه، ولا تزال على وجهها الهامد تلك النظرة الغريبة الجامدة. كان الصيدلي يميل نحوها متسائلا ما إذا كان سيمر بواقعة أخرى خلال عمله الليلي. وكان ماء الكولونيا يتدفق في مجرى صغير عبر الأرضية.
سأل سائق سيارة الأجرة تافرنيك: «إلى أين يا سيدي؟»
كرر تافرنيك: «إلى أين؟»
كانت الفتاة تتشبث بذراعه.
همست: «قل له أن يقود سيارته بعيدا عن هنا، يقود إلى أي مكان، لكن بعيدا عن هنا.»
أمره تافرنيك: «قد في طريق مستقيم، على طول شارع فليت ثم هولبورن. سأعطيك العنوان لاحقا.»
غير الرجل سرعته وزادت سرعة السيارة. جلس تافرنيك هادئا تماما، مذهولا من هذه الأحداث المدهشة. كانت الفتاة بجانبه متشبثة بذراعه، وتبكي بشكل يكاد يكون هيستيريا، ممسكة به طوال الوقت كما لو كانت في حالة من الرعب.
الفصل الرابع
فطور مع بياتريس
استيقظت الفتاة ربما بسبب مرور عربة ثقيلة في الشارع بالأسفل، أو بلمسة من شعاع الشمس الذي تسلل إلى وسادتها، ففتحت عينيها أولا ثم بعد أن ألقت نظرة أولية حولها، جلست في السرير. وتشكلت في ذهنها ببطء أحداث الليلة السابقة. تذكرت كل شيء حتى ركوب تلك السيارة الأجرة. في وقت ما بعد ذلك لا بد أنها أغمي عليها. والآن ماذا حل بها؟ أين كانت؟
نظرت حولها في دهشة متزايدة. بالتأكيد كانت أغرب غرفة دخلتها على الإطلاق. كانت الأرضية مغبرة وعارية من أي سجادة؛ وكانت النافذة دون ستارة. كانت الجدران غير مغطاة بورق الحائط ولكنها مغطاة هنا وهناك بلوحات غريبة المظهر، إحداها تشغل جانب الغرفة بالكامل تقريبا ... عمل فني رديء جدا به القليل من الطلاء الأزرق هنا وهناك، والظلال والمخططات التي كانت غير مفهومة على الإطلاق. هي نفسها كانت ترقد على سرير حديدي عتيق، وكانت ترتدي ثوب نوم خشنا جدا. كانت ملابسها مطوية وموضوعة على قطعة من الورق البني على الأرض بجوار السرير. كانت الغرفة غير مؤثثة على الإطلاق، باستثناء حاجز بشع في منتصفها.
بعد أول فحص حائر لما يحيط بها، تركز انتباهها بطبيعة الحال على هذا الحاجز. من الواضح أنه لا بد وضع هنا لإخفاء شيء ما. انحنت بحذر شديد خارج السرير حتى استطاعت أن ترى من زاوية الحاجز. عندئذ قفز قلبها من موضعه ولم تملك إلا أن تكتم بداخلها صرخة خوف. كان أحدهم جالسا هناك ... رجل ... يجلس على كرسي من الخيزران، منحنيا على لفة من الأوراق التي تم شدها على منضدة قمار رديئة الصنع. شعرت أن وجنتيها تزدادان سخونة. لا بد أنه تافرنيك! أين أحضرها؟ ماذا يعني وجوده في الغرفة؟
أصدر السرير صريرا حادا عندما استعادت وضعها السابق. وأتاها صوت من خلف الحاجز. عرفته على الفور. كان صوت تافرنيك.
سألها: «هل أنت مستيقظة؟»
أجابت: «نعم، نعم أنا مستيقظة. هل هذا السيد تافرنيك؟ أين أنا من فضلك؟»
تساءل قائلا: «قبل أي شيء، هل أنت أفضل الآن؟»
طمأنته وهي تعتدل في جلستها على السرير وتسحب الثوب إلى ذقنها: «أنا أفضل. أنا بصحة جيدة الآن. قل لي في الحال أين أنا وماذا تفعل هناك.»
أجاب تافرنيك: «ليس هناك ما يدعو إلى الفزع. في واقع الأمر، أنا في غرفة أخرى. عندما أنتقل للباب، كما سأفعل مباشرة، سوف أسحب معي الحاجز. أستطيع أن أعدك ...»
توسلت قائلة: «أرجو منك أن تشرح كل شيء بسرعة. أنا غير مرتاحة بالمرة.»
قال تافرنيك: «في الساعة الثانية عشرة والنصف من هذا الصباح، وجدت نفسي وحيدا في سيارة أجرة معك، دون أي أمتعة أو أي فكرة عن وجهتي. وما زاد الطين بلة، أنك فقدت الوعي. جربت فندقين لكنهما رفضا استقبالك؛ ربما كانوا خائفين من أن حالتك الصحية ستزداد سوءا. ثم فكرت في هذه الغرفة. أنا موظف، كما تعلمين، لدى شركة لوكلاء العقارات. ومع ذلك أقوم بالكثير من العمل على حسابي الخاص، وهو ما أفضل القيام به في الخفاء، دون معرفة أحد. لذلك السبب، استأجرت هذه الغرفة منذ عام وكنت آتي إلى هنا في معظم الأمسيات للعمل. أحيانا أبقى حتى وقت متأخر؛ لذلك اشتريت سريرا صغيرا الشهر الماضي وأقمته هنا. هناك امرأة تأتي لتنظيف الغرفة. وقد ذهبت إلى منزلها الليلة الماضية وأقنعتها بالمجيء إلى هنا. وهي من خلعت عنك ملابسك ووضعتك في الفراش. آسف لأن وجودي هنا أزعجك، لكنه مبنى ضخم وخال تماما في وقت الليل. اعتقدت أنك قد تستيقظين وتصابين بالخوف؛ لذلك اقترضت هذا الحاجز من المرأة وجلست هنا.»
شهقت قائلة: «ماذا، طوال الليل؟»
أجاب: «بالتأكيد. لم تستطع المرأة البقاء هنا وهذا ليس مبنى سكنيا على الإطلاق. كل الطوابق السفلية مؤجرة لمكاتب ومخازن ولا يوجد أحد في المكان حتى الساعة الثامنة.»
وضعت يديها على رأسها وجلست ساكنة دقيقة أو اثنتين. كان من الصعب حقا استيعاب كل ما حدث.
سألت سؤالا لا صلة له بالموضوع: «ألا تشعر بالحاجة إلى النوم؟»
أجاب: «ليس كثيرا. غفوت مدة ساعة، منذ قليل. ومنذ ذلك الحين وأنا أنعم النظر في بعض الخطط التي تهمني للغاية.»
سألت بحياء: «هل يمكنني النهوض؟»
أجاب بارتياح واضح: «إذا كنت تشعرين بالقوة الكافية، من فضلك افعلي. سوف أتحرك نحو الباب، وأسحب الحاجز أمامي. وسوف تجدين فرشاة ومشطا وبعض دبابيس الشعر على ملابسك. لم أستطع التفكير في أي شيء آخر لإحضاره من أجلك، ولكن إذا كنت سترتدين ملابسك، فسوف نسير إلى محطة لندن بريدج، التي تقع على الجانب الآخر من الطريق مباشرة، وبينما أطلب بعض الإفطار، يمكنك الذهاب إلى حمام السيدات وتصفيف شعرك على النحو الملائم. لقد بذلت قصارى جهدي لإحضار مرآة، لكن ذلك كان مستحيلا تماما.»
استيقظ حس الدعابة لدى الفتاة فجأة. وبذلت جهدا خارقا حتى لا تضحك. من الواضح أنه فكر في كل هذه التفاصيل بشق الأنفس، واحدة تلو الأخرى.
قالت: «شكرا. سوف أنهض على الفور، إذا كنت ستفعل ما قلت إنك ستفعله.»
أمسك الحاجز من الداخل وجره نحو الباب. وعلى العتبة، تحدث إليها مرة أخرى.
قال: «سأجلس على السلم في الخارج مباشرة.»
أكدت له: «لن أستغرق أكثر من خمس دقائق.»
قفزت من السرير وارتدت ملابسها بسرعة. لم يكن هناك شيء خلف المكان الذي كان يوضع فيه الحاجز باستثناء منضدة غطيت بألواح، ومقعد صلب من الخيزران سحبته من أجل استخدامها الخاص. أثناء ارتدائها لملابسها، بدأت تدرك قدر ما فعله من أجلها هذا الشاب العملي المتبلد العواطف خلال الساعات القليلة الماضية. وأثرت فيها هذه الفكرة بطريقة غريبة. أصابها خجل لم تشعر به عندما كان في الغرفة. وعندما انتهت من تجهيز نفسها فتحت الباب، كانت معقودة اللسان تقريبا. كان جالسا على آخر درجة في السلم وظهره إلى منبسط السلم، وعيناه مغلقتان. ولكنه فتحهما جافلا بمجرد أن سمعها تقترب.
قال: «أنا سعيد لأنك لم تستغرقي وقتا طويلا. أريد أن أكون في مكتبي في الساعة التاسعة ولا بد أن أذهب للاستحمام في مكان ما. درجات السلم شديدة الانحدار. أرجو أن تسيري بحذر.»
تبعته في صمت وهما ينزلان ثلاث مجموعات من درجات السلم الحجري. عند كل منبسط سلم كانت توجد أسماء على الأبواب ... شركتان لتجارة نبات الجنجل المستخدم في صناعة البيرة، محام، سمسار. وكان الطابق الأرضي عبارة عن مخزن، تنبعث منه رائحة الجلد النفاذة.
فتح تافرنيك الباب الخارجي بمفتاح صغير، وخرجا معا إلى الشارع.
قال: «محطة لندن بريدج على الجانب الآخر من الطريق. ستفتح غرفة المرطبات ويمكننا الحصول على وجبة الإفطار على الفور.»
سألت: «كم الساعة الآن؟» «السابعة والنصف تقريبا.»
سارت بجانبه بوداعة شديدة، وعلى الرغم من وجود أشياء كثيرة كانت تتوق لقولها، فقد ظلت غير قادرة على الحديث على الإطلاق. ولم يكن هناك أي شيء في مظهره يدل على أنه كان مستيقظا طوال الليل، فيما عدا أنه كان يبدو مرهقا قليلا. لقد بدا تماما كما كان يبدو في اليوم السابق، بل إنه بدا غير واع على الإطلاق لوجود أي شيء غير عادي في علاقتهما. بمجرد وصولهما إلى المحطة، أشار إلى غرفة انتظار السيدات.
قال: «هلا تدخلين وترتبين شعرك هناك، سوف أذهب لأطلب الفطور ثم أحلق ذقني. سأعود هنا في غضون عشرين دقيقة. يجدر بك أن تأخذي هذا.»
قدم لها شلنا فقبلته دون تردد. إلا أنها بمجرد رحيله نظرت إلى العملة التي في يدها في تعجب خالص. لقد قبلتها منه بتلقائية تامة ودون حتى أن تقول «شكرا لك!» فتحت الأبواب المتأرجحة وهي تضحك ضحكة صغيرة غريبة، وشقت طريقها إلى غرفة الانتظار.
في غضون ربع ساعة بالكاد خرجت لتجد تافرنيك في انتظارها. كان قد أعاد ربط ربطة عنقه، واشترى ياقة جديدة، وحلق ذقنه. وهي أيضا حسنت مظهرها.
قال: «الإفطار بانتظارنا من هذا الطريق.»
تبعته بطاعة وجلسا إلى طاولة صغيرة في غرفة المرطبات بالمحطة.
سألت فجأة: «سيد تافرنيك، يجب أن أسألك سؤالا. هل حدث لك أمر مثل هذا من قبل؟»
أكد لها قائلا: «على الإطلاق.»
قالت معترضة: «يبدو أنك تأخذ كل شيء على أنه مسألة طبيعية.» «ولم لا؟»
أجابت بوهن: «أوه، لا أعرف. كل ما هنالك ...»
ثم أطلقت ضحكة مفاجئة وطبيعية للغاية كانت مخرجا لها من الإجابة.
قال: «حسنا، هذا أفضل. أنا سعيد لأني أراك تضحكين.»
صرحت قائلة: «في واقع الأمر، أشعر برغبة أكبر في البكاء. ألا تعلم أنك كنت شديد الحمق الليلة الماضية؟ كان ينبغي لك أن تتركني وحدي. لماذا لم تفعل؟ كنت ستوفر على نفسك كثيرا من العناء.»
أومأ برأسه كما لو كانت وجهة النظر هذه قد خطرت بباله، بدرجة ما.
واعترف قائلا: «نعم، أعتقد أنني كان ينبغي أن أفعل ذلك. أنا لا أفهم حتى الآن لماذا تدخلت. لا يسعني إلا أن أتذكر أن ذلك لم يبد ممكنا في حينها.» ثم أضاف وهو عابس قليلا: «أعتقد أنني لا بد لدي دوافع.»
قالت وهي تقدم على تناول شطيرة أخرى: «يبدو أن التفكير في الأمر يزعجك.»
اعترف قائلا: «إنه يزعجني حقا. لا أحب أن أشعر بأنني مضطر إلى فعل أي شيء لسبب غير واضح. أحب أن أفعل الأشياء التي يبدو أنها من المرجح أن تكون في مصلحتي.»
تمتمت قائلة: «لا بد أنك تكرهني!»
فأجاب: «لا، أنا لا أكرهك، لكن من ناحية أخرى، أنت بالتأكيد تمثلين عبئا علي. في البداية، كذبت من أجلك في الفندق، وأنا أفضل دائما أن أقول الحقيقة متى أستطيع. ثم تبعتك إلى خارج الفندق، وهو أمر لم أكن أحب فعله على الإطلاق، ويبدو أنني قضيت جزءا كبيرا من الوقت منذ ذلك الحين في صحبتك، في ظل ظروف غير عادية إلى حد ما. لا أفهم لماذا فعلت هذا.»
قالت: «أعتقد أن السبب في ذلك هو أنك شخص طيب القلب للغاية.»
أجابها مؤكدا بهدوء: «لكنني لست كذلك. أنا لست أي شيء من هذا القبيل. لدي القليل من التعاطف مع الناس الطيبين. أعتقد أن العالم سيسير بشكل أفضل كثيرا عندما يعتني كل شخص بنفسه، وليذهب الناس الذين ليسوا مؤهلين للقيام بذلك إلى الجحيم.»
تمتمت قائلة: «يبدو هذا التفكير أنانيا إلى حد ما.» «ربما هو كذلك. أعتقد أنني إذا كان بإمكاني صياغة أفكاري بشكل مختلف فستصبح ضربا من الفلسفة.»
قالت وهي تبتسم له عبر الطاولة: «ربما تكون قد فعلت كل هذا حقا لأنك معجب بي.»
قال مصرحا: «أنا متأكد تماما من أن الأمر ليس كذلك. أشعر باهتمام بك لا أستطيع فهم كنهه، لكن لا يبدو لي أنه اهتمام شخصي.» وتابع حديثه قائلا: «في الليلة الماضية عندما كنت جالسا هناك منتظرا، حاولت فهم كنه الأمر. وتوصلت إلى استنتاج مفاده أنك تمثلين شيئا لا أفهمه. أنا فضولي للغاية ودائما ما يهمني أن أتعلم. أعتقد أن هذا حتما هو سر اهتمامي بك.»
قالت له ساخرة: «أنت مجامل للغاية. أتساءل ماذا عساه أن يكون الشيء الذي أستطيع تعليمه لشخص فائق مثل السيد تافرنيك؟»
أخذ سؤالها على محمل الجد.
وأجاب: «أنا نفسي أتساءل ما هو هذا الشيء. ومع ذلك، بطريقة ما، أعتقد أني أعرف.»
قالت: «لا بد أن تعمل خيالك للخروج من هذه الحيرة.»
أعلن بتجهم: «ليس لدي خيال.»
ظلا صامتين عدة دقائق؛ كانت لا تزال تدرسه.
قالت فجأة: «أتساءل لماذا لا تسألني أي أسئلة عن نفسي.»
أجاب: «هناك شيء واحد، لدي فضول هائل أن أعرفه. الليلة الماضية في الصيدلية ...»
توسلت إليه، وقد اصفر وجهها فجأة: «لا تفعل! لا تتحدث عن ذلك!»
أجاب بلا مبالاة: «حسنا جدا. اعتقدت أنك كنت تدعينني لطرح الأسئلة. لا داعي للخوف من ذلك بعد الآن. أنا حقا لا يعتريني الفضول بشأن الأمور الشخصية؛ أعتقد أن حياتي تستحوذ على كل اهتمامي.»
انتهيا من الإفطار ودفع الفاتورة. وبدأت هي في ارتداء قفازها.
قالت: «مهما حدث لي، فلن أنسى أبدا أنك كنت في منتهى اللطف معي.»
ترددت لحظة ثم بدت كأنها تدرك الآن تماما كم كان لطيفا حقا. كان هناك نوع من الرقة الخالصة في أفعاله لم تقدرها حق قدرها. مالت نحوه. لم يتبق شيء هذا الصباح من هذا التجهم الذي كان يشوهها. كان فمها ناعما؛ وعيناها لامعتين، بل ربما جذابتين.
إن كان تافرنيك يستطيع الحكم على مظهر المرأة، فلا بد أنه وجدها جذابة.
وتابعت وهي تمد يدها: «أنا ممتنة جدا لك. سأتذكر دائما كم كنت لطيفا. مع السلامة!»
سأل: «أستذهبين؟»
ضحكت.
وسألته: «عجبا، هل تخيلت أنك قد أخذت على عاتقك مهمة العناية بي بقية حياتك؟»
أجاب: «لا، لم أتخيل ذلك. في الوقت نفسه، هل لديك أي خطط؟ إلى أين ستذهبين؟»
صرحت بلا مبالاة: «أوه! سأفكر في شيء ما.»
التقط بريق عينيها، واليأس المفاجئ الذي سقط كسحابة على وجهها. ثم تحدث بسرعة وبحسم.
وقال: «في واقع الأمر، أنت نفسك لا تعرفين. ستخرجين فقط من هذا المكان ومن المحتمل جدا أن تتوجهي إلى مقعد على الإمبانكمنت مرة أخرى.»
ارتجفت شفتاها. لقد حاولت أن تحافظ على رباطة جأشها، لكن ذلك كان صعبا.
أجابت: «ليس بالضرورة. قد يظهر شيء ما.»
مال قليلا عبر الطاولة نحوها.
وقال بروية: «اسمعي، سأقدم لك اقتراحا. لقد خطر ببالي خلال الدقائق القليلة الماضية. لقد سئمت من النزل وأرغب في تركه. والعمل الذي أقوم به ليلا يزداد أهمية أكثر وأكثر. أود أن أستأجر غرفتين في مكان ما. إذا أخذت غرفة ثالثة، فهل تقبلين أن تطلقي على نفسك ما أطلقته عليك عندما حدثت الخادمة عنك البارحة ... أختي؟ سوف أتوقع منك أن تهتمي بطعامي وبملابسي وأن تساعديني في أمور أخرى.» وتابع: «لا أستطيع أن أعطيك راتبا كبيرا، لكن ستتوفر لديك فرصة أثناء النهار للبحث عن أي عمل، إذا كان هذا ما تريدينه، وسيكون لديك على الأقل سقف يظلك ووفرة من الطعام والشراب.»
نظرت إليه نظرة خاوية ذاهلة. كان من الواضح أن عرضه صادق ونزيه تماما.
واحتجت قائلة: «لكن يا سيد تافرنيك، لقد نسيت أنني لست أختك في الحقيقة.»
سألها دون أن يجفل: «وهل هذا مهم؟» وأضاف على نحو يوحي بارتباكه: «أعتقد أنك تفهمين نوع الشخص الذي أنا عليه. لن يكون لديك ما تخشينه من أي إعجاب من جانبي ... أو أي شيء من هذا القبيل. هذه الأشياء ليست جزءا من حياتي. أنا أطمح لأن أتقدم ، وأنجح وأصبح ثريا. أما غير ذلك من أمور فلا تخطر ببالي.»
لم تنبس ببنت شفة. وبعد وقفة قصيرة، استأنف حديثه. «إنني أقدم هذا العرض من أجلي بقدر ما هو من أجلك. أنا مثقف جدا وأعرف معظم ما يمكن معرفته في مهنتي. ولكن ثمة أشياء أخرى أجهلها. أعتقد أنك تستطيعين تعليمي بعض هذه الأشياء.»
جلست ونظرت إليه عدة لحظات وهي لا تزال عاجزة عن الكلام. في الخارج، كانت المحطة مكتظة الآن بحشود متسارعة في طريقهم إلى أعمالهم اليومية. وكانت المحركات تدوي، والأجراس تدق، ووقع الخطوات لا يتوقف. وفي الغرفة المظلمة السيئة التهوية نفسها كان صوت قرع الأواني الخزفية، وتثاؤب الشابات الساخطات من خلف منضدة البيع، شابات لا يزال شعرهن ملفوفا ببكرات الشعر، غير مستعدات بعد للقيام بجولاتهن الصغيرة داخل الغرفة لتلبية طلبات زبائنهن المسالمين الذين يترقبون مجيئهن. بدا وكأنه ركن غريب في الحياة. نظرت إلى رفيقها وأدركت أنها لا تعرف عنه سوى معلومات قليلة متناثرة. لم يكن هناك شيء يمكنها استنتاجه من وجهه. بدا أن وجهه خال من التعبيرات. كان ببساطة ينتظر ردها بينما أفكاره نصف منهمكة بالفعل في أعمال اليوم.
بدأت: «حقا، أنا ...»
عاد من شروده اللحظي ونظر إليها. وفجأة غيرت طريقة حديثها. ربما كان عرضا غريبا، ولكن هذا الرجل كان من أغرب الرجال.
قررت: «أنا على استعداد تام للتجربة. هلا تخبرينني أين يمكنني مقابلتك لاحقا؟»
قال: «لدي ساعة ونصف الساعة لتناول الغداء عند تمام الواحدة. قابليني عند الركن الجنوبي الشرقي بالضبط من ميدان ترافالجار.» وأضاف وهو ينهض: «هل تريدين القليل من المال؟»
أجابت: «لدي الكثير، شكرا لك.»
وضع شلنين ونصف الشلن على المنضدة ودون شيئا في مذكرة صغيرة أخذها من جيبه.
قال: «من الأفضل أن تحتفظي بهذا المبلغ، في حال احتجت إليه. سأتركك وحدك هنا. يمكنك أن تنتقلي إلى أي مكان تريدينه، أنا متأكد، وأنا على عجلة من أمري. تذكري، في الساعة الواحدة. أتمنى أن تظلي بخير.»
وضع قبعته وغادر دون أن يلقي نظرة إلى الوراء. وجلست بياتريس على كرسيها تراقبه حتى غاب عن نظرها.
الفصل الخامس
تقديم السيدة وينهام جاردنر
كان ثمة عميل مميز للغاية يجذب انتباه السيد داولينج الأب، صاحب شركة ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني التي يقع مقرها في ووترلو بليس، بال مول. كان السيد داولينج رجلا ضئيلا صعب المراس، يتراوح عمره بين خمسين وستين عاما، ويقضي معظم وقته في لعب الجولف، وقد فقد اتصاله بتفاصيل العمل منذ مدة طويلة، رغم محاولته الجاهدة لتجاهل هذه الحقيقة. ومن ثم، في غياب السيد داولينج الابن، الذي تزايد ولعه بشكل ملحوظ بحانة معينة في المنطقة، استدعي تافرنيك على عجل لإنقاذ الموقف من جزء آخر من المبنى، حيث أرسل في طلبه صبي صغير يلهث بشدة.
قال الأخير بصوت هامس: «لم أر الرئيس في مثل هذه الورطة من قبل؛ فهي تطرح أسئلة لا نهاية لها وهو لا يعرف أي شيء على الإطلاق.»
سأل تافرنيك وهو في طريقه إلى الطابق السفلي: «من هي السيدة؟»
أجاب الصبي: «لم أسمع اسمها. ومع ذلك أستطيع أن أقول إنها على حق ... جمالها أخاذ. ويا لها من سيارة أيضا! زهور وطاولات وكل ما تتخيله بداخلها. يا إلهي، سيستشيط الرئيس غضبا إذا غادرت قبل أن تصل إلى هناك!»
أسرع تافرنيك الخطى وطرق باب المكتب الخاص ودلف في غضون لحظات قليلة.
رحب به رئيسه في بادرة ارتياح. نظرت عميلة الشركة المميزة، التي كان يحاول لفت انتباهها، نحو الوافد الجديد، في أول ظهور له، بنوع من اللامبالاة الضجرة. إلا أن عينيها لم تنزلا عن وجهه على الفور. بل على العكس من ذلك، فمن لحظة دخوله كانت تراقبه بثبات. اقترب تافرنيك بشجاعة ورباطة جأش، وفي ذلك الوقت بدون فهم، من المكتب.
أعلن السيد داولينج بخنوع: «هذا ... إممم ... السيد تافرنيك، المدير هنا. في غياب ابني، هو المسئول عن قسم الإيجارات. ليس لدي شك في أنه سيتمكن من اقتراح شيء مناسب.» وتابع: «تافرنيك، هذه السيدة ...» ونظر إلى بطاقة أمامه ثم استطرد: «السيدة وينهام جاردنر من نيويورك تبحث عن بيت كبير في المدينة، وقد تكرمت وتعطفت بأن تخصنا نحن بالاستفسار.»
لم يصدر تافرنيك أي رد فوري. كان السيد داولينج شخصا قاصر النظر، وعلى أي حال، لم يكن ليخطر بباله قط أن يربط العصبية، أو أي شكل من أشكال الانفعال، بمديره المسئول. اتكأت السيدة الجميلة على كرسيها. وندت من شفتيها ابتسامة طفيفة لكنها فضولية للغاية، وأسندت خدها إلى أصابعها، وانقبض جفناها وهي تتفرس في وجهه. شعر تافرنيك بأن كليهما تعرف على الآخر. ومرة أخرى رجع بذهنه إلى الأجواء المأساوية في تلك الصيدلية، عندما كانت بياتريس شبه فاقدة للوعي بين ذراعيه، والسيدة الجميلة قد تحولت إلى تمثال. كانت لوحة غريبة انطبعت بوضوح في ذاكرته لدرجة أنها كانت ماثلة أمامه في هذه اللحظة بعينها. كان ثمة غموض في عيني هذه المرأة، غموض وشيء آخر.
واصل السيد داولينج حديثه حاملا رزمة صغيرة من الورق من على المكتب: «لا يبدو أنني قد صادفت أي شيء هنا يجذب السيدة وينهام جاردنر بشكل خاص. اعتقدت أن منزل ميدان بريانستون سكوير ربما يكون مناسبا، لكن يبدو أنه صغير جدا، صغير جدا جدا. السيدة جاردنر معتادة على الاستضافة، وقد وضحت لي أن لديها أصدقاء كثيرين دائما ما يأتون ويذهبون من الجانب الآخر من المحيط. إنها تريد، على ما يبدو، اثنتي عشرة غرفة نوم، إلى جانب مكان لإقامة الخدم.»
ذكره تافرنيك قائلا: «إن قائمتك ليست محدثة بالكامل يا سيدي. إذا كان الإيجار ليس لغرض معين، فهناك جرانثام هاوس.»
أضاء وجه السيد داولينج فجأة.
وصاح: «جرانثام هاوس! بالضبط! الآن أصرح بأنه غاب عن ذاكرتي تماما في الوقت الحالي - فقط في الوقت الحالي - أننا وضعنا للتو في دفاترنا واحدا من أجمل القصور في الطرف الغربي من لندن. وصاحبه عميل من أهم عملائنا، أيضا، وأحد العملاء الذين نحرص تماما على خدمتهم. يا إلهي! من حسن الحظ جدا ... من حسن الحظ جدا أنني فكرت فيه، خاصة أنه، فيما يبدو، لم يكن لدى أي شخص حسن التقدير لوضعه في قائمتي. تافرنيك، أحضر المخططات في الحال واعرضها على ... إمممم ... السيدة جاردنر.»
عبر تافرنيك الغرفة في صمت، وفتح درجا، وعاد بلفافة أوراق، بسطها بحرص أمام هذه العميلة غير المتوقعة. ثم تحدثت لأول مرة منذ دخل الغرفة. كان صوتها منخفضا وحلوا بشكل رائع. لم تكن تشوبه اللهجة الأمريكية إلا قليلا، ولكن شيئا ما في نغمتها، خاصة في نهاية الجمل، كان أجنبيا قليلا.
استفسرت: «أين يوجد منزل جرانثام هذا؟»
أجاب تافرنيك بسرعة: «على مرمى حجر من ميدان جروسفينور. إنها حقا واحدة من أكثر المناطق مركزية في الطرف الغربي. إذا سمحت لي!»
في الدقائق القليلة التالية كان شديد اللباقة بالفعل. وبقلم رصاص في يده، شرح المخططات، وناقش مزايا الموقع، ومن خلال مدحه للمنزل خلق انطباعا بأن المنزل الذي كان يصفه هو أروع وأفضل منزل على الإطلاق في كل أنحاء لندن.
سألت عندما انتهى: «هل يمكنني معاينة المكان؟»
أعلن السيد داولينج: «بكل سرور، بكل سرور. كنت على وشك اقتراح ذلك. سيكون هذا الإجراء الأكثر إرضاء إلى حد بعيد. لن تخذلي يا سيدتي العزيزة، يمكنني أن أؤكد لك.»
قالت: «أود أن أفعل ذلك، إذا أمكن، دون تأخير.»
أجاب السيد داولينج: «لا توجد فرصة أفضل من هذه. إذا سمحت لي، فسيسعدني جدا أن أرافقك إلى هناك شخصيا. ارتباطاتي بقية اليوم تصادف أن تكون غير مهمة. تافرنيك، أعطني مفاتيح الغرف المغلقة. الحارس هناك بالطبع.»
نهضت الزائرة الجميلة على قدميها، وحتى تلك الحركة البسيطة قامت بها برقة لم ير تافرنيك مثيلا لها من قبل.
واحتجت على ذلك قائلة: «لا أتصور إزعاجك أكثر من ذلك يا سيد داولينج. ليس هناك داع إطلاقا أن تأتي بنفسك. لعل مديرك يستطيع أن يمنحني بضع دقائق من وقته.» ثم أضافت مبررة، عندما لاحظت سحابة من الحزن تخيم على وجه السيد داولينج: «يبدو أنه على علم تام بكل التفاصيل.»
قال: «كما تحبين، بالطبع. السيد تافرنيك يستطيع الذهاب بكل سرور. عندما فكرت الآن في الأمر، سيكون من غير المناسب بالنسبة إلي بالتأكيد أن أبتعد عن المكتب أكثر من بضع دقائق. والسيد تافرنيك لديه كل التفاصيل طوع بنانه، وكل ما أتمناه يا سيدة جاردنر أن يتمكن من إقناعك بأخذ المنزل.» ثم أضاف بانحناءة: «عميلنا، سيكون سعيدا، بالتأكيد، عندما يعرف أننا ضمنا له مستأجرا مميزا مثل سيادتك.»
ابتسمت له ابتسامة هي مزيج من اللطف والرقة والتواضع.
وأجابت: «أنت لطيف جدا. المنزل يبدو كبيرا جدا بالنسبة إلي لكن الأمر يعتمد إلى حد كبير على الظروف. إذا كنت مستعدا، يا سيد ...»
قال لها: «تافرنيك.»
واصلت حديثها: «سيد تافرنيك، سيارتي تنتظر في الخارج ويمكننا الذهاب في الحال.»
انحنى وفتح لها الباب، وهي مهمة أداها بإحراج قليلا. ورافقها السيد داولينج بنفسه إلى الخارج حتى الرصيف. توقف تافرنيك لإحضار قبعته، ثم خرج بعد لحظة، وكان سيجلس في المقعد الأمامي بجوار السائق لولا أنها أبقت باب السيارة الخلفي مفتوحا وأومأت إليه.
أصرت قائلة: «هلا تدخلين من فضلك؟ هناك سؤال أو اثنان قد أطرحهما عليك بينما نحن في الطريق. من فضلك أعط توجيهاتك للسائق.»
أطاع بغير كلمة؛ وانطلقت السيارة. بينما كانوا ينعطفون عند الزاوية الأولى، مالت نحو الأمام من بين وسائد مقعدها الوثير ونظرت إليه. عندئذ أدرك تافرنيك أشياء جديدة. كما لو كان قد علم في لحظة إلهام أن زيارتها لمكتب ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني لم تكن بمحض المصادفة.
كانت تتذكره، وتتذكره كرفيق بياتريس أثناء ذلك اللقاء الغريب والمختصر. لقد كان عالما غير مفهوم، هذا الذي هام فيه. زال عن وجه المرأة ذلك التعبير الرقيق الضعيف. وخيم عليه تعبير جديد أقرب إلى المأساة. نزلت أصابعها على ذراعه في لمسة ليست بالخفيفة. بل كانت تمسك به مسكة تكاد تكون قوية.
وقالت: «سيد تافرنيك، لدي ذاكرة للوجوه نادرا ما تخونني. لقد رأيتك من قبل في الآونة الأخيرة. أنت تتذكر أين، بالطبع. قل لي الحقيقة بسرعة من فضلك.»
بدت الكلمات وكأنها تندفع من شفتيها. ورغم كونها جميلة وشابة دون أدنى شك، فإن جديتها الشديدة قد منحت وجهها فجأة عمرا أكبر من عمرها الحقيقي. أصابت الحيرة تافرنيك. كان هو أيضا يشعر باضطراب عاطفي غريب.
سألها: «الحقيقة؟ أي حقيقة تقصدين؟» «أنت الذي رأيته مع بياتريس!»
اعترف ببطء: «لقد رأيتني ليلة ما منذ نحو ثلاثة أسابيع. كنت في صيدلية في شارع ستراند. وكنت توقعين في دفتر الصيدلي للحصول على دواء منوم، على ما أعتقد.»
أصابتها رعشة في جسدها بالكامل.
وصاحت: «نعم، نعم! بالطبع، أتذكر كل شيء. الآنسة التي كانت معك ... ماذا كانت تفعل هناك؟ وأين هي الآن؟»
أجاب تافرنيك بحسم: «الآنسة كانت أختي.»
بدت السيدة وينهام جاردنر، لحظة، وكأنها ستضربه.
قالت: «لست بحاجة إلى أن تكذب علي! الأمر لا يستحق ذلك. أخبرني أين قابلتها، ولم كنت معها في الأساس في هذا الوضع المتآلف، وأين هي الآن!»
أدرك تافرنيك على الفور أنه فيما يتعلق بهذه المرأة، فإن القصة التي اخترعها لعلاقته ببياتريس لن تجدي. فهي تعرف!
أجاب: «سيدتي، تعرفت إلى الشابة التي كانت معي في ذلك المساء، في النزل الذي كان يعيش فيه كلانا.»
سألت: «ماذا كنتما تفعلان في الصيدلية؟»
تابع بروية وهو يتساءل بينه وبين نفسه عن مقدار ما يخبرها به: «كانت الشابة مغشيا عليها. لقد أصيبت بإغماء بالفعل. وكانت تستعيد وعيها بصعوبة عندما دخلت.»
سألت المرأة بلهفة: «وأين هي الآن؟ ألا تزال في ذلك النزل الذي تحدثت عنه؟»
أجاب: «نعم.»
أمسكت أصابعها بذراعه مرة أخرى. «لماذا ترد علي دائما بهذه الردود المقتضبة؟ ألا تدرك أن عليك أن تخبرني بكل ما تعرفه عنها. يجب أن تخبرني أين يمكنني أن أجدها في الحال.»
ظل تافرنيك صامتا. كان صوت المرأة لا يزال يتمتع بتلك النغمة الناعمة الرائعة، لكنها فقدت كلية اللامبالاة التامة الأرستقراطية. لقد كانت شخصا مختلفا تماما الآن عن تلك العميلة المميزة التي استعانت بخدماته في بادئ الأمر. ولسبب أو لآخر، كان يعرف أنها تعاني من قلق رهيب.
قال أخيرا: «لست متأكدا مما إذا كان بإمكاني أن أفعل ما تطلبينه.»
صاحت بحدة: «ماذا تقصد؟»
وتابع: «بدا أن الشابة، في المرة التي أشرت إليها، كانت حريصة تحديدا على تجنب أن يتعرف عليها أحد. لقد خرجت مسرعة من المكان دون أن تتحدث معك ، وتجنبت الموضوع منذ ذلك الحين. لا أعرف ماذا قد تكون دوافعها، لكني أعتقد أنني أود أن أسألها أولا قبل أن أخبرك أين يمكنك العثور عليها.»
مالت السيدة وينهام جاردنر نحوه. كانت بالتأكيد المرة الأولى التي تنظر امرأة في مستواها الظاهر إلى تافرنيك بمثل هذه الطريقة. كانت جبهتها مجعدة قليلا، وشفتاها منفرجتين، وعيناها بليغتين على نحو مبهج يثير التعاطف.
قالت راجية: «يا سيد تافرنيك، يجب ألا تتجاهلني. لو أنك فقط تعرف أهمية الموضوع، لما كنت ستتردد لحظة. هذا ليس فضولا بلا داع من جانبي. لدي أسباب، وهي أسباب خطيرة جدا حقا، لرغبتي في اكتشاف مكان وجود الفتاة المسكينة على الفور. هناك خطر محتمل يجب تحذيرها منه. لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك باستثنائي.»
سأل تافرنيك: «هل أنت صديقتها أم عدوتها؟»
فسألته: «لماذا تسأل مثل هذا السؤال؟»
واصل تافرنيك بإصرار: «أنا فقط أتذكر تعبيرات وجهها عندما رأتك تدخلين إلى الصيدلية.»
صاحت المرأة: «هذا قول فظ. أتمنى أن أكون صديقتها، وأنا صديقتها. لو أنني كنت أستطيع فقط إخبارك بكل شيء، لفهمت في الحال مثل هذا الموقف الفظيع، يا له من مأزق شنيع هذا الذي وقعت فيه.»
مرة أخرى، توقف تافرنيك مؤقتا بضع لحظات. لم يكن تفكيره سريعا قط وكان الموقف بالتأكيد محرجا له.
أجاب بإسهاب: «سيدتي، أرجو ألا تخبريني بأي شيء. الشابة التي تحدثت عنها تسمح لي بأن أطلق على نفسي صديقها، وما لم تخبرني به هي نفسها لا أرغب في معرفته من الآخرين. سأخبرها عن لقائي بك، وإذا كانت هذه رغبتها، فسوف أعطيك عنوانها بنفسي في غضون بضع ساعات. لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك.»
أصبح وجهها فجأة باردا وقاسيا.
وصاحت بغضب: «أتقصد أنك لن تفعل! أنت عنيد. لا أعرف كيف تجرؤ على رفض ما أطلبه.»
توقفت السيارة. ونزل إلى الرصيف.
أعلن: «هذا جرانثام هاوس، يا سيدتي. هلا تنزلين؟»
سمعها تنفث نفسا سريعا بين أسنانها ولمح في عينيها لمعانا جعله يشعر بعدم ارتياح غامض. كانت غاضبة جدا حقا.
قالت ببرود: «لا أعتقد أنه من الضروري بالنسبة إلي أن أفعل. أنا لا أحب شكل هذا المنزل على الإطلاق. لا أعتقد أنه يناسبني.»
احتج قائلا: «على الأقل، الآن بما أنك هنا، من فضلك، تعالي لتعاينيه. أود أن تري قاعة الرقص. من المفترض أن تكون الزخارف استثنائية للغاية.»
ترددت لحظة وبعد ذلك، هزت كتفيها هزة خفيفة، واستجابت له. كانت ثمة نغمة في صوته ليست بالضبط ملحة، لكنها مهيمنة، نغمة أطاعتها رغم أنها تعجبت سرا من نفسها لأنها فعلت ذلك. دلفا إلى المنزل، وتتبعته من غرفة إلى أخرى، تاركة له كل الكلام. بدت غير مهتمة ولكن بين الحين والآخر كانت تسأل سؤالا متثاقلا.
وقررت أخيرا: «لا أعتقد أنه يناسبني بأي حال من الأحوال. كل شيء رائع للغاية، بالطبع، لكني أعتقد أن الإيجار مبالغ فيه.»
نظر إليها تافرنيك متفكرا.
قال: «أعتقد أن عميلنا قد يكون على استعداد للنظر في تخفيض قيمة الإيجار بعض الشيء، في حالة استعدادك الجاد لتأجير البيت. إذا أردت، فسأناقش معه هذا الموضوع. أشعر بأنه يمكن تخفيض المبلغ الذي ذكرته، إذا كانت الشروط الأخرى مرضية.»
ووافقت على ذلك قائلة: «لا مانع من قيامك بذلك. متى يمكن أن تأتي إلي وتخبرني بما فعلت؟»
أجاب: «قد أتمكن من الاتصال بك هذا المساء؛ وبالتأكيد غدا صباحا.»
هزت رأسها.
وقالت: «لن أتحدث عبر الهاتف. أنا لا أسمح باستخدام الهاتف في منزلي إلا بحدود. يجب أن تأتي وتخبرني بما يقوله عميلك. متى يمكنك رؤيته؟»
أجاب: «من المشكوك فيه أن أتمكن من العثور عليه هذا المساء. من المرجح أن أراه صباح الغد.»
اقترحت: «يمكنك أن تذهب وتحاول على الفور.»
اندهش قليلا.
واستفسر: «هل أنت مهتمة حقا بالمسألة، إذن؟»
قالت له: «نعم، نعم، بالطبع أنا مهتمة. أريدك أن تأتي لرؤيتي مباشرة بمجرد أن تسمع منه شيئا. هذا أمر مهم. لنفترض أنك تستطيع العثور على عميلك الليلة، فهل سترى الشابة قبل ذلك؟»
أجاب: «أخشى أنني لن أفعل.»
رجته وهي تضع أصابعها على كتفه قائلة: «يجب أن تحاول. أرجو منك أن تحاول يا سيد تافرنيك. لا يمكنك أن تدرك ما يعنيه كل هذا القلق بالنسبة إلي. أنا لست على ما يرام على الإطلاق وأنا قلقة للغاية بشأن ... بشأن هذه الشابة. أقول لك إنني يجب أن أجري مقابلة معها. ليس هذا من أجلي بقدر ما هو من أجلها هي. لا بد من تحذيرها.»
كرر تافرنيك قولها: «تحذيرها؟ أنا حقا لا أفهم.»
صاحت بنفاد صبر: «بالطبع لا تفهم! لماذا عليك أن تفهم؟» وتابعت على عجل: «أنا لا أريد أن أسيء إليك، يا سيد تافرنيك. أود أن أعاملك بصراحة تامة. أنت حقا لست في موضع يجعلك تضع مثل هذه العراقيل. ما الصلة التي تربطك بهذه الشابة لكي تعتبر نفسك وليها؟»
اعترف تافرنيك قائلا: «إنها ليست سوى أحد المعارف من النزل.»
سألت السيدة جاردنر: «إذن لماذا أخبرتني، منذ لحظة فقط، أنها أختك؟»
فتح تافرنيك الباب الذي كانا يقفان أمامه.
قال: «هذه قاعة الرقص الشهيرة. اللورد كلمبر على استعداد تام لأن تظل الصور هنا، ويمكنني أن أخبرك أنها مؤمن عليها بما يزيد عن ستين ألف جنيه. لا توجد قاعة رقص أفضل من هذه في لندن بأسرها.»
جالت عيناها في المكان بلا مبالاة.
واعترفت ببرود: «ليس لدي شك في أنها جميلة جدا. أنا أفضل مواصلة مناقشتنا.»
تابع حديثه: «غرفة الطعام كبيرة بالقدر نفسه تقريبا. أخبرنا اللورد كلمبر بأنه كثيرا ما كان يستقبل ثمانين ضيفا على العشاء. ونظام التهوية في هذه الغرفة، كما ترين، حديث تماما.»
أخذته من ذراعه وقادته إلى مقعد في الطرف الأبعد من الغرفة.
قالت، وهي تحاول بوضوح السيطرة على مزاجها: «سيد تافرنيك، أنت تبدو شابا عاقلا جدا، إذا سمحت لي أن أقول ذلك، وأنا أريد إقناعك بأن من واجبك الرد على أسئلتي. في المقام الأول ... لا تستأ مما سأقوله ... ولكني لا أستطيع أن أرى ما يمكن أن يثير اهتمام أحدكما أنت وهذه الشابة في الآخر. أنت تنتمي، بصراحة، إلى طبقة اجتماعية مختلفة تماما، وليس من السهل تخيل ما يمكن أن يكون مشتركا بينكما.»
توقفت برهة ، لكن لم يكن لدى تافرنيك ما يقوله. كانت موهبة الصمت لديه تصل في بعض الأحيان إلى حد العبقرية. كانت تميل مقتربة منه للغاية بينما تنتظر رده عبثا، لدرجة أن الفراء حول عنقها لمس وجنته. ساعد عطر ثيابها وشعرها، والرجاء الذي يطل من عينيها الزرقاوين البنفسجيتين، في إبقائه صامتا تماما. لم يسبق أن حدث له مثل هذا الشيء من قبل. لم يفهم على الإطلاق ماذا يمكن أن يعني ذلك.
واصلت بجدية: «أنا أتحدث إليك الآن، يا سيد تافرنيك، لمصلحتك. عندما تخبر هذه الشابة، كما وعدت هذا المساء، بأنك قد رأيتني، وأنني حريصة جدا على أن أكتشف مكانها، فمن المحتمل جدا أن تنزل على ركبتيها وتتوسل إليك ألا تعطيني أي معلومات مهما كانت عنها. ستبذل قصارى جهدها لتجعلك تعدها بألا تسمح بلقائنا. ومع ذلك كل هذا لأنها لا تفهم. صدقني من الأفضل أن تخبرني الحقيقة. لا يمكنك أن تعرفها جيدا يا سيد تافرنيك، لكنها ليست حكيمة جدا، تلك الشابة. إنها عنيدة جدا ولديها بعض الأفكار الغريبة. وليس من مصلحتها أن تترك في هذا العالم وحدها. يجب أن ترى ذلك بنفسك، يا سيد تافرنيك.»
قال بهدوء: «إنها تبدو شابة عاقلة للغاية. أعتقد أنها كبيرة بما يكفي لأن تعرف بنفسها ما تريده وما هو الأفضل لها.»
أشاحت المرأة التي كانت بجانبه بيديها تعبيرا عن اليأس.
وصاحت بصوت متهدج بالعواطف مرة أخرى: «أوه، لماذا لا أستطيع أن أفهمك! كيف يمكنني ... كيف يمكنني أن أجعلك تصدقني؟ اسمع. حدث شيء لم تعرفه هي ... شيء فظيع. من الضروري للغاية، لصالحها ولصالحي، أن أراها، وهذا هو الموضوع باختصار شديد.»
أجاب تافرنيك دون أن يبدو عليه أي تأثر: «سأخبرها بما تقولينه بالضبط. ربما يكون من الأفضل الآن أن نواصل مشاهدة غرف النوم.»
صاحت بسرعة: «لا تهتم بشأن غرف النوم! عليك أن تفعل ما هو أكثر من إخبارها. لا يمكنك تصديق أنني أريد إلحاق الضرر بأي شخص. هل أبدو هكذا؟ هل أبدو بمظهر شخص شرير؟ يمكنك أن تكون أفضل صديق لتلك السيدة الشابة، يا سيد تافرنيك، إذا فعلت ما أطلبه منك. خذني إليها الآن، هذه اللحظة. صدقني، إذا فعلت ذلك، فلن تندم على ذلك طوال حياتك.»
تفحص تافرنيك نمط أرضية الباركيه عدة لحظات. كانت تلك مشكلة صعبة. عندما وضع مشاعره غير العادية في الخلفية، كان في مواجهة شيء لم يفهمه، وساءه الموقف بشدة. ورغم كل شيء، بدا أن التأجيل هو الأحوط.
احتج قائلا: «سيدتي، بضع ساعات أكثر أو أقل لن تحدث فرقا كبيرا.»
صاحت قائلة: «هذا يخضع لحكمي! أنت تقول ذلك لأنك لا تفهم. بضع ساعات قد تحدث فرقا هائلا.»
هز رأسه.
وقال بروية: «سأخبرك بالضبط ما يدور في ذهني. لقد كانت الشابة مرعوبة عندما رأتك في تلك الليلة مصادفة في الصيدلية. وكادت أن تجرني بعيدا، وعلى الرغم من أنها كادت أن يغمى عليها عندما وصلنا إلى السيارة الأجرة، كان قلقها الأكبر والأهم هو أننا يجب أن نبتعد قبل أن تتمكني من تتبعنا. لا أستطيع أن أنسى هذا. وحتى أحصل على إذنها، للكشف عن مكان وجودها، سوف نتحدث، إذا سمحت، عن شيء آخر.»
نهض واقفا على قدميه وعندما ألقى نظرة خاطفة تمكن في الوقت المناسب من أن يرى التغير الذي حدث في وجه رفيقته. تلاشت تلك الابتسامة المتوسلة اللبقة من شفتيها، وصرت على أسنانها. بدت كأنها امرأة تكافح بشدة للسيطرة على عاطفة ساحقة. بدون الابتسامة بدت شفتاها صارمتين، بل ربما قاسيتين. وكان بريق الشر يلمع من عينيها. وشعر تافرنيك برجفة، بل إنه كاد يشعر بالخوف.
صرحت ببرود: «سنرى باقي المنزل.»
انتقلا من غرفة إلى أخرى. واستعاد تافرنيك نفسه بسرعة، وأبدى لباقة وعملية أثناء قيامه بمهمته التي يبرع فيها. واستمعت المرأة، مبدية ملاحظة مقتضبة من حين لآخر. ووقفا مرة أخرى في الصالة.
سأل: «هل هناك أي شيء آخر تودين رؤيته؟»
فأجابت: «لا شيء، لكن هناك شيئا آخر أود أن أقوله.»
انتظر في صمت بارد.
وواصلت حديثها وهي تتفرس في وجهه: «منذ أسبوع فقط، قلت لرجل ممن يطلق عليهم، على ما أعتقد، المحققين ، إنني سأمنحه مائة جنيه إذا استطاع أن يعثر لي على تلك الشابة في غضون أربع وعشرين ساعة.»
جفل تافرنيك، وعادت الابتسامة إلى شفاه السيدة وينهام جاردنر. فرغم كل شيء، ربما تكون قد وجدت الطريقة!
قال بتمعن: «مائة جنيه مبلغ كبير.»
هزت كتفيها.
أجابت: «ليس كبيرا للغاية. إنه إيجار أسبوعين تقريبا لهذا المنزل يا سيد تافرنيك.»
سأل: «هل ما زال العرض قائما؟»
نظرت في عينيه، وحمل وجهها مرة أخرى البراءة الجميلة لطفلة.
قالت: «يا سيد تافرنيك، العرض لا يزال قائما. اركب السيارة معي ولنعد إلى مسكني في ميلان كورت، وسوف أعطيك شيكا بمائة جنيه في الحال. سيكون من السهل جدا حصولك عليه، ويمكنك ببساطة أن تأخذه، لأنني أعرف الآن مكان عملك، وبإمكاني أن أؤجر من يراقبك يوما بعد يوم حتى أكتشف بنفسي ما تخفيه بحماقة. كن عاقلا يا سيد تافرنيك.»
وقف تافرنيك ثابتا تماما. وكانت ذراعاه مطويتين، وكان ينظر للخارج عبر نافذة الصالة على منظر الأسطح والمداخن الذي يغطيه الدخان. من قمة شعره غير المصفف جيدا إلى قعر حذائه الجاهز، كان شابا عاديا تماما. كانت مائة الجنيه بالنسبة إليه مبلغا ضخما. كانت تمثل مدخرات عام من العمل المضني، وربما أكثر. تخيلت المرأة التي وقفت تراقبه أنه كان مترددا. ومع ذلك، لم يكن لدى تافرنيك مثل هذه الفكرة في عقله. وقف هناك بدلا من ذلك متسائلا ما الشيء الغريب الذي أصابه لدرجة أن ذكر مائة جنيه، رغم عظم المبلغ، لم يغره ولو لثانية واحدة. ما قالته هذه المرأة قد يكون صحيحا. ربما يمكنها اكتشاف العنوان بسهولة كافية دون مساعدته. ومع ذلك، لا يبدو أن مثل هذه الفكرة أحدثت أقل فرق. من أيام طفولته الأولى، من الوقت الذي دفع فيه نفسه إلى الكفاح، كان المال دائما يعني الكثير بالنسبة إليه، المال ليس من أجل المال في حد ذاته وإنما كمفتاح لكل تلك الأشياء التي يشتهيها في الحياة. لكن في تلك اللحظة بدا أن شيئا أقوى قد كشف النقاب عن نفسه.
همست وهي تتأبط ذراعه: «أستأتي؟ سنصل إلى هناك في أقل من خمس دقائق، وسأكتب لك الشيك قبل أن تخبرني بأي شيء.»
تحرك نحو الباب بالفعل، لكنه ابتعد عنها قليلا.
وقال: «سيدتي، أنا آسف لأنني أبدو عنيدا للغاية، لكنني ظننت أنني شرحت لك الأمر منذ قليل. لا أشعر بأن لي حرية إخبارك بأي شيء دون إذن تلك الشابة.»
صاحت غير مصدقة: «هل ترفض؟ هل ترفض مائة جنيه؟»
فتح باب السيارة. وبدا أنه لا يكاد يسمعها.
قال: «في نحو الساعة الحادية عشرة صباح الغد، سيكون من دواعي سروري أن أزورك. أنا على ثقة من أنك ستكونين قد قررت أخذ المنزل.»
الفصل السادس
أسئلة وأجوبة
جلس تافرنيك بعد ساعات قليلة يتناول وجبته المسائية في غرفة الجلوس الصغيرة في منزل سكني في تشيلسي. كان يرتدي ربطة عنق سوداء، وعلى الرغم من أنه لم يتطلع بعد إلى معطف عشاء، فإن تفاصيل هيئته وشكله أظهرت أمارات اهتمام جديد. كانت بياتريس تجلس في مواجهته.
سألت بمجرد أن اختفت الخادمة الصغيرة التي أحضرت طبقهما الأول: «قل لي، ماذا كنت تفعل طوال اليوم؟ هل كنت تؤجر منازل أم تقوم بعمليات مسح لأراض أم تسجل الحسابات، أم هل ذهبت إلى مارستون رايز؟»
كان هذا سؤالها المعتاد. لقد كانت تهتم حقا بعمله.
قال: «كنت أرافق زبونة أمريكية ثرية، مواطنة من بلدك. ذهبت معها إلى جرانثام هاوس في سيارتها. أعتقد أنها تفكر في استئجاره.»
قالت بياتريس: «أمريكية! ما اسمها؟»
رفع تافرنيك نظره من طبقه إلى وجه الفتاة عبر المنضدة الصغيرة، والمزهرية ذات الزهور البسيطة التي كانت الشيء الوحيد الذي يزين المنضدة. «قالت إن اسمها السيدة وينهام جاردنر!»
تلاشى السلام الذي غمر وجه الفتاة مؤخرا في لمح البصر. وأمسكت أنفاسها، وقبضت على المنضدة أمامها بأصابعها. ومرة أخرى كانت - كما عرفها في البداية - شاحبة ذات عينين واسعتين مرتعبتين تلمعان وسط وجه هزيل.
قالت بياتريس لاهثة: «لقد ذهبت إليك لاستئجار منزل؟ هل أنت متأكد؟»
وصرح تافرنيك بهدوء: «متأكد تماما.» «هل تعرفت عليها؟»
أقر بجدية.
قال: «كانت المرأة التي وقفت في الصيدلية في تلك الليلة لتوقع اسمها في الدفتر.»
لم يعتذر بأي شكل من الأشكال عن الصدمة التي سببها لها. لقد تعمد أن يفعل ذلك. منذ ذلك الصباح الأول، عندما تناولا الإفطار معا في محطة لندن بريدج، شعر أنه يستحق ثقتها، وإلى حد ما كان يشكو من حجبها عنه. «هل تعرفت عليك؟»
اعترف قائلا: «نعم. أرسل في طلبي ووجدتها في المكتب مع رئيسي في العمل. كنت متأكدا من أنها تعرفت علي منذ البداية، وعندما وافقت على إلقاء نظرة على جرانثام هاوس، أصرت على أن أرافقها. وبينما كنا في السيارة، سألتني عنك. كانت تريد عنوانك.»
صاحت الفتاة مبهورة الأنفاس: «هل أعطيتها إياه؟» «لا؛ قلت إنه يجب أن أستشيرك أولا.»
تنفست الصعداء في ارتياح. ومع ذلك، كانت تبدو شاحبة ومرتعدة. «هل قالت ما أرادتني من أجله؟»
أجاب تافرنيك: «كانت غامضة للغاية. تحدثت عن خطر لم تكوني تعرفين شيئا عنه. وقبل أن أرحل، عرضت علي مائة جنيه لأخبرها عن مكانك.»
ضحكت بياتريس بهدوء.
وصرحت: «هذا شأن إليزابيث دائما. لا بد أنك أثرت غضبها بشدة. عندما تريد أي شيء، فإنها تريده بشدة بالفعل، ولن تصدق أبدا أن هناك من ليس له ثمن. فالمال يعني كل شيء بالنسبة إليها. إذا كانت تملكه، فهي تشتري، وتشتري، تشتري طوال الوقت.»
علق تافرنيك بجدية: «في ظاهر الأمر، بدا عرضها سخيفا للغاية. إذا كانت جادة، إذا كانت حقا ترغب بشدة في أن تكتشف مكان وجودك، فستتمكن من ذلك بالتأكيد دون مساعدتي.»
ردت بياتريس: «لست متأكدة من ذلك. لندن مكان رائع للاختباء.»
بدأ قائلا: «محقق خاص ...»
هزت بياتريس رأسها.
وقالت: «لا أعتقد أن إليزابيث ستهتم بتوظيف محقق خاص. قل لي، هل عليك أن تراها بخصوص هذا العمل مرة أخرى؟» «أنا ذاهب إلى شقتها في ميلان كورت صباح الغد في تمام الحادية عشرة.»
اتكأت بياتريس على كرسيها. واستأنفت عشاءها على الفور. كانت تبدو كشخص منح هدنة. بدأ تافرنيك بطريقة ما يستاء من صمتها المستمر. لقد كان يأمل بالتأكيد أن تذهب على الأقل إلى حد شرح سبب حرصها الشديد على إبقاء عنوانها سريا.
تابع بعد برهة من الصمت: «يجب أن تتذكري أنني في موقف حرج نوعا ما فيما يتعلق بك يا بياتريس. أعرف القليل جدا لدرجة أني لا أعرف حتى كيف أجيب عن أسئلة كالتي طرحتها علي السيدة وينهام جاردنر بما فيه مصلحتك. أنا لا أشكو، لكن هل حالة التجاهل المطلق هذه ضرورية؟»
بدا أن فكرة جديدة طرأت على بياتريس. نظرت إلى رفيقها بفضول.
وسألت: «قل لي، ما رأيك في السيدة وينهام جاردنر؟»
أجاب تافرنيك بروية، وبعد أن فكر لحظة.
قال: «اعتقدت أنها واحدة من أجمل النساء التي رأيتها في حياتي. هذا لا يعني الكثير، ربما، لكنه يعني لي الكثير. كانت رقيقة للغاية واهتمامها بك بدا حقيقيا جدا وحتى عاطفيا. أنا لا أفهم لماذا ترغبين في الاختباء من مثل هذه المرأة.»
أصرت بياتريس: «هل وجدتها جذابة؟»
اعترف تافرنيك دون تردد: «لقد وجدتها جذابة للغاية بالفعل. كانت تتمتع بفتنة طاغية. كانت مختلفة تماما عن جميع النساء اللواتي قابلتهن في الفندق أو في أي مكان آخر. لديها وجه ذكرني بطريقة ما بلوحات السيدة العذراء التي أخذتني لرؤيتها في المعرض الوطني ذلك اليوم.»
ارتجفت بياتريس قليلا. لسبب ما، بدا أن ملاحظته ضايقتها.
قالت: «أنا آسفة للغاية، لأن إليزابيث أتت إلى مكتبك. أريدك أن تعدني يا ليونارد بأنك ستكون حذرا متى كنت معها.»
ضحك تافرنيك.
وكرر قولها: «حذر! ليس من المحتمل أن تكون مهذبة معي غدا عندما أخبرها أنني رأيتك وأرفض أن أعطيها عنوانك. حذر حقا! ماذا لدى موظف فقير في مكتب توكيل عقاري ليخشاه من شخصية كهذه؟»
عادت الخادمة إلى الظهور بثاني وآخر طبق. تحدثا بضع لحظات عن مواضيع عادية. ومع ذلك، فقد طرح تافرنيك بعد ذلك سؤالا.
قال: «بالمناسبة، نأمل أن نؤجر جرانثام هاوس للسيدة وينهام جاردنر. أفترض أنها لا بد أن تكون ثرية جدا؟»
نظرت إليه بياتريس بفضول.
وسألت: «لماذا تأتيني للحصول على معلومات؟ أفترض أنها أحضرت لكم مستندات؟»
أجاب: «لم نصل إلى تلك المرحلة بعد. بطريقة أو بأخرى، من طريقة حديثها ومظهرها العام، لا أعتقد أن السيد داولينج أو أنا قد شككنا في وضعها المالي.»
علقت بياتريس مبتسمة: «لم أكن لأظن أنك بهذه السذاجة قط.»
انزعج تافرنيك حقا. وأثارت فضوله التجاري.
استفسر: «هل تقصدين حقا أن السيدة وينهام جاردنر هذه ليست امرأة ثرية.»
هزت بياتريس كتفيها.
وردت: «إنها زوجة رجل اشتهر بأنه ثري جدا. أما هي، فأنا متأكدة من أنها لا تملك مالا خاصا بها.»
سأل تافرنيك: «أما زالت تعيش مع زوجها؟»
أغمضت بياتريس عينيها.
وصرحت قائلة: «أنا أعرف القليل جدا عنها. آخر مرة سمعت أنه اختفى، رحل، أو شيء من هذا القبيل.»
أصر تافرنيك: «وليس لديها مال، باستثناء ما تحصل عليه منه؟ لا عقارات حتى، أو أي شيء من هذا القبيل؟»
أجابت بياتريس: «لا شيء على الإطلاق.»
علق تافرنيك، وهو يفكر متجهما في اليوم الذي أضاعه: «هذه أخبار سيئة للغاية. ستكون خيبة أمل كبيرة للسيد داولينج. عجبا، سيارتها كانت رائعة، وتحدثت كما لو كان المال ليس ذا أهمية على الإطلاق. هل أفترض أنك متأكدة تماما مما تقولينه؟»
هزت بياتريس كتفيها.
وأجابت بتجهم: «يجب أن أعرف؛ لأنها أختي.»
بقي تافرنيك بلا حراك على الإطلاق مدة دقيقة، دون أن ينبس ببنت شفة؛ كانت هذه طريقته في إظهار المفاجأة. وعندما تيقن من أنه قد فهم فحوى كلامها، تحدث مرة أخرى.
كرر كلامها: «أختك! هناك شبه بالطبع. أنت سمراء وهي شقراء ولكن هناك شبه.» ثم استأنف قائلا: «هذا من شأنه أن يفسر قلقها للعثور عليك.»
ردت بياتريس: «هذا من شأنه أن يفسر أيضا حرصي على ألا تجدني.» وأضافت وهي تلمس يده بيدها لحظة: «أتمنى لو كان بإمكاني أن أخبرك بكل شيء، ولكن هناك أشياء في الخلفية، أشياء مروعة، لدرجة أنني لا أستطيع التحدث عنها حتى معك، يا أخي العزيز.»
نهض تافرنيك على قدميه وأشعل سيجارة - وهي عادة جديدة اعتادها - بينما شغلت بياتريس نفسها بآلة صغيرة لصنع القهوة. جلس في مقعد وثير وراح يدخن ببطء . كان لا يزال يرتدي ملابسه الجاهزة، لكن ياقته كانت ذات شكل عصري، وربطة عنقه اختيرت بعناية وضبطت بدقة. بدا أنه تطور بطريقة ما.
سأل: «بياتريس، ماذا أقول لأختك غدا؟»
ارتجفت وهي تضع فنجان قهوته بجانبه.
أجابت: «قل لها، إن شئت، إنني بخير ولست معوزة. وقل لها أيضا إنني أرفض إرسال عنواني. قل لها إن هدفي الوحيد في الحياة هو الحفاظ على سرية مكاني بالنسبة إليها.»
عاد تافرنيك إلى الصمت. كان يفكر. كانت الألغاز شيئا مرفوضا بالنسبة إليه ... كان يبغضها. وقد شعر بضغينة شديدة ضد هذا السر تحديدا. ومع ذلك، فقد نهاه حدسه وفطرته عن استجواب الفتاة.
سأل بعد وهلة: «بعيدا عن الأمور الشخصية، إذن هل تنصحينني بالدخول في أي مفاوضات تجارية مع هذه السيدة؟»
ردت بياتريس بحزم: «يجب ألا تفكر في ذلك. عندما يتعلق الأمر بالمال، فإن إليزابيث تفتقر تماما إلى الضمير. الأشياء التي تريدها في الحياة ستحصل عليها بطريقة ما، ولكن دائما ما يكون ذلك على حساب الآخرين. في يوم من الأيام سوف تضطر إلى دفع ثمن ذلك.»
تنهد تافرنيك.
وقال: «إنه أمر مؤسف للغاية. العمولة على تأجير جرانثام هاوس كانت ستكون كبيرة.»
ذكرته قائلة: «على أي حال، هذه الخسارة تقع على شركتك فحسب.»
واصل حديثه قائلا: «أنا لا أنظر إلى الأمور بهذه الطريقة. ما دمت مديرا لشركة داولينج آند سبينس، فإنني آخذ هذه الأمور على محمل شخصي. ومع ذلك، هذا لا يهم. أخشى أنه موضوع بغيض بالنسبة إليك، ولن نتحدث عنه أكثر من ذلك.»
أشعلت سيجارة وقد بدا الارتياح عليها قليلا. ثم جاءت مرة أخرى إلى جانبه.
قالت: «ليونارد، أعلم أنني أسيء معاملتك في عدم إخبارك بشيء، ولكن هذا ببساطة لأنني لا أريد أن أنزل إلى أنصاف الحقائق. أود أن أقول لك كل شيء أو لا شيء. في الوقت الحاضر لا أستطيع أن أخبرك بكل شيء.»
أجاب: «حسنا، أنا راض تماما عن ترك الأمر لك لتفعلي ما تعتقدين أنه الأفضل.»
واصلت: «ليونارد، بطبيعة الحال أنت تعتقد أني غير منطقية. ليس بيدي شيء. ثمة أشياء بيني وبين أختي معرفتها كابوس دائم بالنسبة إلي. خلال الأشهر القليلة الماضية من حياتي أصبح الأمر بمثابة رعب تام. هذا ما دفعني إلى الاختباء في بلينهايم هاوس، وأوصلني حتى إلى القرار الذي اتخذته في تلك الليلة عند شارع إمبانكمنت. كنت قد قررت أنني قبل أن أعود مرة أخرى، وقبل أن أطلب العون منها أو من أي شخص متصل بها، فسوف أفعل ما حاولت فعله في الوقت الذي أنقذت فيه حياتي.»
نظر إليها تافرنيك بدهشة. كانت بالفعل تحت تأثير عاطفة جياشة. يبدو أن ذاكرتها قد أعادتها إلى عالم آخر، إلى مكان بعيد عن تلك الغرفة الصغيرة القذرة التي يتشاركانها معا، عادت إلى عالم كانت فيه الحياة والموت أمورا تافهة، حيث كانت العواطف الجامحة غير مقيدة، وكان الرجال والنساء يتنقلون بين أمور الحياة العارية. كاد يشعر بالإثارة من ذلك. كان شيئا جديدا بالنسبة إليه، لمسة من إصبع سحرية على جفنيه. ثم مرت اللحظة واستعاد نفسه مرة أخرى، شخص واقعي، عادي.
قال: «دعينا نغض الطرف عن هذا الموضوع أخيرا. علي أن أرى أختك بخصوص العمل غدا، ولكنها ستكون المرة الأخيرة.»
تمتمت: «أعتقد أنك ستكون حكيما.»
ذهب إلى الجانب الآخر من الغرفة وعاد بصحيفة.
وقال: «رأيت موسيقاك في القاعة عندما دخلت. هل ستغنين الليلة؟»
كان السؤال بلهجته العادية تماما. أعادها السؤال إلى عالم الأمور اليومية كما لم يستطع أي شيء آخر أن يفعل.
قالت: «نعم، أليس هذا حظا سعيدا؟ ثلاث مرات في أسبوع واحد. لم أعلم بالأمر إلا منذ ساعة واحدة.»
استفسر: «أهو عشاء بالمدينة؟»
أجابت: «شيء من هذا القبيل. سأكون في وايتهول رومز في تمام العاشرة. إذا كنت متعبا يا ليونارد، من فضلك دعني أذهب وحدي. أنا حقا لا أمانع. يمكنني ركوب حافلة إلى الباب، والعودة بالطريقة نفسها.»
قال: «أنا لست متعبا. لأصدقك القول، نادرا ما أعرف ماذا يعني الشعور بالتعب. سأذهب معك بالطبع.»
نظرت إليه بإعجاب لحظي ببنيته القوية، ووجهه القوي المفعم بالحياة.
ثم قالت: «يبدو الأمر مزعجا للغاية، بعد يوم طويل من العمل أجرك معي إلى الخارج مرة أخرى.»
ابتسم.
وأكد لها: «أحب أن آتي حقا.» ثم أضاف بعد توقف لحظة: «إلى جانب أني أحب أن أسمعك تغنين.»
سألت وهي تنظر إليه بفضول: «أحقا تقصد ذلك؟ لقد شاهدتك مرة أو مرتين عندما كنت أغني لك. هل تهتم حقا بغنائي؟» «بالتأكيد أهتم. كيف يمكنك الشك في ذلك؟» ثم استدرك ببطء: «بالطبع أنا لا أفهم الموسيقى، أو أي شيء من هذا القبيل، أكثر مما أفهم الصور التي تأخذينني لرؤيتها، وبعض الكتب التي تتحدثين عنها. هناك الكثير من الأشياء التي لا يمكنني استيعابها بالكامل، ولكنها كلها تخلف في نفسي شعورا بالسعادة والمتعة. إن المرء ليشعر بها، حتى إذا كان لا يقدرها حق قدرها.»
ذهبت إلى مقعده.
قالت بحزن: «أنا سعيدة؛ لأن هناك شيئا أفعله ويعجبك.»
نظر إليها بلوم.
وقال: «عزيزتي بياتريس، كثيرا ما أتمنى أن أجعلك تفهمين كم كنت مفيدة ومهمة بالنسبة إلي.»
قالت برجاء: «قل لي من أي ناحية؟»
أكد لها: «لقد أعطيتني فكرة عن أشياء كثيرة في الحياة كنت أجدها محيرة للغاية. افهميني، أنت سافرت، أما أنا فلم أفعل. أنت اختلطت مع جميع فئات الناس، أما أنا فالتزمت بيئة واحدة طوال حياتي. لقد أخبرتني بأشياء كثيرة سأجدها مفيدة جدا فيما بعد.»
ضحكت قائلة: «يا إلهي، أنت تكسبني غرورا شديدا!»
أجاب: «على أي حال، لا أريدك أن تنظري إلي يا بياتريس بأي شكل من الأشكال كشخص محسن. أنا مرتاح هنا أكثر بكثير من الفندق وهذا لا يكلفني المزيد من المال، خاصة منذ أن بدأت في ممارسة هذا العمل الغنائي. بالمناسبة، أليس من الأفضل أن تذهبي للاستعداد؟»
كتمت تنهيدة وهي تبتعد وتصعد ببطء إلى الطابق العلوي. يبدو أنه ما من أحد على وجه الأرض أكثر نمطية من هذا الشاب ذي الملامح الصارمة المتمحور حول ذاته، الذي مد ذراعه وانتشلها من هذه الدوامة. ومع ذلك بدا لها أن هناك شيئا غير عادي في عدم قدرتها على الاقتراب منه. كانت مقتنعة بأنه كان صادقا تماما، وليس فقط فيما يتعلق بمشاعره الفعلية تجاهها، ولكن فيما يتعلق بجميع أهدافه. بدا أن جنسها لم يكن موجودا بالنسبة إليه. وبدا أن حقيقة كونها جميلة، وتزداد جمالا مع تحسن صحتها بشكل يومي، ليس لها أي اعتبار بالنسبة إليه على الإطلاق. كان يظهر اهتماما بمظهرها أحيانا، لكنه كان اهتماما من نوع غير شخصي تماما. كان يعرب ببساطة عن رأيه بقوله إنه راض أو غير راض، كمسألة ذوق لا أكثر ولا أقل. خطر لها في تلك اللحظة أنها لم تره قط مسترخيا حقا. ولم تظهر عليه أي مشاعر تقترب من الحماس بأي حال من الأحوال، إلا عندما كان يجلس أمام تلك الخريطة الضخمة المعلقة الآن في الغرفة الأخرى، ويجول فيها من قسم إلى آخر، ممسكا بقلم رصاص في يد وبممحاة في اليد الأخرى، وحتى في ذلك الحين كان الحماس الذي يبديه مستقى دائما من الجمادات. فجأة ضحكت من نفسها في المرآة الصغيرة، كانت ضحكة هادئة ولكنها نابعة من القلب. كان هذا هو الملاك الحارس الذي أرسله لها القدر! ليت إليزابيث تستطيع فقط أن تفهم!
الفصل السابع
السيد بريتشارد من نيويورك
في وقت لاحق مساء، ذهبت بياتريس وتافرنيك معا في حافلة من مسكنهما في تشيلسي إلى شارع نورثمبرلاند. كان تافرنيك قد اعتاد تماما على البرنامج الآن. جلسا في غرفة انتظار ذات إضاءة خافتة حتى تحين فقرة غناء بياتريس. بين الحين والآخر يدخل شخص ضئيل متحمس هو سكرتير لمؤسسة ما أو أخرى ليقدم لهما المرطبات، ويخبرهما بالترتيب الذي سيظهران فيه. واليوم، لم يكن ثمة تغيير للسير الروتيني للأحداث، باستثناء أنه كان هناك المزيد من الجلبة إلى حد ما. كان العشاء أكبر من المعتاد. جاء دور بياتريس بعد وقت قصير جدا من وصولهما، وخطا تافرنيك بصعوبة خطوات قليلة في غرفة الطعام، ووقف مع الندل بجوار الحائط. ونظر بعينين فضوليتين إلى مشهد لم يكن لديه أي تعاطف معه.
مائة رجل أو نحو ذلك تناولوا العشاء معا في سبيل عمل خيري ما . كانت رائحة العشاء مختلطة مع رائحة دخان التبغ النفاذة التي كانت تتصاعد بالفعل في سحب زرقاء صغيرة من الطاولات المختلفة، تعلق فوق الغرفة الشديدة الحرارة، مما يبدو حقا، أجواء مناسبة لصفوف طويلة من الضيوف. كان أغلبيتهم في حالة من ارتفاع المعنويات وأريحية الحديث. كانت وجوههم أكثر احمرارا مما كانت عليه عندما جلسوا؛ وقد زالت أمارات الصرامة والجمود عن مقدمات قمصانهم وعن تصرفاتهم، كانت وجوههم متوهجة وعيونهم لامعة. كانت هناك استثناءات قليلة ... رجال أكثر شحوبا يجلسون هناك ويبدو أنهم يحاولون الانسجام مع تلك البيئة التي لم يكن لديهم أي اهتمام حقيقي بها. استمع اثنان من هؤلاء باهتمام إلى أول مقطع في أغنية بياتريس. كان أحدهما جالسا على بعد مقاعد قليلة من الرئيس، وكان بعيدا لدرجة تجعل من الصعب أن يلاحظ تافرنيك أو بياتريس جفوله البسيط. أما الشخص الأقرب، فقد تصادف أن تافرنيك كان يراقبه، ورأى التغيير البادي في تعبيراته. كان الرجل، بشكل ما، قبيحا. لم يكن وجهه بالتأكيد محببا، على الرغم من أنه لم يشارك الجالسين إلى جواره عيوبهم الظاهرة. كان ينصت باهتمام إلى كل نغمة من نغمات الأغنية. وعندما انتهت، نهض وتقدم نحو تافرنيك.
قال: «أستميحك عذرا، لكن ألم أرك تأتي بصحبة السيدة الشابة التي كانت تغني للتو؟»
أجاب تافرنيك: «ربما تكون قد فعلت. فقد أتيت بصحبتها بالتأكيد.» «هل لي أن أسأل إذا كنت من أقربائها؟»
كان تافرنيك قد تغلب على تردده في الرد على مثل هذه الأسئلة في ذلك الحين. فأجابه على الفور.
قال: «أنا أخوها.»
قدم له الرجل بطاقة.
ورجاه بإيجاز: «أرجو أن تقدمني إليها.»
سأل تافرنيك: «ولماذا أفعل ذلك؟ ليس لدي ما يجعلني أفترض أنها ترغب في مقابلتك.»
حدق فيه الرجل برهة ثم ضحك.
قال: «حسنا، كان من الأفضل أن تري بطاقتي لأختك. أفترض أنها محترفة، بما أنها تغني هنا. ورغبتي في التعرف إليها لها دوافع تجارية بحتة.»
تحرك تافرنيك ناحية غرفة الانتظار.
وكان الرجل، الذي كان يدعى وفقا لبطاقته السيد سيدني جرير، سيتبعه، لولا أن تافرنيك أوقفه.
وقال: «هلا تنتظرين هنا، لأرى ما إذا كانت أختي ترغب في مقابلتك.»
مرة أخرى، بدا السيد سيدني جرير مندهشا، ولكن بعد نظرة ثانية إلى تافرنيك وافق على اقتراحه وظل بالخارج. وأخذ تافرنيك البطاقة إلى بياتريس.
قال: «بياتريس، هناك رجل في الخارج سمعك تغنين ويريد أن يتعرف إليك.»
أخذت البطاقة ومن ثم فتحت عينيها على اتساعهما.
فسأل تافرنيك: «هل تعرفين من يكون؟»
أجابت: «بالطبع. إنه منتج كبير لمسرحيات كوميدية غنائية. دعني أفكر.»
وقفت والبطاقة في يدها. كان هناك امرأة أخرى تغني الآن ... أغنية حديثة عادية عن الحب والورود والنشوة واليأس. وسمعوا صوت المرأة بين ارتفاع وانخفاض؛ كانت قعقعة العشاء قد توقفت. وقفت بياتريس ساكنة تفكر، وأصابعها تقبض على بطاقة السيد سيدني جرير.
وأخيرا قالت لتافرنيك: «عليك إدخاله.»
خرج تافرنيك.
وقال للرجل بنبرة من أتى بأخبار جيدة: «أختي ستقابلك.»
أصدر السيد سيدني جرير صوتا من أنفه ينم عن الاستياء. لم يكن معتادا على الانتظار حتى ولو ثانية. أدخله تافرنيك إلى غرفة الانتظار، وحدق فيه الموسيقيان الآخران اللذان كانا هناك، وكأنما يحدقان في إله.
قال تافرنيك: «هذا هو السيد الذي أحضرت لك بطاقته يا بياتريس. السيد سيدني جرير ... الآنسة تافرنيك!»
ابتسم الرجل.
وقال: «يبدو أن أخاك متشكك في. لقد وجدت صعوبة شديدة في إقناعه بأنك قد تجدين من المثير للاهتمام أن تتحدثي معي بضع دقائق.»
أجابت بياتريس: «إنه لا يفهم تماما. ليس لديه الكثير من الخبرة في الشئون الموسيقية أو المسرحية ولم يكن اسمك ليثير اهتمامه.»
خرج تافرنيك واستمع بغير اهتمام إلى الأغنية التي كانت تغنى. كانت ضربا من الموسيقى التي فضلها سرا على النغمات الأغرب والأكثر إثارة للخوف من أغاني بياتريس. وفيما يبدو كان الجمهور متفقا معه في الرأي، فقد تلقوا الأغنية بتهليل وطالبوها بالمزيد، الأمر الذي استجابت له الشابة بسخاء فغنت أغنية عن «سيدة فرنسية من الجهة الأخرى من الماء.» قرب نهاية التصفيق الذي أعلن عن ختام هذا الجهد، شعر تافرنيك بلمسة خفيفة على ذراعه. فاستدار. وكان بجانبه الضيف الآخر الذي أبدى بعض الاهتمام ببياتريس. كان رجلا يبلغ من العمر نحو أربعين عاما، طويل القامة عريض المنكبين، ذا شارب أسود، وعينين سوداوين ثاقبتين. على عكس معظم الضيوف، كان يرتدي معطف عشاء قصيرا وربطة عنق سوداء، استنتج منهما تافرنيك ومن لكنته الخفيفة، أنه أمريكي في الغالب.
قال وهو يلمس ذراع تافرنيك: «سيدي، سامحني على حديثي معك. اسمي بريتشارد. رأيتك تأتي مع السيدة الشابة التي كانت تغني قبل بضع دقائق، وإذا لم تعتبره تطاولا مني، فسأكون سعيدا جدا إذا أجبتني عن سؤال واحد.»
تيبست أوصال تافرنيك حتى بدا فاقد الحس.
وأجاب بعد وهلة: «الأمر يتوقف على السؤال.»
اعترف السيد بريتشارد قائلا: «حسنا، الأمر يتعلق بالسيدة الشابة، وهذه حقيقة. أرى أن اسمها في البرنامج مذكور على أنه الآنسة تافرنيك. كنت جالسا في الطرف الآخر من القاعة لكنها بدت لي شبيهة بسيدة من الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، وهي سيدة أنا متشوق جدا لمقابلتها.»
قال تافرنيك: «ربما يمكن أن تطرح سؤالك بكلمات واضحة.»
أعلن السيد بريتشارد: «حسنا، هذا بسيط. هل الآنسة تافرنيك هو اسمها بالفعل، أم أنه اسم مستعار؟» وأضاف وهو يرى تافرنيك يقطب ما بين حاجبيه: «أتوقع أن الوضع هنا كما في بلدي ... كثيرا ما تغني المطربة تحت اسم آخر غير اسمها، كما تعرف.»
قال تافرنيك معلنا: «الشابة المعنية هي أختي، وأنا لا أهتم بالحديث عنها مع الغرباء.»
أومأ السيد بريتشارد بسرور.
وعلق قائلا: «حسنا، بالطبع، هذا ينهي الموضوع. آسف على إزعاجك، على أي حال.»
عاد إلى مقعده وعاد تافرنيك مفكرا إلى غرفة الملابس. فوجد بياتريس وحدها في انتظاره.
استفسر: «هل تخلصت من هذا الشخص، إذن؟»
أومأت بياتريس برأسها إيجابا.
أجابت: «نعم؛ لم يبق طويلا.»
سأل تافرنيك بفضول: «من كان هذا؟»
قالت: «من وجهة نظر المسرح الكوميدي الغنائي، كان هذا هو الشخص الأكثر أهمية في لندن. إنه إمبراطور المسارح. يمكنه أن يحقق الثراء لأي فتاة في لندن، معقولة المظهر ويمكنها الغناء والرقص قليلا جدا.»
سأل تافرنيك بشيء من الريبة: «وماذا يريد منك؟» «سألني عما إذا كنت أرغب في اعتلاء خشبة المسرح. ما رأيك في هذا الموضوع يا ليونارد؟»
كان تافرنيك، لسبب أو لآخر، مستاء.
سألها: «هل ستكسبين مالا أكثر بكثير عما يحققه لك الغناء في هذه الحفلات؟»
فأكدت له: «أكثر من ذلك بكثير.» «وستحبين تلك الحياة؟»
ضحكت بنعومة. «ولم لا؟ إنها ليست بهذا السوء. كنت على خشبة المسرح في نيويورك بعض الوقت وبشروط أسوأ بكثير.»
بقي صامتا بضع دقائق. كانا قد شقا طريقهما إلى الشارع الآن وكانا ينتظران الحافلة.
سألها فجأة: «بماذا أجبته؟»
كانت تنظر على طول الطريق نحو شارع إمبانكمنت، وقد امتلأت عيناها مرة أخرى بالأشياء التي لا يستطيع فهمها.
تمتمت: «لم أجبه بعد.» «هل تودين أن تقبلي؟»
أومأت برأسها.
أجابت: «لست متأكدة. فقط لو ... لو تجرأت!»
الفصل الثامن
فتنة امرأة
في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، قدم تافرنيك نفسه في ميلان كورت وسأل عن السيدة وينهام جاردنر. فأرسل على الفور إلى سكنها بصحبة حاجب. كانت مستلقية على أريكة مكدسة بالوسائد، ومدثرة برداء أزرق رائع بدا بطريقة ما، يزيد لون عينيها عمقا. كانت بجانبها طاولة صغيرة عليها بعض الشوكولاتة، ومزهرية، ولفافة من الصحف. مدت يدها نحو تافرنيك لكنها لم تنهض. كان هناك شيء يكاد يكون روحيا حول شحوبها، والحدود الدقيقة الناعمة لجسدها، الذي كان مخفيا بشكل غير كامل وراء الرداء الحريري الرقيق، والابتسامة الباهتة المتعبة التي رسمتها على وجهها وهي ترحب به.
قالت راجية: «فلتسامح استقبالي لك بهذا الشكل يا سيد تافرنيك. أعاني اليوم من صداع. لقد كنت متلهفة على قدومك. من فضلك اجلس بجانبي وأخبرني على الفور إن كنت قد رأيت بياتريس.»
فعل تافرنيك ما طلب منه بالضبط. كان المقعد الذي أشارت له قريبا جدا من الأريكة، لكن لم يكن ثمة مقاعد أخرى غير مشغولة في الغرفة. رفعت نفسها قليلا على الأريكة واستدارت نحوه. كانت عيناها مثبتتين بقلق على عينيه، وجبهتها مجعدة قليلا، وصوتها يتهدج من اللهفة. «هل رأيتها؟»
اعترف وهو ينظر بثبات إلى بطانة قبعته: «نعم.»
قالت إليزابيث : «كانت قاسية. أستطيع أن أفهم ذلك من وجهك. لديك أخبار سيئة من أجلي.»
أجاب تافرنيك: «لا أعرف هل كانت قاسية أم لا. لقد رفضت السماح لي بإخبارك بعنوانها. وفي الواقع، توسلت إلي أن أبتعد عنك تماما.» «لماذا؟ هل أخبرتك بالسبب؟»
أجاب تافرنيك بتأن: «تقول إنك أختها، وإنك ليس لديك مال خاص بك وإن زوجك قد تركك.» «هل هذا كل شيء؟»
وتابع: «لا، ليس كل شيء. بالنسبة إلى باقي الكلام، فلم تخبرني بشيء واضح. على أي حال، من الجلي أنها حريصة جدا على أن تظل بعيدة عنك.»
أصرت إليزابيث: «لكن ما أسبابها؟ أأخبرتك بأي سبب؟»
نظر تافرنيك في وجهها.
وقال: «لم تخبرني بأي سبب.»
سألت إليزابيث، وهي تعبث بعصبية بقلادة معلقة في عنقها الناعم العاري: «هل تعتقد أن لديها ما يبرر معاملتي بهذه الطريقة؟»
أجاب: «بالطبع أعتقد ذلك. أنا متأكد من أنها لن تشعر نحوك بما تشعر به ما لم تكوني قد ارتكبت شيئا فظيعا حقا.»
جفلت المرأة المستلقية على الأريكة كما لو أن أحدا قد ضربها. ولا بد أن أي رجل أكثر حساسية من تافرنيك كان سيشعر بالندم قليلا عندما يرى عينيها مغرورقتين بالدموع. إلا أن تافرنيك، على الرغم من شعوره بالانزعاج لحظة، وعلى الرغم من أنه كان يشعر طوال الوقت بأن ثمة شعورا جديدا وغريبا يجتاحه، لم يستطع فهم كنهه، كان لا يزال محصنا. لم يحن الأوان بعد للأشياء التي كان من المقرر أن تحدث له.
واصل حديثه قائلا: «بالطبع، شعرت بخيبة أمل كبيرة لسماع هذا؛ لأنني كنت آمل أن نتمكن من تأجير جرانثام هاوس لك. لا يمكننا النظر في الأمر على الإطلاق الآن ما لم تدفعي مقابل كل شيء مقدما.»
مسحت عينيها ونظرت إليه. نادرا ما مر في حياتها أشخاص بهذا القدر من الصراحة والمباشرة في الحديث. كانت تدرك تحمسها واهتمامها. فقد كانت شغوفة بدراسة الرجال. وكان هذا الرجل بالفعل نوعا جديدا!
تمتمت: «إذن أنت تعتقد أنني امرأة مستهترة ساعية للثروة.»
فكر لحظة.
ثم اعترف: «أعتقد أن الأمر كذلك. لم أكن لأرجع مرة أخرى، إذا لم أقطع وعدا على نفسي. إذا كان هناك أي رسالة تودين إرسالها إلى أختك، فسآخذها، ولكني لا أستطيع إخبارك بعنوانها.»
وعلى حين غرة، وضعت يدها على يده، ورفعت نفسها قليلا على الأريكة، ومالت نحوه. كانت عيناها وشفتاها تتوسلان إليه.
قالت ببطء: «إن بياتريس مخلوقة عزيزة وعنيدة، ولكنها لا تقدر موقفي تماما. اصنع لي معروفا، رجاء. إذا كنت قد وعدت بعدم إعطائي عنوانها، فدعني على الأقل أعرف طريقة أو مكانا ما يمكنني أن أقابلها فيه. أنا متأكدة من أنها ستكون سعيدة فيما بعد، وأنا ... أنا سأكون ممتنة للغاية.»
شعر تافرنيك بأنه محاط بشيء لم يفهم كنهه، لكن افتقاره إلى الخبرة كان كبيرا لدرجة أنه لم يندهش من عدم حساسيته.
قال: «سأفي بكلمتي لأختك، لفظا ومعنى. ولن يفيدك إطلاقا أن تطلبي مني القيام بخلاف ذلك.»
كانت إليزابيث في البداية مندهشة، ثم غاضبة، غاضبة لدرجة نادرا ما عرفتها في نفسها. كانت طفلة مدللة، وكبرت لتصبح امرأة مدللة. كان الرجال، على الأقل، على استعداد كامل لأن يكونوا رهن إشارتها طوال حياتها. فجمالها كان من نوع خاص، جمالا يمتزج فيه الإغراء وإثارة الشفقة، لدرجة جعلته لا يقاوم على الإطلاق. والآن جاء هذا الشخص الغريب شبه المستحيل، الذي بددت نفسها سدى في مواجهة درع لامبالاته. امتلأت عيناها بالدموع مرة أخرى وهي تنظر إليه، وشعر تافرنيك بالاضطراب. نظر إلى الساعة ثم نظر مرة أخرى نحو الباب.
بدأ قائلا: «أعتقد، إذا سمحت لي ...»
قاطعته قائلة: «سيد تافرنيك، أنت قاس جدا معي، قاس جدا حقا.»
أجاب: «لا أملك أن أفعل غير ذلك.»
وتابعت قائلة: «إذا كنت تعرف كل شيء، فلم تكن لتصبح عنيدا إلى هذا الحد. إذا كانت بياتريس نفسها هنا، إذا كان بإمكاني أن أهمس بشيء في أذنها، فستكون في غاية الامتنان لأنني وجدتها. بياتريس كانت دائما تسيء فهمي يا سيد تافرنيك. وهذا أمر قاس إلى حد ما بالنسبة إلي؛ فكلتانا بعيدتان جدا عن الوطن، وعن أصدقائنا.»
أوضح تافرنيك: «يمكنك أن ترسلي إليها أي رسالة تحبينها من خلالي. إذا أردت، سأنتظر بينما تكتبين رسالة. إذا كان لديك حقا أي شيء تقولينه لها ربما يغير رأيها، فيمكنك كتابته، أليس كذلك؟»
نظرت إلى يديها - كانتا يدين جميلتين جدا ومعتنى بهما جيدا - وتنهدت. هذا الشاب كان يثير أعصابها بجموده غير العادي وعقليته البغيضة.
قالت: «من الصعب للغاية كتابة هذه الأشياء، يا سيد تافرنيك، لكن، بالطبع، إذا حدث الأسوأ، فسأضطر إلى إرسال رسالة لها. سأفكر في ذلك وهلة. وفي غضون ذلك، هناك الكثير جدا عنها أحب أن تقوله لي. إنها لا تملك مالا، أليس كذلك؟ فكيف تعول نفسها؟»
رد تافرنيك بعدما توقف لحظة: «إنها تغني من حين لآخر في الحفلات الموسيقية. أفترض أنه لا ضرر من إخبارك بذلك.»
مالت إليزابيث نحوه. لقد كانت رافضة تماما لأن تعترف بهزيمتها. ومرة أخرى كان صوتها ناعما فاتنا، وجبهتها مجعدة قليلا، وعيناها الزرقاوان تتلألآن ببريق ساحر جذاب.
تمتمت: «سيد تافرنيك، أتعلم أنك لست لطيفا معي على الإطلاق؟ فأنا وبياتريس أختان في نهاية الأمر. حتى هي اعترفت لك بذلك. لقد تركتني بمنتهى القسوة في وقت حرج من حياتي، وأساءت فهم بعض الأمور؛ إذا قدر لي أن أراها، فسوف أشرح لها كل شيء. أنا حزينة للغاية من أنها تعيش بمعزل عني في هذه المدينة حيث كلتانا غريبتان. أنا قلقة عليها يا سيد تافرنيك. هل يعوزها المال؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكنك أن تأخذ لها مني؟ ألا يمكنك أن تقترح لي طريقة يمكنني من خلالها مساعدتها؟ أرجو منك أن تكون صديقي وتنصحني.»
كانت الحياة تنفتح بالتأكيد أمام تافرنيك. الأجواء المحيطة به، التي كانت تخلقها عمدا حوله، كانت أجواء عالم مجهول. لقد كان هذا الموقف جديدا تماما عليه. ومع ذلك، فقد بذل قصارى جهده للتعامل معه بذكاء. كان يفكر مليا قبل أن يحيرها أي جواب، ورفض تماما أن ينصت إلى الأصوات الغريبة التي تطن في أذنيه، وتوصل إلى قراره بالحسم المعتاد نفسه.
قال: «أخشى أن بياتريس ما دامت ترفض السماح لك حتى بمعرفة مكان وجودها، فإنها لا ترغب في قبول أي شيء منك.» ثم واصل ورغبة تدبير المال تتأجج بداخله: «هذا يبدو مؤسفا، فهي بالتأكيد ليست ميسورة الحال.»
تنهدت السيدة المستلقية على الأريكة.
وتمتمت: «على الأقل بياتريس لديها صديق. عظيم جدا أن يكون لديك صديق. إنه أكثر مما لدي. كل منا بعيدة جدا عن الوطن هنا. كثيرا ما أشعر بالأسف لأننا غادرنا أمريكا. وإنجلترا ليست بلدا مضيافا، يا سيد تافرنيك.»
مرة أخرى، تحدث هذا الشاب الصريح صراحة مؤلمة بما يعتمل في ذهنه.
وذكرها قائلا: «كان ثمة رجل نبيل معك في السيارة في تلك الليلة.»
عضت شفتها.
وردت قائلة: «كان مجرد أحد المعارف، رجل كنت أعرفه في نيويورك، وجاء إلى لندن. اتصل بي ودعاني للذهاب إلى المسرح وتناول العشاء. ولم لا؟ لقد مررت بوقت عصيب خلال الأشهر القليلة الماضية، يا سيد تافرنيك، وأنا وحيدة جدا؛ أشد وحدة من أي وقت مضى منذ أن هجرتني أختي.»
بدأ تافرنيك يشعر، على الرغم من السخافة التي تبدو عليها الفكرة، أنه - بطريقة خفية وغير قابلة للتفسير - كان في خطر. على أي حال، كان في حيرة شديدة. لم يفهم لماذا تنظر إليه هذه المرأة الشديدة الجمال كما لو كانوا أصدقاء قدامى، ولماذا تناشده عيناها كثيرا من أجل التعاطف، ولماذا أصابعها، التي كانت قبل لحظة تستريح بخفة على يده، وسحبتها في تردد، تكاد تحرقه مثل لسعات النار. قد تكون في أسلوبها المرأة التي ترغب في الإغراء خفية قدر الإمكان، ولكن غالبا ما يتسلل إلى ضحيتها الافتراضية، شعور بغرضها، مهما كان هذا الشعور غامضا. كان من الواضح أن تافرنيك مضطرب للغاية. لم يكن لديه إحساس بالصلف. كان يعلم من البداية أن هذه المخلوقة الجميلة تنتمي إلى عالم بعيد كل البعد عن كل ما يعرفه. والحل الوحيد للوضع الذي وجد نفسه فيه هو أن تكون هذه المرأة تفكر في اقتراض المال منه!
واصلت بنعومة: «لم يسبق أن مررت في حياتي بوقت شعرت فيه بحاجتي إلى صديق أكثر من هذا الوقت. أخشى أن أختي قد جعلتك تتحامل علي، يا سيد تافرنيك. بياتريس صغيرة جدا، والشباب ليسوا دائما متعاطفين، كما تعلم. إنهم لا يتسامحون، ولا يفهمون.»
سألها بصراحة: «لماذا قلت للسيد داولينج أشياء غير صحيحة؟»
تنهدت ونظرت إلى المنديل الذي كانت تعبث به.
ثم اعترفت قائلة: «لقد كان غرورا سخيفا للغاية، ولكن، كما تفهم، كان لا بد أن أقول شيئا.»
واصل: «ولماذا أتيت إلى المكتب من الأساس؟»
همست بنعومة: «هل تريد حقا معرفة ذلك؟» «حسنا ...»
تابعت فجأة: «سأخبرك. يبدو الأمر سخيفا، بطريقة ما، ولكنه لم يكن سخيفا حقا» وابتسمت له وهي تكمل: «انظر، كنت قلقة على بياتريس. ورأيتك تخرج من المكتب في ذلك الصباح، وتعرفت عليك في الحال. عرفت أنك أنت من كنت مع بياتريس. وتذرعت بأمر المنزل لآتي وأتفقد ما إذا كنت سأستطيع أن أقابلك.»
فات تافرنيك، الذي لم يولد فيه الغرور بعد، مغزى ابتسامتها وترددها البسيط.
وأفاد قائلا: «كل هذا ليس سببا يجعلك تخبرين السيد داولينج أن زوجك مليونير، وأنه قد أعطاك تفويضا بشأن استئجار منزل.» «هل ذكرت ... زوجي؟»
أكد لها: «بالطبع، فعلت.»
لأول مرة تعثرت في حديثها. وشعر تافرنيك بأنها هي نفسها قد اهتزت بفعل عاطفة معينة. لمعت عيناها لحظة على نحو غريب؛ وبدا على وجهها شيء لم يفهمه. ثم مر هذا الشيء. ومرة أخرى غادرت وجهها الابتسامة المبهجة، التي تمزج ما بين الاحتجاج والمناشدة، ولم يعد بريق الرعب يلمع في عينيها الزرقاوين.
قالت مصرحة: «أنا دائما حمقاء فيما يتعلق بالمال، وجاهلة جدا لدرجة أني لا أعرف أبدا موقفي المالي، ولكنني أعتقد حقا أن لدي الكثير، ولم يبد أن إنفاق مائة أو مائتين تقريبا بغرض الإيجار أمر ذو أهمية كبيرة.»
كانت وجهة النظر هذه غير مفهومة على الإطلاق بالنسبة إلى تافرنيك. فنظر إليها بدهشة.
احتج قائلا: «ألا تعرفين ما تحتاجين إلى إنفاقه للعيش في السنة؟»
هزت رأسها.
تنهدت قائلة: «يبدو لي أن الأمر متباين طوال الوقت. هناك الكثير من التعقيدات.»
نظر إليها بذهول.
واعترف: «رغم كل شيء، لا تبدين امرأة شغلت تفكيرها كثيرا بالأرقام.»
تمتمت: «ليت لدي شخصا ما لمساعدتي!»
تململ تافرنيك باضطراب في مقعده. كان إحساسه بالخطر يتزايد.
قال: «إذا سمحت لي الآن، أعتقد أنني يجب أن أعود. أنا موظف في داولينج، سبينس آند كمباني، كما تعلمين، ووقتي ليس ملكي. جئت فقط لأنني وعدت بذلك.»
قالت متوسلة، وهي تنظر إليه بهاتين العينين الزرقاوين الرائعتين: «سيد تافرنيك، أرجو منك أن تصنع لي معروفا كبيرا.»
سأل بفظاظة خرقاء: «ما هو هذا المعروف؟» «تعال لتراني بين الحين والآخر، وأخبرني كيف حال أختي. ربما يمكنك اقتراح طريقة يمكنني من خلالها مساعدتها.»
فكر تافرنيك في الطلب لحظة. كان غاضبا من نفسه بسبب إحساسه غير المسئول بالمتعة الذي خلفه في نفسه اقتراحها.
قال: «لست متأكدا تماما مما إذا كان من الأفضل لي الحضور. بياتريس بدت حريصة للغاية على أنني يجب ألا أتحدث عنها معك على الإطلاق. ولم يعجبها مجيئي هنا اليوم.»
صرحت إليزابيث مفكرة: «يبدو أنك تعرف الكثير عن أختي. إنك تناديها باسمها المسيحي ويبدو أنك تراها بكثرة. ربما، حتى، أنت مغرم بها.»
استقبل تافرنيك نظرة السائلة المستفسرة بهدوء. كان شبه ساخط.
صاح: «مغرم بها! أنا لم أغرم بأي شخص في حياتي، أو أي شيء ...» ثم أضاف: «باستثناء عملي.»
نظرت إليه في حيرة في البداية.
صاحت وشفتاها تنفرجان عن ابتسامة مبهجة: «أوه، يا لك من شخص غريب! ألا تعلم أنك لم تبدأ في العيش بعد؟ إنك حتى لا تعرف شيئا عن الحياة، وفي خلفية ذلك كله، لديك القدرة.» ومضت قائلة: «نعم، أعتقد أن لديك القدرة على العيش.»
سقطت يدها على يده بحركة بسيطة وكأنها تربت عليه. فنظر حوله كما لو كان يبحث عن مهرب. كان على قدميه الآن وأمسك بقبعته.
أصر بخشونة: «يجب أن أذهب.»
سألت ببراءة: «هل أعطلك؟ حسنا، تستطيع أن تذهب حالما تريد، ولكن عليك فقط أن تعدني بشيء واحد. يجب أن تعود، فلنقل في غضون أسبوع، لتخبرني كيف حال أختي. أنا لست في نصف الوحشية التي تظنها. أنا حقا قلقة عليها. أرجوك !»
فأجاب: «أعدك بذلك.»
توسلت إليه وهي تلتفت نحو الرسائل بجوارها: «فلتنتظر لحظة إذن. هناك شيء أريد أن أسألك عنه. لا تكن ضجرا ... إنها مسألة تتعلق بالعمل بشكل كامل.»
طوال الوقت كان مدركا تماما لتلك الرغبة المحمومة في الخروج من الغرفة. امتدت أمامه ذراعا المرأة البيضاوين، اللتان كشفت عنهما أكمام الرداء التي تراجعت للخلف، وهي تلتفت بتكاسل إلى كومة المراسلات الخاصة بها. كانتا ذراعين جميلتين للغاية، وكان تافرنيك، على الرغم من أنه لم تكن لديه أي خبرة، على دراية غامضة بهذه الحقيقة. وبدت عيناها أيضا تحاولان دائما الوصول إلى جزء منه كان ميتا، أو ربما لم يولد بعد. كان يشعر بأنها تسعى جاهدة للوصول إلى هناك، طارقة على أبواب لامبالاته. لماذا ترتدي امرأة جوارب زرقاء لأنها ترتدي رداء أزرق، تساءل بفتور. لم تكن مثل بياتريس، هذه المرأة الجميلة الجذابة التي كانت ترقد هناك وتتحدث إليه بطريقة لم يفهم معناها إلا بغرابة كومضات محيرة. يمكن أن يكون مع بياتريس ويشعر بحقيقة ما قاله لها مرة ما ... أن جنسها ليس أمرا ذا أهمية جديرة بالاعتبار فيما بينهما. أما مع هذه المرأة فالأمر مختلف؛ شعر بأنها كانت ترغب في أن يكون مختلفا.
اقترح باقتضاب كاد يكون فظا: «ربما كان من الأفضل أن تخبريني عن هذه المسألة في المرة القادمة التي آتي فيها إلى هنا. يجب أن أذهب الآن. لا أعرف لماذا مكثت كل هذه المدة.»
مدت أصابعها.
قالت مبتسمة لارتباكه: «أنت شخص متسرع للغاية. إذا كنت ستذهب حقا!»
بالكاد لمس يدها، وكان كل ما سعى إليه هو الابتعاد فحسب. ثم انفتح الباب ودخل الغرفة رجل ذو مظهر مميز، عليه سيماء الثراء. كان يرتدي ملابس غريبة، غير متفقة مع الموضة الحالية. كان معطفه الأسود على طراز الجيل الماضي، وكانت ياقته متأثرة بجلادستون ورفاقه من رجال الدولة، وربطة عنقه السوداء مرتبة بتجاهل مدروس ويظهر قميصه الأبيض المكشكش جزءا أكبر مما يظهر في المعتاد أثناء النهار. كانت قبعته الحريرية لامعة لكنها عريضة الحواف، وكان شعره الكثيف الرمادي ، ممشطا للخلف من جبهة عريضة عالية، مانحا إياه جانبا بطريركيا. وكانت ملامحه ضخمة ووسيمة إلى حد بعيد، لكن فمه كان رفيعا ووجنتاه شاحبتان. حدق به تافرنيك فاغرا فاه. أما هو، فمن جانبه نظر إلى تافرنيك كما كان ينظر إلى حيوان وحشي غريب.
قال: «خالص اعتذاري يا عزيزتي إليزابيث! طرقت الباب، ولكن أظن أنك لم تسمعيني. بمعرفتي لعاداتك، لم يخطر ببالي أنك قد تكونين مشغولة في هذه الساعة من الصباح.»
أعلنت بلا اكتراث: «إنه شاب من عند وكيل العقارات جاء ليقابلني بخصوص شقة.»
فقال بود: «في هذه الحالة، ربما أنا لا أقاطع شيئا.»
أدارت إليزابيث رأسها قليلا ونظرت إليه، فتراجع على عجل نحو الباب.
وقال: «في غضون بضع دقائق. سأعود في غضون بضع دقائق.»
حاول تافرنيك أن يحذو حذوه.
واحتج قائلا: «لا داعي أن يرحل صديقك. إذا كانت لديك أي تعليمات لنا، فرسالة إلى المكتب كفيلة بأن تحضر شخصا لمقابلتك هنا.»
جلست منتصبة على الأريكة وابتسمت له. أمتعها حرجه الواضح. كان الأمر كله بمثابة لعبة جديدة بالنسبة إليها.
قالت: «تعال يا سيد تافرنيك، ثلاث دقائق أخرى لن تكون مهمة، أليس كذلك؟ لن أبقيك أطول من ذلك، أعدك.»
عاد على مضض بضع خطوات إلى الوراء.
وأوضح: «أنا آسف، لكننا مشغولون حقا هذا الصباح.»
قالت وهي لا تزال تبتسم له ابتسامة مبهجة: «هذا عمل. لقد ملأتك أختي بالشكوك عني. قد يكون البعض منها له ما يبرره، والبعض الآخر ليس كذلك. أنا لست ثرية كما أريد أن يعتقد بعض الناس. من الأسهل بكثير أن تعيش حياة رغدة، كما تعلم، عندما يعتقد الناس أنك تتمرغ في المال. ومع ذلك، فأنا لست فقيرة بأي حال من الأحوال. لا يمكنني تحمل إيجار جرانثام هاوس، لكن لا يمكنني أيضا تحمل الاستمرار في العيش هنا. لقد قررت إجراء تغيير، قررت أن أحاول التوفير، أحاول العيش في حدود إمكانياتي. الآن هلا أحضرت لي قائمة بالمنازل الصغيرة أو الشقق، شيء لا يزيد مثلا عن مائتين أو ثلاثمائة في العام؟ ستكون إجراءات عمل صارمة. سأدفع لك مقابل وقتك، إذا لزم الأمر، وسأدفع عمولتك مقدما. ها، لا يمكنك رفض عرضي بهذه الشروط، أليس كذلك؟»
ظل تافرنيك صامتا. كان يدرك أن عدم استجابته كانت عنيدة ومحرجة، ولكنه كان في الوقت الحالي معقود اللسان.
أعربت عادته في التحليل الذاتي في الوقت غير المناسب عن نفسها مرة أخرى. لم يستطع أن يفهم الطبيعة الغريبة لعدم ثقته في هذه المرأة، كما لم يستطع أن يفهم المتعة التي أورثها له اقتراحها. أراد أن يرفض، ومع ذلك فقد كان سعيدا لأنه استطاع أن يخبر نفسه بأنه، في نهاية الأمر، مجرد موظف في شركته ولم يكن في وضع يسمح له برفض العمل نيابة عنهم.
مالت قليلا نحوه؛ وكانت نبرتها تكاد تكون متوسلة.
قالت راجية إياه: «لن تكون قاسيا؟ لن ترفضني؟»
أجاب بقوة وصرامة: «سأحضر لك قائمة بالشروط التي تقترحينها.»
قالت متوسلة: «غدا صباحا؟»
وعدها قائلا: «بمجرد أن يتسنى لي.»
ثم لاذ هاربا. كان الرجل الذي قاطع مقابلته في الخارج يذرع الممر ذهابا وإيابا. مر به تافرنيك دون أن يستجيب لتحيته اللطيفة. نسي أمر المصعد ونزل خمس مجموعات من درجات السلم ...
بعد بضع دقائق، وصل إلى المكتب وأبلغ أن السيدة وينهام جاردنر قررت عدم تأجير جرانثام هاوس، وأنها لم تكن مستعدة، في الواقع، لتأجير أي منزل بمثل هذا الإيجار. شعر السيد داولينج بخيبة أمل، ومال إلى الاعتقاد بأن موظفه أساء إدارة الموضوع.
قال: «أتمنى لو كنت قد ذهبت بنفسي. من الواضح أنها كانت تريدني أن أفعل، ولكن تصادف أن الوقت كان غير مناسب. بالمناسبة يا تافرنيك، هلا أغلقت الباب؟ هناك موضوع آخر أريد التحدث إليك بشأنه.»
فعل تافرنيك ما طلب منه في الحال، دون أي ارتباك. كانت الخدمات التي يقدمها للشركة ذات طبيعة تجعله لا يساوره أي شك في رغبة صاحب العمل في أن يحدثه محادثة خاصة.
أوضح السيد داولينج معدلا وضع نظارته: «الأمر يتعلق بعزبة مارستون رايز. أعتقد أن الوقت قد حان لأن نقدم عرضا. أنت تعرف ما كان يدور في ذهني منذ مدة طويلة.»
أومأ تافرنيك برأسه.
واعترف قائلا: «نعم، أعرف جيدا.»
وتابع السيد داولينج: «لقد سمعت شائعة، أن شخصا ما قد اشترى قطعة أرض صغيرة على أطراف العزبة. أظن أن هذا ليس صحيحا، وعلى أي حال، لا يستحق الأمر القلق بشأنه، ولكنه يدل على أن العامة قد بدءوا يهتمون بالأمر. أنا من رأيي أن الوقت قد حان تقريبا ... نعم، لقد حان الوقت للتحرك.»
سأل تافرنيك: «هل تريدني أن أفعل أي شيء في هذا الأمر يا سيدي؟»
أعلن السيد داولينج: «في المقام الأول، أريدك أن تحاول معرفة ما إذا كان قد بيع بالفعل أي من قطع الأراضي، وإذا كان الأمر كذلك، فلمن بيعت، وكم كان سعرها. هل يمكنك القيام بذلك خلال الأسبوع؟»
أجاب تافرنيك: «أعتقد ذلك.»
اقترح السيد داولينج، وهو ينزل قبعته: «لنقل صباح الإثنين. سألعب الجولف غدا ويوم الجمعة وبالطبع يوم السبت. وسأنتظر منك تقريرا صباح الإثنين.»
عاد تافرنيك إلى مكتبه. رغم كل شيء، إذن، ستتأزم الأمور في وقت أبكر قليلا مما كان يعتقد. كان يعلم تمام العلم أن هذا التقرير، إذا أعده بصدق، فسوف يقطع فعليا علاقته مع الشركة، ولم تخطر بباله أي فكرة أخرى.
الفصل التاسع
الحبكة تزداد تعقيدا
لم يضع الرجل الذي تركه تافرنيك يذرع الممر جيئة وذهابا أي وقت قبل أن يقدم نفسه مرة أخرى في شقة السيدة وينهام جاردنر. دخل الجناح دون استئذان، وأغلق البابين كليهما خلفه بعناية. وكان واضحا عندئذ أن تصرفه عندما دخل في المرة السابقة كان على سبيل الخدعة. كان يختلس النظر عبر الغرفة إلى المرأة التي كانت تراقبه، وكانت اليد التي وضعت قبعته على المائدة ترتعش؛ وكان هناك بصيص من الرعب في عينيه. بقيت المرأة غامضة، جامدة الشعور، وهي تراقبه ببساطة. ومع ذلك، بعد لحظة أو اثنتين، تحدثت ... قالت كلمة واحدة. «حسنا؟»
انهار الرجل.
صاح قائلا: «إليزابيث، أنت ... أنت مروعة للغاية! لا أستطيع تحمل ذلك. أنت غير طبيعية.»
تمددت على الأريكة واستدارت نحوه.
قالت: «غير طبيعية، حقا؟ وماذا عنك ؟»
غاص في مقعده. لقد أصبح مترهلا للغاية بالفعل.
تمتم: «ما تطلقينه علي دائما، على ما أظن ... جبان. لديك القليل من المراعاة يا إليزابيث. صحتي ليست كما كانت من قبل.»
تجولت عيناه بشوق نحو الخزانة في الطرف الآخر من الغرفة. فابتسمت المرأة المستلقية على الأريكة.
وجهته بإهمال: «يمكنك أن تخدم نفسك. ربما عندئذ ستتمكن من أن تخبرني لماذا أتيت في مثل هذه الحالة.»
اجتاز الغرفة في بضع خطوات متعجلة، واختفت رأسه وكتفاه داخل الخزانة. كان هناك صوت سحب سدادة من الفلين، وفوران زجاجة ماء الصودا. وعاد إلى مقعده رجلا مختلفا.
قال معتذرا: «يجب أن تتذكري سني، يا إليزابيث العزيزة. ليس لدي أعصابك ... ومن غير المحتمل أن أفعل. عندما كنت في الخامسة والعشرين، لم يكن هناك شيء في العالم أخافه.»
نظرت إليه بتمعن.
وقالت: «ربما لست شجاعة تماما كما تعتقد. لأقول لك الحقيقة، هناك أشياء كثيرة جدا أخاف منها عندما تأتي إلي في مثل هذه الحالة. أنا خائفة منك، مما ستفعله أو تقوله.»
طمأنها على عجل: «لا داعي لذلك. عندما أكون بعيدا عنك، أصبح معتوها. لا أحد يعرف ما أعاني منه. أحتفظ به لنفسي.»
أومأت برأسها بازدراء.
صرحت: «أفترض أنك تبذل قصارى جهدك. قل لي، الآن، ما الشيء الجديد الذي أزعجك؟»
حدق إليها زائرها.
وتمتم: «هل لا بد من وجود شيء جديد؟»
سألت: «أفترض أنه شيء عن وينهام؟»
ارتجف الرجل. فتح شفتيه وأغلقهما مرة أخرى. وازدادت نبرة المرأة، إن جاز القول، برودة.
قالت: «آمل ألا تخبرني أنك قد عصيت أوامري.»
نفى قائلا: «لا! لا! لقد كنت هناك بالأمس. عدت بقطار البريد من بينزانس. اضطررت إلى القيادة مسافة ثلاثين ميلا للحاق به.»
قالت: «لقد حدث شيء ما، بالطبع، شيء تخشى أن تخبرني به. اجلس منتصبا كرجل، يا أبي العزيز، ودعني أعرف الحقيقة.»
أكد لها قائلا: «لم يحدث شيء جديد على الإطلاق. الأمر ببساطة هو أن ذكرى اليوم الذي قضيته في ذلك المكان ورؤيته قد أثارا أعصابي حتى إنني لا أستطيع النوم أو التفكير في أي شيء آخر.»
صاحت متعجبة: «يا له من هراء!»
تابع خافضا صوته قليلا: «لم تري المكان إلا في الطقس الجيد. إليزابيث، ليس لديك فكرة عما عليه الحال بالفعل. نزلت صباح أمس من القطار في بودمين وقدت السيارة إلى قرية كلوز. بعد ذلك كان علي أن أمشي مسافة خمسة أميال. ولا يوجد طريق، مجرد درب وعر، وطوال هذه المسافة لم يكن هناك حتى مبنى مزرعة يمكن رؤيته ولم أقابل أي إنسان. كان هناك نوع من الضباب الباهت في كل مكان فوق المستنقع، وأحيانا يكون شديد الكثافة لدرجة أنني لا أستطيع رؤية طريقي، ويمكن أن تتوقفي وتنصتي، ولكن هيهات أن تسمعي شيئا، ولا حتى أجراس الأغنام.»
ضحكت بهدوء.
تمتمت قائلة: «والدي العزيز الأحمق، أنت لا تفهم ما هو العلاج بالراحة. إنه شيء جيد جدا، لا بأس به على الإطلاق. وينهام المسكين كان يرى الكثير من الناس طوال حياته ... ولهذا السبب علينا أن نبقيه في هدوء بعض الوقت. يمكنك تخطي هذا المشهد. أأفترض أنك وصلت إلى المنزل أخيرا؟»
تابع والدها: «نعم، لقد وصلت إلى هناك. أنت تعرفين كم هو قاتم هذا المكان، بجوار تل أجرد - مبنى صخري مربع، رمادي في نفس لون التل. حسنا، وصلت إلى هناك ودخلت. وهناك وجدت تيد ماذرز، يرتدي نصف ملابسه، بلا ياقة، وزجاجة ويسكي أمامه على الطاولة، يلعب لعبة الورق البائسة وحده. إليزابيث، يا لوحشية هذا الرجل!»
هزت رأسها.
ثم قالت: «استمر. ماذا عن وينهام؟» «كان هناك في أحد الأركان، يحدق من النافذة. عندما جئت هب واقفا، ولكن عندما رأى من أكون، حاول ... حاول أن يختبئ. كان خائفا مني.»
سألت: «لماذا؟» «قال إنني ... إنني ذكرته بك.»
تمتمت: «يا له من سخف! قل لي كيف بدا؟» «مريض، بائس، شاحب ونحيف أكثر من أي وقت مضى، ووحشي المظهر.»
سألت: «ماذا قال عنه ماذرز؟» «ماذا يمكنه أن يقول؟ أخبرني أنه يبكي طوال اليوم ويتوسل أن يعود إلى أمريكا.»
سألت: «لا أحد يقترب من المكان، أليس كذلك؟» «لا أحد على الإطلاق . يأتي رجل من القرية لبيع بعض الأغراض مرة واحدة في الأسبوع. ويعرف ماذرز متى يتوقعه ويحرص على ألا يكون وينهام في الجوار. إنهما خارج العالم هناك - لا طريق ولا ممرات ولا شيء حتى لجلب السائح. كان بإمكاني تخيل مثل هذه البقعة في أريزونا، يا إليزابيث، ولكن في إنجلترا ... لا!»
استفسرت: «هل لديه أي تسلية بأية حال؟»
كانت يد الرجل ترتعش، ومرة أخرى اتجهت عيناه بشوق نحو الخزانة.
قال: «لقد صنع ... دمية، ونحتها من قطعة من الخشب وألبسها قطع قماش من أربطة عنقه. ماذرز أراني إياها على سبيل المزاح. إليزابيث، لقد كانت رائعة ... أمر مروع!»
سألته: «لماذا؟»
وتابع وهو يبلل شفتيه بلسانه: «إنها أنت، أنت في ثوب أزرق ... درجة اللون المفضلة لديك. لقد صنع حتى جوارب زرقاء وحذاء صغيرا غريبا. وحصل على بعض الشعر من مكان ما وفرقه مثل شعرك تماما.»
قالت: «يبدو الأمر مؤثرا للغاية.»
كان الرجل يرتجف مرة أخرى.
قال: «إليزابيث، لا أعتقد أنه يقصد شيئا لطيفا. ماذرز أخذني إلى غرفته. لقد صنع شيئا هناك يشبه المشنقة. كانت الدمية معلقة بحبل من المشنقة.» ثم صرخ: «إليزابيث! ... يا إلهي، لكنها كانت تشبهك!» وفجأة سقط رأسه على ذراعيه.
لبرهة ظهر انعكاس للرعب الذي استولى عليه على وجهها. ثم مر بسرعة. وضحكت ساخرة.
احتجت قائلة: «والدي العزيز، أنت بالتأكيد لست نفسك هذا الصباح.»
تمتم قائلا: «رأيتك تتأرجحين، تتأرجحين بذلك الحبل! وكان هناك دبوس أسود كبير في قلبك. إليزابيث، إذا قدر له أن يهرب في وقت ما! إذا قدر أن يأتي أحد من أمريكا ويكتشف مكانه! إذا قدر أن يعثر علينا! أوه، يا إلهي، إذا قدر أن يعثر علينا!»
وقفت إليزابيث على قدميها. كانت تقف الآن أمام النار، ومرفقها الأيسر يستند إلى رف المدفأة، وشيء صغير من الفضة اللامعة يتلألأ في يدها اليمنى.
قالت: «أبي، لا يوجد خطر في الحياة لمن لا يعرف الخوف. انظر إلي.»
التقت عيناه بعينيها، مفتونا.
وتابعت: «إذا قدر له أن يعثر علي، فلن يكون الأمر فظيعا على أي حال. ستكون النهاية.»
كشفت أصابعها عن الشيء الصغير الذي كانت تحمله ... مسدس صغير. أعادته مرة أخرى إلى جيبها. كان الرجل يتساءل كيف تحولت ابنته إلى مثل هذا الشيء الفظيع.
همس قائلا: «تتمتعين بالشجاعة يا إليزابيث.»
ووافقت على ذلك قائلة: «أتمتع بالشجاعة، لأن لدي عقلا. أنا لا أسمح أبدا لنفسي أن أكون في وضع من المحتمل أن أتعرض فيه للأسوأ. منذ اليوم الذي انقلب فيه فجأة علي، أصبحت حذرة.»
مال والدها نحوها.
قال: «إليزابيث، لم أفهم ذلك قط حقا. ما الذي اعتراه فجأة؟ في يوم كان عبدك، وفي اليوم التالي أعتقد أنه كان من الممكن أن يقتلك لو استطاع.»
هزت كتفيها.
أجابت: «بصراحة، شعرت أنه من المستحيل أن أستمر في التظاهر أكثر من هذا. تزوجت وينهام جاردنر في نيويورك لأنه كان من المفترض أن يكون مليونيرا ولأنه تراءى لي أن هذا أفضل شيء يمكن فعله، لكن بالنسبة إلى العيش معه، لم أرد ذلك قط. أنت تعرف كم كان سلوكه سخيفا على متن القارب. لم يتركني أبعد عن عينيه مطلقا، لكنه أقسم أنه سيقلع عن التدخين واحتساء الخمر ويعيش حياة جديدة إكراما لي. وأعتقد حقا أنه كان يعني ذلك أيضا.»
اقترح والدها بخوف: «ألم يكن من الأفضل يا عزيزتي لو شجعته؟»
هزت رأسها.
وقالت: «لقد كان ميئوسا منه تماما. أنت تقول إنني شجاعة؛ هذا لأنني لا أسمح لنفسي بالمعاناة. إذا كنت قد واصلت العيش مع وينهام، كان سيصيبني بالجنون. عاداته، أسلوب حياته، كل شيء أثار اشمئزازي. لم أكن أفهم قط معنى كلمة «انحطاط» حتى عاشرته. لقد أصبحت لمسته نفسها بغيضة. لا يمكن لامرأة أن تعيش مع مثل هذا الرجل. بالمناسبة، لقد وقع المسودة، أليس كذلك؟»
أعطاها والدها قصاصة من الورق، نظرت إليها ثم وضعتها في درجها وأوصدته.
سألت: «هل أثار أي ضجة حيالها؟»
ارتجف البروفيسور.
قال بنبرة خافتة: «لقد رفض التوقيع عليها، وأقسم أنه لن يوقعها أبدا. وأرسلني ماذرز إلى الخارج بضع دقائق، وجعلني أذهب إلى غرفة أخرى. وعندما عدت، أعطاني المسودة . وسمعته يصرخ بصوت عال.»
قالت بجفاء: «ماذرز يستحق بالتأكيد كل ما يحصل عليه من مال.»
نظر إليها بإعجاب حاقد. كانت هذه ابنته، لحمه ودمه. بدا كأنه يراها عبر السنين، طفلة شعرها ينسدل على ظهرها، تجلس على ركبته، وتستمع إلى حكاياته، متسائلة عن الألعاب والحيل البسيطة التي يستخدمها لينتزع من جمهوره الساذج قروشهم وأنصاف شلناتهم. عالم الفراسة، المنوم المغناطيسي، الساحر ... كل هذه الألقاب كان البروفيسور العظيم فرانكلين يطلقها على نفسه. في كثير من الأحيان، من المسرح البسيط الذي كان يؤدي عليه عروضه، كان يروع جمهوره من النساء والأطفال حتى الموت. وخطر له في تلك اللحظة، أنه لم ير الخوف قط على وجه إليزابيث، حتى في أيام طفولتها.
تمتم: «كان يجب أن تكوني رجلا يا إليزابيث.»
هزت رأسها وهي تبتسم كأنها مسرورة بالمجاملة.
وقالت: «قوة الرجل محدودة للغاية. المرأة لديها أسلحة أكثر.»
وافق البروفيسور، بينما كانت عيناه تتنقلان عبر قدها النحيل وقوامها الرائع، وتوقف لحظة عند عقدة الدانتيل الصغيرة في رقبتها، يصارع حلاوة ملامحها الرقيقة، وراح يفكر جاهدا عمن من بين أسلافه ورثت هذه المخلوقة جاذبيتها الجسدية، وقال: «أسلحة أكثر بالفعل.»
وكرر: «أسلحة أكثر بالفعل. إليزابيث، يا لها من هبة ... يا لها من هبة!»
فأجابت: «أنت تتكلم وكأنها هبة مؤذية.»
قال: «كنت أفكر فقط في أن ذلك يبدو أمرا مؤسفا. أنت شديدة الجمال، ربما كنا سنجد طريقة أسهل وأقل خطورة للثروة.»
ابتسمت.
ثم قالت: «أظن أن الدم البوهيمي يسري بداخلي. الطرق الملتوية تجتذب المرء، كما تعلم، عندما ينشأ المرء كما نشأت.»
ذكرها قائلا: «والدتك المسكينة لم تكن تحبها.» «لقد ورثت بياتريس كل ما يخص أمي. أما أنا، فابنتك أنت يا أبي. يجب أن تكون فخورا بي. ولكن ها نحن ذا، سأعطيك مهمة أخرى. هل صحيح أن جيري هنا حقا؟» «وصل إلى إنجلترا يوم الأربعاء على متن لوسيتانيا. وكان في المدينة طوال الوقت منذ ذلك الحين.»
قطبت ما بين حاجبيها فأظلم وجهها.
وتمتمت وكأنها تحدث نفسها: «لا بد أنه استلم رسالتي إذن.»
اعترف والدها: «دون شك. إليزابيث، لماذا تخاطرين بمقابلة هذا الرجل؟ أعلم أنه كان مغرما بك في نيويورك، ولكنه أيضا كان مغرما بأخيه. ربما لا يصدق قصتك. قد يكون خطرا.»
ابتسمت.
وقالت: «أعتقد أنني أستطيع إقناع جيري جاردنر بأي شيء أختار قوله له. علاوة على ذلك، من الضروري للغاية أن يكون لدي بعض المعلومات عن شئون وينهام. لا بد أن لديه المزيد من المال في مكان ما ويجب أن أكتشف كيف سنصل إليه.»
هز البروفيسور رأسه.
وتمتم: «أنا لا أحب ذلك. لنفترض أنه وجد بياتريس!»
هزت إليزابيث كتفيها.
قالت: «بياتريس خلقت صامتة. أنا لا أخشى منها على الإطلاق. ومع ذلك، أتمنى أن أتمكن من معرفة مكانها. سيبدو الأمر أفضل إذا كنا نعيش معا.»
هز البروفيسور رأسه بحزن.
وقال: «لقد تركتنا بمحض إرادتها، ولا أظن يا إليزابيث أنها ستعود مرة أخرى. كانت تعرف جيدا ما تفعله. كانت تعلم أن وجهات نظرنا في الحياة مختلفة عن وجهة نظرها. لم تكن تعرف النصف لكنها عرفت ما يكفي. لقد كنت محقة تماما فيما قلته الآن؛ كانت بياتريس أشبه بوالدتها، وكانت والدتها امرأة صالحة.»
علقت إليزابيث بوقاحة: «حقا!»
صرخ وهو يضرب الطاولة: «لا تردي بهذه الطريقة. لقد كانت أمك أيضا.»
كان وجه المرأة غامضا وقاسيا وخاليا من العيوب خلف سحابة دخان التبغ الصغيرة. بدأ الرجل يرتجف مرة أخرى. في كل مرة كان يغامر بالتحدث بجرأة، كانت نظرة واحدة منها كافية لقمعه.
تمتم: «إليزابيث، ليس لديك قلب، وليس لديك روح، وليس لديك ضمير. ترى أي نوع من النساء أنت!»
ذكرته بسرور: «أنا ابنتك.»
تابع وهو يأخذ منديلا كبيرا من الحرير من جيبه ويجفف جبينه: «لم أكن بهذا السوء من قبل. كان علي أن أعيش وكانت الأوقات صعبة. ربما أكون قد خدعت الجمهور. لم يتجاوز الأمر لعب الورق بشيء من الذكاء، أو الاستيلاء على بعض المال من الرجال السذج، عندما أستطيع. لكن يا إليزابيث، أنا خائف منك.»
قالت وهي تنفض الرماد من سيجارتها: «الرجال يخافون عموما من المخاطر الكبيرة .» وواصلت: «سوف يغشون ويكذبون من أجل أنصاف القروش، ولكنهم مقامرون سيئون عندما تكون مسألة حياة أو موت ... الأشياء الكبيرة على المحك. سحقا! أبي، أريد أن يأتي جيري جاردنر ويقابلني.»
قال البروفيسور: «إذا لم تتمكني من جعله يأتي، يا عزيزتي، فأنا على يقين من أن محاولتي ستبوء بالفشل.»
تابعت، وكأنها تحدث نفسها: «لقد استلم رسالتي؛ استلم رسالتي ولم يأت.»
قرر والدها: «ما من شيء يمكن فعله سوى الانتظار.»
واستطردت قائلة: «وفي تلك الأثناء، لنفترض أنه سيجد بياتريس، ولنفترض أنهما سيتقابلان؛ لنفترض أنه سيخبرها بما يعرفه وأنها ستخبره بما خمنته!»
دفن البروفيسور وجهه بين يديه. ورمت إليزابيث سيجارتها بنفاد صبر.
قالت: «يا لي من حمقاء! ما فائدة إضاعة الوقت بهذه الطريقة؟»
كان هناك طرق على الباب. قدمت خادمة فرنسية أنيقة المظهر نفسها. خاطبت سيدتها بلغة فرنسية فصيحة. كان ثمة مصفف شعر وأخصائي تجميل أظافر ينتظران في الغرفة المجاورة؛ حان الوقت لتهتم السيدة بنفسها. استمع البروفيسور إلى هذه الإعلانات بمزيج من الإعجاب والاندهاش.
قال ناهضا على قدميه: «أعتقد أن علي أن أغادر. هناك شيء واحد فقط أود أن أسألك عنه يا إليزابيث، إن جاز لي، قبل أن أذهب.» «ما هو؟» «من الشاب الذي التقيته هنا الآن؟»
سألت: «لماذا تطرح هذا السؤال؟»
أجابها والدها بتمعن: «لا أعرف حقا، ما عدا أن مظهره بدا متفردا قليلا. في بعض النواحي بدا شخصا عاديا جدا. في الواقع، كانت ملابسه وهيئته عاديتين للغاية لدرجة أنني فوجئت بوجوده هنا معك. ومن ناحية أخرى، وجهه ... يجب أن تتذكري يا عزيزتي، أن هذه غريزة احترافية تماما؛ أنا ما زلت مهتما بالوجوه ...»
اعترفت قائلة: «صحيح تماما. استمر. هذا الشاب يحيرني أنا شخصيا. أود أن أسمع رأيك فيه. ما رأيك في وجهه؟»
قال: «كان ثمة قوة في وجهه، نوع من العناد، والروعة، والضيق، والاستحالة ... نوع الوجه الذي يخص رجلا يحقق أشياء عظيمة لأنه أغبى من أن يدرك الفشل، حتى ولو كان الفشل يطوقه بذراعيه ويطبق أصابعه على عنقه. أنا واثق يا عزيزتي من أن هذا الشاب لديه مميزات. في الوقت الحالي، هذه المميزات خامدة، ولكنها موجودة.»
قادته إلى الباب.
قالت: «والدي العزيز، أحيانا أحترمك حقا. إذا صادفت ذلك الشاب مرة أخرى، أبق عينيك عليه. فهو يعرف شيئا واحدا على الأقل أتمنى أن يخبرنا به - إنه يعرف مكان بياتريس.»
نظر إليها والدها بذهول. «يعرف مكان بياتريس ولم يخبرك؟»
أومأت برأسها.
أصر البروفيسور قائلا: «حاولت أن تجعليه يخبرك ورفض؟»
اعترفت قائلة: «بالضبط.»
ارتدى والدها قبعته. «كنت أعرف أن الشاب خارج عن المألوف.»
الفصل العاشر
متعة المعركة
جلسا على جذع شجرة ساقطة، في الركن الشمالي من الحقل. وفي السياج النباتي، القريب منهما، كانت الطيور هائجة ومضطربة. وراح طائر الدج يغني فوق شجرة الدردار الأبعد قليلا. وكانت نسمات الريح الغربية الرقيقة تداعب وجهيهما؛ بينما ملأت أشعة الشمس الأجواء من حولهما. ومع ذلك، فقد امتدت واحدة من أذرع المدينة العظيمة نحوهما ... ضاحية، بما فيها من فيلات كثيرة، وأصوات السيارات الكهربائية، والمخلفات المتراكمة، وصفوف المتاجر المكافحة. وعلى مسافة أبعد، كان الجسد نفسه - المدينة الضخمة - ينبض من وراء الدخان والسحاب. التفتت الفتاة التي كانت تحدق بثبات إلى أسفل عدة لحظات، إلى رفيقها أخيرا.
وقالت: «أتعلم أن هذا يجعلني أفكر في الليلة الأولى التي تحدثت إلي فيها؟ هل تتذكرها ... فوق سطح نزل بلينهايم هاوس؟»
لم يرد تافرنيك لحظة. كان ينظر من خلال أداة ذات شكل غريب أحضرها معه إلى ست أوتاد دفعها بشق الأنفس إلى الأرض على بعد مسافة. كان مستغرقا تماما في مهمته.
وتمتم بصوت خافت لنفسه: «الطريق الرئيسي. نعم، يجب أن يكون إلى اليسار قليلا. ثم نحصل على جميع الطرق الفرعية الموازية وتكون للمنازل الأفضل واجهة جنوبية.» ثم قطع حديثه فجأة وسألها: «أستميحك عذرا يا بياتريس، هل قلت شيئا؟»
ابتسمت. «لا شيء يستحق الذكر. كنت أفكر فقط أن المكان هنا ذكرني بأول مرة تحدثنا فيها أنت وأنا معا.»
ألقى نظرة خاطفة على المنظر أدناه، بما فيه من خليط غريب من المباني البشعة، التي توارت هنا وهناك خلف سحب الدخان المنتشرة، والمساحات الشاسعة من القبح المستمر الذي لا يمكن إصلاحه.
وتابعت قائلة: «الأمر مختلف بالطبع. حتى إنني أتذكر الآن المنظر من أعلى النزل في تلك الليلة. بطريقة ما، كان أفضل من هذا؛ كان كل شيء أكثر توهجا ومع ذلك أكثر فوضوية، شعرت بكل بساطة أنه تحت كل تلك الأماكن الغامضة كان هناك كائن عظيم يكدح ويكافح ... الحياة نفسها، تتأوه في الفضاء تحت وطأة العجلات المسننة البشرية. هنا يرى المرء الكثير.» ثم واصلت قائلة: «أوه يا عزيزي ليونارد، عندما أفكر أنك أنت أيضا ستكون أحد المدمرين!»
وضع أداته في علبتها وأعادها إلى جيبه مرة أخرى.
وقال: «هيا، يجب ألا تطلقي علي هذه الألقاب الصعبة. سوف أذكرك بالرجل الذي جعلتني أقرأ أعماله. أتعرفين ما يقوله ... «الجمال هو، في حقيقة الأمر، مجرد مضيعة للوقت. فالعالم يعيش ويتقدم بسبب النفعيين.» هذا التل يمثل بالنسبة إلي معظم الأشياء التي تستحق امتلاكها في الحياة.»
ضحكت ضحكة قصيرة. «سوف تقطع تلك الأسيجة النباتية وتطرد الطيور بعيدا لتعثر على منزل جديد، وسوف تجرف العشب الأخضر، وتشق شارعا وتضع أحجار الجرانيت. إنني أرى بيوتك الصغيرة القبيحة تنتشر مثل الفطر في كل مكان. أنت مخرب يا عزيزي ليونارد.»
رد عليها قائلا: «أنا ببساطة أطيع القانون. فرغم كل شيء، حتى من وجهة نظرك، أنا لا أعتقد أن ما أفعله سيئ للغاية. انظري بتمعن عن كثب، وسوف تجدين أن الأسيجة النباتية قد اسودت هنا وهناك بسبب السخام. أما الطيور فسوف تجد مكانا أفضل أبعد قليلا. انظري كيف يرسل الدخان المتصاعد من مداخن المصانع سخامه عبر هذه الحقول. إنه لم يعد ريفا؛ من الأفضل أن يتجمعوا فيه.»
ارتجفت.
وقالت بحزن: «هناك شيء ما في الحياة يرعبني. كل القوى التي لها أهمية وقيمة تبدو مدمرة.»
في أعلى التل الشديد الانحدار من خلفهما، تصاعد صوت سيارة صغيرة. كلاهما أدار رأسه لمشاهدتها وهي تدخل في حيز الرؤية. كانت سيارة تافهة من نوع قديم للغاية، سيارة بمحرك أحادي الأسطوانة ولها صندوق خلفي دائري. كان المحرك يطرق بشدة عندما أوقفها السائق على بعد ياردات قليلة منهما. تصلب تافرنيك بشكل غير إرادي عندما رأى الرجلين اللذين هبطا من السيارة، وكانا يمران بالفعل عبر البوابة القريبة إلى حيث كان هو وبياتريس. كان أحدهما السيد داولينج، والآخر مدير البنك الذي به حساب الشركة. لما رأى السيد داولينج مدير شركته تعرف عليه، بدهشة ولكن بالكثير من الود.
صاح قائلا: «يا إلهي. يا إلهي، يا لحسن حظي! أنت تعرف السيد تافرنيك بالطبع يا بيلتون؟ مدير شركتي السيد تافرنيك ... السيد بيلتون من بنك لندن آند ويستمينستر. لقد أحضرت السيد بيلتون إلى هنا يا تافرنيك لإلقاء نظرة على المكان، حتى يعرف ما ننوي فعله بكل المال الذي سنقترضه، ها؟»
ابتسم مدير البنك.
وقال: «هذه فرصة سعيدة للغاية.»
سقطت عينا الرجلين على بياتريس التي كانت قد تنحت قليلا جانبا.
قال السيد داولينج بلطف: «هلا شرفتنا يا تافرنيك؟ أنت لست متزوجا، أليس كذلك؟»
أجاب تافرنيك ببطء: «لا، هذه أختي ... السيد بيلتون والسيد داولينج.»
فوجئ الرجلان قليلا بالتعارف. فبياتريس على الرغم من أن ملابسها كانت بسيطة، كان من يراها يشعر دائما بأنها تنتمي إلى عالم مختلف.
قال السيد داولينج مصرحا: «أخوك، يا آنسة تافرنيك العزيزة عبقري في اكتشاف هذه المواقع الرائعة. هذا الموقع أنا أعتبره بصراحة اكتشاف حياتنا.» وتابع وهو يلتفت نحو السيد بيلتون: «لدينا الآن معلومات مؤكدة أن السيارات ستسير إلى أي نقطة نرغب فيها في هذه المنطقة، كما أن سكك حديد العاصمة رتبت أيضا لتمديد خطوطها.» وواصل السيد داولينج ممسكا بجانبي معطفه ومتفاخرا: «أنوي أن أقدم غدا عرضا لشراء كل هذا الموقع. سيتطلب مبلغا كبيرا جدا من المال بالفعل، لكنني مقتنع بأنها مغامرة مجزية.»
ظل تافرنيك صامتا وعابسا. لم يكن هذا بأي حال من الأحوال الوقت أو المكان الذي كان سيختاره للتوضيح لصاحب العمل. ومع ذلك، كانت هناك علامات على أن هذا الشيء كان سيفرض عليه.
واصل السيد داولينج: «أنا سعيد جدا بلقائك هنا يا تافرنيك، سعيد لأسباب شخصية ولأن ذلك يظهر، إذا جاز لي أن أقول ذلك، الاهتمام الذي توليه لعمل الشركة، لدرجة أن تخصص عطلتك للمجيء هنا وفحص المكان إذا جاز التعبير. ربما الآن بما أنك هنا ستتمكن من أن تشرح للسيد بيلتون أفضل مني ما ننوي على فعله.»
تردد تافرنيك للحظة. وأخيرا، شرع في شرح مخطط بناء مفصل للغاية ومدروس بعناية، استمع إليه كلا الرجلين باهتمام كبير. ومع ذلك، عندما انتهى استدار إلى السيد داولينج، وواجهه بشكل مباشر.
واختتم قائلا: «لعلك تتفهم يا سيدي، أن مخططا مثل الذي أشرت إليه لا يمكن تنفيذه إلا إذا كانت الملكية بأكملها في يد شخص واحد. يمكنني أن أقول إن المعلومات التي أشرت إليها قبل أيام قليلة كانت صحيحة تماما. جزء كبير من الجانب الجنوبي من التل اشتري بالفعل، بالإضافة إلى بعض قطع أراض أخرى من شأنها أن تتعارض بشكل كبير مع أي مخطط بناء شامل.»
عبس وجه السيد داولينج في الحال؛ ونمت نبرته على مزيج من الغضب والانزعاج.
قال: «مهلا، مهلا، هذا يبدو سيئا للغاية يا سيد تافرنيك، هذا غاية في الإهمال والتجاهل لمصالح الشركة. لماذا لم نراقب الوضع؟ لماذا لم نمنع هذا المشتري الآخر، ها؟ يبدو لي أننا كنا متراخين، متراخين للغاية حقا.»
أخذ تافرنيك دفترا صغيرا من جيبه.
وقال: «سوف تتذكر يا سيدي، أنني تحدثت معك عن هذا الموقع في الحادي عشر من مايو العام الماضي.»
صاح السيد داولينج بحدة: «حسنا، وماذا في ذلك؟»
تابع تافرنيك: «كنت تشرع في لعب الجولف مدة أسبوعين في مكان ما وقد وعدت بالنظر في الأمر عند عودتك. وتحدثت إليك مرة أخرى لكنك قلت إنك مشغول جدا بحيث لا يمكنك النظر في هذه المسألة على الإطلاق في الوقت الحاضر، وإنك لا تهتم بهذا الجانب من لندن، ولقد اعتبرت أن لدينا ما يكفي ... في الواقع، لقد سخفت الفكرة واستهجنتها تماما.»
اعترف السيد داولينج على مضض: «ربما لم أكن متحمسا جدا في البداية. لكن في الآونة الأخيرة، رجعت ووافقت على وجهة نظرك.»
قال تافرنيك: «كانت هناك العديد من المقالات في مختلف الصحف، والكثير من الكلام، الذي كان أكثر فاعلية، على ما أظن في إقناعك، من نصيحتي. ومع ذلك، فما أود أن أقوله لك يا سيدي، هو أنني عندما وجدت نفسي غير قادر على إثارة اهتمامك بهذا المخطط، أقبلت عليه بنفسي إلى حد ما.»
كرر السيد داولينج قوله غير مصدق: «أقبلت عليه بنفسك؟ ماذا تعني يا تافرنيك؟ ماذا تعني يا سيدي؟»
أوضح تافرنيك: «أعني أنني استثمرت مدخراتي في شراء عدة قطع من الأراضي على هذا التل.»
سأل السيد داولينج: «لحسابك الخاص؟ مدخراتك، حقا!»
أجاب تافرنيك: «بالتأكيد. ولم لا؟» «لكن هذا مشروع الشركة يا سيدي ... مشروع الشركة وليس مشروعك!»
أوضح تافرنيك قائلا: «الشركة أتيحت لها الفرصة ولم ترغب في الاستفادة منها. لو لم أكن قد اشتريت الأرض حينئذ، كان شخص آخر سيشتريها بالكامل منذ مدة طويلة.»
كان من الواضح أن السيد داولينج يستعر غضبا.
صاح: «هل تقصد أن تخبرني يا سيدي أنك تجرأت على الدخول في مشروعات خاصة بينما لا تزال موظفا في الشركة؟ هذا شيء لم نسمع به من قبل، شيء غير مبرر وسخيف. أنا أطالبك يا سيدي بتسليم قطع الأراضي لنا على الفور ... للشركة، أنت تفهم. سوف نعطيك الثمن الذي دفعته بالطبع، على الرغم من أنني أتوقع أنك دفعت مبلغا أكبر بكثير مما كنا سندفع. ومع ذلك، يجب أن نعطيك ما دفعته، بالإضافة إلى أربعة في المائة فائدة على أموالك.»
أجاب تافرنيك: «أنا آسف، لكنني أخشى أنني سأطلب شروطا أفضل من تلك.» وتابع: «في الحقيقة، لا أرغب في البيع. لقد بذلت قدرا كبيرا من التفكير والوقت في هذا الأمر، وأنا أنوي القيام به كمشروع شخصي.»
قال السيد داولينج بشراسة: «إذن، فسوف تنفذه يا سيدي من مكان آخر غير جدران مكتبي. أتفهم ذلك يا تافرنيك؟»
أجاب تافرنيك: «أفهمه تماما. تريدني أن أتركك. هذا الطلب يفتقر إلى الحكمة تماما، لكنني على استعداد كامل لتنفيذه.»
أصر السيد داولينج قائلا: «إما أن تعيد بيع تلك الأراضي لي بسعر التكلفة، أو لا تطأ قدمك مكتبي مرة أخرى. هذه خيانة سافرة للثقة. لم أسمع بمثل هذا الشيء طوال حياتي. إنه سلوك غاية في اللامهنية، سلوك مستحيل!»
لم يظهر تافرنيك أي علامات على الغضب ... وتنحى جانبا ببساطة.
قال: «لن أبيع لك أرضي يا سيد داولينج، ويرضيني للغاية أن أترك عملك.» وتابع: «يبدو أنك تتوقع أن يقوم شخص آخر بالعمل بأكمله نيابة عنك بينما تجني أنت الأرباح كاملة. لقد مضت تلك الأيام. عملي في هذا العالم هو أن أصنع ثروة لنفسي وليس لك!»
صاح السيد داولينج: «كيف تجرؤ يا سيدي! لم أسمع قط مثل هذه الوقاحة في حياتي.»
تابع تافرنيك دون تأثر: «لم تقم بصفقة في العمل منذ خمس سنوات وقد وفرت لك جهودي دخلا جيدا جدا. في المستقبل، ستوجه هذه الجهود نحو تقدمي أنا شخصيا.»
عاد السيد داولينج نحو السيارة.
وقال: «أيها الشاب، يمكنك أن تتبجح بقدر ما تريد، لكنك مذنب بخيانة الثقة. وسأحرص على أن يتم الإعلان عن هذا الأمر بدقة في جميع الجهات المسئولة. لن تحصل على أي وظيفة لدى أي شركة أعرفها ... يمكنني أن أعدك بذلك. إذا كان لديك أي شيء آخر ستقوله لشركة داولينج، سبينس آند كمباني، فليكن ذلك كتابيا.»
افترقت الصحبة في ذلك المكان وذلك الوقت. ونزل تافرنيك وبياتريس إلى أسفل التل في صمت.
استفسرت: «هل يزعجك ذلك بأية حال؟»
أجاب تافرنيك: «لا شيء يستحق الحديث عنه. كان هذا متوقعا. لم أكن مستعدا تماما ولكن هذا لا يهم.»
سألت: «ماذا ستفعل الآن؟»
أجاب: «أقترض ما يكفي لشراء التل بأكمله.»
نظرت إلى الوراء. «ألا يعني ذلك قدرا كبيرا من المال؟»
أومأ برأسه.
واعترف قائلا: «ستكون هذه صفقة ضخمة بالطبع. ولكن لا تلقي بالا؛ فأنا أجرؤ على القول إنني سأتمكن من إقناع شخص ما بها. على أي حال، لم أرد قط أن يصنع السيد داولينج ثروة جراء هذا المشروع.»
سارا معا للأمام في صمت. ثم تحدثت مرة أخرى في تردد قليلا. «أظن أن ما فعلته عادل جدا يا ليونارد، أليس كذلك؟»
أجابها على الفور دون أي إحساس بالإهانة من سؤالها.
قال معترفا: «في حقيقة الأمر، إنه أمر غير معتاد لأي موظف لدى شركة توكيلات عقارية أن يعقد صفقات لحسابه الخاص في الأراضي. إلا أنني، في هذه الحالة، أعتبر أنني كان لدي مبررات. لقد شرعت في ثلاث صفقات بناء للشركة، وقد كسبوا منها قدرا هائلا من المال، ولم أحصل حتى على زيادة في الراتب، ولم يقدم لي أي تقدير. بالطبع، الموظف مدين لصاحب العمل. ولكن صاحب العمل أيضا مدين لموظفه. في حالتي أنا لم أعامل على الإطلاق بأقل تقدير من أي نوع. وسوف أظل على موقفي. فعلى أي حال، أنا مهتم أكثر بكسب المال من أجلي أكثر من الآخرين.»
كانا قد وصلا إلى زاوية الحقل الآن، وبدآ في الهبوط على المنحدر الحاد. كان مساء الأحد، وتصاعدت من جميع الأديرة الصغيرة والكنائس بالأسفل أصوات الأجراس غير الموسيقية. ومن مسافة أبعد جاءت النغمات الملحنة الرخيمة من الكاتدرائية وكنائس المدينة. إلا أن الأصوات الصاخبة الأقرب هي التي سادت. كان مزيج الصوت كله غير متناغم. وبينما كانا يهبطان، كان بإمكانهما رؤية الحشود المرتدية المعاطف السوداء تتحرك ببطء نحو أماكن العبادة المختلفة. كان ثمة شيء غير ملهم حيال ذلك كله. فارتجفت.
قالت: «ليونارد، أتساءل لماذا أنت متشوق للغاية للدخول في هذا العالم. لماذا تريد أن تكون غنيا؟»
كان يلقي نظرة خاطفة على التل خلفه، وضوء الحسابات يلمع في عينيه. كان يقيس مرة أخرى قطع الأرض ويحسب الإيجار، ويخصم الفوائد.
أجاب بتسامح: «نحن جميعا نسعى لأشياء مختلفة ... بعض الشهرة، بعض المتعة. السيد داولينج، على سبيل المثال، ليس لديه طموح آخر غير التفوق على منافسه في ملعب الجولف في بضع ضربات أفضل.»
سألت: «وأنت؟»
أجاب: «إنه النجاح الذي أسعى إليه. النساء، كقاعدة عامة، لا يفقهن. أنت، على سبيل المثال، يا بياتريس، عاطفية للغاية. أما أنا فعملي جدا. المال هو ما أريده. أريد المال لأن المال يعني النجاح.»
همست قائلة: «وبعد ذلك؟»
لم يعد منتبها إليها. كانا ينعطفان الآن إلى الطريق الواسع في أسفل الممر، وفي نهايته عربة ترام تنتظر. كتب بعض الملاحظات الأخيرة في دفتر جيبه.
صاح، ومتعة القتال تظهر في صوته: «غدا، غدا تبدأ المعركة بشكل جدي!»
تأبطت بياتريس ذراعه.
وقالت: «ليس فقط بالنسبة إليك، يا صديقي العزيز، ولكن بالنسبة إلي أيضا». فسألها بسرعة: «بالنسبة إليك؟ ماذا تقصدين؟»
وتابعت: «كنت أحاول إخبارك طوال اليوم، لكنك كنت منشغلا جدا. ذهبت بعد ظهر أمس لرؤية السيد جرير في مسرح أطلس. وأجريت تجربة صوت، وغدا مساء سأؤدي دوري في المسرحية الكوميدية الغنائية الجديدة.»
حدق فيها تافرنيك بشيء من الذعر. أفكاره عن المسرح وكل ما يخصه كانت أفكارا بدائية. السيدة فيتزجيرالد ربما كانت أقرب ما يمكن إلى فكرته عن هذه النوعية. نظر إلى بياتريس غير مصدق ... فتاة نحيفة، ترتدي ملابس هادئة، ولكن مع ذلك أنيقة، تنم بوضوح على تربيتها، وهو ما كان غامضا بالنسبة إليه.
صاح: «أنت ممثلة!»
ضحكت بنعومة وهدوء.
وقالت: «عزيزي ليونارد، سيكون هذا جزءا من تثقيفك. في ليلة الغد ستأتي إلى المسرح وتنتظرني عند بابه.»
الفصل الحادي عشر
عرض مذهل
وقفت إليزابيث ويدها خلف ظهرها، متكئة قليلا على طاولة الكتابة. وقبض البروفيسور، بقبعته العريضة الحواف على أصابعه، وراح يذرع الغرفة الصغيرة بلا كلل ذهابا وإيابا. لم تكن المناقشة ممتعة تماما. كانت إليزابيث رابطة الجأش وجادة، أما والدها فكان عصبيا وثائرا.
قال: «أنت مجنونة يا إليزابيث! ألا تفهمين، أم أنك لن تفهمي؟ إنني أقول لك إننا لا بد أن نرحل.»
هزت كتفيها.
سألت: «إلى أين ستجرني؟ نحن بالتأكيد لا نستطيع العودة إلى نيويورك.»
التفت إليها بشراسة.
سألها: «وغلطة من أننا لا نستطيع العودة؟ لولاك أنت ولولا خططك المربكة، كنت سأستطيع أن أسير في برودواي الأسبوع المقبل.» وتمتم قائلا: «إنها مدينة الله أيضا. أتمنى لو لم نر هذين الشابين قط.»
اعترفت قائلة: «ربما كان ذلك مؤسفا، ومع ذلك كان علينا أن نفعل شيئا. كنا مفلسين تماما، على الحديدة كما يقولون هنا.»
قال البروفيسور: «على أي حال، يجب أن نخرج من هذا.»
أجابت: «أبي العزيز، سأوافق على ذلك إن حدث وظهرت مدينة جديدة أو عالم جديد من قاع البحر، حيث يكون البروفسور فرانكلين غير معروف، وابنته الجميلة إليزابيث لم يسمع عنها قط، عندئذ يكون من الأفضل لنا أن نذهب إلى هناك. كما هو الحال ...»
فقال: «هناك روما، أو بعض الأماكن الأصغر! لدينا المال لبعض الوقت. وربما يمكننا الحصول على مسودة أخرى من وينهام.»
هزت رأسها. وقالت: «نحن هنا آمنون تماما كما في أي مكان آخر في القارة.»
مرة أخرى ضرب الطاولة. ثم ألقى يديه فوق رأسه بالغريزة الميلودرامية التي كانت دائما ما تجري بقوة في دمه.
وصاح: «هل تعتقدين أنني أحمق؟ هل تعتقدين أنني لا أعرف أنه لو لم يكن هناك شيء يدور في عقلك، لما فكرت في ذلك الموظف، هذا الوكيل العقاري البرجوازي، أكثر مما تفكرين في سجادة مسح الأحذية أمام الباب؟ هذا ما أشتكي منه دائما. أنت تستخدمينني كأداة. هناك دائما أشياء لا أفهمها. يأتي هذا الشاب هنا بحجة سواء كان يعلم ذلك أم لا. وتتحدثين معه مدة ساعة في كل مرة.» وتابع، بصوت قد بح فجأة وهو يميل نحوها: «يجب ألا يكون هناك شيء في حياتك لا أعرفه يا إليزابيث. ألا ترين أن الصداقات تمثل خطرا عليك وعلي، وأن العلاقات الحميمة من أي نوع تشكل خطرا هي الأخرى؟ وأنا أشاركك الخطر؛ ولذا من حقي أن أشاركك المعرفة. أظن أن هذا الشاب ليس لديه أموال. فما الفائدة التي ستعود علينا منه؟»
فأجابت: «أنت متسرع جدا يا والدي العزيز. دعني أؤكد لك أنه لا يوجد شيء غامض على الإطلاق بشأن السيد تافرنيك. الحقيقة ببساطة هي أن هذا الشاب يجذبني بالأحرى.»
حدق البروفيسور في وجهها بذهول. «يجذبك! هو!»
تمتمت: «أنت لم تفهمني تماما قط يا والدي العزيز. لم تقدر قط تلك السمة في شخصيتي، ذلك التفضيل الغريب، إذا جاز لي القول، للشيء الجديد تماما. والآن أنا لم أقابل في حياتي كلها مثل هذا الشاب. إنه يرتدي ثياب شخص عادي، كما وصفته، ولديه ملامح وكلام شخص عادي ، ولكن هناك فرقا.»
قاطعها البروفيسور بغلظة: «فرقا، حقا! وما هو هذا الفرق، أود أن أعرف؟»
هزت كتفيها برقة.
وأوضحت: «إنه متبلد الحس دون أن يكون غبيا. إنه متمحور حول نفسه. أبتسم له وينتظر بصبر حتى أنتهي لكي يتمكن من متابعة أعمالنا. لقد قلت له أشياء لطيفة جدا فحدق في وجهي دون أي تغيير في تعبيرات وجهه، ودون أي متعة أو عاطفة من أي نوع.»
قال والدها: «أنت متكبرة جدا يا إليزابيث. لقد كنت مدللة. هناك القليل من الناس في العالم حتى أنت قد تفشلين في استمالتهم. لا شك أن هذا الشاب هو واحد منهم.»
تنهدت برفق.
اعترفت قائلة: «يبدو الأمر فعلا كما لو كنت على حق، لكننا سنرى. بالمناسبة، أليس من الأفضل أن تذهب؟ الدقائق الخمس أوشكت على الانتهاء.»
جاء إلى جانبها، وقبعته وقفازاته في يده، مستعدا للرحيل.
قال متوسلا: «هلا أخبرتني بشرفك يا إليزابيث، أنه ليس هناك سبب آخر لاهتمامك؟ أنك لست متورطة في أي خطط جديدة لا أعرف عنها شيئا؟ الأوضاع سيئة بما فيه الكفاية. لا أستطيع أن أنام، ولا أستطيع أن أرتاح، لأنني أفكر في وضعنا. إذا اعتقدت أن لديك أي خطط جديدة قيد التنفيذ ...»
نفضت الرماد من سيجارتها ورمقته بنظرة خاطفة.
قالت بتمعن: «إنه يعرف مكان بياتريس، ولا أستطيع إقناعه بإخباري. لا يوجد شيء أبعد من ذلك ... لا شيء على الإطلاق.»
عندما أخبرت بقدوم تافرنيك، كانت إليزابيث لا تزال تدخن وتجلس في مقعد وثير وهي تنظر إلى النار. شيء في جلستها، ووضعية رأسها وهو يستقر على أصابعها، ذكره فجأة ببياتريس. ولم يظهر أي عاطفة سوى توقف مفاجئ في مشيته عبر الغرفة. ومع ذلك، حتى هذا كان ملحوظا، في شخص أثار استياءها بأسلوبه الآلي.
قالت ببهجة: «صباح الخير يا صديقي! هل أحضرت لي القائمة الجديدة؟»
أجاب تافرنيك: «للأسف لا يا سيدتي. لقد أتيت ببساطة لأعلن أنني غير قادر على تقديم أي مساعدة إضافية لك في هذا الموضوع.»
نظرت إليه دقيقة دون تعليق.
وسألت: «هل أنت جاد يا سيد تافرنيك؟»
أجاب: «نعم. الحقيقة هي أنني لست في وضع يسمح لي بمساعدتك. لقد تركت العمل لدى شركة ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني.»
سألت بهدوء: «بمحض إرادتك؟»
اعترف قائلا: «لا، لقد فصلت. كنت سأجبر على ترك العمل بعد مدة قصيرة للغاية، لكن السيد داولينج عجل بذلك.»
دعته قائلة: «هلا تجلس وتحدثني عن ذلك؟»
نظر إلى عينيها مباشرة دون أن يجفل. كان لا يزال قادرا على فعل ذلك!
قال: «لا يمكن أن يثير هذا اهتمامك.» «وأختي؟ هل رأيتها؟»
أجاب تافرنيك دون تردد: «نعم، رأيتها.» «هل لديك رسالة لي؟»
قال: «على الإطلاق.» «إنها ترفض ... أن تتصالح إذن؟» «أخشى أنها ليس لديها مشاعر ودية تجاهك.» «ألم تعطك أي سبب؟»
اعترف: «لا سبب مباشر، ولكن موقفها ... لا هوادة فيه.»
نهضت واندفعت نحوه. وأخذت بأصابع حازمة ولكن رقيقة قبعته البالية وقفازاته المرتقة من يده. ووجهته إيماءتها نحو الأريكة.
تمتمت: «لقد جعلتك بياتريس تتحامل علي. هذا ليس عدلا.» وناشدته قائلة: «من فضلك تعال واجلس ... مدة خمس دقائق. أريدك أن تخبرني لماذا تشاجرت مع ذلك الرجل الضئيل الغريب، السيد داولينج.»
احتج قائلا: «لكن يا سيدتي ...»
صرحت وهي تراقبه عن كثب: «إذا رفضت، فسوف أعتقد أن أختي كانت تخبرك قصصا عني.»
ابتعد عنها تافرنيك قليلا لكنه جلس على الأريكة التي أشارت إليها. شغل أكبر قدر ممكن من المساحة، وما أراحه أنها لم تصر على نيتها الأولى، التي كانت أن تجلس بجواره.
قال بروية: «لم تخبرني أختك بشيء عنك على الإطلاق. وفي الوقت نفسه طلبت مني ألا أعطيك عنوانها.»
قاطعته: «سنتحدث عن ذلك في وقت لاحق. في البداية، قل لي لماذا تركت مكانك.»
أخبرها بنبرة واقعية: «السيد داولينج اكتشف أنني كنت أقوم ببعض الأعمال لحسابي الخاص. لقد كان محقا تماما في أن يرفض. لم أعد إلى المكتب منذ أن اكتشف ذلك.»
سألت: «أي نوع من الأعمال؟»
أوضح لها: «تعمل الشركة في مجال شراء الأراضي في المناطق غير المستثمرة وبيعها لبناء العقارات. وقد كنت ناجحا جدا حتى الآن في إيجاد مواقع لمشروعاتهم. ومنذ وقت قصير، اكتشفت موقعا جيدا جدا لدرجة أنني استثمرت فيه كل مدخراتي الخاصة لشراء قطع أراض معينة، ولدي خيار شراء لباقي الموقع. وقد اكتشف السيد داولينج ذلك وطردني.»
قالت: «ولكن هذا يبدو غير عادل بالمرة.»
أجاب: «لا إطلاقا. لو كنت في مكان السيد داولينج، لكنت فعلت الشيء نفسه. كل شخص يسعى لشق طريقه في الحياة يجب أن يهتم بنفسه. بصراحة شديدة، ما فعلته كان خطأ. ومع ذلك، أتمنى لو كنت قد فعلته من قبل. يجب على المرء أن يفكر في نفسه أولا.»
استفسرت: «والآن؟ ماذا ستفعل الآن؟»
صرح قائلا: «سأجد رأسماليا أو أكون شركة لشراء باقي الموقع. وبعد ذلك، يجب أن ننظر في أمر البناء. ومع ذلك، لا داعي للتعجل في هذا الأمر. أولا، يجب ضمان الموقع وشراؤه.» «كم من المال يتطلب ذلك؟»
قال لها: «نحو اثني عشر ألف جنيه.»
تمتمت: «يبدو المبلغ صغيرا جدا.»
فأوضح: «الحاجة إلى المال تأتي بعد ذلك. نريد أن نشتري ونخطط ونبني دون رهون عقارية. بمجرد أن نكون متأكدين من الموقع، يمكن للمرء أن يفكر في ذلك. خياري يمتد لمدة أسبوع فقط أو نحو ذلك.»
سألت: «هل تعتقد حقا أنها مغامرة جيدة؟»
أجاب بشكل جاف: «أنا لا أعتقد في مثل هذه الأمور. أنا أعرف.»
رجعت للخلف في مقعدها، وهي تراقبه عدة ثوان ... معجبة به في واقع الأمر. كان الإيمان العميق البادي في كلماته يكاد يكون ملهما. كان يبدو غير متأثر بحضورها، وغير مضطرب على الإطلاق، رغم معرفتها أنها امرأة جميلة جدا، بصرف النظر عن غياب معرفته بجنسها وافتقاره إلى المكانة الاجتماعية. جلس هناك بأريحية كاملة. لم يبد له أن اهتمامها بشئونه أمر غير مبرر. لم يكن مغرورا أو عدوانيا بأي شكل من الأشكال. كانت ثقته الكاملة بالنفس تفتقر إلى أي دافع متشدد. لقد كان ... هو نفسه، لا يتأثر بالوسط المحيط، مهما كان غير عادي.
استفسرت بتمهل: «لماذا لا أكون ممولك؟»
سألها بشك: «هل لديك ما يصل إلى اثني عشر ألف جنيه تريدين استثمارها؟»
نهضت على قدميها وانتقلت إلى مكتبها. جلس ساكنا تماما، يراقبها دون أي فضول واضح. فتحت الدرج وعادت إليه وفي يدها دفتر بنكي.
أمرته قائلة: «اجمع هذا، وأخبرني كم لدي.»
سحب قلما رصاصا من جيبه وجمع الأرقام بسرعة.
وقال بهدوء: «إذا لم تكوني قد أعطيت أي شيكات منذ إصداره، فلديك رصيد دائن قدره ثلاثة عشر ألفا ومائة وثمانية عشر جنيها وتسعة شلنات وأربعة بنسات. من الحماقة أن تحتفظي بكل هذا القدر من المال في حساب جار. أنت تخسرين بالتأكيد حوالي ثمانية جنيهات في الأسبوع.»
ابتسمت.
واعترفت قائلة: «أعتقد أن هذه حماقة مني، لكن ليس لدي من ينصحني الآن. معرفة أبي بالمال لا تزيد عن معرفة طفل به، ولقد حصلت للتو على مبلغ كبير جدا نقدا. أود فقط أن نستطيع أن نجعل بياتريس تشارك بعضا من هذا المال يا سيد تافرنيك.»
لم تبدر منه أي ملاحظة. بدا وكأنه لم يسمع عن أختها قط. جاءت وجلست بجانبه مرة أخرى.
همست قائلة: «هل ستتخذني شريكا يا سيد تافرنيك؟»
ثم، في الواقع، خفت جمود ملامحه لحظة. كان مندهشا بصراحة.
أخبرها قائلا: «لا يمكنك أن تعني هذا. أنت لا تعرفين شيئا عن قيمة الأرض، ولا تعرفين شيئا عن المسألة برمتها. هذا مستحيل تماما.»
قالت: «أنا أعرف ما قلته لي. أليس هذا كافيا؟ أنت على يقين من أنها ستجني المال وقد أخبرتني للتو كم أنا حمقاء للاحتفاظ بالكثير من المال في البنك. حسن جدا، إذن سأعطيك إياه لتستثمره لي. يجب أن تدفع لي قدرا كبيرا من الفائدة.»
احتج قائلا: «لكنك لا تعرفين شيئا عني، ولا تعرفين شيئا عن الأراضي.»
أجابت: «يجب على المرء أن يثق بشخص ما. فلماذا لا أثق بك؟»
كان في حيرة من أمره. يبدو أن هذه المرأة لديها إجابة لكل شيء. علاوة على ذلك، عندما تجاوز اندهاشه من هذا الأمر، كانت بالطبع ضربة حظ رائعة بالنسبة إليه. ثم تدافعت إلى ذهنه الأفكار، وهج دفعه بقوة. هذا يعني أن يراها كثيرا، ويعني أن يأتي هنا إلى شقتها، وربما يعني حتى أن تنظر إليه على أنه صديق. صر على أسنانه بقوة. كانت هذه رعونة!
استفسر: «هل لديك أي فكرة عن الشروط؟»
ضحكت بهدوء.
قالت: «صديقي العزيز، لماذا تسألني مثل هذا السؤال؟ أنت تعرف تمام المعرفة أنني لست مؤهلة لمناقشة الشروط معك. اسمع. أنت منخرط في صفقة تحتاج لتنفيذها إلى قرض قيمته اثنا عشر ألف جنيه. اكتب ورقة توضح فيها نصيبي من الأرباح، والفائدة التي سأحصل عليها من أموالي، واذكر تفاصيل الممتلكات. ثم سآخذها إلى المحامي الخاص بي، إذا كنت مصرا على ذلك، على الرغم من أنني على استعداد لقبول ما تعتبره عادلا.»
أجاب بتمعن: «يجب أن تأخذيها إلى محام بالطبع. ومع ذلك، أستطيع أن أخبرك الآن أنه من المحتمل أن ينصحك المحامي بعدم استثمار الأموال بهذه الطريقة.»
صرحت: «لن يحدث هذا فرقا على الإطلاق. المحامون يكرهون جميع الاستثمارات، كما أعلم، باستثناء قروضهم العقارية الرهيبة. لا يوجد سوى شرطين يجب أن أضعهما.»
سأل: «ما هما؟» «الأول أنه يجب ألا تقول كلمة من هذا لأختي.»
عبس تافرنيك.
وقال: «هذا صعب بعض الشيء. فأختك تعرف شيئا عن الملكية وعن خططي.»
قالت إليزابيث: «لا داعي لأن تخبرها باسم شريكك. أريد أن يكون هذا سرا بيننا تماما، بينك وبيني.»
وضعت يدها على يده؛ فقبض على جانبي مقعده. مرة أخرى كان مدركا لهذا الإحساس المحير وغير المفهوم.
سأل بصوت أجش: «ماذا عن الشرط الآخر؟» «أن تأتي من حين لآخر وتخبرني كيف تسير الأمور.»
كرر كلامها: «آتي إلى هنا؟»
فأومأت برأسها. «أرجوك! أنا وحيدة للغاية. سأتطلع لزياراتك.»
نهض تافرنيك ببطء واقفا على قدميه. ومد يده ... كانت أكثر خبرة من أن تحاول إبقاءه. ألقى خطابا كان بالنسبة إليه جريئا، ولكن بينما كان يفعل ذلك، نظر في عينيها بصراحة لم تكن هي معتادة عليها.
قال: «سآتي. كنت سأرغب في المجيء على أي حال.»
ثم استدار فجأة وغادر الغرفة. كان أول خطاب من نوعه يلقيه في حياته.
الفصل الثاني عشر
تافرنيك يزل
شعر تافرنيك أنه قد تجول بالفعل في عالم غريب بينما يأخذ مكانه في المساء التالي وسط الحشد الصغير من الناس الذين كانوا ينتظرون خارج باب مسرح أطلس. كانت هذه أجواء لم يكن معتادا عليها على الإطلاق. توقفت سيارتان رائعتان عند الرصيف، وخلفهما مجموعة من السيارات الكهربائية وسيارات الأجرة، مما يثبت بشكل قاطع أن سيدات مسرح أطلس يحظين بشعبية في غير الدوائر المسرحية المحضة.
كان الحفنة من الشباب الذين أحاطوا بتافرنيك من جنس مجهول بالنسبة إليه. كانوا جميعا يرتدون ملابس متشابهة تماما، ويبدو أنهم جميعا يجسدون البيئة نفسها، ويبدون اللامبالاة نفسها نحو الضيوف الآخرين. والكراسي الأخرى. دلف واحد أو اثنان من المحظوظين عبر باب المسرح واختفيا. كان تافرنيك يكتفي بالوقوف على حافة الرصيف ويداه داخل جيبي معطفه الداكن، وقبعته التي لم تكن ذات شكل مناسب تماما، قد انزاحت قليلا على الجزء الخلفي من رأسه؛ وقد انعكس الضوء على وجهه الجاد المتصلب من مصباح غاز مجاور.
بدأ الناس في الوقت الحالي يخرجون من الباب. في البداية، الموسيقيون، ومجموعة صغيرة من العاملين في المسرح.
ثم ظهرت قبعة فتاة في المدخل، وخرجت أول واحدة من فتيات مسرح الأطلس، ليصطحبها مرافقها على الفور. وسرعان ما وصلت بياتريس بعد ذلك. ورأت تافرنيك على الفور وتقدمت نحوه.
سألت: «حسنا، وما رأيك؟»
قال بتؤدة وهو يتقدم الطريق نحو الشارع: «كنت تبدين جميلة للغاية. بالطبع، كنت أعرف غناءك، لكن كل ما عداه ... بدا مفاجأة كبيرة بالنسبة إلي.» «مثل ماذا؟»
تابع: «حسنا، أعني رقصك، وبطريقة أو بأخرى بدوت مختلفة على المسرح.»
هزت رأسها.
وأصرت قائلة: «كلمة «مختلفة» لن تكفيني. يجب أن تعطيني وصفا أكثر تحديدا.»
صرح تافرنيك بجدية: «حسنا، إذن، لقد بدوت أجمل بكثير مما كنت أعتقد. بدوت غاية في الجمال.»
سألت بشيء من الشك: «أهذا رأيك حقا؟» «نعم، هذا رأيي. أرى أنك تبدين أجمل بكثير من كل الأخريات.»
ضغطت على ذراعه بمودة.
وقالت: «عزيزي ليونارد، جميل جدا أن يكون ذلك رأيك. أتعرف، لقد دعاني السيد جرير إلى تناول العشاء بالفعل.»
تمتم تافرنيك : «يا لها من وقاحة!»
ألقت بياتريس رأسها للخلف وضحكت.
وراجعته قائلة: «أخي العزيز، لقد كانت مجاملة رائعة. ويجب أن تتذكر أنه صاحب الفضل الأول في حصولي على هذا العمل. سأحصل على أربعة جنيهات في الأسبوع. فقط فكر في الأمر!»
أقر تافرنيك: «أربعة جنيهات في الأسبوع مبلغ جيد جدا. يبدو مبلغا كبيرا بالمقارنة بنوع العمل. لكني لا أعتقد أنه يجب عليك الذهاب لتناول العشاء مع أي شخص تعرفينه معرفة بسيطة بهذا الشكل.» «يا لك من متزمت يا عزيزي! أنت تعرف أنك متزمت بدرجة صادمة يا ليونارد.»
أجاب دون أن يشعر بالإهانة، وبطريقة شخص يفكر جديا في الموضوع: «أأنا كذلك حقا؟» «بالطبع أنت كذلك. وكيف يمكنك ألا تكون، بعد أن عشت هذا النوع من الحياة طوال عمرك؟ لا عليك، أنا معجبة بك لذلك. أنا لا أعرف إن كنت أرغب في الخروج لتناول العشاء مع أي شخص ... حقا لم أقرر بعد ... ولكن إذا قررت، فسيكون من الأفضل بالتأكيد بالنسبة إلي أن أخرج بصحبة السيد جرير؛ لأنه يستطيع أن يفيدني فائدة لا حد لها في المسرح، إذا أحب.»
ظل تافرنيك صامتا عدة لحظات. كان واعيا لشعوره بإحساس لم يفهمه على الإطلاق. كل ما كان يعرفه هو أن هذا الإحساس انطوى على بغض شديد وغير منطقي للسيد جرير. ثم تذكر أنه أخوها، وأن له الحق في التحدث بسلطة.
قال: «آمل ألا تخرجي لتناول العشاء مع أحد.»
بدأت تضحك لكنها ألجمت نفسها.
قالت: «حسنا، هذا يبدو فظيعا للغاية. هل سنركب حافلة؟ لا أخفيك سرا، أنا أتضور جوعا. لقد تدربنا مدة ساعتين قبل العرض، ولم أتناول شيئا سوى شطيرة ... كنت متحمسة للغاية.»
تردد تافرنيك لحظة ... بالتأكيد لم يكن طبيعيا هذا المساء!
سأل: «هل ترغبين في تناول العشاء في مطعم، قبل أن نعود إلى المنزل؟»
قالت وهي تتأبط ذراعه بينما يمران وسط حشد من الناس: «بالطبع أحب ذلك. بصراحة، كنت أتمنى أن تقترح هذا الاقتراح.»
قال تافرنيك بروية: «أعتقد أن هناك مكانا قريبا على طول الطريق من هنا .»
شقا طريقهما عبر شارع ستراند ودخلا مطعما لم يعرفه تافرنيك إلا بالاسم. عثرا على طاولة صغيرة لهما، ونظرت بياتريس بفرحة.
صاحت وهي تخلع قفازاتها: «أليس هذا ممتعا! يا إلهي هناك خمس أو ست فتيات من المسرح هنا بالفعل. هناك اثنتان، انظر، على طاولة الزاوية، والفتاة ذات الشعر الأشقر... إنها خلفي مباشرة في الكورس.»
نظر تافرنيك حوله. الشابات اللواتي أشارت إليهن جميعهن كن برفقة رجال يرتدون ملابس السهرة بأناقة. بدت وكأنها قرأت أفكاره وهي تضحك عليه.
قالت: «أيها الفتى الغبي. أنت لا تفترض أنني أريد أن أكون مثلهن، أليس كذلك؟ هناك الكثير من الأشياء التي يسعدنا النظر إليها، وهذا كل شيء. أليس هذا السمك جيدا؟ أنا أحب هذا المكان.»
نظر تافرنيك حوله باهتمام لم يكلف نفسه عناء إخفائه. من المؤكد أن المجموعات الصغيرة من الأشخاص الذين أحاطوا بهما من كل جانب كانوا يستمتعون بطعم في الحياة، لم يذقه هو حتى الوقت الحاضر، على أي حال. لقد اندفعوا إلى الداخل، يجدون أصدقاء في كل مكان، يضحكون ويتحدثون، ويصرون على الجلوس في طاولات في أماكن مستحيلة، ويحيون معارفهم في جميع أنحاء الغرفة، ويمازحون كبير الندل الذي كان يتنقل بسرعة من طاولة إلى أخرى. كان تجمع الأصوات المختلطة يمتزج بين الحين والآخر مع فرقعة أغطية الزجاجات الفلين، وخلف كل ذلك كانت الأنغام الناعمة لفرقة صغيرة مغرية، تعزف في الشرفة. شعر تافرنيك باحمرار وجنتيه. كان هذا صحيحا: كان هناك شيء جديد عليه هنا!
سألها فجأة: «بياتريس، هل شربت الشمبانيا من قبل؟»
ضحكت منه.
أجابت: «كثيرا يا أخي العزيز. لماذا؟»
اعترف قائلا: «أنا لم أفعل قط. سنحتسي بعض الشمبانيا الآن.»
كانت ستمنعه لولا أنه استدعى نادلا بإلحاح وأصدر أمره.
احتجت قائلة: «عزيزي ليونارد، هذا إسراف مروع.»
رد قائلا: «حقا؟ أنا لا أهتم. حدثيني عن المسرح. هل كانوا لطيفين معك هناك؟ هل ستستطيعين الاحتفاظ بمكانك؟»
قالت له: «كانت الفتيات ألطف بكثير مما كنت أتوقع، وقال المخرج الموسيقي إن صوتي أفضل بكثير من أن أنضم للكورس. أوه، حقا أتمنى أن يبقوني!»
أكد بحماس: «سيكونون أغبياء إذا لم يفعلوا. أنت تغنين أفضل من كل الفتيات الأخريات، وترقصين برشاقة أكثر، وتبدين أجمل بكثير منهن جميعا.»
ضحكت وهي تنظر إلى عينيه.
وصاحت قائلة: «أخي العزيز، تعليمك يتقدم حقا! إنها بالتأكيد الليلة الأولى التي أسمعك فيها تحاول قول عبارات جميلة، وأنت بارع بالفعل.»
احتج قائلا: «لا أعرف شيئا عن ذلك.» وأضاف وهو يفحصها بتمعن: «أعتقد أنه لم يخطر ببالي قط أنك جميلة، وإلا كنت سأخبرك بذلك. حسنا، المرء لا يلاحظ هذه الأشياء في العادة. ومع ذلك، لا بد أن الكثيرين قد أخبروك بذلك.»
قالت: «لم أحظ إطلاقا بالمجاملات. كما ترى، كان لدي أخت جميلة.»
يبدو أن الكلمات قد أفلتت منها دون وعي. وبينما تخرج من شفتيها، تغير تعبيرها. وارتجفت وكأنها تذكرت شيئا مزعجا. إلا أن تافرنيك لم يلحظ شيئا. في الجزء الأكبر من اليوم، كان يكافح بجرأة ضد حالة ذهنية جديدة وغير مألوفة. لقد وجد أفكاره تفلت منه، مرة بعد مرة، حتى اضطر إلى الجز على أسنانه واستخدام كل عزيمته لإبقاء انتباهه مركزا على عمله. والآن مرة أخرى تسللت أفكاره، وشعر مرة أخرى بثورة غريبة تجتاح كيانه. وازداد تدفق الدم في وجنتيه عمقا فجأة. نظر إلى ما وراء الفتاة التي تجلس أمامه، إلى خارج المطعم، عبر الشارع، إلى داخل غرفة الجلوس الصغيرة في ميلان كورت. كانت إليزابيث هي من تجلس أمامه. سمع صوتها مرة أخرى، ورأى التفاتة رأسها، وانحناءة شفتيها الرقيقة والمبهجة، والعينين اللتين كانتا تنظران إلى عينيه وتحدثانه أول همسات غريبة بلغة جديدة. خفق قلبه خفقانا سريعا. لقد تحول في الوقت الحالي، لم يعد سجينا، أصبح في الواقع شخصا مختلفا عن ذلك الشاب الصارم المهذب الذي وجد نفسه للمرة الأولى في حياته في هذا الوسط المحيط غير المعتاد. ثم مالت بياتريس نحوه، وأعاده صوتها إلى أرض الحاضر ... لم يكن، للأسف، الصوت الذي كان سيقدم الكثير ليسمعه في تلك اللحظة.
تمتمت: «الليلة، أشعر وكأننا في بداية أشياء جديدة. يجب أن نشرب نخبا .»
ملأ تافرنيك كأسها وكأسه.
قال: «نخب حظك في مهنتك الجديدة!»
صاحت بعد بضع ثوان: «وهذا نخب قلبك، أيها الرجل الأكثر فضولا بين الرجال! نخب ما لم يكتشف في الحياة!»
احتسى كأسه ووضعها فارغة.
تمتم وهو ينظر حوله: «ما لم يكتشف. هذا نخب رائع يا بياتريس. هناك أشياء كثيرة قد يظل المرء يجهلها طوال حياته إذا اعتمد بالكامل على تصوراته.»
ووافقت على ذلك قائلة: «أعتقد أنه لو لم أظهر في حياتك، لكنت ستتعرض لخطر أن تصير ضيق الأفق.»
أجاب: «أنا متأكد من ذلك، لكنك أتيت كما ترين.»
فكرت لحظة.
ثم قالت: «هذا يذكرني قليلا بأول وليمة كئيبة تناولناها معا. كنت تعرف ما يعنيه وقتها أن تطعم فتاة تتضور جوعا حقا. وأنا كنت بائسة يا ليونارد. لم يبد لي وقتها أن هناك أي نهاية أخرى باستثناء نهاية واحدة.»
سألها بقلق: «لقد تجاوزت كل هذا الهراء، أليس كذلك؟»
أجابت: «بلى، أعتقد ذلك. كما ترى، لقد بدأت الحياة مرة أخرى وأصبحت أقوى.» ثم استدركت: «لكن هناك أوقاتا حتى الآن أشعر فيها بالخوف.»
ماتت الفرحة فجأة في وجهها. وبدت أكبر سنا، ومتعبة، وبائسة. وعادت الظلال تحت عينيها، ونظرت حولها بشيء من الخوف. فملأ كأسها.
وقال: «هذه حماقة. لا شيء ولا أحد يستطيع أن يؤذيك الآن.»
لفتت نظرها نبرة صوته. كان قويا وصريحا، يجلس بأريحية بوجهه القاسي الصارم، وسط هذه الأجواء غير المألوفة، وشعرت كأنه حصن قوي يلجأ إليه الضعفاء. لم يكن وجهه مثقفا بشكل لافت للنظر ... لم تكن متأكدة الآن بشأن فمه ... ولكن يبدو أن المرء يشعر بتلك الطبيعة العنيدة، والآلام التي لا تعرف الكلل التي سيبذلها سعيا وراء أي هدف عزيز عليه. تلاشت الظلال من عقلها. ما فات مات. لم يكن من المعقول أن تطاردها طوال حياتها أشباح خطايا الآخرين. وجدت أجواء المكان، وأجواء الساعات القليلة الماضية طريقها من جديد إلى دمها. فرغم كل شيء، كانت شابة، والموسيقى كانت عذبة، وكانت نبضات قلبها تدق على لحن هذه الحياة الجديدة. تناولت نبيذها وضحكت، وكانت الموسيقى تتلاعب برأسها.
وقالت: «لقد كنا حزينين مدة طويلة بما فيه الكفاية. أنت وأنا يا أخي العزيز الجاد، سوف ننطلق بجدية الآن على دروب الرعونة. قل لي، كيف سارت الأمور اليوم؟»
ومض في ذهنه أن لديه أخبارا رائعة، لكنها لم تكن هكذا بالنسبة إليها. كان لا يزال هناك شك في عقله حيال هذا الأمر، لكنه لم يستطع أن يتحدث عنه.
قال بحذر: «لقد تلقيت عرضا. لا أستطيع أن أقول الكثير عنه في الوقت الحاضر، فلا شيء مؤكد، لكنني متأكد من أنني سأتمكن من الحصول على التمويل بطريقة ما.»
كانت نبرته هادئة وواثقة. لم يكن هناك ثقة بالنفس أو تبجح حول هذا الموضوع، ومع ذلك كان مقنعا. نظرت إليه بفضول.
قالت: «أنت شخص واثق جدا يا ليونارد. لا بد أنك تملك إيمانا كبيرا بنفسك، على ما أظن.»
فكر في قولها لحظة.
ثم أقر: «ربما أفعل. لا أعتقد أن هناك سبيلا آخر للنجاح.»
كان جو المكان الآن يكاد يكون باعثا على الوهن والخمول. توقفت الفرقة عن العزف، وكانت هناك مجموعات صغيرة من الرجال والنساء، يحيي بعضهم بعضا استعدادا للرحيل. وخفضت إضاءة المصابيح، وفي الضوء الهادئ، بدا أن الأصوات والضحكات قد تضاءلت أكثر فأكثر وأصبحت أكثر إيعازا، وصارت لمعة الضوء في عيون النساء وهن يسرن في الغرفة في طريقهن للخروج، أكثر نعومة ولا تقاوم.
قالت مترددة: «أفترض أننا يجب أن نذهب.»
دفع تافرنيك فاتورته واتجها إلى الشارع. تأبطت ذراعه واستدارا غربا. حتى هنا، بدا أن أجواء المطعم قد وجدت طريقها إلى الخارج. في هذه اللحظة، اختفت صرامة الحياة وووري جانبها الأقسى والأكثر عملية. لم يكن هذا هو الحشد النهاري، هذا الذي تطأ خطواته على الأرصفة. واختفت الوجوه القلقة المهمومة للساعين وراء قوت يومهم. كان الرجال والنساء الذين كانت الحياة بالنسبة إليهم أشبه بالصراع قد أووا إلى منازلهم ... ربما للراحة قبل أن يبدءوا شقاءهم مرة أخرى. في كل لحظة كانت عربات الأجرة والسيارات تتجول وتلقي وميضا في الليل على رجال في ملابس السهرة، ونساء يرتدين أثوابا ناعمة ويزين شعورهن بالمجوهرات. ويبدو أن روح المتعة والسعادة قد تسللت إلى الأجواء. فحتى الفقراء الذين مروا بهم في الشارع كانوا يضحكون أو يغنون.
توقف تافرنيك لحظة.
وقال: «الليلة ليست ليلة الحافلات العامة. سنستقل سيارة أجرة. أعلم أنك متعبة.»
قالت معترفة: «أحب ذلك بالطبع.»
أشارا إلى واحدة وانطلقت بهما. استندت بياتريس بين الوسائد وأغمضت عينيها، واستقرت يدها العارية من القفازات على يده وهي تداعبه. فمال إلى الأمام. كانت ثمة أشياء جديدة في العالم ... كان على يقين من ذلك الآن، على يقين رغم أنها كانت تطل عليه من وراء الضباب، وتأتيه متخفية غامضة لدرجة أنه رغم طاعته لم يفهم. كانت شفتاها الممتلئتان الناعمتان مفتوحتين قليلا، وجفناها ذوا الرموش الطويلة الكثيفة مغلقين؛ وشعرها البني الغامق، الذي كان قد أفلت من ربطته قليلا، ينساب على أذنيها. وفجأة تشبثت أصابعه بأصابعها بإحكام.
همس: «بياتريس!»
اعتدلت في جلستها جافلة، وعيناها تنظران إلى عينيه باستفسار، بينما تتسارع الأنفاس عبر شفتيها المنفرجتين.
قال: «ذات مرة طلبت مني أن أقبلك يا بياتريس. والليلة ... سأفعل.»
لم تبذل أي محاولة لصده. أخذها بين ذراعيه وقبلها. حتى في تلك اللحظة كان يعلم أنه ارتكب خطأ. ومع ذلك، راح يقبلها مرة بعد أخرى، ساحقا شفتيها بشفتيه.
وأخيرا توسلت إليه قائلة: «أرجوك، دعني يا ليونارد.»
أطاعها على الفور. لقد فهم جيدا أن شيئا غريبا قد حدث. بدا له خلال تلك الدقائق القليلة التالية أن كل ما مر في تلك الليلة كان حلما، وأن هذه الصورة الحية لحياة أكثر عاطفية، تفرض متطلبات على الحواس أكثر من أي شيء مر به حتى الآن، كانت سرابا، شيئا سيعيش فقط في ذاكرته، حياة لا يستطيع أبدا أن يشارك فيها. لقد أخطأ. لقد جاء إلى عالم جديد وأخطأ. خيم عليه شعور بالذنب. كانت لديه رغبة جامحة مفاجئة في أن يصرخ أن إليزابيث هي التي قبلها. كانت بياتريس جالسة في مكانها منتصبة وقد أدارت رأسها بعيدا عنه قليلا. شعر أنها كانت تتوقع منه أن يتكلم ... وأن هناك كلمات حتمية عليه أن يقولها. كان صمته اعترافا. كان سيكذب لكنه أطبق شفتيه دون أن ينبس بكلمة. وهكذا مرت اللحظة، وزلت قدما تافرنيك خطوة أخرى نحو مصيره!
بينما يساعدها على الخروج من السيارة، شدت أصابعها على يده لحظة. ربت عليها برفق بينما تمر أمامه داخلة إلى المنزل، تاركة الباب مفتوحا. عندما دفع للسائق الأجرة وتبعها، كانت قد اختفت. نظر إلى غرفة الجلوس؛ كانت خالية. كان يسمع وقع خطواتها وهي تصعد إلى غرفتها.
الفصل الثالث عشر
زيارة مسائية
في الصباح، عندما غادر إلى المدينة، لم تكن قد نزلت من غرفتها. وعندما عاد إلى المنزل في المساء، كانت قد رحلت. دون أن يخلع قبعته أو معطفه، أخذ الرسالة التي وجدها مسنودة على رف المدفأة وموجهة إليه إلى النافذة وقرأها.
أخي العزيز ليونارد، ... لم يكن هذا خطأك ولا أعتقد أنه كان خطئي. إذا كان اللوم سيقع على أي منا، فهو بالتأكيد يقع علي أنا؛ لأنه على الرغم من أنك شاب ذكي وطموح، فأنت لا تعرف في الواقع إلا القليل جدا عن العالم ... ليس كثيرا، على ما أعتقد، مثلي. سوف أبقى بضع ليال على أي حال مع إحدى زميلاتي في المسرح، حيث أعرف أنها تريد من يشاركها شقتها الصغيرة. بعد ذلك، سأرى.
لا تلقي هذا الخطاب في النار ولا تعتقد أنني جاحدة. لن أنسى أبدا ما فعلته من أجلي. وكيف يمكنني أن أفعل؟
سأرسل لك عنواني بمجرد أن أكون متأكدة منه، أو يمكنك دائما الكتابة لي على عنوان المسرح.
إلى اللقاء يا عزيزي ليونارد،
أختك بياتريس.
رفع تافرنيك نظره من الورقة إلى الخارج عبر الميدان الرمادي. كان يعلم أنه كان غاضبا جدا، غاضبا رغم أنه طوى الرسالة بهدوء ووضعها في جيبه، غاضبا رغم أنه خلع معطفه وعلقه بحرصه المعتاد؛ لكن غضبه كان من نفسه. لقد أخطأ خطأ كبيرا. هذه الفقرة من حياته كان من الأفضل أن ينساها. لقد كانت غير منسجمة على الإطلاق مع كل أفكاره. قال لنفسه إنه سعيد برحيل بياتريس. العيش مع أخت خيالية في هذا العالم العملي أمر سخيف. عاجلا أم آجلا كان يجب أن ينتهي. فالأفضل أن ينتهي الآن، قبل أن يتمادى إلى أبعد من ذلك ... الأفضل أن ينتهي الآن، أفضل بكثير! ومع ذلك، كان يعلم أنه سيشعر بالوحدة الشديدة.
قرع الجرس من أجل المرأة التي كانت تخدمهما، ونادرا ما كان يراها، لأن بياتريس نفسها كانت توفر احتياجاتهما العاجلة. وجد بعض العشاء جاهزا، وأكله دون أي إدراك على الإطلاق. ثم ألقى بنفسه في دوامة العمل. كان كل شيء جيدا في الساعة الأولى أو نحو ذلك، ولكن مع اقتراب الساعة العاشرة بدأ يجد صعوبة غريبة في تركيز انتباهه على تلك الحسابات. مسألة متوسط الإيجارات، النسبة المئوية على رأس المال ... الأشياء التي كان يجدها رائعة بالأمس ... بدت مزعجة فجأة. لم يكن بإمكانه تركيز انتباهه على أي شيء. أخيرا دفع الأوراق بعيدا، وارتدى قبعته ومعطفه، وخرج إلى الشارع.
عندما وصل إلى ميلان كورت، استقبل حارس العقار سؤاله عن إليزابيث بدهشة خافتة ولكن مهذبة. كان من الصعب جدا في تلك الأيام تحديد وضع تافرنيك. كانت ملابسه تدل بوضوح على المكانة التي شغلها حقا في الحياة، بينما كانت الغطرسة الطفيفة في أسلوبه، وتحرره المطلق من أي نوع من العصبية أو الإحراج، ينمان على مكانة وجدها أولئك الذين اضطروا إلى التعامل معه كغريب في بعض الأحيان محيرة إلى حد ما.
قال الرجل: «السيدة وينهام جاردنر في شقتها، على ما أعتقد يا سيدي. هلا تنتظر لحظة، وسأستطلع الأمر.»
اختفى في مكتبه، وبعد دقيقة أو اثنتين، دفع رأسه إلى الخارج، وما زالت سماعة الهاتف في يده.
قال: «السيدة جاردنر تريد الاسم مرة أخرى يا سيدي، من فضلك.»
كرر تافرنيك الاسم بحسم.
وأضاف: «لعلك تقول إنني لن أؤخرها أكثر من بضع دقائق.»
اختفى الرجل مرة أخرى. وعندما عاد، أشار لتافرنيك إلى المصعد.
وقال: «عليك بالصعود إلى الطابق الخامس يا سيدي؛ فالسيدة جاردنر في انتظارك.»
وجد تافرنيك شجاعته تكاد تخونه بينما يطرق باب شقتها. قادته خادمتها الفرنسية إلى غرفة الجلوس الصغيرة ، حيث وجد ثلاثة رجال؛ أحدهم جالس على الطاولة، والاثنان الآخران في مقاعد مريحة، مما أثار انزعاجه. كانت إليزابيث، في ثوب من الساتان الأزرق الباهت، واقفة أمام المرآة. استدارت عندما دخل تافرنيك.
وصاحت وهي تلوح له بيدها: «السيد تافرنيك سوف يقرر! هناك خلاف في الرأي حول أقراطي يا سيد تافرنيك. الميجور بوست ...» وأشارت إلى رجل مسن مهيب المظهر، ذي لحية وشارب مشذبين بعناية، ونظارة مثبتة على شريط أسود رفيع، وقالت: «يريدني الميجور بوست أن أرتدي الأقراط الفيروزية. وأنا أفضل اللؤلؤ. أما السيد كريس فهو يكاد يتفق معي، ولكن بما أنه لا يتفق مع أي شخص، من حيث المبدأ، فإنه يكره أن يقول ذلك. والسيد فولكس متردد بين هذا وذاك. عليك أن تقرر؛ فأنت، كما أعلم، أحد هؤلاء الأشخاص الذين لا يترددون أبدا.»
قال تافرنيك: «لو كنت مكانك لارتديت اللؤلؤ.»
تعاملت إليزابيث معهم بأسلوب رقيق مجامل.
وصرحت: «أترون يا أصدقائي الأعزاء، عليكم القدوم إلى إنجلترا، رغم كل شيء، لتجدوا رجلا يستطيع معرفة ما في عقله والتصريح بما فيه دون خوف. فلتكن الأقراط اللؤلؤ إذن.»
قال كريس بشيء من اللهجة الأمريكية: «ربما يكون هذا قرارا، أو ربما يكون نبل أخلاق. فالسيد تافرنيك كان يعرف اختيارك.»
تنهدت قائلة: «آخر صيحة، كالعادة. والآن، إذا تكرمتم أيها الأفاضل بالنزول، فسوف أنضم إليكم في غضون بضع دقائق. فالسيد تافرنيك مدير أعمالي وأنا متأكدة من أن لديه ما يقوله لي.»
صرفتهم جميعا بأسلوب لطيف. وبمجرد إغلاق الباب، التفتت إلى تافرنيك. وبدا أن أسلوبها أصبح أقل لياقة. «حسنا؟»
اعترف تافرنيك بصراحة قائلا: «لا أعرف لم أتيت. كنت قلقا وأردت رؤيتك.»
نظرت إليه لحظة ثم ضحكت. أحس تافرنيك بالارتياح؛ فهي على الأقل لم تكن غاضبة.
صاحت وهي تمد يديها: «أوه، أنت أغرب البشر! حسنا، ها أنت تراني ... وفي أحد أكثر الأثواب التي تليق بي أيضا. ما رأيك في مظهري؟»
دارت حول نفسها ثم واجهته مرة أخرى بنظرة ترقب. أدرك تافرنيك، الذي لم يكن يعرف شيئا عن أزياء النساء، مدى روعة هذا الثوب المنسدل.
قال: «لا أستطيع التفكير في كيفية التحرك خطوة فيه، ولكنك تبدين ...»
توقف لحظة. كان الأمر كما لو أنه فقد أنفاسه. ثم صر على أسنانه وأنهى الجملة.
صرح قائلا: «تبدين جميلة. أعتقد أنك تعرفين ذلك. أعتقد أنهم جميعا قد قالوا لك ذلك.»
هزت رأسها.
وقالت: «ليس لديهم جميعا شجاعتك يا عزيزي بريتون، وإذا كانوا قد قالوا لي ذلك بالفعل، فلست متأكدة من أنني كنت سأقتنع. معظم أصدقائي، كما ترى، قد عاشوا طويلا وعاشوا بسرعة كبيرة لدرجة أنهم تعلموا التلاعب بالكلمات حتى إن المرء لا يعرف أبدا ما إذا كانت الأشياء التي يتحدثون بها تنبع من قلوبهم. أما معك أنت، فالأمر مختلف.»
قال تافرنيك معترفا: «نعم، معي أنا الأمر مختلف!»
اختلست نظرة إلى الساعة.
وقالت: «حسنا، لقد رأيتني وأنا سعيدة برؤيتك، ويمكنك تقبيل أصابعي إذا أردت، وبعد ذلك يجب أن تسرع بالرحيل. فأنا مرتبطة بتناول العشاء مع أصدقائي بالأسفل.»
رفع أصابعها بتوتر حتى شفتيه وأبقاها هناك لحظة. وعندما تركها، شبكتها كما لو كانت تتألم، ونظرت إليه. وابتعدت عنه فجأة. بطريقة ما كانت تشعر بالإحباط. رغم كل شيء، كان ضحية سهلة!
صاحت بصوت عال: «إليز، عباءتي.»
جاءت خادمتها مسرعة من الغرفة المجاورة. فاستدارت إليزابيث نحوها مادة كتفيها. وأومأت برأسها إلى تافرنيك. «أنت تعرف طريق النزول يا سيد تافرنيك؟ سأراك مرة أخرى قريبا، أليس كذلك؟ تصبح على خير!»
بالكاد نظرت إليه وهي تصرفه، ومع ذلك كان تافرنيك يحلق في الهواء.
الفصل الرابع عشر
تحذير من السيد بريتشارد
تردد تافرنيك لحظة تحت رواق ميلان كورت، ناظرا إلى المطر الذي بدأ في الهطول فجأة. كاد لا يلاحظ أن له رفيقا حتى خاطبه الرجل الذي كان بجانبه. «اسمك تافرنيك، أليس كذلك؟»
استدار تافرنيك، الذي كان على وشك الابتعاد، بحدة. كان الرجل الذي تحدث معه يرتدي ملابس نهارية من قماش التويد الرمادي الداكن وقبعة هومبورج ناعمة. وكانت بشرته شاحبة قليلا وكان حليق الوجه باستثناء شارب أسود خفيف. كان يدخن سيجارا أسود وكانت لهجته أمريكية. شيء ما في مظهره أشعر تافرنيك أنه مألوف بشكل غامض، لكنه لم يستطع في البداية أن يتذكر المكان الذي رآه فيه من قبل.
اعترف تافرنيك: «هذا هو اسمي بالتأكيد.»
قال جاره: «سأطرح عليك سؤالا جريئا إلى حد ما.»
رد تافرنيك: «أعتقد أنه يمكنك أن تطرح سؤالك. فأنا لست مضطرا إلى أن أجيب عنه، أليس كذلك؟»
ابتسم الرجل.
وقال: «حسنا، هذا رد صادق، على أي حال. هل أنت في عجلة من أمرك أم يمكنني الحصول على بضع دقائق؟»
أجاب تافرنيك: «لست في عجلة شديدة من أمري. ماذا تريد؟»
تابع الغريب، خافضا صوته قليلا: «منذ بضع ليال، قابلتك بصحبة سيدة شابة أثار مظهرها، لسبب ما لا نحتاج إلى الخوض فيه، اهتمامي. والليلة سمعتك تسأل، قبل بضع دقائق فقط، عن أخت السيدة نفسها.»
رد تافرنيك: «ما سمعته لا يهمني البتة. دعني أقل إن هذا ليس من شأنك.»
ابتسم رفيقه.
وقال: «حسنا، لقد سمعت دائما الكثير عن صراحة البريطانيين، ويبدو لي أنني أواجه الآن بعضها. على أي حال، سأتحدث إليك بصراحة. أنا مهتم بالسيدة وينهام جاردنر. وأنا مهتم أيضا بأختها، التي أعتقد أنك تعرفها ... الآنسة بياتريس فرانكلين، وليس الآنسة تافرنيك!»
لم يصدر تافرنيك أي رد فوري. كان الرجل أمريكيا بلا شك. ربما كان يعرف شيئا عن بياتريس. ربما كان هذا أحد الأصدقاء من تلك الحياة السابقة التي لم تخبره شيئا عنها.
وأخيرا قال تافرنيك: «أنت لا تقترح، بأي حال من الأحوال مناقشة شئون أي من هاتين السيدتين معي؟ أنا لا أعرفك ولا أعرف ما شأنك بذلك، على أي حال، سأذهب الآن.»
وضع الآخر يده على كتف تافرنيك.
واحتج قائلا: «سوف تبتل ملابسك. أستأذنك في الدخول معي إلى غرفة التدخين هنا بضع دقائق. سنحتسي مشروبا معا ونتحدث قليلا، إذا كنت لا تمانع.»
قال تافرنيك: «لكنني أمانع. أنا لا أعرف من أنت ولا أريد التعرف إليك، ولن أتحدث عن السيدة جاردنر، أو أي سيدة أخرى من معارفي مع الغرباء. عمت مساء!» «لحظة واحدة، من فضلك، يا سيد تافرنيك.»
تردد تافرنيك. كان هناك شيء ملزم على نحو غريب في صوت الرجل الآخر السلس والمتميز.
قال: «أود منك أن تأخذ هذه البطاقة. لقد أخبرتك باسمي من قبل لكني أتوقع أنك نسيته ... بريتشارد ... سام بريتشارد. هل سمعت عني من قبل؟» «إطلاقا!»
تابع الآخر، بابتسامة كالحة: «لو لم تسمع عني في الولايات المتحدة، فإن ذلك يدل على احترامك. معظم المحتالين الذين يشقون طريقهم إلى هنا يعرفون سام بريتشارد. أنا محقق وأتيت من نيويورك.»
استدار تافرنيك ونظر إلى الرجل بتمعن. كان هناك شيء مقنع بشأن لهجته ومظهره. لم يخطر بباله أن يشك لحظة في كلمة من رواية هذا الغريب.
قال تافرنيك بسرعة: «ليس لديك شيء ضدها ... ضد أي منهما؟»
أجاب المحقق: «لا شيء بشكل مباشر. ومع ذلك، لقد كنت في زيارة السيدة وينهام جاردنر هذا المساء، وإذا كنت من أصدقائها، فأعتقد أنه من الأفضل أن تأتي معي ونقيم هذا الحوار.»
وافق تافرنيك: «سآتي، ولكني سآتي مستمعا. تذكر أنه ليس لدي ما أقوله لك. ومن جانبك، اعتبرني لا أعرف أيا من هاتين السيدتين.»
ابتسم بريتشارد.
وقال: «حسنا، أعتقد أننا سنترك الأمر عند هذا الحد. على أي حال، إذا لم يكن لديك مانع، فسنتحدث. تعال من هذا الطريق وسنصل إلى غرفة التدخين عبر الفندق. إنها مغطاة.»
جلس تافرنيك قلقا في كرسيه.
وصاح بصبر نافد: «بحق الشيطان ما كل هذا الكلام عن المحتالين! لم أحضر إلى هنا للاستماع إلى هذا النوع من الأشياء. لا أستطيع أن أجزم أنني أصدق كلمة مما تقول.»
علق بريتشارد: «ولم تصدق دون دليل؟ انظر هنا.»
سحب محفظة جلدية من جيبه وفتحها. كان هناك عشرات الصور لرجال يرتدون ملابس السجن. أشار المحقق إلى أحدهم، فتعرف تافرنيك على وجه الرجل الذي كان يجلس على يمين إليزابيث، مما أصابه بارتجافة بسيطة.
تلعثم وهو يقول: «أنت لا تقصد أن تقول إن السيدة جاردنر ...»
طوى المحقق محفظته وأعادها إلى جيبه مرة أخرى.
وقال: «نعم، ليس لدينا أي صور لصديقتك هناك، ولا لأختها. ومع ذلك، قد لا يكون هذا مستبعدا جدا.»
بدأ تافرنيك مهددا: «إذا كنت تحاول ربط أي شيء بهاتين السيدتين ...»
ضحك المحقق وربت على كتفه.
وقال مقاطعا إياه: «ليس من شأني محاولة ربط الأشياء بأي شخص. وفي الوقت نفسه، يبدو أنك صديق للسيدة وينهام جاردنر، ويستحسن أن يحذرها أحدهم.»
سأل تافرنيك: «يحذرها من ماذا؟»
نظر المحقق إلى سيجاره بتأمل.
وأجابه: «يجعلها تفهم أن هناك مشاكل تنتظرها.»
شرب تافرنيك الويسكي والصودا وأشعل سيجارة. ثم استدار في كرسيه ونظر بتمعن إلى رفيقه. كان بريتشارد رجلا لافتا للنظر، يتمتع بملامح صارمة واضحة ... رجلا ذا عزم. «يا سيد بريتشارد، أنا موظف في مكتب عقارات. كان أهلي من العمال وأنا أحاول تحسين وضعي في العالم. أنا لم أتعلم المراوغة، ولكنني تعلمت القليل من العالم، وأنا أعلم أن أشخاصا مثلك ليسوا معتادين على فعل شيء بدون سبب. فلماذا بحق الشيطان أحضرتني إلى هنا للحديث عن السيدة جاردنر وأختها؟ إذا كان لديك أي شيء تقوله، فلماذا لا تذهب إلى السيدة جاردنر نفسها وتقوله؟ لماذا تأتي وتتحدث مع الغرباء عن شئونهما؟ أنا هنا أستمع إليك، لكني أقول لك مباشرة إنني لا أحب ذلك.»
أومأ بريتشارد برأسه.
وقال: «حسنا، لست متأكدا من أنني لا أحب هذا النوع من الكلام. أنا أعرف كل شيء عنك أيها الشاب. أنت تعمل في مكتب داولينج آند سبينس، ومن المفترض أنك سوف تستقيل. لديك عقار تريد تمويله. والآنسة بياتريس فرانكلين كانت تعيش تحت سقف بيتك ... مثل أختك أنا أفهم ... حتى يوم أمس، ويبدو أن السيدة جاردنر، لسبب خاص بها، تبذل قصارى جهدها لإضافتك إلى قائمة المعجبين بها. لست متأكدا مما يعنيه كل ذلك، ولكن يمكنني الوصول إلى تخمين جيد جدا. ومع ذلك، ها هي وجهة نظري. أنت على حق. أنا لم أحضرك هنا من أجل صحتك. لقد أحضرتك إلى هنا لأنه يمكنك أن تسدي خدمة لي ولك في الوقت نفسه، ولن تؤذي أحدا، على أي حال، لن تؤذي أحدا مهما بالنسبة إليك. ليس لدي ضغينة ضد الآنسة بياتريس . كنت سأخرجها في الحال من المتاعب القادمة.»
سأل تافرنيك: «ما هذه الخدمة؟»
تهرب بريتشارد في الوقت الراهن من هذه النقطة.
وقال: «يمكنني القول إنك تفهم يا سيد تافرنيك أنه في مهنتي على المرء أن يقطع شوطا طويلا في بعض الأحيان لكي يضع رجلا أو امرأة في المكان الذي يريده. والآن، ألقينا مجرد نظرة خاطفة على تلك الطاولة عندما وصلنا، ومع ذلك يمكنني أن أقسم لك ... ليس هناك أحد من هذا الحشد لا أستطيع، إذا أحببت، أن أعيده إلى نيويورك بتهمة أو بأخرى. أنت تتساءل لماذا لا أفعل ذلك. سأخبرك. هذا لأنني أنتظر ... أنتظر حتى يمكنني إثبات شيء أكثر خطورة، شيء يبعدهم عن الطريق أطول وقت ممكن. هل تفهمني يا سيد تافرنيك؟»
أجاب تافرنيك بشك: «أعتقد أنني أفهمك. أنت تتحدث عن الرجال فحسب، بالطبع؟»
ابتسم بريتشارد.
ووافق: «صديقي الشاب، أنا أتحدث فقط عن الرجال. وفي الوقت نفسه، أعتقد أنني لا أفشي سرا، أو أخبرك بأي شيء لا تعرفه السيدة وينهام جاردنر نفسها، عندما أقول إنها تبذل قصارى جهدها للتأهل لوضع مماثل.»
صاح تافرنيك ساخطا: «تقصد أنها تفعل شيئا مخالفا للقانون! أنا لا أصدق ذلك لحظة. إذا كانت تتواصل مع هؤلاء الناس، فذلك لأنها لا تعرف من هم.»
نفض بريتشارد الرماد من سيجاره.
وقال: «حسنا، لكل شخص الحق في تبني آراء خاصة به، ومن جانبي أحب أن أسمع أي شخص يدافع عن أصدقائه. لن يشكل ذلك فرقا بالنسبة إلي. ومع ذلك، ها هي بعض الحقائق التي سأعرضها عليك. قبل أربعة أشهر، كان من بين الفقرات التي قدمت في أحد عروض فودفيل في برودواي فقرة من أداء البروفيسور فرانكلين وابنتيه إليزابيث وبياتريس. كان البروفيسور يقوم بالتنويم المغناطيسي، ويتنبأ بالمستقبل ويقرأ الأفكار وغيرها من الترهات المعتادة. وكانت بياتريس تغني وإليزابيث ترقص. وجاء الناس لمشاهدة العرض، ليس لأنه كان جيدا ولكن لأن الفتاتين، حتى في نيويورك، كانتا جميلتين.»
تمتم تافرنيك: «قاعة موسيقى في نيويورك!»
أومأ المحقق برأسه.
وتابع: «من بين الإخوة الشباب في المدينة، كان هناك شقيقان، مثلهما مثل التوائم، على الرغم من أنهما ليسا بتوءم، واسمهما وينهام وجيري جاردنر. لا يوجد شيء في الحياة السريعة الإيقاع لم يجربه هذان الشابان. يجب أن أقول إنهما كانا يمثلان كل ما يعرف بالفجور والتهتك. لا يمكن أن يزيد عمر الأكبر سنا عن سبعة وعشرين عاما اليوم، ولكن إذا رأيتهما في الصباح، فإن أيا منهما، قبل أن يتم تدليكه وحثه على المشاركة في الحياة، ستعتقد أنه عجوز ضئيل، لا يملك من القوة إلا ما يكفيه للزحف. حسنا، اختصارا للحكاية، وقع كلاهما في حب إليزابيث.»
قاطعه تافرنيك: «الأوغاد!»
تابع المحقق: «أعتقد أنهما لم يجدا الآنسة إليزابيث صيدا سهلا. على أي حال، أنت تعرف الثمن الذي اشتريت به من اسمها، وهو الاسم الذي تستحقه بدرجة كافية. كان وينهام، الذي كان أصغر من أخيه بسنة، أول من قدم عرضا. ومنذ ثلاثة أشهر، غادر السيد والسيدة وينهام جاردنر، والآنسة بياتريس، والأب المخلص نيويورك على متن لوسيتانيا وأتوا إلى لندن.»
سأل تافرنيك: «أين وينهام جاردنر هذا، إذن؟»
أخرج بريتشارد علبة السيجار الخاصة به من جيبه واختار سيجارا آخر.
وعلق قائلا: «هذا مربط الفرس.»
فكرر تافرنيك قائلا: «أين وينهام جاردنر هذا؟» «لا أمانع في إخبارك، يا سيد تافرنيك، أن اكتشاف مكان وجوده هو بالضبط ما أسعى إليه في هذا الجانب من العالم. أنا موكل من الأسرة كي أكتشف هذا، ولدي شيك على بياض للقيام بذلك.»
سأل تافرنيك: «هل تقصد أنه قد اختفى إذن؟»
أجاب بريتشارد: «لا أثر له على وجه الأرض يا سيدي. منذ نحو شهرين، بدأ الزوجان الشابان، مع الآنسة بياتريس، إجازة في مكان ما غرب إنجلترا. وبعد أيام قليلة من بدايتها، عادت الآنسة بياتريس وحدها إلى لندن. وذهبت إلى فندق، وهي مفلسة تماما، لكنها نبذت أختها ... أعتقد أنها لم تتحدث معها قط منذ ذلك الحين. بعد ذلك بقليل، ظهرت إليزابيث وحدها في لندن. وكان بحوزتها الكثير من المال، مال أكثر مما امتلكته من قبل في حياتها، ولكنها كانت بلا زوج.»
قاطعه تافرنيك : «حتى الآن، لا أرى أي شيء لافت للنظر في ذلك.»
أجاب بريتشارد بجفاف: «قد يكون هذا صحيحا أو لا يكون. هذا المخلوق، وينهام جاردنر - أكره أن أسميه رجلا - كان عبدها الذليل ... حتى وقت وصولهما إلى لندن بأي حال من الأحوال. لم يكن ليتركها من تلقاء نفسه. توقف فجأة عن التواصل مع جميع أصدقائه. حتى إنه لم يرد على أي من برقياتهم.»
قال تافرنيك بصراحة: «ولماذا لا تذهب وتسأل السيدة جاردنر أين هو؟»
صرح بريتشارد قائلا: «لقد فعلت هذا بالفعل. وبعينين دامعتين، أكدت لي أنه بعد مشاجرة بسيطة، اعترفت بأنها هي الملومة فيها، خرج زوجها من المنزل الذي كانا يقيمان فيه، ولم تره منذ ذلك الحين. كانت جاهزة تماما بكل التفاصيل، حتى إنها ناشدتني المساعدة في العثور عليه.»
قال تافرنيك: «لا أستطيع أن أتخيل، لماذا يقدم أي شخص على تكذيبها.»
ابتسم المحقق.
وقال وهو ينظر إلى رماد سيجاره: «هناك القليل من الملابسات الخارجية. بادئ ذي بدء، في رأيك كيف قضى هذا الشاب وينهام جاردنر الأسبوع الأخير من إقامته في نيويورك؟»
أجاب تافرنيك بنفاد صبر: «كيف لي أن أعرف؟»
تابع المحقق: «في جمع كل سنت من ممتلكاته يمكن أن يضع يده عليه. إنه ليس عملا سهلا في أي وقت، ومصالح آل جاردنر منتشرة في العديد من الاتجاهات، ولكن لا بد أنه أبحر بما يقارب أربعين ألف جنيه إسترليني نقدا. قد يفترض الشخص المرتاب أن أربعين ألف جنيه قد وجدت طريقها إلى الطرف الأقوى من بين الزوجين.»
سأل تافرنيك: «أهناك شيء آخر؟»
أجاب المحقق: «لن أزعجك أكثر من هذا. هناك بعض الملابسات الأخرى التي يبدو أنها بحاجة إلى تفسير، لكن يمكنها الانتظار. ومع ذلك، هناك شيء خطير، وهنا يأتي دورك.»
علق تافرنيك: «حقا! كنت أتمنى ألا يطول بنا الحديث قبل أن تصل إلى تلك النقطة.» «الأختان، بياتريس وإليزابيث، كانتا معا دون افتراق منذ أمكننا معرفة أي شيء عن تاريخهما. وهؤلاء الذين لا يفهمون اختفاء وينهام جاردنر يودون أن يعرفوا لماذا تشاجرتا وانفصلتا، ولماذا تبتعد بياتريس عن أختها بهذه الطريقة الغريبة. أنا شخصيا، أود أن أعرف من الآنسة بياتريس متى كانت آخر مرة رأت فيها وينهام جاردنر على قيد الحياة.»
سأله تافرنيك: «هل تريدني أن أسأل الآنسة بياتريس عن هذه الأشياء؟»
اعترف بريتشارد: «قد يكون من الأفضل أن تتلقى هذا السؤال منك. فقد كتبت لها على عنوان المسرح لكنها بطبيعة الحال لم ترد.»
نظر تافرنيك مستغربا إلى جليسه.
وسأل: «هل تعتقد حقا، أنه حتى إذا سلمنا جدلا أن هناك أي ملابسات غير عادية فيما يتعلق بهذا الشجار ... هل تفترض جديا أن بياتريس ستبلغ عن أختها؟»
تنهد المحقق.
وقال: «لا شك يا سيد تافرنيك أن هاتين السيدتين الشابتين صديقتان لك، وربما لهذا السبب تكون متحيزا إلى حد ما لصالحهن. ومع ذلك، فإن تربيتهما وتكوينهما برمته لم يكن بالتأكيد صارما. لا يسعني إلا التفكير في أن الإقناع يمكن أن يؤثر في الآنسة بياتريس، وأنه يمكن التوضيح لها أن سرد القصة الحقيقية لما حدث هو الإجراء الأحوط.»
قال تافرنيك: «حسنا، إذا كنت قد انتهيت، فأود أن أخبرك رأيي في قصتك. أعتقد أن الأمر كله مجرد هراء سخيف! وينهام جاردنر هذا، حسب قولك أنت نفسك، كان نصف مجنون. وقع شجار وذهب إلى باريس أو أي مكان. فيما يتعلق باقتراحاتك بشأن السيدة جاردنر، أعتقد أنها مخزية.»
لم يتأثر بريتشارد بحماس جليسه.
وأكد: «لا بأس يا سيد تافرنيك. أستطيع تفهم مشاعرك تماما في البداية. كما ترى، لقد كنت بين الجريمة والمجرمين طوال حياتي، وأتعلم البحث عن مجموعة معينة من الدوافع عندما يحدث شيء من هذا النوع. أما أنت فقد نشأت بين أناس صادقين، يسلكون الطريق القويم في الحياة، وبطبيعة الحال تنظر إلى الأمر نفسه من وجهة نظر مختلفة. لكن أنا وأنت يجب أن نتحدث في هذا الشأن. أريدك أن تفهم أن هاتين الشابتين الفاتنتين ليستا من فئة الشابات اللواتي تعرف شيئا عنهن. وضع في اعتبارك، أنني ليس لدي كلمة أقولها ضد الآنسة بياتريس. يمكنني القول إنها مستقيمة مثلهن. لكن ... يجب أن تأخذ كأس ويسكي وصودا أخرى يا سيد تافرنيك. أنا مصر على ذلك. تيم، تعال إلى هنا.»
كان يبدو أن السيد بريتشارد قد نسي ما كان يتحدث عنه. اجتيحت الغرفة فجأة. جاء كل أعضاء حفل العشاء الصغير إلى الغرفة، وقد عرف جليسه بهم جميعا فردا فردا. لقد كانوا جميعا على ما يبدو سعداء تماما بأنفسهم، وبدا أنهم جميعا يتجاهلون وجود بريتشارد تماما. كانت إليزابيث الاستثناء الوحيد. كانت تحمل كلبا صينيا صغيرا تحت إحدى ذراعيها؛ وبأصابع يدها الأخرى، كانت تثبت عدسة أحادية ذات إطار من صدف السلاحف، وحدقت مباشرة في الرجلين. وعلى الفور، تقدمت نحوهما بهدوء عبر الغرفة.
وقالت: «يا إلهي، لم تكن لدي أي فكرة يا سيد بريتشارد أن دائرة معارفك الواسعة تضمنت صديقي السيد تافرنيك.»
نهض الرجلان على أقدامهما. وشعر تافرنيك بالارتباك والغضب. كان كمن يلعب دور الخائن بمجرد الاستماع، حتى ولو لحظة، إلى هذه القصص.
وقال: «السيد بريتشارد قدم نفسه لي قبل بضع دقائق فقط. لقد أحضرني إلى هنا وكنت أستمع إلى الكثير من الهراء الذي لا أصدق كلمة واحدة منه.»
فابتسمت له ابتسامة رائعة.
وتمتمت: «السيد بريتشارد شديد الانتقاد. إنه ينظر نظرة انحطاط إلى الطبيعة البشرية. على الرغم من ذلك، أعتقد أننا يجب ألا نلومه. أعتقد أننا رجالا ونساء لا وجود لنا بالنسبة إليه. نحن ببساطة الأوتاد التي يمكنه الصعود عليها قليلا للوصول إلى احترام من يستعينون بخدماته وتقديرهم.»
أخذ بريتشارد قبعته المنخفضة وعصاه.
وقال: «سأعترف يا سيدة جاردنر أنني كنت أضيع وقتي مع هذا الشاب. أنت قاسية علي قليلا. سوف تكتشفين، بعد مدة ليست بالطويلة، أنني أفضل صديق لك.»
ضحكت بسرور.
وصاحت قائلة: «عزيزي السيد بريتشارد، إنها فكرة غريبة للغاية! ليتني أتجرأ على أن أتمنى أن يتحقق ذلك في يوم من الأيام!»
علق المحقق قائلا: «ثمة أشياء أكثر غرابة واستحالة تحدث، يا سيدتي، كل ساعة. فالعالم - زاويتنا الصغيرة منه، على أي حال - مليء بالأشياء الغريبة. حتى إنه قد يأتي وقت لأي من ثلاثتنا تكون فيه الحرية أخطر من زنزانة السجن نفسها.»
وأومأ برأسه إلى تافرنيك بلا مبالاة، وانحنى لإليزابيث ثم استدار وغادر الغرفة. بقيت إليزابيث وكأنها تحولت إلى حجر، تنظر نحوه وهو ينزل الدرج.
وصاح تافرنيك بصرامة: «هذا الرجل أحمق!»
هزت إليزابيث رأسها وتنهدت.
وقالت: «إنه أقل أهمية بكثير. إنه فقط مفرط الذكاء.»
الفصل الخامس عشر
استياء عام
لم تنضم إليزابيث مرة أخرى إلى أصدقائها. بدلا من ذلك، غاصت في الأريكة المنخفضة بالقرب من المكان الذي كانت تقف فيه، وجذبت تافرنيك إلى جانبها. ولوحت بيدها للآخرين الذين كانوا ينادونها.
وقالت: «لحظة واحدة، أيها الأعزاء.»
ثم اتكأت مسترخية بين الوسائد الوثيرة وضحكت لرفيقها.
وسألته: «قل لي يا سيد تافرنيك، ألا تشعر أنك قد خطوت فيما يشبه «الليالي العربية» الجديدة؟» «لماذا؟»
فتابعت: «أوه، أنا أعرف نقطة ضعف السيد بريتشارد. إنه يحب إضفاء البريق على كل ما يقوله أو يفعله. ولأنه يشرفني بالاهتمام بشئوني الخاصة، فمن المحتمل أنه قد أخبرك بكل أنواع الأشياء الرائعة عني وعن أصدقائي. السيد بريتشارد ذو خيال خصب للغاية، كما تعلم. اعترف الآن، ألم يخبرك ببعض القصص عنا؟»
ربما تكون قد وفرت على نفسها عناء اللف والدوران. أما تافرنيك، فلم يتردد البتة.
وصرح تافرنيك: «قال إن كل أصدقائك كانوا مجرمين، واعترف بأنه يعمل بجد في الوقت الحالي ليكتشف أنك واحدة منهم أيضا.»
ضحكت بهدوء ولكن بحمية.
وقالت: «أتساءل ما هو هدفه من أن يسر إليك بهذا ويثق بك.»
أوضح تافرنيك: «لقد علم أنني كنت على علاقة وثيقة بأختك. وأراد مني أن أسأل بياتريس سؤالا معينا.»
توقفت إليزابيث عن الضحك تماما. ونظرت بثبات في عينيه. «وما هذا السؤال؟» «لقد أراد مني أن أسأل بياتريس لماذا تركتك واختبأت في لندن.»
حاولت أن تبتسم ولكنها لم تنجح كثيرا في ذلك.
وتابع تافرنيك: «وفقا لقصته، أنت وبياتريس وزوجك سافرتم معا إلى مكان ما في الريف. وهناك حدث شيء ما أدى إلى اختفاء زوجك. وعادت بياتريس بمفردها ولم تقترب منك منذ ذلك الحين. بعد ذلك بوقت قصير، عدت أنت أيضا وحدك. ولم ير السيد جاردنر أو يسمع عنه.»
انحنت إليزابيث على كلبها، لكن حتى تافرنيك، رغم افتقاره إلى قوة الملاحظة، استطاع أن يرى أنها اهتزت.
قالت معلقة: «بريتشارد رجل ذكي بشكل عام، ذو ذكاء مخيف. أتساءل لماذا قال لك كل هذا؟ لا بد أنه كان يعلم أنك ربما تكرره لي. فلماذا يريد أن يكشف لي أوراقه؟»
أجاب تافرنيك: «ليس لدي أدنى فكرة. كل هذه الأمور لا تعنيني. إنها لا تشغلني بأي شكل من الأشكال. أنا لا أعطلك عن أصدقائك، أليس كذلك؟ من فضلك دعيني أنصرف عندما تريدين.»
توسلت إليه قائلة: «لا تذهب بعد. اجلس معي لحظة.» وأضافت هامسة: «ألا ترى أنني أصبت بصدمة؟ اجلس معي. أنا لا أستطيع العودة إلى هؤلاء الآخرين بعد.»
فعل تافرنيك ما أمر به. وكانت المرأة بجانبه لا تزال تداعب الحيوان الصغير الذي كانت تحمله. ومع ذلك، بمراقبتها استطاع تافرنيك أن يرى صدرها وهو يعلو ويهبط بسرعة. كان هناك شحوب غير طبيعي في خديها، ووميض مرعب في عينيها. ومع ذلك، مرت هذه الأشياء. في بضع ثوان عادت إلى طبيعتها مرة أخرى.
قالت: «حسنا، أنا لا أنفعل كثيرا. أنا لا أخاف إلا إذا كان هناك شيء لا أفهمه. أنا لا أفهم السيد بريتشارد الليلة. أعلم أنه عدوي. ولكني لا أستطيع أن أتخيل لماذا يتحدث معك. لا بد أنه كان يعلم أنك ستكرر لي كل ما قاله. وهذا ليس من طبعه. قل لي يا سيد تافرنيك، لقد سمعت كل أنواع الأشياء عني. فهل تصدقها؟ هل تصدق ... إنه سؤال مروع، أليس كذلك؟» واستأنفت على عجل: «هل تصدق أنني تخلصت من زوجي؟»
أجاب تافرنيك بحماس: «أنت بالتأكيد لست بحاجة إلى أن تسأليني هذا السؤال. سوف أصدق أقوالك، مهما قلت لي. لن أصدق أنه يمكنك ارتكاب أي خطأ.»
لمست يدها يده لحظة، فنال مكافأته.
ورجته قائلة: «لا تحسن الظن بي إلى هذا الحد. أنا لا أريد أن أخيب ظنك.»
فتح أحدهم الأبواب المتأرجحة فجفلت بعصبية. لم يكن سوى نادل مر عبر الغرفة إلى المشرب.
وقال تافرنيك ببطء: «رأيي فيك لا شيء يمكن أن يغيره، ولكن لأنني غبي، على ما أعتقد، هناك الكثير من الأشياء التي لا أستطيع فهمها. لا أستطيع أن أفهم، على سبيل المثال، لماذا يشكون في أن لديك أي علاقة باختفاء زوجك. ألا يمكنك إثبات مكانك عندما تركك؟»
أجابت: «بكل سهولة، ولكن للأسف، لا يبدو أن أحدا رآه وهو يرحل. لقد حدد توقيت رحيله بمكر لدرجة أنه يبدو كما لو كان تلاشى في الهواء.» واستأنفت كلامها قائلة: «ومع ذلك، ثمة شيء معين، لولاه لما كان أحد سيساوره الشك على ما أظن. أعتقد أن السيد بريتشارد قد أخبرك أنه قبل مغادرتنا نيويورك باع زوجي بعض ممتلكاته وجلبها معه إلى أوروبا نقدا. لقد قررت كلانا أنه سيعيش في الخارج ولن يكون لنا علاقة بأمريكا. لم أكن أنا من أقنعته بالقيام بذلك. فلا فرق بالنسبة إلي. لو كان قد هرب وتركني، لكانت المحاكم ستمنحني المال. ولو مات وكنت أرملة، لكان قد ترك لي ممتلكاته. ولكن ببساطة لأن كل هذه الأموال كانت في أيدينا، ولأنه اختفى، فإن أهله وهذا الرجل بريتشارد يشكون بي.»
تمتم تافرنيك: «إنه شرير.»
استدارت نحوه ببطء.
وقالت: «سيد تافرنيك، هل تعلم أنه يمكنك مساعدتي كثيرا حقا؟»
أجاب: «أتمنى أن أستطيع ذلك. جربيني.»
فاستطردت: «ألا يمكنك أن ترى أن الشيء الكبير ضدي هو أن بياتريس تركتني فجأة عندما كنا في تلك الرحلة البائسة، وعادت بمفردها؟ إنها في لندن، أعلم ذلك، وقريبة جدا مني، ومع ذلك لا تزال مختبئة. وبريتشارد يسأل نفسه عن السبب وراء ذلك. سيد تافرنيك، اذهب وأخبرها بما يقوله الناس، اذهب وأخبرها بكل ما حدث، ودعها تفهم أن ابتعادها عني تسبب لي في جرح غائر، وتوسل إليها أن تأتي وتدع الناس يرون أننا متصالحتان، وحذرها أيضا من بريتشارد. هل ستفعل هذا من أجلي؟»
أجاب تافرنيك: «بالطبع سأفعل. سأراها غدا.»
أطلقت إليزابيث تنهيدة ارتياح.
وسألت وهي تنهض: «وستخبرني بما ستقول؟»
طمأنها تافرنيك قائلا: «سأكون سعيدا جدا بذلك.» «تصبح على خير!»
نظرت إلى وجهه بابتسامة قلبت رءوس رجال أشداء في نيويورك. لا عجب أن تافرنيك شعر بقلبه يخفق بين ضلوعه! أمسك يديها لحظة. ثم استدار فجأة.
وقال: «تصبحين على خير!»
اختفى من خلال الأبواب المتأرجحة. وسارت عبر الغرفة حيث كان أصدقاؤها يجلسون في دائرة، يضحكون ويتسامرون. فأمسك والدها، الذي جاء للتو وانضم إليهم، بذراعها وهي تجلس.
وسألها بصوت مرتجف: «ماذا يعني ذلك؟ هل رأيت أنه كان هناك مع بريتشارد ... ذلك الشاب الصغير ... وكيل العقارات البائس؟ أقول لك إن بريتشارد كان يستخلص منه كل ما في جعبته.»
همست ببرود: «والدي العزيز، لا تكن ميلودراميا. أنت تفضح نفسك طوال الوقت. اذهب إلى الفراش إذا كنت لا تستطيع التصرف مثل رجل.»
خفضت شدة الأنوار، ولم يكن هناك أحد غيرهم في الغرفة. فمال الرجل العجوز الضئيل ذو النظارة إلى الأمام.
وسأل: «هل لديك أي فكرة، يا عزيزتي إليزابيث، لماذا أصبح صديقنا بريتشارد في الوقت الحالي يظهر كثيرا.»
أجابت: «ليس بسببك يا جيمي، ولا بسبب أي شخص آخر هنا، في الواقع. الحقيقة هي أنه معجب بي بشدة ... إعجاب شديد الوضوح حقا، لدرجة أنه يكره أن أبتعد عن ناظريه.»
ضحكوا جميعا بصخب. ثم مال والتر كريس الصحفي إلى الأمام، وكان رجلا ذا وجه طويل ونحيف، أصابعه مبقعة باللون الأصفر، وعظام وجنتيه بارزة. اختلس النظر في أرجاء الغرفة قبل أن يتكلم، وبدا صوته وكأنه همس أجش.
قال: «في الواقع، يبدو لي أن بريتشارد يزداد خطورة. وعلى أي حال، ليس حوله أي من رجاله في هذا البلد.»
ساد الصمت التام عدة ثوان. ثم أومأ العجوز الضئيل برأسه متجهما.
وقال معترفا: «لقد سئمت أنا نفسي من بريتشارد بعض الشيء، وهو بالتأكيد يعرف الكثير. يحمل في رأسه الكثير لدرجة تعرضه للخطر.»
لمعت عينا إليزابيث.
وقالت: «إنه يعاملنا مثل الأطفال. لقد أخبر الليلة كل أموري لشخص غريب تماما. إنه أمر لا يطاق!»
بعد مدة وجيزة انفض السامر. ولم يبق سوى والتر كريس والرجل الذي يدعى جيمي بوست يتحدثان، وانسحبا إلى مقعد بجوار النافذة، وهما يتهامسان.
غادر تافرنيك الفندق، ويداه مدفوعتان بعمق في جيوب معطفه، وسار على طول شارع ستراند. استولت عليه بعض الخيالات قبل أن يقطع مسافة كبيرة، واستدار فجأة إلى اليسار ونزل إلى طريق إمبانكمنت. شق طريقه إلى المقعد نفسه الذي جلس عليه مرة مع بياتريس. وجلس طاويا ذراعيه في هذا الركن، ناظرا عبر النهر، إلى الخط المنحني للأضواء، إلى المياه السوداء المتدفقة، وهيكل المركب الذي يتحرك ببطء في طريقه. كان شيئا جديدا عليه، أن يتهم نفسه بالحماقة والضعف. خلال الأيام القليلة الماضية، كان يتحرك في ضباب من عدم اليقين، مضطربا لدرجة تمنعه من التفكير السليم، متجنبا أي مسألة مهمة. والليلة لم يعد بإمكانه الهروب من تلك الأفكار المتهمة، الليلة كان يشعر بالمرارة من نفسه أكثر من أي وقت مضى. يا لها من حماقة تلك التي اعترت حياته فجأة ... حماقة هائلة، لا يمكن تصورها، غير متوقعة وكأنها سقطت كصاعقة من السماء! ما الذي حدث وغيره بهذه الدرجة!
عاد بأفكاره إلى الفندق. هناك بدأ كل شيء. قبل تلك الليلة فوق السطح، بدا له أن العلامات التي أقامها بعناية وتدقيق على طول الطريق المؤدي إلى هدفه المنشود، كانت تشير بطريقة مباشرة وثابتة نحو كل شيء في الحياة جدير بالاهتمام. أما الليلة فكانت مجرد أوهام كئيبة، تشير إلى الزمن عبر سهل بائس. ربما، رغم كل شيء، كان هناك شيء في طبيعته، شيء متمرد، شيء غير مقبول على الإطلاق، ولد لأول مرة من هذا الفضول المشئوم الذي مني به. لقد قفز فجأة، وبرز دون أن يلاحظه أحد في حياته الشاقة الصارمة. ومع ذلك، ما المكانة التي يحتلها هناك؟ يجب أن يحاربه، ويجتثه من جذوره بكلتا يديه. ماذا يعني هذا النمط من عالم المؤامرات، هذا العالم الإجرامي البغيض، بالنسبة إليه؟ منعه حسه السليم تماما من فصل إليزابيث عن أصدقائها ومحيطها. لقد كانت سر الألم الذي كان يمزق نياط قلبه، وسر كل الإثارة والفرح والعاطفة التي اجتاحت طريق حياته الهادئ مثل طوفان جارف، وجعلته ينجرف بين البحار المجهولة. ومع ذلك، كانت بياتريس هي التي جلبت عليه كل هذا. إذا لم تكن قد غادرت قط، إذا لم يتذوق أهوال هذه الوحدة الجديدة، فربما كان سيتمكن من الاستمرار في المقاومة. لقد اشتاق لها، غمره شوقه إليها. أما الأشياء الأخرى، رغم أنها كانت رائعة، فكانت بطريقة أو بأخرى مثل السراب. لقد ألقي هذا العالم من المشاعر الجديدة مثل شبكة حريرية على كل ما لديه من أفكار، وكل ما لديه من رغبات. كانت بياتريس شخصية ملموسة، مريحة، مبهجة، رقيقة، حقيقية، كانت ملاذه الوحيد الذي يحميه من هذا الجنون. والآن ذهبت، وكان عاجزا عن استعادتها. أدار رأسه، ونظر إلى الطريق الذي قطعه في تلك الليلة وذراعاه تطوقانها. لقد كانت مدينة له بحياتها وذهبت! وبكل لامنطقية الرجال، بدا له وهو يقف متثاقلا على قدميه ويبدأ في العودة إلى المنزل، أنها ردت له الجميل بقدر من الجحود، وأنها قد تركته في اللحظة الوحيدة من حياته التي كان في أمس الحاجة إليها فيها.
الفصل السادس عشر
عرض زواج
بعد ظهر اليوم التالي، في الساعة الرابعة والنصف، كان تافرنيك يتناول الشاي مع بياتريس في الشقة الصغيرة التي كانت تتقاسمها مع فتاة أخرى، قرب كينجسواي. فتحت الباب له بنفسها، وعلى الرغم من أنها كانت تتكلم بلا توقف، بدا له أنها لا تشعر بالراحة بأي حال من الأحوال. أجلسته في الكرسي الوحيد المتاح، وهو كرسي خوص صغير سخيف، صغير جدا بالنسبة إلى حجمه، وجلست على سجادة المدفأة على بعد أمتار قليلة.
قالت: «تمكنت من اكتشاف مكاني سريعا يا ليونارد.»
أجاب: «نعم. اضطررت إلى الذهاب إلى حاجب المسرح من أجل الحصول على عنوانك.»
فقالت بصراحة: «لم يكن لديه أدنى حق في إعطائك إياه.»
هز تافرنيك كتفيه.
وقال ببساطة: «كان علي أن أحصل عليه.»
ضحكت وهي تقول: «قوة المحفظة مرة أخرى! والآن بعد أن أصبحت هنا، أنا لا أظن أنك سعيد ولو قليلا لرؤيتي. أأنت سعيد؟»
لم يرد لحظة. كان يفكر في تلك الجلسة في الإمبانكمنت، ورحلة المشي الطويلة إلى المنزل، والمعركة التي خاضها مع نفسه، والسعي المستمر لاجتثاث هذا الشيء الجديد من قلبه، والذي من أجله، وبسبب تناقضه الذكوري الغريب، أصر على تحميلها المسئولية.
استأنفت حديثها وهي تنهض فجأة بادئة في صنع الشاي: «أتعلم يا ليونارد، أعتقد أنك غاضب مني. إذا كنت كذلك، فكل ما يمكنني قوله لك هو أنك شخص أحمق للغاية. كنت مضطرة إلى الابتعاد. ألا يمكنك رؤية ذلك؟»
أجاب بصلابة: «لا يمكنني.»
تنهدت.
وقالت: «أنت لست شخصا عاقلا. أظن أن ذلك لأنك عشت حياة غريبة، ولم يكن هناك نساء يعتنين بك. أنت لا تفهم. كان من السخف، بطريقة ما، أن أطلقت على نفسي اسم أختك، بل وأننا حتى حاولنا القيام بهذه التجربة السخيفة. لكن بعد ... بعد تلك الليلة ...»
قاطعها قائلا: «ألا يمكننا أن ننسى ذلك؟»
رفعت عينيها ونظرت إليه.
ثم سألت: «هل تستطيع؟»
كان ثمة جدية غريبة وربما متوسلة في نبرة صوتها. كان لدى عينيها شيء جديد تقولانه، وهو شيء، على الرغم من أنه فشل في تحريك مشاعره، فقد جعله يشعر بعدم الراحة على نحو غامض. ومع ذلك أجابها دون تردد.
أجاب: «نعم، يمكنني أن أنساها. سأعد أن أنساها.»
كان الأمر غير قابل للتفسير، لكنه كاد يتخيل أنه رأى هذا الشيء الجديد يرحل عن وجهها، تاركا إياها شاحبة ومرتعشة. أشاحت بنظرها مرة أخرى وشغلت نفسها بعلبة الشاي، لكن الأصابع التي تمسك بالملعقة كانت ترتعش قليلا.
وقالت: «أوه، أعتقد أنني يمكن أن أنسى، لكن سيكون من الصعب جدا على أي منا أن يتصرف كما لو أنه لم يحدث قط.» ثم واصلت، وهي تنظر إلى علبة الشاي، قائلة: «إلى جانب ذلك، كان الوضع مستحيلا حقا، كما تعلم. من الأفضل لي أن أكون هنا مع آني. ويمكنك المجيء لرؤيتي بين الحين والآخر، ولا يزال بإمكاننا أن نكون صديقين جيدين.»
كان تافرنيك منزعجا. لم يقل شيئا، ولكن بياتريس عندما رفعت نظرها إليه، ضحكت من تعبير وجهه المتجهم.
وقالت مصرحة: «أنت بالتأكيد الأكثر استحالة، والأكثر بدائية من بين كل من قابلتهم في حياتي. لندن ليست منطقة ريفية هادئة، كما تعلم، وأنت لست أخي. علاوة على ذلك، أنت كنت شديد الاستبداد. حتى إنك لم تحبني أن أذهب لتناول العشاء مع السيد جرير.»
اعترف تافرنيك قائلا: «أنا أكره هذا الرجل! هل ترينه كثيرا؟»
فأجابت: «لقد أخذنا جميعا لتناول العشاء الليلة الماضية. رأيت أنه كان لطيفا جدا منه أن يطلب مني الذهاب.»
قال تافرنيك: «لطيف فعلا! هل يريد الزواج منك؟»
وضعت إبريق الشاي وضحكت مرة أخرى بنعومة. بدت ودودة ورقيقة وصافية في ثوبها الأسود الصريح، البسيط للغاية، المزين فقط بفيونكة بيضاء صغيرة على رقبتها، وخديها الورديين، اللذين يبدو أنهما استردا لونهما في اللحظات القليلة الأخيرة، فصارت مغرية للغاية.
قالت: «لا يستطيع. إنه متزوج بالفعل.»
ثم خطرت لتافرنيك فكرة ملهمة، فكرة رائعة لدرجة أنه أمسك بجانبي كرسيه وجلس منتصبا. ها هو، رغم كل شيء، طريق الخروج المناسب له، طريق الخروج من حديقة جنونه، طريق الهروب من ذلك النير الغامض الذي يشل حركته ويقيده ويثقل كاهليه. في تلك اللحظة السريعة والحيوية رأى شيئا من الحقيقة. لقد رأى نفسه يفقد كل ما لديه من رجولة وقوة، رأى نفسه أداة ولعبة في يد هذه المرأة التي سحرته، رأى نفسه مخلوقا مسكينا مغرما يعيش فقط في انتظار الكلمات والنظرات اللطيفة التي قد تلقيها له وقتما تشاء. في تلك الثواني القليلة عرف الحقيقة من الزيف. ودون تردد، أمسك بكل الأنانية الهائلة لجنسه غير المفكر بالحبل الذي ألقي إليه.
وقال بحزم: «حسنا، أنا أستطيع. هل تتزوجينني يا بياتريس؟»
أرجعت رأسها للخلف وضحكت، ضحكة طويلة ناعمة، ولما كان تافرنيك ساذجا ويفتقر إلى الخبرة في أساليب النساء، فقد ظنها مستمتعة بالفعل.
قالت: «لا أنت ولا أي شخص آخر، يا عزيزي ليونارد!»
قال مصرا: «لكنني أريدك أن تفعلي. وأعتقد أنك ستوافقين.»
كان هناك تدلل الآن في النظرة المحيرة التي نظرت إليه بها.
وسألت: «هل أنا أيضا أحد هذه الأشياء التي تطمح إلى تحقيقها في حياتك؟ عزيزي ليونارد، يجب ألا تقولها على هذا النحو . أنا لا أحب شكل فكك. إنه يخيفني.»
أجاب: «لا يوجد ما يخيف في الزواج مني. سأكون زوجا صالحا جدا لك. ويوما ما ستصبحين ثرية، ثرية جدا حقا. أنا واثق تمام الثقة في أنني سأنجح، إن لم يكن على الفور، فقريبا جدا. هناك الكثير من الأموال التي يمكن كسبها في العالم إذا ثابر المرء.»
بدا أنها تحاول أن تأخذه على محمل الجد.
اعترفت قائلة: «تبدو مقنعا للغاية، لكنني أتمنى أن تبعد كل هذه الأفكار عن عقلك يا ليونارد. فهذه الأفكار لا تليق بك على الإطلاق. تذكر ما قلته لي في تلك الليلة الأولى؛ لقد أكدت لي أن المرأة لم يكن لها أدنى دور في حياتك.»
اعترف قائلا: «لقد تغيرت. لم أتوقع أن يحدث أي شيء من هذا القبيل، لكنه حدث. وسيكون من الحماقة أن أنكر ذلك.» ثم تابع بنبرة ناعمة مفاجئة غريبة: «لقد كنت أتعلم طوال حياتي يا بياتريس، ومع ذلك، بطريقة أو بأخرى، يبدو لي أنني لم أعرف أي شيء على الإطلاق حتى وقت قريب. لم يكن هناك من يوجهني، لم يكن هناك من يبين لي الأشياء المهمة في الحياة. لقد علمتني الكثير، لقد علمتني ضآلة معرفتي.» وتابع بتجهم: «وهناك أشياء أخشاها، أشياء لم أبدأ حتى في فهمها. ألا يمكنك أن تري حالي؟ أنا حقا جاهل جدا. أريد شخصا يفهم؛ أريدك يا بياتريس بشدة.»
ربتت على ظهر يده بلطف.
وقالت: «يجب ألا تتحدث هكذا يا ليونارد. أنا لن أكون زوجة صالحة لك. أنا لن أتزوج أحدا.»
سألها: «ولماذا؟»
فهزت رأسها.
قالت له وهي تنظر في نار المدفأة: «هذا سر يخصني.»
قال ملحا: «هل تقصدين أن تقولي إنك لن تتزوجي أبدا؟»
أجابت: «أوه، أفترض أنني سأتغير، مثل النساء الأخريات. كل ما هنالك، أنني أشعر في الوقت الحالي بذلك.» «هل بسبب زواج أختك ...»
أمسكت بكلتا يديه؛ وامتلأت عيناها فجأة بالرعب.
وتوسلت إليه قائلة: «يجب ألا تتحدث عن إليزابيث، أرجوك، يجب ألا تتحدث عنها. عدني بأنك لن تفعل ذلك.»
أجاب: «لكني جئت إلى هنا للحديث عنها.»
لم تنبس بياتريس ببنت شفة لحظة. ثم ألقت يديه وضحكت مرة أخرى. وبينما كانت تلقي برأسها إلى الوراء في مجلسها، بدا لتافرنيك أنه يرى مرة أخرى الفتاة التي كانت تقف على سطح الفندق.
تساءلت: «جئت للحديث عن إليزابيث! لقد نسيت. حسنا، واصل حديثك، ماذا هناك؟» «أختك في ورطة!»
سألت بياتريس: «هل أنت صديقها المقرب؟»
اعترف قائلا: «أنا لست كذلك بالضبط، لكنها طلبت مني أن آتي لأراك.»
تصلبت بياتريس فجأة، وأطبقت شفتيها تماما، بل بدا أن موقفها لا هوادة فيه.
ثم قالت: «قل بالضبط ما تريد أن تقوله. ولن أقاطعك.»
صرح تافرنيك: «هذا يبدو سخيفا؛ لأنني لا أعرف سوى القليل جدا، ولكن يبدو أن هناك رجلا يدعى بريتشارد، وهو محقق أمريكي، يزعج أختك. وقد أخبرتني أنه يشك في أنها متورطة بطريقة ما في اختفاء زوجها. ومن الأسباب التي ساقها أنك تركتها فجأة واختبأت، وأنك ترفضين رؤيتها أو الحديث معها. وهي تتمنى أن تتصالحا.»
سألت بياتريس: «أهذا كل شيء؟»
أجاب: «هذا كل شيء، ما دمت تفهمين دلالته. إذا ذهبت لرؤية أختك، أو سمحت لها بأن تأتي لرؤيتك، فستقل أسباب الشك لدى بريتشارد هذا سببا.»
قالت بياتريس، وكأنها تحدث نفسها: «إذن فقد جئت سفيرا لإليزابيث. حسنا، هذا هو ردي. لن أذهب إلى إليزابيث. وإذا اكتشفت مكاني وجاءت إلى هنا، فسأهرب مرة أخرى وأختبئ. لن يخاطب لساني لسانها أبدا ما حييت.»
نظر تافرنيك إليها بريبة.
وقال: «لكنها أختك!»
كررت بياتريس كلامه قائلة: «إنها أختي، ومع ذلك أنا أعني كل كلمة قلتها لك.»
ساد صمت قصير. وشعر تافرنيك بتوتر غير مبرر. لقد نما بينهما شيء لم يفهمه. ومع ذلك، سرعان ما أدرك من نبرة صوتها حسمها لهذا الأمر.
فقال مصرحا: «لقد بلغت رسالتي. وسوف أخبرها بما تقولين. ربما كان من الأفضل أن أنصرف الآن.»
وكاد يقف على قدميه. وفجأة فقدت السيطرة على نفسها.
وصرخت: «ليونارد، ليونارد، ألا ترى أنك شديد الحمق حقا؟ لقد أحسنت إلي. دعني أحاول أن أرد جميلك ولو قليلا . إليزابيث أختي، ولكن اسمع! ما أقوله لك الآن أقوله بصدق خالص. إليزابيث ليس لها قلب، ولا تفكر في الناس، فهي تستغلهم، ولا يمثلون لها أكثر من الشخصيات التي تمر عبر أحلام المرء. لديها نوع من الموهبة البغيضة» وواصلت بياتريس بصوت مرتجف وعينين وامضتين: «موهبة جذب الناس إليها وجعلهم يفعلون ما تأمرهم به، وإفساد حياتهم، ثم رميهم بعيدا عندما لا تعود لهم فائدة. ليونارد، يجب ألا تدعها تفعل هذا معك.»
نهض على قدميه متوترا. من المحتمل جدا أن يكون كل هذا صحيحا، ومع ذلك، ما الفرق الذي يصنعه؟
قال: «شكرا.»
وقفا، لحظة، يدا بيد. ثم سمعا صوت مفتاح في الباب.
وقالت بياتريس: «ها هي آني تعود!»
قدم تافرنيك إلى الآنسة آني ليجارد، التي اعتقدت أنه كان شخصا غريبا جدا حقا لأنه لم يندرج ضمن فئات الرجال الذين تعرفت إليهم في حياتها، صغارا أو كبارا. أما من جانب تافرنيك، فاعتبر أن الآنسة آني ليجارد كانت ستبدو أفضل بكثير في قبعة حجمها نصف حجم القبعة التي ترتديها، وأجمل بكثير دون مساحيق على وجهها. من الواضح أن ملابسها كانت أغلى من ملابس بياتريس، ولكنها كانت تفتقر إلى الذوق والاهتمام.
خرجت بياتريس إلى منبسط السلم معه.
فقال وهي تمد له يدها: «إذن، فأنت لن تتزوجيني يا بياتريس؟»
نظرت إليه لحظة ثم ابتعدت وهي تبكي بصوت خافت، دون كلمة وداع. راقبها حتى اختفت وسمع صوت إغلاق الباب. بدأ ينزل ببطء الدرجات الحجرية. كان الباب المغلق بالأعلى والانحدار الطويل ولكن الانسيابي إلى الشارع ينبئانه بمصير مشئوم.
الفصل السابع عشر
الشرفة في إيمانو
في الساعة السادسة مساء ذلك اليوم، اتصل تافرنيك بميلان كورت وسأل عن إليزابيث. كان هناك تأخير لحظة أو اثنتين ثم سمع ردها. حتى عبر أسلاك الهاتف، ورغم وقوفه غير المريح في كشك الهاتف الصغير الضيق، شعر بالبداية السريعة للمتعة، وبالإثارة الناجمة عن اختبار شيء مختلف في الحياة، وهو ما كان يعتريه دوما حين يسمع صوتها، أو حين يستشعر وجودها بأي شكل.
سألته: «حسنا يا صديقي ، هل وفقت؟»
أجاب: «إطلاقا. لقد فعلت ما في وسعي. بياتريس ترفض أن تستمع إلي.» «ألن تأتي لتراني؟» «لن تفعل.»
ظلت إليزابيث صامتة لحظة. عندما تحدثت مرة أخرى، كان هناك تغيير في نبرتها. «لقد فشلت، إذن.»
أصر تافرنيك بحماس: «فعلت كل ما يمكن القيام به. أنا متأكد تماما من أنه لا شيء يمكن أن يقوله أي شخص يمكن أن يحرك بياتريس. إنها مصرة للغاية بالفعل.»
قالت إليزابيث بعد برهة قصيرة: «لدي فكرة أخرى. هي لن تأتي إلي؛ حسنا، يجب أن أذهب أنا إليها. يجب أن تأخذني إلى هناك.»
أجاب تافرنيك: «لا أستطيع أن أفعل ذلك.» «ولم لا؟»
فقال مصرحا: «لقد رفضت بياتريس مطلقا السماح لي بإخبارك أو إخبار أي شخص بمكانها. لا يمكنني فعل ذلك دون إذنها.»
سألت: «هل تعني ذلك؟»
رد بانزعاج: «بالطبع.»
ساد صمت آخر. وعندما تحدثت مرة أخرى، تغير صوتها للمرة الثانية. وشعر تافرنيك بقلبه يسقط بين قدميه وهو يستمع.
قالت: «حسن جدا. ظننت أنك صديقي وأنك تتمنى مساعدتي.»
فأجاب: «ظنك في محله، ولكن أترضين أن أحنث بوعدي وأخون كلمتي؟»
قالت له: «أنت تحنث بوعدك معي.»
أصر قائلا: «الأمر مختلف.»
قالت مرة أخرى: «ألن تأخذني إلى هناك؟»
أجاب تافرنيك: «لا أستطيع.» «حسن جدا، الوداع!»
رجاها قائلا: «لا تذهبي. ألا يمكنني رؤيتك في مكان ما بضع دقائق هذا المساء؟»
أجابت إليزابيث ببرود: «أخشى أنني لا أستطيع.»
ألح في السؤال قائلا: «هل ستخرجين؟»
أجابت: «أنا ذاهبة إلى مسرح دوق يورك مع بعض الأصدقاء. أنا آسفة. لقد خيبت أملي.»
أغلقت الهاتف، فغادر كابينة الهاتف إلى الشارع. بدا له، وهو يسير في الطريق المزدحم، أن بعض انعكاس ازدرائه لنفسه كان واضحا على وجوه الرجال والنساء الذين كانوا يسارعون أمامه. أينما نظر، كان يدرك ذلك تماما. شعر في قلبه بإحساس مرير بالخزي، إحساس رجل يستسلم عمدا للضعف. ومع ذلك، في تلك الليلة بذل ما في وسعه.
جلس في شقته المنعزلة مدة أربع ساعات وراح يعمل. ثم انتهى الصراع غير المتكافئ. والتقط قبعته ومعطفه وهو يزمجر وغادر المنزل. بعد نصف ساعة، كان بين الحشود الصغيرة من المتسكعين والمشاة الواقفين خارج أبواب مسرح دوق يورك.
كان لا يزال هناك بعض الوقت قبل انتهاء العرض المسرحي. وأثناء مرور الدقائق البطيئة، زاد كرهه لنفسه، وكرهه لهذا الشيء الجديد الذي اعترى حياته وهدم معاييره الاعتيادية، وأطاح به بهذه الطريقة الغريبة والبغيضة. لقد كان إحساسا كامنا، بلا شك، ذلك الذي أعادته إليزابيث إلى الحياة ... الإحساس بالجنس، الذي ظل خاملا داخله مدة طويلة، بسبب عقلانيته الجسدية المثالية في المقام الأول؛ وربما أيضا، إلى حد ما، بسبب خياله الفقير. ومع ذلك، كان من الواضح أنه بمجرد أن أثير هذا الإحساس، راح يشتعل بداخله دون توقف وبطريقة مدهشة. كان عالم النساء كله الآن مخلوقات مختلفة بالنسبة إليه، لكنهن لم يؤثرن عليه ولم يحركن مشاعره كما كان في أيامه الماضية قبل صحوة المشاعر. كانت إليزابيث هي التي يريدها فقط، ويتوق إليها بعنف، بكل هذا الشغف الذي ولد متأخرا من اختلاط العاطفة والرغبة. لقد شعر، بينما كان واقفا هناك على الرصيف، يزاحم الخدم في أزيائهم الرسمية، والمتسكعين، والمارة، بأنه يستحق الازدراء. لقد كان مثل كلب ضرب بالسوط، فعاد يتزلف ويستجدي سيده. ومع ذلك، تمنى لو كان بإمكانه إقناعها بالحضور معه، ولو كان ذلك مدة ساعة فقط! ليتها تجلس أمامه فقط في ذلك المطعم الصغير الرائع، حيث كانت الأضواء والموسيقى والضحك والنبيذ، كلها رموز خارجية لهذه الحياة الجديدة التي بدت وكأن أصابعها قد أزاحت عنها الستار لتظهرها! كان قلبه ينبض بنفاد صبر شديد. شاهد الحشد الضئيل من الأشخاص الذين غادروا قبل انتهاء المسرحية، معظمهم من سكان الضواحي، في عجلة من أمرهم ليلحقوا بقطاراتهم. وسرعان ما تبعهم الجمهور كله، كان حاجبو المسرح مشغولين بصفاراتهم، والخدم يتطلعون بشغف يمينا ويسارا بحثا عن أسيادهم. ثم ها قد أتت إليزابيث! خرجت وسط نصف دزينة من الأشخاص، متألقة في عباءة رائعة وفستان أزرق فيروزي، تضحك مع أصدقائها، لتبدو الأكثر سعادة وجاذبية بين أصحابها. تقدم تافرنيك سريعا إلى الأمام، ولكن في تلك اللحظة كان هناك زحام ولم يستطع التقدم. مرت على بعد ياردة منه، برفقة رجلين، وللحظة التقت أعينهما. رفعت حاجبيها، كما لو كانت متفاجئة، ولم تبد أي تقدير يذكر. واستمرت في السير ودلفت داخل سيارة كانت بانتظارها، برفقة الرجلين. ووقف تافرنيك وراقبها. لم تلتفت حتى لتنظر نحوه. تجاهلته تماما، باستثناء تلك البادرة الصغيرة من المفاجأة الباردة. فاستدار تافرنيك ببطء، وهو لا يكاد يعرف ما يفعله، نحو شارع ستراند.
إنه يواجه الآن أزمة بدا عاجزا أمامها. لقد وجد الرجال في العالم ليتم ترهيبهم أو تملقهم أو إبعادهم عن الطريق. فماذا يفعل الرجل مع امرأة تكون لطيفة في لحظة ووقحة في اللحظة التالية، وترفع حاجبيها وتتجاهله عندما يريدها وعندما يقف في انتظارها مشتاقا إليها؟ تلك الأحلام القديمة الملموسة التي كانت تراوده ... الثروة، والسلطة، واسمه في النشرات المهمة، والمكانة العالية في العالم ... هذه الأشياء بدت الآن مثل أحلام يقظة لطفل. لقد مهد السبيل نحوها. لقد وضع بالفعل قدميه على درجات السلم الذي يؤدي إلى النجاح المادي. ولكن كان هذا شيئا مختلفا، شيئا أعظم. ثم غمره شعور باليأس جمد قلبه. شعر بمدى جهله وعجزه. لم يكن قد درس حتى أول كتاب عن الحياة. تلك الصفات التي خدمته من قبل، أصبحت عديمة القيمة هنا. المثابرة، كما أخبرته بياتريس ذات مرة، تزعج المرأة فحسب.
وقف ساكنا خارج مدخل ميلان كورت، ثم انقلب على عقبيه. لقد جلبت له فكرة بياتريس شيئا ما مهدئا معها. شعر أنه يجب أن يراها، يراها في الحال. مشى على طول شارع ستراند ودخل المطعم حيث تناول مع بياتريس عشاء لا ينسى. من الردهة، كان بإمكانه رؤية ظهر جرير وهو يقف يتحدث إلى نادل بجانب طاولة مستديرة في منتصف الغرفة. انسحب تافرنيك ببطء وشق طريقه إلى الطابق العلوي. كان هناك طاولة أو طاولتان صغيرتان في الشرفة، مخفيتان عن الجزء السفلي من الغرفة. جلس إلى إحداهما، وسلم معطفه وقبعته تلقائيا إلى النادل الذي جاء مسرعا.
أوضح الرجل بإيماءة استنكار: «لكن يا سيدي، هذه الطاولات كلها محجوزة.»
وضع تافرنيك، الذي كان يحتفظ بدفتر حساب يسجل فيه حتى مصاريف سيارته، خمسة شلنات في يد الرجل.
وقال بحزم وهو يجلس: «سآخذ هذه الطاولة.»
نظر إليه الرجل واستدار للتحدث إلى رئيس الندل. تحدثا معا في همسات. لم يعرهما تافرنيك أي انتباه. وبدا عليه الإصرار. كان يحدق بثبات إلى تلك الطاولة في الأسفل، بينما هو نفسه غير مرئي بالنسبة إليها. هز رئيس الندل كتفيه وغادر؛ يجب تهدئة زبائنه الآخرين. كان أسلوب تافرنيك حاسما لا يقبل الجدل.
أكل تافرنيك وشرب ما أتوا به، أكل وشرب وعانى. كان كل شيء كما كان في تلك الليلة؛ فرقعة أغطية الزجاجات الفلينية، والموسيقى الهادئة، وضحك النساء، والإحساس اللطيف والمرفه بالدفء والبهجة يغمر المكان كله.
كان كل شيء على حاله، لكنه جلس هذه المرة في الخارج ونظر إليه. كانت بياتريس جالسة بجوار جرير، وعلى جانبها الآخر كان شاب من النوع الذي يكرهه تافرنيك، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه كان يبث فيه إحساسا دائما بالدونية وإن كان هذا الإحساس يراوده من آن لآخر. كان الشاب وسيما وطويلا ونحيفا. تلائمه ملابسه المسائية تماما، وكانت الأزرار ودبابيس الأكمام من أحدث طراز، وكانت ربطة عنقه البيضاء كأنها مرسومة بأصابع فنان. ومع ذلك لم يكن يصلح كنموذج للخياط. قرر تافرنيك أن هذا الرجل، بلا شك، من النبلاء، وراح يراقب بحقد حركة رأسه الراقية، ويستمع أحيانا إلى صوته الرقيق ولكن الضعيف إلى حد ما. كانت بياتريس تضحك له كثيرا. لقد أعجبت به بالطبع. كيف يمكنها ألا تفعل! جلس جرير على الجهة الأخرى منها. هو أيضا كان يتحدث معها كلما سنحت له الفرصة. كان تافرنيك يعاني حمى جديدة، حمى جديدة تشتعل في دمه. كان يغار؛ كان يكره كل الجالسين بالأسفل. وفي خياله رأى إليزابيث مع أصدقائها، على الأرجح تتناول العشاء في مطعم آخر أكثر تألقا، على بعد أمتار قليلة فقط. كان يتخيلها مركز اهتمام الجميع. كانت دون شك تنظر إلى الشخص الجالس إلى جوارها النظرة نفسها التي كانت تنظر بها إليه. عض تافرنيك شفته مقطبا جبينه. إذا كان بمقدرته، في تلك اللحظات الحالكة، أن يلقي صاعقة من مكانه، لكان سيدمر كل طاولات المطعم، ولكان سيشاهد بفرح الوجوه الشاحبة المرتعبة للمحتفلين وهم يفرون بعيدا في ظلام الليل. لقد كان عذابا جديدا مرا لا يوصف. في الواقع، كان فضوله هذا، الذي تحدث عنه مع بياتريس أثناء سيرهما معا في شارع أكسفورد في ليلتهما الأولى، سيرضيه الانتقام! كان يتعلم تلك الأشياء الأخرى في الحياة. كان قد ارتشف الحلو؛ والآن عليه أن يتجرع المر!
شتتت المشاجرة التي نشبت بجانبه انتباهه. مرة أخرى كان هناك رئيس الندل وزبون محتج. نظر تافرنيك إلى الأعلى وتعرف على البروفيسور فرانكلين. بقبعته العريضة الحواف في يده، كان البروفيسور يتحدث بعبارات طلقة ولهجة أمريكية قوية تثير إحساسا بأنه شخص سيئ الطبع لا محالة.
قال: «من الأفضل أن ترسل إلى مديرك على الفور، أيها الشاب. ليلة الثلاثاء أحضرني إلى هنا بنفسه وحجزت هذه الطاولة طوال الأسبوع. لا، أقول لك إنني لن آخذ غيرها! أعتقد أن طلبي كاف. أرسل إلى لويجي الآن. ألا تعرف من أكون؟ اسمي البروفيسور فرانكلين، من نيويورك، وإذا قلت إنني أريد الحصول على شيء، فأنا أتوقع الحصول عليه.»
لأول مرة تعرف على تافرنيك، وتوقف لحظة في حديثه.
سأل تافرنيك بهدوء: «هل أخذت طاولتك يا بروفيسور؟»
رد البروفيسور: «نعم يا سيدي. لم أتعرف عليك عندما دخلت وإلا كنت سأتحدث معك على نحو شخصي. لدي أسباب خاصة لشغل طاولة أمامية هنا كل ليلة هذا الأسبوع.»
بدأت الأفكار تتزاحم في عقل تافرنيك. كان مترددا.
واقترح: «لماذا لا تجلس معي؟»
استسلم البروفيسور دون أن ينبس ببنت شفة. أخذ رئيس الندل قبعته ومعطفه وتلقى طلبه، وهو يتنهد تنهيدة ارتياح. مال تافرنيك عبر الطاولة.
وقال: «بروفيسور، لماذا تصر على الجلوس هنا؟»
حرك البروفيسور رأسه ببطء إلى أسفل. «صديقي الشاب، أأفشي لك سرا؟»
قال تافرنيك: «بكل تأكيد.»
تابع البروفيسور: «أحضر إلى هنا سرا، لأنها فرصتي الوحيدة لرؤية قريبة عزيزة جدا علي. أنا مضطر إلى الابتعاد عنها في الوقت الحالي، لكن من هنا يمكنني رؤية أنها بخير.»
قال تافرنيك بهدوء: «تقصد ابنتك بياتريس.»
اعترت البروفيسور رعشة.
وتمتم: «أنت تعرف!»
رد تافرنيك: «نعم، أعرف. لقد تمكنت من أن أقدم لابنتك بياتريس مساعدة طفيفة.»
أمسك البروفيسور بيده.
وقال: «نعم، نعم، إليزابيث غاضبة جدا منك لأنك لم تكن لتخبرها أين تجد الفتاة الصغيرة. أنت على حق يا سيد تافرنيك. يجب ألا تخبرها أبدا.»
قال تافرنيك مصرحا: «لا أنوي أن أفعل.»
تابع البروفيسور بحماس: «حسنا، هذه أمسية رائعة بالنسبة إلي! أنا نفسي اكتشفت بالمصادفة. كنت على المشرب ورأيتها تدخل مع آخرين.»
سأله تافرنيك: «لماذا لا تذهب وتتحدث معها؟»
ارتعد البروفيسور.
وأوضح: «كان هناك خلاف. وتشاجرت بياتريس وإليزابيث. وبياتريس كانت على حق.»
سأل تافرنيك بصراحة: «إذن لماذا لا تذهب إليها بدلا من البقاء مع إليزابيث؟»
انهار البروفيسور وقتيا. وشرب كثيرا من الويسكي والصودا، وأجابه بحزن.
قال: «صديقي الشاب، عندما تركتنا بياتريس، كانت مفلسة. لاحظ أن إليزابيث هي صاحبة العقل. وإليزابيث هي التي تمتلك المال. ولديها إرادة قوية أيضا. إنها تبقيني بجوارها سواء أردت ذلك أم لا، إنها تجبرني على فعل أشياء كثيرة ... أشياء كثيرة حقا ... أكرهها. لكن إليزابيث تعرف طريقها. إذا كنت قد ذهبت مع بياتريس، وإذا كنت سأذهب إليها الآن، فسوف أكون عبئا عليها.»
علق تافرنيك: «ليس لديك مال، إذن؟»
هز البروفيسور رأسه حزينا.
وأجاب: «المضاربة يا صديقي الشاب، المضاربة بهدف تكوين ثروة لأولادي. كان عندي المال وخسرته.»
سأل تافرنيك: «ألا يمكنك كسب أي شيء؟ بياتريس لا تبدو مسرفة.»
نظر البروفيسور إلى هذا الشاب الصريح بكرامة مجروحة.
وقال: «سامحني. أعتقد أننا سنختار موضوعا آخر للمحادثة.»
صرح تافرنيك: «على أي حال، لا بد أنك تعشق ابنتك وإلا فلن تأتي إلى هنا ليلة بعد ليلة لمجرد النظر إليها.»
سحب البروفيسور منديلا من جيبه ومسح عينيه.
وقال بصدق: «كانت بياتريس دائما المفضلة لدي، لكن إليزابيث ...» وأضاف وهو يميل عبر الطاولة: «حسنا، لا يمكنك الابتعاد عن إليزابيث. لأصدقك القول يا سيد تافرنيك، إليزابيث تخيفني أحيانا، إنها جريئة جدا. أخشى مكائدها التي لا أعرف إلى أين ستوصلنا. . سأكون أكثر سعادة مع بياتريس لو كانت لديها الموارد الكافية للوفاء بمتطلباتي البسيطة.»
التفت إلى النادل وطلب زجاجة من الشمبانيا.
قال آمرا الرجل: «زجاجة فوف كليكو 99.» ثم علق بحسرة: «في عمري، على المرء أن يكون حذرا بشأن هذه الأمور الصغيرة. فالعلامة التجارية الخاطئة للشمبانيا تعني ليلة بلا نوم.»
نظر إليه تافرنيك بحيرة. كان البروفيسور لغزا بالنسبة إليه. لم يكن يدخل ضمن أي فئة في دائرة خبرته. مع وصول الشمبانيا أصبح البروفيسور أكثر طلاقة. ومال إلى الأمام، يختلس النظر للأسفل إلى المائدة المستديرة.
قال: «لو كان بإمكاني أن أخبرك عن والدة تلك الفتاة يا سيد تافرنيك، لو كان بإمكاني أن أخبرك عن تاريخها وتاريخنا، لكان سيبدو لك غريبا جدا لدرجة أنك ربما تعتبرني حالما. لا، علينا أن نحمل أسرارنا بداخلنا.»
سأل تافرنيك: «بالمناسبة، ما تخصصك يا بروفيسور؟»
كان الرد الفوري: «العلوم الباطنية يا سيدي. كان علم فراسة الدماغ هو عشقي الأول. منذ ذلك الحين وأنا أدرس في الشرق؛ لقد أمضيت سنوات عديدة في دير في الصين. وقد أرضيت بكل طريقة شغفي الفطري بالتنجيم. أنا أمثل اليوم هؤلاء الأشخاص ذوي الفكر المتقدم الذين انتقلوا، حتى بأرواحهم، لأي مسافة، حتى ولو كانت صغيرة، عبر الخط الذي يفصل بين المرئي وغير المرئي، وبين المعروف واللانهائي.»
ارتشف رشفة طويلة من الشمبانيا. وحدق فيه تافرنيك بدهشة خالصة.
وقال: «لا أعرف الكثير عن العلم. في الآونة الأخيرة فقط بدأت أدرك كم أنا جاهل حقا. لقد ساعدت ابنتك في تعليمي.»
تنهد البروفيسور تنهيدة عميقة.
وقال: «إنها شابة ذات إنجازات، يا سيدي، وذات شخصية أيضا. انظر إلى الطريقة التي تحرك بها رأسها. كانت تلك طريقة والدتها.»
سأل تافرنيك: «ألا تنوي التحدث معها على الإطلاق، إذن؟»
أجاب البروفيسور: «لا أجرؤ. أنا بطبيعتي صريح، وإذا سألتني إليزابيث إذا كنت قد تحدثت مع أختها، فسوف أفضح نفسي على الفور. لا، يكفيني أن أنظر إليها فحسب.»
دق تافرنيك بأصابعه على مفرش المائدة. ملأه شيء ما في بهجة تلك المجموعة الصغيرة في الطابق السفلي بشعور مرير للغاية.
قال: «يجب أن تذهب إليها يا بروفيسور. انظر إليهم الآن. هل هذه أفضل حياة لفتاة؟ هؤلاء الرجال غرباء عنها تقريبا، والفتيات غير مناسبات لها لتتواصل معهن. ليس لديها أصدقاء ولا أقارب. يمكن لابنتك إليزابيث الاستغناء عنك ببساطة. إنها قوية بما يكفي لتعتني بنفسها.»
اعترض البروفيسور قائلا: «لكن سيدي العزيز، بياتريس لن تستطيع إعالتي.»
دفع تافرنيك فاتورته دون كلمة أخرى. خفضت الأضواء في الطابق السفلي، وكانت المجموعة على المائدة المستديرة قد نهضت بالفعل.
قال: «عمت مساء يا بروفيسور! سأرى بياتريس للمرة الأخيرة من أعلى الدرج.»
تبعه البروفيسور ... ووقفا هناك وراقباها وهي تغادر مع آني ليجارد. ركبت الفتاتان سيارة أجرة معا، وتنفس تافرنيك الصعداء في راحة، وهو شعور لم يكن قادرا على تفسيره على الإطلاق، عندما رأى أن جرير لم يبذل أي جهد لتتبعهما. وبمجرد أن انطلقت سيارة الأجرة، نزلا ومرا إلى الشارع. ثم غير البروفيسور فجأة نبرته.
وقال: «سيد تافرنيك، أعرف رأيك في: أنا رجل عجوز ضعيف يشرب كثيرا ولم يولد نزيها تماما. ولا أستطيع الإقلاع عن أي شيء. سأكون أسعد، أسعد حقا، بكسرة الخبز مع بياتريس، لكنني لا أجرؤ، ببساطة لا أجرؤ على هذه التجربة. أنا أفضل حياة الرفاهية مع إليزابيث، وأنت تحتقرني من أجل ذلك. وأنا لا ألومك، يا سيد تافرنيك، ولكن أنصت إلي.»
قاطعه تافرنيك قائلا: «حسنا؟»
قبض البروفيسور بأصابعه على ذراعه. «لقد عرفت بياتريس وقتا أطول ... أنت لا تعرف إليزابيث جيدا، ولكن اسمح لي أن أقول لك شيئا. إليزابيث شخص رائع للغاية. أنا أعرف شيئا عن الشخصيات، أعرف شيئا عن تلك القوى الخفية التي يمتلكها الرجال والنساء ... قوى غريبة لا يمكن لأحد أن يفهمها، قوى تجر الرجل تحت قدمي امرأة، أو تجعله يرتجف عندما يمر بأخرى حتى وسط حشد من الناس. كما ترى، هذه الأمور هي علم أنا خبير فيه، يا سيد تافرنيك، لكني لا أدعي فهم كل شيء. كل ما أعرفه هو أن إليزابيث واحدة من هؤلاء الأشخاص الذين يمكنهم فعل ما تحب مع الرجال. أنا والدها وأنا عبدها. أقول لنفسي إنني أفضل أن أكون مع بياتريس، وأنا عاجز عن الذهاب إليها كما لو كنت مقيدا بالسلاسل. أنت شاب جاهل، يا سيد تافرنيك، أنت لا تعرف شيئا عن الحياة، وسأعطيك تحذيرا. الأفضل لك أن تبتعد عن هناك.»
ورفع يده وأشار عبر الشارع باتجاه ميلان كورت؛ وأمسك بذراع تافرنيك مرة أخرى باليد الأخرى.
وتابع البروفيسور: «لماذا يجب أن تتكبد عناء التحدث معك لحظة، أنا لا أعرف، ولكنها تفعل. لقد أسعدها التحدث معك ... لماذا أنا لا أستطيع الفهم ... فقط إذا كنت مكانك، كنت سأبتعد بينما لا يزال هناك متسع من الوقت. إنها ابنتي ولكن ليس لديها قلب ولا شفقة. رأيتها تبتسم لك. أنا أشفق دائما على الرجل الذي تبتسم له هكذا. عمت مساء يا سيد تافرنيك!»
عبر البروفيسور الشارع. وراقبه تافرنيك حتى غاب عن الأنظار. ثم شعر بذراع تتأبط ذراعه.
وصاح صوت مألوف: «عجبا، هذا ما أسميه حظا! سيد تافرنيك، أنت الرجل عينه الذي كنت أبحث عنه!»
الفصل الثامن عشر
مغامرة منتصف الليل
لم يكن تافرنيك ينزع إلى الاجتماعية ولم يبذل أي جهد لإخفاء تلك الحقيقة. ومع ذلك، لم يكن من السهل التخلص من السيد بريتشارد.
قال بطريقة ودية: «إذن، فقد صادقت الرجل العجوز، أليس كذلك؟»
أجاب تافرنيك ببرود: «لقد التقيت البروفيسور مصادفة دون توقع. ماذا تريد مني من فضلك؟ أنا في طريقي إلى المنزل.»
ضحك بريتشارد بهدوء.
وقال مصرحا: «حسنا، هناك شيء يتعلق بكم أيها البريطانيون لا يسعني إلا الإعجاب به! أنتم شديدو الصراحة، أليس كذلك؟»
أجاب تافرنيك: «أعتقد أنك ترى أننا شديدو الحمق بحيث لا يمكننا إلا أن نكون صرحاء. هذه حافلتي قادمة. عمت مساء!»
بيد أن يد بريتشارد شددت على ذراع رفيقه.
قال: «انظر هنا أيها الشاب، لا تكن أحمق. أنا صديق ذو قيمة بالنسبة إليك، فقط إذا أدركت ذلك. تعال واعبر الشارع معي. النادي الخاص بي في أديلفي تيريس، في نهاية الشارع مباشرة. امش معي وسأخبرك شيئا عن البروفيسور، إذا أردت.»
رد تافرنيك: «شكرا لك، لا أعتقد أنني أهتم بالاستماع إلى النميمة. علاوة على ذلك، أعتقد أنني أعرف كل ما يمكن معرفته عنه.»
سأل بريتشارد فجأة: «هل بلغت الآنسة بياتريس رسالتي؟»
أجاب تافرنيك: «إذا كنت قد فعلت، فليس لدي رد لك.»
بدأ بريتشارد: «هلا أخبرتها بهذا ...»
قاطعه تافرنيك: «لا، لن أخبرها بشيء! يمكنك الاهتمام بشئونك. فأنا لا أهتم بشئونك ولا أريد أن أهتم بها. عمت مساء!»
ضحك بريتشارد مرة أخرى لكنه لم يخفف قبضته على ذراع الآخر.
قال: «الآن، يا سيد تافرنيك، لن يفيدك أن تتشاجر معي. لن أفاجأ إذا اكتشفت أنني واحد من أكثر المعارف المفيدة الذين قابلتهم في حياتك. لا داعي لدخول النادي ما لم ترد، ولكن امش معي إلى هناك. عندما نصل إلى أديلفي تيريس، حيث المنازل المتصلة على جانب والسياج على الجانب الآخر، سأقول لك شيئا.»
قرر تافرنيك مترددا: «حسن جدا. لا أعرف ما يمكنك أن تخبرني به، لكنني سأصل إلى هناك، على أي حال.»
عبرا شارع ستراند وانعطفا إلى شارع آدم. عندما اقتربا من الركن الأبعد، خطا بريتشارد من الرصيف إلى منتصف الشارع، ونظر حوله بتمعن.
قال: «حسنا، اعذرني على توخي الحذر قليلا. إن هذا مكان منعزل في وسط لندن، وقد كنت مراقبا خلال اليومين الماضيين من قبل أشخاص أبغضهم بشدة.»
سأل تافرنيك: «مراقب؟ لماذا؟»
أجاب المحقق وهو يهز كتفيه: «أوه، الشيء المعتاد! هذه المجموعة من المحتالين الذين أريتك إياهم الليلة الماضية لا يعجبهم أن أكون في الجوار. لديهم الكثير من الضغائن ضد سام بريتشارد. ولست بمأمن هنا كما سأكون في نيويورك. معظمهم ذاهبون إلى باريس غدا، شكرا للسماء!»
سأل تافرنيك: «وأنت؟ هل أنت ذاهب أيضا؟»
هز بريتشارد رأسه. «لو أن هؤلاء الحمقى فقط يصدقون أنني لست هنا من أجلهم على الإطلاق. لقد جئت في مهمة خاصة هذه المرة، كما تعرف. لدي كلمة تحذير لك، يا سيد تافرنيك. أعتقد أنك لن ترغب في سماعها، لكن عليك ذلك.»
توقف تافرنيك فجأة.
وقال بغضب: «لا أريد تحذيراتك! ولا أريدك أن تتدخل في شئوني!»
ابتسم المحقق بهدوء. ثم فجأة ظهر تعبير جديد فزم شفتيه.
وصاح: «لا تهتم بهذا الآن! انظر هنا، خذ صافرة الشرطة هذه من يدي اليسرى بسرعة، وانفخ فيها بكل ما أوتيت من قوة!»
كان من سمات تافرنيك أنه كان مستعدا للطاعة دون تردد ولو لحظة. ومع ذلك، لم تواته الفرصة. والأحداث التي أعقبت ذلك جاءت ومرت كخاطرة. ضرب على معصمه الأيسر وسقطت الصافرة في الطريق. وظهر شخص فجأة وكأنه ظهر من العدم، ولف ذراعه الطويلة حول عنق بريتشارد، ثانيا إياه للخلف؛ وكان هناك شيء من الفولاذ يومض على بعد بوصات قليلة من عنقه. ثم رأى تافرنيك شيئا رائعا. بدا بريتشارد فجأة كأنه يرفع جسم مهاجمه في الهواء بلفة من معصمه. التقط تافرنيك انطباعا سريعا عن وجه رجل أبيض، وكانت رأسه تشير للشارع، وساقاه ترتعشان بشكل متشنج. بدا أن بريتشارد ألقى به رأسا على عقب، بينما طار السكين إلى الشارع دون أن يؤذي أحدا. استلقى الرجل متكوما وهو يئن أمام باب أحد المنازل. وقفز بريتشارد وراءه. فتح الباب بحذر وزحف الرجل عبره، ثم تبعه بريتشارد، ثم أوصد الباب وطرقه تافرنيك دون جدوى.
لعدة ثوان - بدت لتافرنيك أطول من ذلك بكثير - وقف تافرنيك يحدق في الباب، ويلتقط أنفاسه بصعوبة، وهو عاجز تماما عن تجميع أفكاره. لقد حدث كل شيء بسرعة مذهلة! لم يستطع أن يدرك ما حدث، ولا أن يصدق أن بريتشارد الذي كان معه قبل بضع ثوان فقط، وأدى تلك الحيلة البارعة للجوجوتسو دفاعا عن حياته، قد تبع مهاجمه المجهول إلى ذلك المنزل المظلم الغامض، الذي لا تصدر أي نافذة من نوافذه بصيص ضوء واحدا. لقد عاش تافرنيك حياة هادئة. لم يكن يعرف شيئا عن المشاعر التي تولد القتل والرغبة في القتل. وكان مذهولا من مفاجأة كل ما حدث. كيف يمكن أن يحدث شيء من هذا القبيل في وسط لندن، في شارع خال للحظات فقط، وفي نهايته الأخرى، كانت توجد بالفعل علامات كثيرة على الحياة! ثم جعلته فكرة ذلك السكين يرتجف - فولاذ لامع أزرق يقطع الهواء مثل حبل السوط. تذكر النظرة في وجه المهاجم ... كم كانت رهيبة! كانت نموذجا للانفعالات التي بدت وكأنها تكشف له في تلك اللحظة عن وجود عالم آخر غير معروف، لم يقرأ عنه ولم يحلم به.
جاء صوت الخطوات بمثابة ارتياح كبير. قدم رجل من زاوية الشارع، يدخن سيجارة ويدندن بهدوء مع نفسه. بدا أن وجود إنسان آخر قد أعاد تافرنيك فجأة إلى الأرض. تحرك نحو الرصيف وخاطب الوافد الجديد.
سأل بسرعة: «هل يمكن أن تخبرني كيف أدخل ذلك المنزل؟»
أخرج الرجل السيجارة من فمه وحدق في السائل.
أجاب: «يجب أن تدق الجرس، لكن أليس من المؤكد أنه غير مأهول؟ لماذا تريد الدخول إليه؟»
قال له تافرنيك: «منذ أقل من دقيقة، كنت أسير هنا مع رفيق لي. جاء رجل من ورائنا وحاول طعنه عمدا. بعد ذلك اندفع من ذلك الباب، وتبعه رفيقي، وأغلق الباب في وجهي.»
كان الوافد الجديد شابا صغيرا، موسيقيا، جاء لتوه من حفلة موسيقية وكان في طريقه إلى النادي في نهاية الشارع. ربما لو كان صحفيا، لكان فضوله أعظم من شكه. إلا أنه حدق في تافرنيك لحظة، بنظرة فارغة.
وقال: «انظر هنا، هذه القصة التي ترويها لا تبدو محتملة الحدوث جدا، كما تعلم.»
أجاب تافرنيك بحرارة: «لا يهمني ما إذا كانت محتملة الحدوث أم لا. إنها الحقيقة! السكين في مكان ما على الطريق هناك ... لقد سقط أمام السياج.»
عبرا الطريق معا وفتشا. لم يكن هناك أي أثر للسلاح. نظر تافرنيك فوق السياج.
وقال تافرنيك موضحا: «عندما ضرب رفيقي الرجل الآخر ولفه، بدا أن السكين طار في الهواء؛ ربما يكون حتى قد وصل إلى الحدائق.»
استدار رفيقه مبتعدا ببطء.
وقال: «حسنا، لا فائدة من البحث عنه هناك. يمكننا أن نحاول فتح الباب، إذا أردت.»
مالا بثقلهما على الباب، وطرقا على الألواح، وانتظرا. كان الباب موصدا بإحكام ولم يرد أي رد. هز الموسيقي كتفيه واستعد للمغادرة، بعد أن ألقى نظرة أخرى على تافرنيك، نصف مرتابة، ونصف متسائلة.
وقال: «إذا كنت تعتقد أن الأمر يستحق العناء، فربما كان من الأفضل لك إحضار الشرطة. ومع ذلك، إذا كنت ستأخذ نصيحتي، أعتقد أنني كنت سأعود إلى المنزل وأنسى أمر كل ما حدث.»
وغادر تاركا تافرنيك عاجزا عن الكلام. إن فكرة أن الناس قد لا يصدقون قصته لم تخطر بباله قط. ومع ذلك بدأ هو نفسه فجأة يشك في الأمر. عاد إلى الطريق ونظر إلى نوافذ المنزل ... مظلمة، غير مغطاة بستائر، ولا تكشف عن أي علامة على الحياة أو السكن. فهل سار بالفعل مع بريتشارد، ووقف معه في هذا المكان قبل دقيقة أو دقيقتين فقط؟ ثم التقط صافرة الشرطة من على الأرض ولم يعد لديه أي شك. كان المشهد بأكمله أمامه مرة أخرى، بشكل أكثر وضوحا من أي وقت مضى. حتى في هذه اللحظة، قد يكون بريتشارد بحاجة إلى مساعدة!
استدار ومشى بحدة إلى زاوية أديلفي تيريس، ليجد نفسه على الفور وجها لوجه مع شرطي.
صاح تافرنيك مشيرا إلى الوراء: «يجب أن تأتي معي إلى هذا المنزل في الحال! لقد تعرض رفيق لي للهجوم هنا الآن؛ حاول رجل طعنه. وكلاهما في ذلك المنزل. هرب الرجل وتبعه رفيقي. والباب مغلق ولا أحد يجيب.»
نظر الشرطي إلى تافرنيك كثيرا كما فعل الموسيقي.
وسأل: «هل يعيش أي منهما هناك يا سيدي؟»
أجاب تافرنيك: «كيف يمكنني أن أعرف؟ لقد قفز الرجل على رفيقي من الخلف. وكان في يده سكين ... لقد رأيته. فقلبه رفيقي وألقى به، فهرب الرجل إلى ذلك المنزل. وكلاهما هناك الآن.»
سأل الشرطي: «أي منزل هذا يا سيدي؟»
كانا يقفان أمامه تقريبا. كانت البوابة مفتوحة وكان تافرنيك يطرق على الألواح براحة يده. ثم، بصرخة انتصار، انحنى والتقط شيئا من صدع في الأحجار المرصوفة.
وصاح: «المفتاح! تعال بسرعة!»
دفعه في القفل وأداره؛ ففتح الباب بسلاسة. وضع الشرطي يده على كتف تافرنيك.
وقال: «انظر هنا، دعنا نسمع قصتك مرة أخرى ، بوضوح أكثر قليلا. من الذي يوجد في هذا المنزل؟»
بدأ تافرنيك يتحدث بسرعة قائلا: «منذ خمس دقائق، قابلت رجلا في شارع ستراند أعرفه معرفة سطحية ... اسمه بريتشارد وهو محقق أمريكي. قال إن لديه ما يقوله لي وطلب مني أن أتمشى معه إلى ناد في أديلفي تيريس. كنا في منتصف الطريق هناك، نتحدث، عندما قفز عليه رجل؛ لا بد أنه تسلل من الخلف بلا ضوضاء. كان الرجل يحمل سكينا في يده. وألقى به رفيقي رأسا على عقب ... لقد كانت حيلة من حيل الجوجوتسو؛ لقد رأيتها تتم في كلية الفنون التطبيقية. لقد سقط أمام هذا الباب الذي ربما كان إما مواربا أو أن شخصا ما بالداخل كان ينتظره فسمح له بالدخول. زحف من خلاله وتبعه رفيقي. وأغلق الباب في وجهي.»
سأل الشرطي: «منذ متى كان هذا؟»
أجاب تافرنيك: «لم يتجاوز أكثر من خمس دقائق.»
سعل الشرطي. «إنها قصة غريبة جدا يا سيدي.»
أعلن تافرنيك بقوة: «إنها حقيقية! أنا وأنت يجب أن نفتش هذا البيت.»
أومأ الشرطي برأسه. «لا ضرر من ذلك، يا سيدي، على أي حال.»
أضاء فانوسه في أنحاء الصالة ... كانت غير مؤثثة، والورق يتدلى من الجدران. ثم بدآ في دخول الغرف واحدة تلو الأخرى. لم تكن هناك أي علامة على وجود أحد بها. مرا من طابق إلى آخر في صمت متجهم. في الغرفة الأمامية من العلية كان هناك سرير صغير قابل للطي والنقل، وقطعتان أو ثلاث من قطع الأثاث المتواضعة، وموقد صغير.
تمتم الشرطي: «أدوات حارس المنزل. يبدو أن شيئا لم يستخدم منذ مدة.»
نزلا الدرج مرة أخرى.
قال الشرطي بريبة: «قلت إنك رأيت الرجلين يدخلان هذا المنزل يا سيدي؟»
قال تافرنيك: «نعم، رأيتهما. لا شك في هذا.»
قال الشرطي موضحا: «جميع المداخل الخلفية مغلقة بإحكام. ولم يفتح أي من النوافذ التي يمكن لأي شخص الهروب من خلالها. وقد دخلنا كل الغرف. ولا يوجد أحد في المنزل الآن يا سيدي، أليس كذلك؟»
أقر تافرنيك: «لا يبدو أن هناك أحدا.»
نظر إليه الشرطي مرة أخرى؛ من المؤكد أن تافرنيك لم يظهر وكأنه يحاول خداعه.
قال الرجل بمهنية: «أخشى أنه لا يوجد شيء آخر يمكننا القيام به يا سيدي. من الأفضل أن تعطيني اسمك وعنوانك.»
اقترح تافرنيك: «ألا يمكننا فحص المكان مرة أخرى؟ أقول لك إنني رأيتهما يدخلان.»
أجاب الشرطي: «لدي عمل بالخارج لأعتني به، يا سيدي. لو لم تكن تبدو محترما، لاعتقدت أنك تريد إبعادي عن الطريق قليلا. الاسم والعنوان من فضلك.»
أعطاه تافرنيك الاسم والعنوان ببساطة. وخرجا معا إلى الشارع.
قال الرجل وهو يغلق دفتره: «سأبلغ عن هذا الأمر. ربما سوف يأمر الرقيب بتفتيش المنزل مرة أخرى.» وأضاف: «إذا أخذت بنصيحتي يا سيدي، فلتعد إلى بيتك.»
كرر تافرنيك وكأنه يحدث نفسه مع الرجل، وهو لا يزال واقفا على الرصيف ومحدقا في النوافذ المظلمة: «رأيت كليهما يمران عبر ذلك الباب.»
ولم يرد الشرطي لكنه رحل. سرعان ما وصل إلى زاوية أديلفي تيريس واختفى. عبر تافرنيك الطريق ببطء ووجه ظهره إلى السياج ونظر بثبات إلى الواجهة المظلمة للمنازل الحجرية الرمادية. دقت ساعة بيج بن معلنة تمام الواحدة، ومر العديد من الأشخاص يمينا ويسارا. كان الرجال يخرجون من النادي ويفترقون طوال الليل، وخفت ضجيج المدينة. ومع ذلك، شعر تافرنيك بعدم الرغبة في التحرك. كانت النظرة التي اعتلت وجه ذلك الرجل الأبيض ذي العينين السوداوين تطارده، كانت هناك مأساة، وظل أشياء مروعة، ورعب، ورغبة مميتة في القتل! لقد عبر الرجلان من ذلك الباب؛ أحدهما هاربا والآخر مطاردا. أين هما الآن؟ ربما كان فخا. كان بريتشارد يتحدث بجدية شديدة عن أعدائه.
ثم، وبينما كان واقفا هناك، رأى لأول مرة خيطا رفيعا من الضوء من خلال الستائر المغلقة بإحكام لغرفة في الطابق الأرضي من المنزل المجاور. بدون تردد، عبر الطريق ودق الجرس. فتح الباب، بعد تأخير طفيف، رجل يرتدي ملابس عادية، ربما كان، مع ذلك، خادما لا يرتدي زيا رسميا. نظر إلى تافرنيك بريبة.
أوضح تافرنيك: «أنا آسف لأنني أزعجتك، لكنني رأيت شخصا ما يدخل المنزل المجاور لك، منذ مدة قصيرة. هل يمكن أن تخبرني ما إذا كنت قد سمعت أي ضوضاء أو أصوات خلال نصف الساعة الماضية؟»
هز الرجل رأسه.
وقال: «لم نسمع شيئا يا سيدي.»
سأل تافرنيك: «من يعيش هنا؟»
أجاب الرجل بوقاحة: «هل أتيت في الساعة الواحدة صباحا لتسألني مثل هذه الأسئلة السخيفة؟ الجميع هنا نائمون وأنا كنت على وشك أن آوي إلى فراشي.»
علق تافرنيك قائلا: «يوجد ضوء في الغرفة بالطابق الأرضي. وهناك شخص ما يتحدث هناك الآن ... يمكنني سماع أصوات.»
أغلق الرجل الباب في وجهه. لبعض الوقت، تجول تافرنيك بلا كلل، وشرع أخيرا على مضض في العودة إلى المنزل. كان قد وصل إلى شارع ستراند وكان يعبر ميدان ترافالجار عندما خطرت بباله فكرة مفاجئة. وقف ساكنا لحظة في منتصف الشارع. ثم استدار فجأة. وفي أقل من خمس دقائق كان في شارع أديلفي تيريس مرة أخرى.
الفصل التاسع عشر
تورط تافرنيك
شعر تافرنيك بمشاعر رجل أفاق فجأة عندما عاد مرة أخرى إلى أديلفي تيريس. انتظر حتى لم ير أحدا، ثم فتح باب المنزل الخالي بالمفتاح الذي احتفظ به، وأوصده بحذر. أشعل عود ثقاب وأنصت باهتمام عدة دقائق؛ لا صوت من أي مكان. تحرك بضع ياردات إلى أسفل السلم، وأنصت مرة أخرى؛ لا يزال الصمت يخيم على المكان. أدار مقبض شقة الطابق الأرضي وبدأ البحث من جديد. غرفة تلو الأخرى كان يفحصها على ضوء أعواد الثقاب المتضائلة بسرعة. هذه المرة قصد ألا يترك وراءه أي احتمال لارتكاب أي خطأ. حتى إنه قاس عمق الجدران بحثا عن أي مكان سري للاختباء. كان يمر من غرفة إلى أخرى، على مهل، دائما في حالة تأهب وإنصات. وفي إحدى المرات، عندما فتح بابا في الطابق الثالث، كان هناك صوت منخفض كما لو كان صوت احتكاك تنورة بالأرض. أشعل عود ثقاب بسرعة، ليجد فأرا كبيرا جالسا منتصبا وينظر إليه بعيون سوداء. كان هذا هو العلامة الوحيدة على الحياة في المبنى بأكمله.
عندما انتهى من البحث، نزل إلى الطابق الأرضي ودخل الغرفة المقابلة للغرفة التي سمع منها أصواتا في المنزل المجاور. جثم هنا على الألواح المتربة بعض الوقت، منصتا. بين الحين والآخر تخيل أنه لا يزال بإمكانه سماع الأصوات على الجانب الآخر من الجدار، لكنه لم يكن متأكدا تماما.
أخيرا قام ليمدد جسمه، وبينما يفعل ذلك جذب انتباهه صوت جديد من الخارج. دخلت سيارة إلى أديلفي تيريس. مشى إلى النافذة غير المغطاة بالستائر ووقف هناك، واثقا من أنه هو نفسه غير مرئي. ثم قفز قلبه من بين ضلوعه. على الرغم من أنه كان شخصا غير عاطفي، فقد كان هذا الحدث قادرا على أن يثير حماس شخص أكثر برودا. توقفت سيارة كان يتذكرها جيدا، على الرغم من أن رجلا يرتدي بذلة داكنة يقودها الآن، توقفت عند المنزل التالي. ونزلت امرأة ورجلان. لم ينظر تافرنيك مطلقا إلى الرجلين؛ كانت عيناه معلقتين على رفيقتهما. كانت ملفوفة في عباءة طويلة، لكنها رفعت تنورتها وهي تعبر الرصيف، ورأى وميض أبازيمها الفضية. كانت عربتها وهيئتها لا التباس فيهما. كانت إليزابيث هي من تقوم بهذه الزيارة الصباحية المبكرة للمنزل المجاور! بالفعل اختفت الزمرة الصغيرة. حتى إنهم لم يقرعوا الجرس. لا بد أن الباب قد فتح بصمت عند قدومهم. وانطلقت السيارة في هدوء. مرة أخرى، أصبح الشارع مهجورا.
تأكد تافرنيك من أنه يعرف الآن الحل ... كان هناك طريق من هذا المنزل إلى المنزل التالي. أشعل عود ثقاب آخر، ووقف على بعد عدة ياردات، ونظر بعين فاحصة إلى الجدار الفاصل. في الأيام الماضية كان من الواضح أن هذا كان مسكنا ذا أهمية، مزينا بشكل متقن، حيث لا تزال الأعمال الجصية على السقف تدل على ذلك. كان الجدار مقسما إلى ثلاث لوحات، مكسوة لأعلى بالألواح الخشبية. فحصها بوصة تلو الأخرى من البداية إلى النهاية، وبدأ من الخلف وجاء نحو الأمام. توقف عند نحو ثلاثة أرباع المسافة. كان الأمر بسيطا جدا، رغم كل شيء. توقف فجأة الجدار الصلب مسافة قدمين، وأكمل التصميم برقعة من القماش المشدود، الذي انثنى بسهولة تحت إصبعه. أسند أذنه عليه؛ يمكنه الآن سماع الأصوات بوضوح ... حتى إنه سمع ضحكات المرأة. إلى ارتفاع نحو أربع أقدام، أزيل الجدار الصلب. أحدث ثقبا صغيرا في القماش ... كان لا يزال هناك ظلام. وسع الثقب حتى يتمكن من دفع يده من خلاله ... لم يكن هناك سوى قماش على الجانب الآخر. أدرك الآن أين هو. لم يكن هناك سوى سماكة هذا القماش بينه وبين الغرفة. لم يكن عليه سوى إحداث ثقب صغير فيه وسيكون قادرا على الرؤية من خلاله. حتى الآن، بعد إزالة الحاجز من جانبه، كانت أصواتهم أكثر وضوحا. من الواضح أن جزءا كاملا من الجدار قد أزيل واستبدل به إطار من الخشب قابل للفصل، مغطى بقماش مشدود. وقف لحظة وتحسس بإصبعه؛ يمكنه تقريبا تتبع المكان الذي ركب الخشب فيه على المفصلات. ثم جثا على يديه وركبتيه مرة أخرى، وتوقف لينصت وفي يده مديته الخاصة. استطاع أن يسمع صوت كريس يتحدث ... صوته الأخنف الممطوط. ثم سمع صوت بريتشارد، تبعه ما بدا أنه تأوه. وساد الصمت، ثم بدا أن إليزابيث تطرح سؤالا. سمع ضحكتها الخافتة وأثار شيء فيها الرعشة في جسده بأكمله. كان بريتشارد يتحدث بقوة الآن. ثم، في منتصف جملته، ساد الصمت مرة أخرى، تلاه تأوه آخر. كاد يشعر أن الناس في تلك الغرفة يحبسون أنفاسهم.
سرعان ما نسي تافرنيك أمر الحذر. كان سن مديته يخترق القماش. وصنع ببطء تجويفا دائريا في حجم نصف شلن. أدخل رأسه وكتفيه بمعاناة شديدة ونظر لأول مرة عبر التجويف الصغير إلى داخل الغرفة. كان بريتشارد جالسا في منتصف الغرفة تقريبا؛ بدا أن ذراعيه مربوطتان بالكرسي ورجليه مقيدتان إحداهما بالأخرى. على بعد أمتار قليلة، كانت إليزابيث، قد وضعت معطفها الفرو جانبا، وجلست مسترخية على مقعد مريح، وكان فستانها يتلألأ بالترتر، وعيناها تشعان ببريق غريب، وقد انفرجت شفتاها عن ابتسامة قاسية. وكان بجانبها ... جالسا، في الواقع، على ذراع مقعدها ... كريس، وكان وجهه الطويل الشاحب ربما أكثر شحوبا من المعتاد؛ وشفتاه تنفرجان عن ابتسامة ساخرة مستمتعة. وكان الميجور بوست موجودا، مرتديا ملابسه بعناية كما لو كان يحضر أحد التجمعات الاجتماعية، ويقف على سجادة المدفأة وقد وضع ذيل معطفه تحت ذراعيه. وقد وقف البروفيسور، الذي ارتسم على وجهه أبشع أنواع الرعب، يتحدث. أصبح بإمكان تافرنيك الآن سماع كل كلمة بوضوح. «عزيزتي إليزابيث! عزيزي كريس! كلاكما متسرع جدا! أقول لكما إنني معترض ... أنا معترض بشدة. أنا متأكد من أن السيد بريتشارد، بقليل من الإقناع، سوف يستمع إلى صوت العقل. لن أكون طرفا في أي تصرف من هذا القبيل. هل تفهم يا كريس؟ لقد تجاوزنا الحدود بما فيه الكفاية. أنا لن أقبل هذا.»
ضحكت إليزابيث بنعومة.
وقالت: «والدي العزيز، عليك حقا أن تأخذ شيئا ما لأعصابك. لا حاجة إلى أن يحدث أي شيء للسيد بريتشارد على الإطلاق ما لم يضطرنا إلى ذلك. لديه فرصته ... ولا ينبغي لأحد أن يتوقع أكثر من هذا.»
قال كريس مصرحا ببطء شديد وهو يمط الكلمات كالمعتاد: «أنت على حق، يا عزيزتي إليزابيث. مسألة صحته في المستقبل - على أي حال، في المستقبل القريب - تقع بالكامل في يد بريتشارد. لا يوجد من تلقى الكثير من التحذيرات مثله. تم تحذير براملي مرتين؛ وتم تحذير ماليسون ثلاث مرات ثم حرق حتى الموت؛ ولم يحذر فورسيث إلا مرة واحدة فقط، ثم أطلق عليه الرصاص في شجار مخمور. أما هذا الرجل بريتشارد فتم تحذيره عشرات المرات، وقد نجا من الموت مرتين. لقد حان الوقت لنظهر له أننا جادون. التهديدات بلا جدوى؛ لقد حان وقت العمل. أقول إنه إذا رفض بريتشارد طلبنا التافه هذا، فلنحرص على أن يغادر هذا المنزل في حالة لن يتمكن بعدها من إلحاق أي ضرر بنا، على الأقل لبعض الوقت.»
صاح البروفيسور بحماس: «لكنه سوف يعد! أنا واثق تمام الثقة من أنك إذا سمحت لي بالتحدث معه بعقلانية، فسوف يعدنا بالعودة إلى أمريكا ولن يتدخل في أموركم بعد الآن.»
أدار بريتشارد رأسه قليلا. كان شاحبا بعض الشيء والدماء تتساقط ببطء على الأرض من جرح في صدغه، لكن نبرة صوته كان ملؤها الازدراء. «سأعدك يا بروفيسور، وأنت يا إليزابيث جاردنر، وأنت يا جيم بوست، وأنت يا والتر كريس، أنني إن كنت مشلولا أو سليما، سقيما أو معافى، بين فكي الموت، سوف أتمسك بالحياة حتى تسددوا ديونكم التسديد العادل. أتفهمون ذلك، كلكم؟ لا أعرف ما نوع هذا العرض. قد تكونون جادين، أو ربما تحاولون المزاح. على أي حال، اسمحوا لي أن أؤكد لكم هذا. لن تجعلوني أستجدي الرحمة. إذا أجبرتموني على شرب هذا الشيء الذي تتحدثون عنه، فسأجد الترياق، وبقدر ما أنا متأكد أن هناك سجنا في أمريكا، فأنا متأكد من أنني سأجعلكم تعانون جزاء لهذا!» ثم تابع ببطء: «إذا أخذتم بنصيحتي، وأنا أعلم ما أتحدث عنه، فستقطعون هذه الحبال وتفتحون الباب الأمامي. عندئذ ستعيشون مدة أطول، جميعكم.»
علقت إليزابيث بسرور قائلة: «الأبله لا يمكنه أن يوقع سوى القليل من الضرر في العالم. ولا يعول على كلام ضعيف العقل. من ناحيتي، لقد سئمت جدا من صديقنا السيد بريتشارد. فإذا كنتم على استعداد للذهاب إلى أبعد من ذلك، وإذا قلتم «نشنقه من السقف»، فسأكون سعيدة بذلك تماما.»
أصدر بريتشارد حركة طفيفة في كرسيه ... لم تكن تنم على الخوف بالتأكيد.
قال: «سيدتي، أنا معجب بصراحتك. اسمحوا لي أن أرد. لا أعتقد أن أحدكم هنا لديه الشجاعة لمحاولة إلحاق أي إصابة خطيرة بي. إن كان بينكم من يمكنه ذلك، فليمض قدما. أتسمعني يا سيد والتر كريس؟ أخرجوا هذه الزجاجة.»
أخرج كريس السيجار من شفتيه ونهض ببطء على قدميه. وسحب من جيب صدريته قارورة صغيرة، سحب منها الغطاء الفلين.
وقال بهدوء: «يبدو لي أننا نستطيع القيام بهذه الحيلة. أمسك بجبهته يا جيمي.»
ألقى الرجل المعروف باسم الميجور بوست سيجارته بعيدا، ودار خلف كرسي بريتشارد، وثنى رأس الرجل للخلف فجأة. تقدم كريس، والقارورة في يده. ثم بدا كأن الجحيم قد استعر فجأة داخل تافرنيك. عاد إلى مكانه وقاس بعد ذلك اللوح الخشبي. ثم أطبق أسنانه وهو ينطلق نحوه بقوة، ملقيا الوزن الثقيل لكتفه الضخم على الإطار الخشبي. واقتحم الغرفة، وهو جريح، وجرحه ينزف، لكنه ما زال واقفا على قدميه، بينما تعالى صوت ضجيج الطوب الذي وقع خلفه ... كان المشهد غير متوقع البتة، لدرجة أن الزمرة الصغيرة التي تجمعت هناك بدت كأنها تحولت إلى مجموعة من تماثيل الشمع في بيت رعب ... كانوا مشلولين، لا يملكون حتى القدرة على الحركة.
كان تافرنيك في تلك اللحظات القليلة بمثابة عملاق بين مجموعة من الأقزام. كان قويا ذا عضلات مفتولة كحبال السوط وكان في حالة رائعة. سقط والتر كريس كجذع شجرة بضربة من قبضته؛ أما الميجور بوست فتحسس مسدسه، إلا أن تافرنيك انتزعه منه بضربة من يده، وهو نفسه لم يتذكر شيئا أكثر من ذلك حتى عاد إلى رشده في وقت ما لاحقا. قطع تافرنيك الحبال بعنف، فحرر بريتشارد من قيوده. ووقف البروفيسور وهو يفرك يديه. ونهضت إليزابيث على قدميها. كانت شاحبة، لكنها كانت الأكثر تمالكا لنفسها من أي شخص آخر في الغرفة. كان تافرنيك وبريتشارد هما سادة الموقف بلا منازع. مال بريتشارد نحو المرآة وعدل ربطة عنقه.
وقال وهو ينظر نحو والتر كريس الذي تكوم على الأرض متأوها: «أخشى أن مضيفينا ليسوا في حالة جيدة تسمح لهم بأن يأذنوا لنا بالانصراف. لا عليك يا سيدة جاردنر، نستميحك عذرا. لا يمكنني التظاهر بالأسف لأن دخول صديقي المتهور نوعا ما قد أزعج خططك للمساء، لكني آمل أن تدركي الآن سخافة مثل هذه الأساليب في هذه الأيام. عمت مساء! حان الوقت أن ننهي جولتنا معا يا تافرنيك.»
تحركا نحو الباب ... لم يكن هناك من يمنعهما. إلا أن البروفيسور حاول أن يقول بضع كلمات.
صاح قائلا: «عزيزي السيد بريتشارد ... بريتشارد العزيز، إذا سمحت لي أن أدعوك بهذا اللقب، دعني أتوسل إليك، قبل أن تغادرنا، ألا تأخذ هذه المغامرة التافهة على محمل الجد! يمكنني أن أؤكد لك أنها كانت مجرد محاولة لإرغامك، وليست على الإطلاق مسألة تؤخذ على محمل الجد!»
ابتسم بريتشارد.
وقال: «أيها البروفيسور، وأنت يا والتر كريس، وأنت يا جيمي بوست، إذا كان أي أحد منكم قادرا على الاستماع، فليستمع إلي. لقد لعبتم دورا طفوليا الليلة. وكما هو مؤكد أنه يوجد رجال ونساء يعيشون كما تعيشون أنتم، فإن من المؤكد أيضا أن القانون سيتعقبهم لا محالة. لا يمكنكم خداع العدالة. إنها لا ترحم مثل الزمن نفسه. عندما تأتون بهذه الحيل الصغيرة، فأنتم ببساطة تبدءون دورة جديدة من الصراع بينكم وبين العدالة، وتعرضون حياتكم لمخاطر جديدة. من الأفضل أن تتعلموا أن تنظروا إلي باعتباري قدركم المحتوم، قدركم جميعا، فلا مفر مني بالتأكيد.»
تراجعا إلى الوراء عبر الباب، ثم نزلا إلى الصالة التي يخيم عليها الصمت ومنها إلى الشارع. وكانت الساعة في تلك اللحظة تدق الثانية إلا الربع.
أعلن بريتشارد وهو يشعل سيجارة بأصابع ثابتة: «صديقي تافرنيك، أنت رجل. تعال إلى النادي معي ريثما أغسل جبهتي. رغم كل شيء، سنتناول هذا المشروب معا قبل أن نقول ليلة سعيدة.»
الفصل العشرون
لقاء ممتع
استيقظ تافرنيك بعد بضع ساعات وهو يشعر بالحيرة كأنه فقد هويته، وأخذ حياة رجل آخر، وحل محله. منذ يوم وصوله الأول إلى لندن، وهو شاب ريفي خام، حتى الليلة التي تحدث فيها إلى بياتريس على سطح فندق بلينهايم هاوس، لم يحدث له أي شيء يمكن وصفه بأنه مغامرة. ولم يشعر قط بأنه يفتقد ذلك؛ لم يكن حتى منغمسا في قراءة الكتب الخيالية. بدا له ما حدث الليلة الماضية، وهو جالس في سريره في ضوء شمس الصباح البارد، شيئا عجيبا لا يمكن تصوره. لم يكن من الممكن حقا أن يكون أولئك الأشخاص - الذين يحظون بالتربية الجيدة وحسن المظهر - قد فكروا بجدية في أمر بهذه الفداحة يبدو أنه ينتمي إلى العصور البائدة من التاريخ، أو أن يكون تافرنيك نفسه، قد اقتحم جدارا وهو أعزل من السلاح وسيطر على الموقف! جلس هناك يفكر بثبات. كان الأمر لا يصدق، لكنه كان حقيقة واقعة! كان لا يزال يعتريه بعض الشك الخافت حول ما إذا كانوا سيتمادون حقا إلى هذه الدرجة القصوى. استخف بريتشارد نفسه بالأمر برمته، وبعد ذلك تعامل معه على أنه مزحة كبيرة. أما تافرنيك، فظل مرتابا عندما تذكر هذه المجموعة الصغيرة كما رآها لأول مرة.
بالتدريج، بدأت سماته الشخصية تعاود الظهور مرة أخرى. فبدأ يتساءل كيف سيؤثر تصرفه على مصالحه التجارية. لقد استعدى في الغالب أخت بياتريس الرائعة الجمال، تلك المرأة التي شغلت أفكاره تماما خلال الأيام القليلة الماضية، والمرأة أيضا، التي كانت ستمنحه المال الذي من خلاله كان سيضع قدميه على الدرجة الأولى من السلم. لقد قرر أن هذا شيء يجب تسويته على الفور. يجب أن يراها ويعرف بالضبط الوضع الذي ستئول إليه الأمور، وما إذا كانت ستلغي الصفقة أم لا. كان التفكير في أي نوع من أنواع المعارك والحركة محفزا. نهض من فراشه وارتدى ثيابه وتناول فطوره وانطلق في رحلته.
بعد الساعة الحادية عشرة بقليل، قدم نفسه في ميلان كورت وسأل عن السيدة وينهام جاردنر. انتظر عدة دقائق في ترقب وتوتر، ثم قيل له إنها ليست في المنزل. وبخيبة أمل ليست بالقليلة، ألح من أجل الحصول على أخبار عنها. اعتقد حارس العقار أنها نزلت إلى الريف، وإذا كان الأمر كذلك، فقد كان موعد رجوعها غير مؤكد. كان تافرنيك الآن مرتبكا للغاية.
أصر قائلا: «أريد أن أرسل لها برقية. من فضلك اعرف من خادمتها العنوان الذي أوجه إليه البرقية.»
نظر إليه حارس العقار، الذي كان شخصا راجح العقل، نظرة ودودة.
وقال موضحا: «نحن لا نعطي عناوين، يا سيدي، ما لم يكن ذلك بناء على رغبة عملائنا. إذا تركت برقية هنا، فسأرسلها إلى شقة السيدة جاردنر لتوصيلها إليها.»
كتب تافرنيك برقية سريعة، متوسلا خبر عودتها، وأضاف عنوانه وغادر المكان. ثم تجول بلا هدف في الشوارع. بدا هذا الصباح راكدا خامدا، بعد أحداث الإثارة التي سادت الليلة السابقة ولا تزال تستعر في دمه. ومع ذلك، فقد تمالك نفسه بصعوبة، واستدعى مساحا شابا كان قد تعاقد معه لمساعدته، وقضى بقية اليوم في الخارج على التل. ركز أفكاره بحزم على عمله حتى حان وقت الشفق. ثم سارع إلى المنزل لمواجهة خيبة الأمل التي كان يتوقعها بنسبة كبيرة. لم يكن ثمة برقية له! تناول عشاءه وجلس طاويا ذراعيه أمام صدره، ناظرا إلى الشارع. لم ترد حتى الآن برقية من أجله! عاوده القلق مرة أخرى. بعدما تجاوزت الساعة العاشرة بمدة وجيزة، أصبح الأمر لا يطاق. وجد نفسه يتوق إلى رفقة، ولم تكن الوحدة في غرفته الصغيرة منذ رحيل بياتريس قط شيئا حقيقيا مثلما هي الآن. تحملها لأطول مدة ممكنة، ثم أمسك بقبعته وعصاه، ووجه وجهه نحو الشرق، ومشى بقوة، وهو ينظر إلى الساعة من آن لآخر.
بعد بضع دقائق من الساعة الحادية عشرة، وجد نفسه مرة أخرى في ذلك الطريق المظلم خلف المسرح. كان المصباح فوق باب المسرح يتذبذب بالطريقة غير المؤكدة نفسها، وكانت السيارات نفسها موجودة، وكان الحشد نفسه من الشباب موجودا، باستثناء أنهم كانوا يزدادون كل ليلة. هذه المرة كان لديه بضع دقائق فقط للانتظار. كانت بياتريس من أوائل من خرجوا. عند رؤيتها، أدرك فجأة أنه ليس لديه، رغم كل شيء، أي عذر للمجيء، وأنها من المحتمل أن تستجوبه بشأن إليزابيث، وأنها ستتمكن في الغالب من تخمين سر عذابه. تراجع قليلا، لكنه كان قد تأخر لحظة؛ لأنها رأته. ببضع كلمات تبرير للآخرين الذين كانت تتحدث معهم، التقطت تنورتها وعبرت الشارع الموحل بسرعة. لم يكن لدى تافرنيك وقت للهروب. ظل هناك حتى أتت، لكن وجنتيه كانتا متوهجتين، وراوده شعور مربك بأن وجوده، وأن لقاءهما على هذا النحو، كان مصدر إحراج لكليهما.
صاحت: «عزيزي ليونارد، لماذا تختبئ هناك؟»
أجاب ببساطة: «لا أعرف.»
فضحكت.
وقالت: «تبدو كما لو كنت لا تريد رؤيتي. إذا كنت لا تريد رؤيتي، فلماذا أتيت إلى هنا؟»
رد قائلا: «أعتقد أنني كنت أرغب في رؤيتك. على أي حال، كنت وحيدا. كنت أرغب في التحدث إلى شخص ما. مشيت طوال الطريق إلى هنا من تشيلسي.»
تساءلت: «هل لديك ما تقوله لي؟»
فاعترف قائلا: «كان هناك شيء ما. ظننت أنه ربما يجب أن تعرفي. تناولت العشاء مع والدك الليلة الماضية . وتحدثنا عنك.»
جفلت كأنه ضربها؛ وفجأة استحال وجهها شاحبا وقلقا.
وسألت: «أأنت جاد يا ليونارد؟ والدي؟»
فأومأ برأسه.
وقال: «أنا آسف. ما كان يجب أن أفاجئك بهذه الطريقة. نسيت أنك ... أنك لم تريه منذ مدة.» «كيف قابلته؟»
أجاب: «مصادفة. كنت أجلس وحدي في الشرفة في إيمانو، وأراد طاولتي لأنه كان بإمكانه رؤيتك منها؛ ولذا تشاركناها، ثم بدأنا نتحدث. وكنت أعرف من هو بالطبع؛ فقد رأيته في غرفة أختك. وأخبرني أنه حجز الطاولة كل ليلة في هذا الأسبوع.»
نظرت عبر الطريق.
وقالت: «لا يمكنني الخروج مع هؤلاء الناس الآن. انتظرني هنا.»
عادت إلى أصدقائها وتحدثت إليهم دقيقة أو دقيقتين. كان بإمكان تافرنيك سماع صوت جرير المحتج وضحكة بياتريس الرقيقة. من الواضح أنهم كانوا يحاولون عبثا إقناعها بتغيير رأيها. وسرعان ما عادت إليه مرة أخرى.
فقال مترددا: «أنا آسف. أخشى أنني أفسدت لك أمسيتك.»
فأجابت وهي تتأبط ذراعه: «لا تكن أحمق من فضلك. هل تعتقد أن والدي سيكون في الشرفة في إيمانو الليلة؟»
أومأ تافرنيك برأسه. «قال لي ذلك.»
قررت: «سوف نذهب ونجلس هناك. إنه يعرف أين يجدني الآن لذلك لا يهم. وأنا أود أن أراه.»
سارا معا. على الرغم من أنها كان يبدو عليها الشرود والضيق بوضوح، فإن تافرنيك شعر مرة أخرى بهذا الشعور بالرفقة الممتعة الذي كان حضورها يجلبه دائما.
بدأت حديثها قائلة: «هناك شيء آخر يجب أن أسألك عنه. أريد معرفة ما إذا كنت قد رأيت بريتشارد مؤخرا.»
أجاب تافرنيك: «كنت معه الليلة الماضية.»
فارتجفت. «أكان يطرح أسئلة؟»
طمأنها تافرنيك قائلا: «ليست بخصوصك. إنه مهتم بأختك.»
أومأت بياتريس، ولكنها لم تبد مرتاحة. كان تافرنيك يستطيع رؤية نظرة الخوف القديمة تعود لتكسو وجهها.
قال بندم: «أنا آسف يا بياتريس. يبدو أنني الآن أحمل إليك دائما ذكريات عن الأشخاص الذين يرعبك أن تسمعي أخبارهم.»
هزت رأسها.
وصرحت: «هذا ليس خطأك يا ليونارد، كل ما في الأمر أنه من الغريب أن تختلط معهم بأي شكل من الأشكال، أليس كذلك؟ أفترض أنك يوما ما ستكتشف كل شيء عني. ربما ستأسف وقتها لأنك حتى سميت نفسك بأخي.»
أجاب بغلظة: «لا تكوني حمقاء.»
ربتت على يده.
سألت: «هل صفقتك تسير على ما يرام؟»
أجاب: «آمل أن أجمع المال هذا الأسبوع. إذا حصلت عليه، فسأصير ميسور الحال في غضون سنة، وغنيا في غضون خمس سنوات.»
قالت مستفسرة: «أهناك مجرد شك في حصولك عليه، إذن؟»
اعترف: «مجرد شك. لدي محام يبذل قصارى جهده للحصول على قرض، لكنني لم أجتمع به منذ يومين. ثم لدي أيضا صديق وعدني بذلك، وهو صديق لست متأكدا تماما مما إذا كان بإمكاني الاعتماد عليه.»
انعطفا إلى شارع ستراند.
فقالت راجية: «أخبرني عن والدي يا ليونارد.»
تردد؛ إذ كان من الصعب أن يعرف بالضبط كيف يتحدث عن البروفيسور.
ثم تابعت حديثها: «ربما إذا كنت قد تحدثت إليه، فسيساعدك ذلك على فهم إحدى الصعوبات التي كان علي مواجهتها في الحياة.»
قال تافرنيك مترددا: «أتصور أنه شخص ضعيف بعض الشيء.»
ردت: «جدا. تركته والدتي تحت مسئوليتي، لكنني لا أستطيع العناية به.»
قال: «أختك ...»
أومأت برأسها. «أختي لها تأثير أكبر من تأثيري عليه. إنها تيسر عليه الحياة.»
وصلا إلى المطعم وشقا طريقهما إلى الطابق العلوي. وجلس تافرنيك إلى الطاولة نفسها، ومرة أخرى احتج رئيس الندل.
فقال تافرنيك: «إذا عاد السيد النبيل مرة أخرى الليلة، فستجد أنه سيكون سعيدا جدا بتناول العشاء معنا.»
ثم جاء البروفيسور. ودخل بدخلته المسرحية المعتادة، حاملا قبعته العريضة الحواف في يده وملوحا بعصاه ذات الطرف الفضي. عندما رأى تافرنيك وبياتريس، توقف فجأة. ثم مد كلتا يديه، فأخذتهما بياتريس على الفور. كانت الدموع تنهمر من عينيه، وتنساب على وجنتيه. وجلس بتثاقل على الكرسي الذي كان تافرنيك يمسكه له.
وصاح قائلا: «بياتريس، عجبا، هذا مؤثر للغاية! لقد أتيت إلى هنا لتناول العشاء مع والدك العجوز. هل تثقين بي إذن؟»
أجابت وهي لا تزال ممسكة بيديه: «بالتأكيد. إذا وشيت بي لإليزابيث، فستكون النهاية. في المرة القادمة، لن تعثروا علي أبدا.»
أكد لها: «لقد عرفت مكان وجودك بالضبط منذ عدة أيام. ولم أنبس به إطلاقا. أنت في أمان.» وأضاف متنهدا: «كانت وجباتي هنا أوقاتا حزينة. أما الليلة، فسنكون مبتهجين. بعض السمان، على ما أعتقد، السمان وبعض الشمبانيا من أجلك يا عزيزتي. أنت تحتاجين إليها. أوه، هذه هي السعادة الحقيقية!»
قالت، بعد أن أملى على النادل طلبا مطولا إلى حد ما: «أنت تعرف السيد تافرنيك يا أبي.»
اعترف البروفيسور بتفضل: «التقيت السيد تافرنيك هنا أمس، وتحدثت إليه.»
قالت بياتريس: «السيد تافرنيك كان لطيفا جدا معي في وقت كنت أحتاج فيه إلى المساعدة.»
فأمسك البروفيسور بيدي تافرنيك.
وقال: «ما دمت قد أحسنت إلى طفلتي، فقد أحسنت إلي أنا.» ثم التفت آمرا النادل: «أيها النادل، ثلاثة أكواب من الكوكتيل على الفور. يجب أن أشرب نخبك يا سيد تافرنيك ... يجب أن أشرب نخبك على الفور.»
مال تافرنيك إلى الأمام نحو بياتريس.
واقترح: «أتساءل عما إذا كنت تفضلين البقاء بمفردك مع أبيك.»
هزت رأسها.
وأجابت: «أنت تعرف الكثير، ولا يبدو أن الأمر مهم حقا. قل لي، يا أبي، كيف تقضي وقتك؟»
قال البروفيسور: «يجب أن أعترف، يا عزيزتي، ليس لدي الكثير لأفعله. أختك إليزابيث كريمة للغاية.»
تراجعت بياتريس في كرسيها للخلف، كما لو كانت قد تلقت ضربة.
وصاحت: «أبي، اسمع! أنت تعيش على هذا المال! ألا يبدو لك فظيعا؟ أوه، كيف يمكنك أن تفعل ذلك!»
نظر البروفيسور إلى ابنته وقد ارتسم على وجهه تعبير المفاجأة المشوب بالألم.
وأوضح: «عزيزتي، كانت أختك إليزابيث دائما هي مصدر المال في العائلة. إنها واسعة الحيلة وأنا أثق بها. وليس من حقي أن أستفسر عن مصدر وسائل الراحة التي توفرها لي. أشعر أنني أستحق الحصول عليها؛ ولذا أقبلها.»
استطردت قائلة: «لكن يا أبي، ألا يمكنك أن ترى ... ألا تعرف أنه ماله ... مال وينهام؟»
قال البروفيسور بحدة: «إنها ليست مسألة يمكننا مناقشتها أمام الغرباء يا طفلتي. يوما ما سنتحدث عنها، أنا وأنت.»
فسألت بصوت خافت: «هل سمع عنه أحد؟»
تجهم البروفيسور.
وقال بتوتر: «إنه شاب حاد المزاج يا عزيزتي، شاب حاد المزاج حقا. أفهمتني إليزابيث أنه كان مجرد شجار عادي ورحل بعده.»
شحب لون بياتريس وابيضت شفتاها.
وتمتمت: «شجار عادي!»
جلست ساكنة تماما. فوجد تافرنيك نفسه يراقبها دون وعي. كانت في عينيها أشياء أخافته. بدا الأمر كما لو أنها كانت تطل من هذا المطعم المبهج الصغير، بأضوائه وموسيقاه وأجوائه المريحة، إلى مكان بعيد من العالم، مكان آخر مختلف تماما. كانت تعايش شيئا يجمد قلبها، شيئا مرعبا. رأى تافرنيك هذه الأشياء في وجهها وتحدثت عيناه بلا رحمة.
همست وهي تميل نحوه: «أبي، هل تصدق ما قلته لي للتو؟»
جاء دور البروفيسور في الانزعاج هذه المرة. إلا أنه أخفى شعوره بالإحراج، بإظهار الانزعاج.
وأجاب بحدة: «هذا سؤال غير لائق على الإطلاق يا بياتريس.» ثم أضاف بلطف أكثر: «أوه، الكوكتيل! صديقي الشاب تافرنيك، سأشرب نخب تعارفنا! أنت إنجليزي، مثلما أرى، بريطاني حقيقي. في يوم من الأيام يجب أن تزور بلدنا العظيم ... لعل ابنتي أخبرتك، بالطبع، أننا أمريكيون. بلد عظيم يا سيدي ... أعظم بلد عشت فيه ... متسع للتنفس، ومتسع للنمو، ومتسع لشاب صغير مثلك كي يزرع طموحاته ويشاهدها تزدهر أمام عينيه. نخب تعارفنا يا سيد تافرنيك، ولعلنا نلتقي يوما ما في الولايات المتحدة!»
شرب تافرنيك أول كوكتيل في حياته ومسح الدموع من عينيه. وجد البروفيسور الأمان في المحادثة.
تابع: «كما تعلم، أنا رجل علم. علم الفراسة يسعدني. والرجال والنساء الذين ألتقي بهم يمثلون لي أنواعا مختلفة من الإنسانية، كلها مثيرة للاهتمام، وكلها جذابة لحبي الخاص لعلم النفس. أنت، يا عزيزي السيد تافرنيك، إذا جاز لي أن أكون شخصيا للغاية، تمثل لي، وأنت جالس هناك، النموذج الأولي الدقيق للرجل الإنجليزي الشاب العامل. أنت، وفقا لحكمي، مجتهد، دوجماتي، مدقق، مثابر، كادح، مصر على أن تكون ناجحا وفقا لنطاق طموحاتك وطبيعتها. في هذا البلد لن تتطور أبدا. أما في بلدي يا سيدي، فسوف نصنع منك عملاقا. سوف نعلمك ألا ترضى بالقليل، ونرفع يدك التي أبقيتها إلى جانبك، ونشير بإصبعك إلى السماء.» وأضاف وهو يستدير فجأة: «أيها النادل، إذا لم يكن السمان جاهزا بعد، فسوف أتناول كوكتيلا آخر من هذه الكوكتيلات الممتازة.»
كان تافرنيك محرجا. رأى أن بياتريس تتوق للتحدث إلى والدها؛ ورأى أيضا أن والدها كان مصرا على عدم الحديث معها. ومع ذلك، بتنهيدة قصيرة، استسلمت إلى ما هو حتمي.
وتابع البروفيسور: «لقد حاضرت يا سيدي في معظم مدن الولايات المتحدة، عن الجنس البشري. ميول كل وحدة من الجنس البشري هي دراستي المتخصصة. عندما أتحدث إليك عن علم فراسة الدماغ، يا سيدي، فأنت تبتسم، وربما تفكر في رجل يجلس في غرفة خلفية ويأخذ شلنك ليتحسس النتوءات في رأسك. أنا لست من هذه الرتبة من رجال العلم يا سيدي. لدي دبلومات من كل جامعة جديرة بالذكر. أنا أمزج العلوم التي تتعامل مع الجنس البشري. أعرف شيئا عنها جميعا. قراءة الشخصية بالنسبة إلي هي شغف وعلم في آن واحد. اتركني وحدي مع رجل أو امرأة لمدة خمس دقائق، وارسم لي خريطة حياته، وسوف أضع العلامات التي سيتنقل هذا الشخص عبرها، ولن يفوتني أي منها.»
سألت بياتريس: «أنت لا تقوم بأي عمل هنا يا أبي، أليس كذلك؟»
أجاب وفي صوته نبرة خافتة من الألم: «إطلاقا يا عزيزتي. بدا أن أختك إليزابيث لم تكن ترغب في ذلك. تحركاتها غير محددة على الإطلاق وهي تحب أن أكون متاحا باستمرار.» ثم استأنف وهو يلتفت نحو تافرنيك: «ابنتي إليزابيث هي شابة جميلة جدا، تركت في عهدتي في ظل ظروف خاصة. لذلك أشعر أنه من واجبي أن أكون دائما متاحا لها.»
مرة أخرى كان هناك وميض من تلك النظرة الغريبة في وجه الفتاة. ومالت إلى الأمام، لكن والدها أحجم عن أن ينظر إلى عينيها.
قالت متلعثمة: «هل يمكنني طرح سؤال أو سؤالين شخصيين؟ تذكر أنني لم أر أو أسمع شيئا من أي منكما منذ سبعة أشهر.»
قال البروفيسور: «بالطبع يا عزيزتي. يسعدني أن أقول إن أختك بخير. وأنا نفسي كما ترينني. لقد قضينا وقتا ممتعا والتقينا ببعض الأصدقاء القدامى من الجانب الآخر من المحيط. مشكلتنا الكبرى هي أننا فقدناك مؤقتا.» «إليزابيث لا تخمن ...»
قاطعها البروفيسور: «طفلتي، لقد كنت مخلصا لك. وإذا علمت إليزابيث أنه كان بإمكاني إخبارها في أي لحظة بمكان وجودك بالضبط، فأعتقد أنها ستكون غاضبة مني أكثر من أي وقت مضى في حياتها» ثم أضاف: «وأنت تعلمين يا عزيزتي عندما تغضب إليزابيث، فالأمور لا تسير على ما يرام وتتحول للأسوأ. لكنني كنت أخرس. لم أتحدث، ولا أنوي التحدث.» ثم استدرك البروفيسور: «إلا أنك يجب ألا تظني يا بياتريس أنني بسبب إذعاني لأهوائك في هذا الأمر، فإنني أدرك أي سبب كاف يجعلك تنأين بنفسك طواعية عن أولئك الذين يتمتعون بحق وامتياز الاعتناء بك. يسعدني أن أرى أنك قادرة على أن تشقي طريقك في العالم. لقد حضرت مسرح أطلس، ويسعدني أن أرى أنك لم تفقدي أي شيء من مهاراتك القديمة في الغناء والرقص. أنت تتمتعين بشعبية كبيرة مستحقة هناك. وليس لدي شك في أنك قريبا، سوف تطمحين إلى أدوار أكثر أهمية.» وتابع البروفيسور، وهو ينتهي من كوب الكوكتيل الثاني: «ومع ذلك، يا طفلتي العزيزة، لا أرى أي سبب يجعل رغبتك الجديرة بالثناء في البقاء مستقلة تتعارض مع العيش تحت سقف أختك وفي حمايتي. أنا متأكد من أن السيد تافرنيك هنا، بفطرته البريطانية، سيتفق معي في أنه ليس من الجيد أن تعيش سيدة شابة ... ابنتي، يا سيدي ... التي تتمتع بمفاتن شخصية كبيرة، إذا جاز لي أن أقول ذلك، بمفردها أو تحت رعاية هؤلاء الشابات الأخريات في المسرح.»
قال تافرنيك: «أعتقد أن ابنتك لا بد تمتلك أسبابا وجيهة جدا لتفضيل العيش بمفردها.»
أكد له البروفيسور: «خيالية، يا سيدي العزيز ... خيالية تماما. السمان أخيرا! والشمبانيا! الآن هذا جمع صغير ممتع حقا. أشرب نخب تكراره. هذا حقا متعة بالنسبة إلي.» وقال مختتما قبل أن يضع كأسه الفارغة بامتنان: «بياتريس، لك حبي! سيد تافرنيك، لك أطيب تحياتي واحترامي! الكأس الوحيدة المتبقية، يا سيدي.»
قال تافرنيك: «بالعودة إلى ما قلته للتو، أنا أتفق معك تماما في مسألة عيش بياتريس بمفردها. وأنا أتوق جدا إلى أن تتزوجني.»
وضع البروفيسور سكينه وشوكته. بدا على مظهره تصنع التفكير العميق.
وأعلن: «سيدي، هذا في الواقع تصريح غاية في الأهمية. هل أعتبر ذلك عرضا جادا لطلب يد ابنتي؟»
مالت بياتريس ووضعت أصابعها على أصابعه.
وقالت: «أبي، لا يهم من فضلك. أنا لست على استعداد للزواج من السيد تافرنيك.»
جال البروفيسور بنظره من أحدهما إلى الآخر وسعل.
وتساءل: «هل موارد السيد تافرنيك كافية لتمكينه من الإقدام على الزواج؟»
أجاب تافرنيك: «ليس لدي أي نقود على الإطلاق لأتحدث عنها. هذا حقا ليس مهما. سأحصل في القريب العاجل على كل ما تستطيع ابنتك إنفاقه.»
فأعلن البروفيسور: «أنا أتفق مع ابنتي يا سيدي. يمكننا أن نترك هذا الموضوع حتى يحين الوقت الذي تحسن فيه وضعك. لذلك سنرفضه ... نرفضه على الفور. وسوف نتكلم ...»
قاطعته بياتريس: «أبي، دعنا نتحدث عنك. ألا تعتقد أنك ستكون أكثر رضا وسعادة إذا حاولت الترتيب للقليل ... القليل من العروض أو المحاضرات هنا، كما كنت تنوي في البداية؟ أعلم أنك لا بد تجد الفراغ التام عبئا عليك.»
ربما كان من قبيل المصادفة أن عينيها كانتا مثبتتين على الكأس التي كان البروفيسور يرفعها إلى شفتيه. فوضعها على الفور.
وقال بنبرة منخفضة: «طفلتي، أنا أفهمك.»
أصرت قائلة: «لا، لا، لم أقصد ذلك، لكنك دائما أفضل عندما تعمل.» وتابعت بحزن قليلا: «رجل مثلك، ينبغي ألا يضيع مواهبه.»
فتنهد.
واعترف: «ربما أنت على حق، يا طفلتي. سأذهب وأرى وكلائي غدا.» وتابع: «لقد رفضت حتى الآن كل العروض. لقد شعرت أن إليزابيث، رعاية إليزابيث في وضعها الخاص، تتطلب اهتمامي الكامل. ربما أنت على حق. ربما بالغت في تقدير ضرورة أن أكون دائما طوع بنانها.» واختتم حديثه قائلا: «إليزابيث امرأة ذكية جدا، ذكية جدا في الواقع.»
سألت بياتريس: «أين هي الآن يا أبي؟»
قال البروفيسور: «لقد سافرت بالسيارة إلى الريف في وقت مبكر من صباح اليوم مع بعض الأصدقاء.» وأوضح منتحيا قليلا عن تافرنيك: «لقد ذهبوا إلى حفلة الليلة الماضية مع والتر كريس، مراسل صحيفة «نيويورك جازيت» في لندن. وعادوا جميعا إلى المنزل في وقت متأخر جدا، كما فهمت، وشكت إليزابيث من صداع هذا الصباح. وأنا شخصيا يؤسفني أن أقول إنني لم أكن مستيقظا عندما غادروا.»
مالت بياتريس مقتربة للغاية من والدها.
وسألت: «هل رأيت أي أثر للرجل الذي يدعى بريتشارد؟»
أصبح البروفيسور فجأة متوترا. ووضع كأسه، فسكب نصف محتوياتها. واختلس نظرة سريعة إلى تافرنيك.
وصاح قائلا: «يا طفلتي، يجب أن تفكري في أعصابي! أنت تعرفين جيدا جدا أن الإشارة المفاجئة إلى أي شخص أكرهه بشدة تعد أمرا مؤذيا بالنسبة إلي. أنا مندهش منك يا بياتريس. فأنت تظهرين عدم مراعاة جديرة باللوم لضعفي.»
قالت هامسة: «أنا آسفة يا أبي، لكن هل هو هنا؟»
اعترف البروفيسور: «نعم.» وأضاف وقد اعترت وجهه الشاحب نظرة خوف: «بيني وبينك إنه يفسد راحة بالي بالكامل. إن وجوده الدائم يفسد متعتي بوسائل الراحة التي تستطيع إليزابيث توفيرها لي. نادرا ما يتكلم، ومع ذلك يبدو دائما أنه يراقب. أنا لا أثق به يا بياتريس. أنا قادر على الحكم على الرجال وأقول لك إنني لا أثق به.»
قالت بياتريس بنبرة منخفضة: «أتمنى أن ترحل إليزابيث بعيدا. بالطبع، ليس لدي الحق ... في قول هذه الأشياء. ربما لم يحدث شيء خطير على الإطلاق. ومع ذلك ... مع ذلك، من أجلها، لا أعتقد أنها يجب أن تبقى هنا في لندن في ظل وجود بريتشارد بالقرب منها.»
رفع البروفيسور كأسه بأصابع مرتعشة.
وقال: «إليزابيث تعرف ما هو الأفضل، أنا متأكد من أن إليزابيث تعرف ما هو الأفضل، لكنني أيضا بدأت أتمنى لو أنها رحلت بعيدا. الليلة الماضية التقينا به عند والتر كريس.»
مرة أخرى، استدار بعصبية نحو تافرنيك، الذي كان ينظر إلى وسط المطعم بوجه خال من التعبيرات. «حاولنا إقناعه بالرحيل. إنه حقا في موقف خطير هنا. أقسم جيمي بوست أنه لن يرسل إلى نيويورك، وهناك واحد أو اثنان آخران ... فريق يائس للغاية. حاولنا الليلة الماضية التفكير مع بريتشارد.»
همست: «ألم يجد ذلك نفعا ؟»
أجاب البروفيسور بنبرة جافة: «لم يجد على الإطلاق. ربما، لو لم نقاطع، لكنا أقنعناه.»
فقالت راجية: «أخبرني عما حدث.»
هز البروفيسور رأسه. واستمر تافرنيك في إظهار عدم اهتمامه بمحادثتهما.
اختتم البروفيسور حديثه قائلا: «ليس لك أن تعرفي شيئا يا عزيزتي. لقد اخترت بحكمة شديدة أن تبتعدي عن كل هذه الأمور. وإليزابيث تتمتع بشجاعة رائعة. أما أنا، فيؤسفني أن أقول إن أعصابي لم تعد كما كانت من قبل. أيها النادل، سآخذ كأسا كبيرة من مشروب البراندي المعتق.»
أحضر البراندي، لكن بدا أن البروفيسور تطارده الذكريات ولم يستعد روحه المعنوية المرتفعة بالكامل. ولم يسترد أسلوبه السابق جزئيا إلا بعد انخفاض الإضاءة ودفع تافرنيك للفاتورة.
قال وهم يقفون معا: «طفلتي العزيزة، لا أستطيع أن أخبرك مدى استمتاعي بهذا اللقاء القصير.»
أراحت أصابعها على كتفيه ونظرت إلى وجهه.
وقالت مناشدة إياه: «أبي، تعال إلي. أستطيع الاعتناء بك، إذا لم تمانع لمدة قصيرة أن تكون فقيرا. سوف تحصل على كل راتبي باستثناء ما يكفي فقط لملابسي، ويمكنني أن أرتدي أي شيء. سوف أحاول جاهدة أن أقدم لك كل وسائل الراحة.»
نظر إليها بنوع من الكرامة الجريحة.
وأجاب: «طفلتي، يجب ألا تتحدثي معي هكذا. إذا لم أكن أشعر أن واجبي يحتم علي البقاء مع إليزابيث، كنت سأصر على مجيئك إلي، وفي ظل تلك الظروف، سأكون أنا المسئول عن إعالتك، وليس أنت. لكن في الوقت الحالي لا يمكنني ترك أختك الكبرى تماما. إنها في حاجة إلي.»
ابتعدت بياتريس قليلا بحزن. ونزل الثلاثة الدرج.
قال البروفيسور: «سأترك صديقنا الشاب، السيد تافرنيك، ليرافقك إلى منزلك. أما أنا فسوف أتصل لمعرفة ما إذا كانت إليزابيث قد عادت. إذا لم تكن قد عادت بعد، فسوف أقضي ساعة أو ساعتين، على ما أعتقد، مع أصدقائي في نادي بلو روم. بياتريس، لقد سعدت بلقائك، سعدت سعادة أتمنى أن تتكرر قريبا.»
أخذ كلتا يديها. وابتسمت له محاولة إبداء السعادة.
وقالت: «ليلة سعيدة يا أبي!»
أضاف البروفيسور وهو يأخذ يد تافرنيك ويحتفظ بها في يده دقيقة، بينما ينظر بتأثر إلى وجهه: «ولك أيضا يا سيدي، ليلة سعيدة! لن أتحدث كثيرا، ولكنني سأقول هذا: لقد أحببت كل ما رأيته منك. عمت مساء!»
استدار ومشى بعيدا. راقبه كل من بياتريس وتافرنيك حتى اختفى. ثم، بتنهيدة، التقطت تنورتها بيدها اليمنى، وأخذت ذراع تافرنيك.
قالت: «هل تمانع في السير إلى المنزل؟ أشعر بصداع.»
نظر تافرنيك لحظة في شوق عبر الشارع نحو ميلان كورت. إلا أن يد بياتريس أحكمت الشد على ذراعه أكثر.
قالت بصراحة: «سأجعلك تصطحبني في كل خطوة على الطريق، حتى تتمكن من تحقيق أقصى استفادة منه. وبعد ذلك ...»
قاطعها قائلا: «ماذا عن بعد ذلك؟»
تابعت بحسم: «بعد ذلك، ستذهب إلى المنزل على الفور!»
الفصل الحادي والعشرون
نصيحة سديدة
استجابة لرسالة عاجلة إلى حد ما، دلف تافرنيك إلى مكتب محاميه بمجرد فتحه في الصباح التالي. استقبله الشريك الأصغر في الشركة، الذي اهتم به، وكان حريصا بالفعل على استثمار مبلغ صغير في شركة مارستون رايز بيلدينج كمباني، بحرارة ولكن مع بعض القلق.
قال: «انظر يا تافرنيك، اعتقدت أنه من الأفضل أن أكتب رسالة قصيرة وأطلب منك أن تحضر. لم تنس أن خيارنا في الشراء يستمر مدة ثلاثة أيام فقط، أليس كذلك؟»
أومأ تافرنيك برأسه.
وسأل: «حسنا، ماذا عن ذلك؟»
قال المحامي: «كل ما هنالك أنك يجب أن تفهم الوضع، الناس الذين كنت تعمل لديهم يتعقبوننا بحرص في هذا الأمر، ولن تكون هناك فرصة لأي تمديد ... ولا حتى لمدة ساعة. السيد داولينج قدم بالفعل عرضا أفضل بألف جنيه من عرضك؛ سمعت ذلك بالمصادفة بعد ظهر أمس؛ لذلك كن متأكدا من أنه في الثانية التي تنتهي فيها صلاحية الخيار الخاص بك قانونا، فسينتهي كل شيء بالنسبة إليك.»
قال تافرنيك: «حسن جدا، لكن ماذا عن قطع الأراضي التي تخصني بالفعل؟»
أوضح المحامي: «لديهم مخطط ما لقطع كل سبل التقدم على هذه الأراضي، وتركها بلا قيمة. كما ترى، سيتأثر الصرف والإضاءة بشكل كبير بمشتري الأرض بأكملها. فإذا حصل عليها داولينج، فإنه ينوي التعامل مع قطع الأراضي الخاصة بك بحيث تصبح عمليا عديمة القيمة. إنه بالأحرى شيء وضيع، ولكنه في النهاية رجل ضئيل وضيع.»
أومأ تافرنيك برأسه.
وقال: «حسنا، كنت قادما لرؤيتك، على أي حال، هذا الصباح، لأتحدث إليك عن المال.»
سأل المحامي بسرعة: «صديقك لم يتراجع؟»
رد تافرنيك: «لم يقل صديقي أي شيء عن التراجع بعد، ولكن حدثت ظروف خلال الأيام القليلة الماضية غيرت وجهات نظري فيما يتعلق بملاءمة العلاقات التجارية مع هذا الشخص. ليس لدي أي سبب لأفترض أن الأموال لن تأتي، ولكن إذا كان بإمكاني الحصول عليها من أي مصدر آخر، فأنا أفضل ذلك.»
نظر إليه المحامي نظرة خالية من التعبير.
وقال: «بالطبع، سأفعل ما بوسعي، إذا أردت، لكنني يجب أن أخبرك من هذه اللحظة أنني لا أعتقد أنني ستواتيني أي فرصة للحصول على المبلغ بالكامل.»
تساءل تافرنيك بروية: «هل أفترض أن شركتك لا تستطيع أن تفعل أي شيء؟»
أجاب المحامي: «يمكننا بالتأكيد أن نفعل شيئا على حساب وكلائنا. ربما ننجح في الحصول على ما يصل إلى خمسة آلاف جنيه. إلا أننا سنظل في حاجة إلى سبعة آلاف، وأكاد لا أعرف من أين يمكننا الحصول عليها.»
كان تافرنيك صامتا بضع لحظات.
فسأل المحامي: «لم تتشاجر مع صديقك، أليس كذلك؟»
أجاب تافرنيك: «بلى، لم يكن هناك شجار. لدي سبب آخر.»
نصحه صديقه قائلا: «لو كنت مكانك، كنت سأحاول أن أنساه. الحقيقة أنني كنت أشعر بالقلق إلى حد ما بشأن هذه المسألة. إنها صفقة كبيرة، كما تعلم، والربح مضمون مثل أرباح سندات دين الحكومة البريطانية الموحدة. وأنا أكره أن يدخل هذا الرجل الضئيل داولينج ويقتنصها.»
اعترف تافرنيك قائلا: «إنه استثمار جيد، وكما تقول، ليس هناك أدنى مخاطرة. لهذا السبب كنت أتمنى أن تكون قادرا على الحصول عليه دون أن أضطر إلى الاتصال بصديقي.»
هز السيد مارتن رأسه. «ليس من السهل إقناع الآخرين. على أي حال، لا أريد أن تضيع الفرصة. إذا كنت ستأخذ بنصيحتي، فستذهب وتتصل بصديقك في الحال، وتعرف بالضبط كيف تسير الأمور. إذا كان كل شيء على ما يرام ويمكنك حثه على إعطائك النقود قبل بضع ساعات من آخر ميعاد، فأنا أعترف أن هذا سيزيل عبئا كبيرا عن كاهلي. فأنا لا أحب الأشياء التي يجب أن تنتهي في آخر لحظة ممكنة.»
وافق تافرنيك قائلا: «حسنا، علي أن أجرب ما يمكنني فعله، إذن. أعتقد أنه لا يوجد شيء آخر جديد، أليس كذلك؟»
أجاب المحامي: «لا شيء. عد، إذا أمكنك القيام بأي إجراء محدد، أو اتصل بي. الأمر يزعجني قليلا حقا. لا أريد أن يتسلل الآخرون الآن ...»
بدلا من أن يطيع تافرنيك دافعه الأول ويتوجه مباشرة إلى ميلان كورت، سار إلى الشقة في كينجسواي، وصعد الدرجات الحجرية، وطلب مقابلة بياتريس. قابلته على باب منزلها، بكامل ملابسها.
صاحت مندهشة: «عزيزي ليونارد! يا لها من زيارة مبكرة!»
قال: «أريد أن أتحدث معك قليلا. أيمكنك أن تمنحيني خمس دقائق؟»
أجابت: «يجب أن تمشي معي إلى المسرح، كنت على وشك الذهاب الآن لعمل بروفة.»
نزلا الدرج معا.
قال تافرنيك: «لدي شيء لأخبرك به، شيء لن ترغبي في سماعه.»
كررت بخوف: «شيء لن أرغب في سماعه. استمر يا ليونارد. لا يمكن أن يكون أسوأ مما يبدو.»
استأنف قائلا: «لا أعرف لماذا أتيت لأخبرك. لم أرد ذلك قط. خطر في بالي فجأة وشعرت أنه يجب علي ذلك. الأمر يتعلق بأختك ومشروع مارستون رايز.»
صاحت بياتريس غير مصدقة: «أختي ومشروع مارستون رايز!»
ثم أضاءت فكرة في عقلها فجأة. فتوقفت فجأة وأمسكت بيده.
وصاحت: «أنت لا تقصد أن إليزابيث هي التي كانت ستعثر لك على المال، أليس كذلك؟»
أجاب: «أقصد ذلك. عرضته من تلقاء نفسها. لا أعرف لماذا تحدثت معها عن أموري الخاصة، لكنها قادتني إلى الحديث عنها.» وتابع خافضا صوته: «أختك امرأة جميلة. لا أعرف لماذا، لكنها جعلتني أتحدث كما لم يجعلني أحد أتحدث من قبل. كان علي ببساطة أن أخبرها بأشياء. ثم، عندما انتهيت، أطلعتني على دفاترها المصرفية واقترحت استثمار بعض أموالها في مارستون رايز.»
أصرت بياتريس: «لكن هل تقصد أن تخبرني أنك تعتمد على مالها في عملية الشراء هذه؟»
أومأ تافرنيك برأسه.
أوضح قائلا: «كما ترين، السيد داولينج فاجأنا قبل أن أكون مستعدا. وبمجرد علمه ذهب إلى أصحاب الأرض وقدم لهم عرضا عليها. وكانت النتيجة أنهم قاموا بتقصير مدة خياري ومنحوني فرصة ضئيلة للغاية للعثور على المال. وعندما عرضته أختك، بدا الأمر بالتأكيد ضربة حظ رائعة. يمكنني أن أعطيها ثمانية أو عشرة في المائة، في حين أنها لن تحصل إلا على أربعة في المائة في أي مكان آخر، وسوف أحقق ربحا لنفسي يزيد عن عشرة آلاف جنيه، وهو ما لا يمكنني تحقيقه ما لم أجد المال لشراء الأرض.»
صاحت بياتريس وهي تمشي بسرعة كبيرة وتنظر أمامها مباشرة: «لكن يجب ألا تلمس هذا المال، يجب ألا يكون لك أي علاقة به! أنت لا تفهم. وكيف تفهم؟»
سأل تافرنيك، بعد برهة: «هل تقصدين أن المال مسروق؟»
ردت بياتريس: «لا، ليس مسروقا، ولكنه أتى ... أوه! لا أستطيع أن أخبرك، فقط إليزابيث ليس لها الحق فيه. أختي أنا! هذا فظيع جدا!» «هل تعتقدين أنها حصلت على هذا المال بطريقة غير شريفة؟»
تمتمت بياتريس: «لست متأكدة. هناك أشياء أسوأ وأفظع حتى من السرقة.»
كان الجانب العملي لطبيعة تافرنيك بارزا إلى حد كبير ذلك الصباح. وبدأ يتساءل عما إذا كانت النساء، رغم كل شيء، ورغم كونهن مخلوقات غريبة ورائعة، قادرات على الحكم على نحو يمكن الاعتماد عليه ... وعما إذا كن يتأثرن كثيرا بالعواطف.
قال: «بياتريس، يجب أن تفهمي هذا. ليس لدي وقت للحصول على المال من مكان آخر. إذا لم أحصل عليه من أختك، على افتراض أنها لا تزال على استعداد للسماح لي بالحصول عليه، فقد ضاعت فرصتي. وسأضطر إلى العمل موظفا في مكتب شخص آخر ... وفي الغالب لن أحصل على مكانة كتلك التي حصلت عليها في داولينج آند سبينس. من ناحية أخرى، فإن استخدام هذا المال لمدة قصيرة جدا سيكون بداية مسيرتي المهنية. كل ما تقولينه غامض جدا. لماذا أحتاج إلى معرفة أي شيء عنه؟ لقد قابلت أختك عن طريق العمل العادي وقد قدمت لي عرض عمل عاديا، ومن خلاله ستستفيد بشكل كبير جدا. لم أفكر مطلقا في إخبارك بهذا الأمر، ولكن عندما حان الوقت كرهت أن أذهب وأحصل على هذا المال من أختك دون أن أقول لك أي شيء. لذلك جئت هذا الصباح، لكني أريدك، إذا أمكنك ذلك، أن تنظري إلى الأمر من وجهة نظري.»
كانت صامتة عدة لحظات. ثم نظرت إليه بفضول.
وسألت: «ماذا عساه بحق السماء يجعل أختي تقدم هذا العرض لك؟ إنها ليست حمقاء. وهي لا تثق عادة في الغرباء.»
أجاب تافرنيك: «لقد وثقت بي، على ما يبدو.»
سألت بياتريس: «هل يمكنك أن تفهم لماذا؟»
أجاب: «أعتقد أنني أفهم. إذا كان يمكن للمرء الاعتماد على إدراكه الحسي، فهي محاطة بأشخاص قد تجدهم رفقاء مسلين ولكنها نادرا ما تستطيع أن تثق بهم. ربما أدركت أنني لست مثلهم.»
قالت وكأنها تحدث نفسها بقدر ما تحدثه: «وأنت تريد أخذ هذا المال بشدة؟»
اعترف تافرنيك: «أريد حقا أن آخذه. كنت في طريقي لرؤيتها هذا الصباح ولأطلب منها أن تسمح لي بالحصول عليه قبل الوقت المحدد بيوم أو يومين، ولكنني شعرت، بطريقة ما، أن هناك قدرا معينا من الخداع في ذهابي إليها وأخذ هذا المال دون أن أخبرك بأي شيء. شعرت أنني يجب أن آتي إلى هنا أولا. ولكن يا بياتريس، لا تطلبي مني الاستغناء عن هذا المال. فهذا يعني أن أضيع وقتا طويلا قبل أن أستطيع التحرك مرة أخرى. إنها الخطوة الأولى التي تكون صعبة للغاية، وأنا يجب ... يجب أن أنطلق. وهذه فرصة رائعة. قضيت ساعات كثيرة جدا في التفكير فيها. وخططت وعملت وصممت كل شيء كما لا يستطيع أحد أن يفعل. يجب أن أحصل على ذلك المال.»
سارا في صمت حتى وصلا إلى باب المسرح. كانت بياتريس تفكر في رفيقها كما رأته كثيرا، مستغرقا في خططه، مشغولا بالمسطرة والممحاة، تستحوذ عليه مصلحة مهمته. تذكرت المرة الأولى التي تحدث فيها حول مخططه هذا ، وكيف تغير وجهه بالكامل، والاهتمام العاطفي تقريبا الذي تعامل به مع المشروع حتى في أدق تفاصيله. لقد أدركت مدى عظم الجزء الذي يحتله هذا المشروع في حياته، ويا لها من ضربة مروعة عليه أن يتلقاها إذا ما اضطر إلى التنازل عنه. استدارت وواجهته.
قالت: «ليونارد، ربما تكون، رغم كل شيء، على حق. ربما أعطي قيمة أكبر بكثير لما يعد، في النهاية، مجرد شعور عاطفي. أنا ممتنة لأنك أتيت وأخبرتني؛ سأكون دائما شاكرة لذلك. خذ المال، ولكن سدده بأسرع ما يمكن.»
أجاب: «سأفعل ذلك. أعدك بأن أفعل ذلك.»
وضعت يدها على ذراعه.
وناشدته قائلة: «ليونارد، أعلم أن إليزابيث جميلة جدا ورائعة للغاية، ولا أتساءل أنك تحب الذهاب لرؤيتها، لكني أريد أن أطلب منك أن تعدني بشيء واحد.»
شعر وكأنه تحول فجأة إلى حجر. ليس من الممكن ... حقا لا يمكنها أن تكون قد خمنت سره!
تساءل: «وما هو؟»
استأنفت قائلة: «لا تدعها تعرفك إلى أصدقائها؛ لا تقض الكثير من الوقت هناك. إليزابيث أختي وأنا لا أريد ... أنا حقا لا أريد أن أقول أي شيء لا يبدو لطيفا، لكن أصدقاءها لا يليق بك أن تتعرف إليهم، وإليزابيث ... حسنا، ليس لديها قلب.»
كان صامتا عدة لحظات.
ثم سأل فجأة: «كيف عرفت أنني أحب الذهاب لرؤية أختك؟»
ابتسمت.
وقالت: «عزيزي ليونارد، أنت لست ماهرا جدا في إخفاء مشاعرك. عندما أتيت لرؤيتي في ذلك اليوم، هل تتصور أنني اعتقدت لحظة أنك طلبت الزواج مني ببساطة لأنك تحبني؟ أعتقد يا ليونارد أن ذلك كان لأنك كنت خائفا، كنت خائفا من دخول شيء إلى حياتك بهذه الضخامة، شيء مرعب إلى هذه الدرجة، لدرجة أنك كنت على استعداد للتشبث بأسهل فرصة للأمان.»
صاح: «بياتريس، هذا سخيف!»
هزت رأسها.
وصرحت: «لا ليس سخيفا. هل تعلم يا عزيزي ليونارد، ما الذي جذبني إليك من البداية؟»
أجاب: «لا.»
فتابعت: «لقد كان صدقك. هل تتذكر تلك الليلة على سطح فندق بلينهايم هاوس؟ كنت ستكذب لصالحي، وأنا أعلم كم كرهت ذلك. أنت تحب الصدق ، أنت صادق بطبيعتك؛ وأنا سأعتمد عليك أينما كنت. أعلم أنك ستحافظ على كلمتك، أعلم أنك ستكون صادقا. تحب المرأة أن تشعر بذلك تجاه الرجل - إنها تحب ذلك - ولا أريدك أن تقترب من الأشخاص الذين يسخرون من الصدق وكل الأشياء الجيدة. لا أريدك أن تسمع وجهة نظرهم. قد تكون بسيطا وعاديا في بعض النواحي؛ وأريدك أن تبقى كما أنت. هل تفهم؟»
رد تافرنيك بجدية: «أنا أفهم.»
صاح أحد السعاة باسمها أسفل الممر الحجري. فربتت على كتفه واستدارت مبتعدة.
وقالت: «أسرع الآن واحصل على المال. تعال لتراني عندما ينتهي كل شيء.»
تركها تافرنيك وهو يتنفس الصعداء وشق طريقه نحو شارع ستراند. في زاوية شارع ويلينجتون التقى بريتشارد وجها لوجه. توقفا في الحال. بدا أن ثمة شيئا محرجا بشأن هذا اللقاء. ربت بريتشارد على كتفه بألفة.
وسأله: «كيف حالك أيها الرجل العجوز؟»
أجاب تافرنيك بارتباك: «أنا بخير. كيف حالك؟»
صرح بريتشارد: «أعتقد أنني سأكون أفضل عندما نتناول مشروبا. تعال معي. لقد أحسنا صنعا تلك الليلة، أليس كذلك؟ سندخل حانة أمريكان بار هنا ونحتسي مشروب الجين الغازي.»
وفي الحال وجدا نفسيهما جالسين على كرسيين مرتفعين في ركن خال من الحانة التي شق بريتشارد الطريق إليها. احتسى تافرنيك شرابه بروية.
وقال: «أود أن أطرح عليك سؤالا أو اثنين حول ليلة الأربعاء.»
أومأ بريتشارد برأسه.
وشجعه قائلا: «فلتتفضل.»
قال تافرنيك: «يبدو أنك تأخذ الأمر برمته على أنه نوع من المزاح.»
فسأل المحقق مبتسما: «حسنا، أليس هذا ما كان عليه؟»
هز تافرنيك كتفيه.
وصاح قائلا: «لم يبد لي الأمر مزاحا على الإطلاق!»
ضحك بريتشارد بسعادة.
وقال: «أنت لست معتادا على الأمريكيين، يا صديقي الشاب. هنا في هذا الجانب، أنتم جميعا حرفيون بشكل مخيف. أنت لا تفترض بجدية أنهم قصدوا أن يعطوني هذا العقار في تلك الليلة، أليس كذلك؟»
فصرح تافرنيك بروية: «لم أعتقد قط أنه كان هناك أي شك حول ذلك.»
مسد بريتشارد شاربه مفكرا.
وقال: «حسنا، أنت ساذج بالتأكيد، ومع ذلك لا أعرف لم لا تكون كذلك. الأمريكيون يميلون دائما إلى مثل هذه الألعاب. لا أقول إنهم لم يقصدوا إخافتي، إذا استطاعوا، أو إنهم لم يكن يسعدهم أن يستخلصوا مني بعض المعلومات، أو ورقة أو اثنتين من الأوراق التي أحتفظ بها في مأمن. عندئذ كان سيحق لهم المزاح حقا. ولكن بالنسبة إلى البقية، بالنسبة إلى محاولة إجباري على أخذ هذا العقار، كان هذا كلاما فارغا بالطبع.»
جلس تافرنيك في كرسيه ساكنا تماما عدة دقائق.
ثم سأل: «هل ستأخذ شراب جين غازيا آخر يا سيد بريتشارد؟» «لم لا؟»
طلب تافرنيك كأسا أخرى من الشراب. وجلس على كرسيه وهو يصفر لنفسه.
ثم قال أخيرا: «إذن فأنا أفترض، أنني بدوت كالأحمق وأنا أخترق الحائط مثل المجنون.»
هز بريتشارد رأسه.
وأجاب: «لقد بدوت كما أنت في الحقيقة، بدوت شخصا جسورا. أنا لا أزعم أن كل هذا كان مجرد تظاهر. لا يمكنك أن تثق في تلك العصابة. كان ذلك الوغد في الخارج جادا على أي حال. ورغم كل شيء، كما تعلم، لم يكونوا ليتركوني إذا انسحبت أنت بهدوء. فليس هناك شخص آخر يخشونه بالقدر نفسه. وليس هناك شخص آخر يعرف هذا القدر من المعلومات عنهم.»
أعلن تافرنيك: «حسنا، سوف نترك الأمر عند هذا الحد. على الرغم من ذلك، فأنت تعرف الكثير عن كل هؤلاء الأشخاص؛ ولذا أتمنى أن تخبرني شيئا أرغب في معرفته كثيرا.»
رد المحقق بسرعة: «إنني أعرف كل ما أعرف؛ لأنني لا أقول أي شيء. واحد كوكتيل فقط، أليس كذلك؟»
هز تافرنيك رأسه.
وقال: «لقد شربت أول كوكتيل لي الليلة الماضية. تناولت العشاء مع البروفيسور وابنته.»
سأل بريتشارد بسرعة: «ليس إليزابيث؟»
هز تافرنيك رأسه.
وأجاب: «مع الآنسة بياتريس.»
وضع بريتشارد كأسه.
وتساءل: «قل لي يا تافرنيك، أنت على علاقة طيبة مع تلك الشابة، الآنسة بياتريس، أليس كذلك؟»
أجاب تافرنيك: «بالتأكيد. أنا أكن لها احتراما كبيرا.»
تابع بريتشارد بجدية: «إذن، فأنا أستطيع أن أخبرك كيف تسدي لها صنيعا. انأ بها عن ذلك الوغد العجوز. انأ بها عن كل هذه العصابة . صدقني إنها تبحث عن المتاعب بمجرد حديثها إليهم.»
اعترض تافرنيك قائلا: «لكن هذا الرجل العجوز هو والدها، ويبدو أنه يحبها حبا جما.»
استطرد بريتشارد: «لا تصدق ذلك. إنه لا يحب إلا نفسه والحياة الميسرة. ضع في اعتبارك أنه عاطفي، ولديه الكثير من المشاعر، وأنه سيعصر عيناه لتذرف الدمع، وكل هذه الأشياء، لكنه سيبيع روحه، أو روح ابنته، مقابل القليل من وسائل الراحة الإضافية. الآن لا تعرف إليزابيث مكان أختها بالضبط، ولا تجرؤ على أن تبدي قلقها، أو على البحث عنها والاستفسار عن مكانها. ولدى بياتريس الفرصة للابتعاد، ويمكنني أن أخبرك أنه سيكون من الأفضل بكثير لها أن تفعل ذلك.»
قال تافرنيك مصرحا: «حسنا، أنا لا أفهم ذلك على الإطلاق. أنا أكره الألغاز.»
وضع بريتشارد كأسه الفارغة.
وقال: «انظر، هذه القضية أخطر من أن نتحدث عنها وكأننا نثرثر. لقد حذرتك، وإذا كنت حكيما فسوف تتذكر هذا التحذير.»
قال تافرنيك مصرا: «قل لي هذا الشيء فقط. قل لي ما هو سبب الشجار بين الأختين؟ ألا يمكن القيام بشيء للجمع بينهما مرة أخرى؟»
هز بريتشارد رأسه.
وأجاب: «لا شيء. وفقا للوضع الحالي، من الأفضل أن يظلا منفصلتين. هلا نخرج؟»
تبعه تافرنيك إلى خارج المكان. أمسك بريتشارد بذراعه وهو يستدير نحو شارع ستراند.
قال: «صديقي الشاب، سأسديك نصيحة. يقول الكتاب المقدس إنك لا تستطيع أن تخدم الله والمال. أعد صياغة ذلك وفقا للموقف الحالي وتذكر أنه لا يمكنك خدمة إليزابيث وبياتريس في الوقت نفسه.»
سأل تافرنيك: «وماذا بعد؟»
انتظر المحقق حتى أشعل السيجار الأسود الطويل بين أسنانه.
ثم قال: «أعتقد أن من الأفضل أن تقصر انتباهك على بياتريس.»
الفصل الثاني والعشرون
عشاء مع إليزابيث
كان ما تبقى من ذلك اليوم بالنسبة إلى تافرنيك وقتا من القلق المحموم. فقد تلقى برقيتين من السيد مارتن، محاميه، وكان هو نفسه أكثر اضطرابا مما يقر ويبدي. في الساعة الثالثة بعد الظهر، وفي الساعة الثامنة مساء، ومرة أخرى في الساعة الحادية عشرة مساء، قدم نفسه في ميلان كورت، مستفسرا عن الشخص نفسه. وفي المرة الأخيرة، أنبأه الحاجب بأخبار سعيدة.
أعلن قائلا: «السيدة وينهام جاردنر عادت من الريف منذ ساعة يا سيدي. أستطيع إرسال اسمك الآن، إذا كنت ترغب في رؤيتها.»
أدرك تافرنيك شعوره بالارتياح الشديد. بالطبع، كان يعلم أنها لن ترحل إلى الأبد حقا، لكن غيابها، لا سيما بعد ما حدث في تلك الليلة، كان مقلقا بعض الشيء.
قال: «اسمي تافرنيك. لا أرغب في التطفل في مثل هذه الساعة، ولكن إذا كانت تستطيع أن تقابلني لحظة، فسيسعدني ذلك.»
جلس وانتظر بصبر. سرعان ما وصلت رسالة مفادها أن السيد تافرنيك يستطيع أن يصعد. استخدم المصعد ثم طرق باب جناحها. ففتحته خادمتها على مضض. ولم تبذل أي جهد لإخفاء امتعاضها من هذا الشاب ... لكونه عاديا جدا، وغير متأنق على الإطلاق. لم تستطع أن تتخيل لماذا قد تضيع السيدة وقتها مع مثل هذا الشخص!
قالت له: «السيدة جاردنر سوف تراك على الفور. إنها ترتدي ملابسها الآن للخروج لتناول العشاء. ستمنحك بضع ثوان فقط.»
بقي تافرنيك وحده في غرفة الجلوس الصغيرة الفاخرة مدة عشر دقائق تقريبا. ثم انفتح باب الغرفة الداخلية وظهرت إليزابيث. نهض تافرنيك ببطء واقفا على قدميه، ونظر إليها بإعجاب مقاوم لكنه مفتون. كانت ترتدي ثوبا عاجيا من الساتان، بدون زخرفة أو دانتيل من أي نوع، ثوبا بدا له وكأنه معجزة في ملاءمته لها. كانت حليتها الوحيدة عبارة عن حزام طويل من اللؤلؤ وتاج صغير. لم يسبق لتافرنيك مطلقا أن يكون على اتصال وثيق بامرأة كهذه.
كانت ترتدي قفازاتها عندما دخلت وأعطته يدها اليسرى.
صاحت: «يا لك من شخص استثنائي، يا سيد تافرنيك! يبدو أنك حقا تحضر في أكثر الأوقات إدهاشا.»
قال: «أنا آسف جدا لأنني تطفلت عليك الليلة.» ثم أضاف بهدوء بارد: «أما فيما يتعلق بالمرة الأخيرة التي التقينا فيها، التي ظهرت فيها على نحو مفاجئ، فأنا لن أعتذر عنها بأي شكل.»
ضحكت بنعومة. كانت تنظر في عينيه، إلا أنه لم يستطع أن يحدد إن كانت غاضبة منه أم مستمتعة فقط.
قالت: «كنت ميلودراميا نوعا ما، أليس كذلك؟ إلا أنك كنت جادا جدا، ويغفر المرء الكثير لأي شخص جاد حقا. ماذا تريد مني الآن؟ كنت على وشك النزول لتناول العشاء.»
أجاب تافرنيك: «إنها مسألة عمل. لدي صديق هو شريك معي في صفقة بناء مارستون رايز، وهو قلق لأن هناك شخصا آخر في المجال يرغب في شراء الأرض، وبعد غد هي فرصتنا الأخيرة لدفع المال.»
نظرت إليه كما لو كانت في حيرة. «أي مال؟»
ذكرها قائلا: «المال الذي وافقت على إقراضي إياه، أو بالأحرى استثماره في شركة البناء الخاصة بنا.»
أومأت برأسها. «بكل تأكيد! عجبا، لقد نسيت كل شيء عنه في الوقت الحالي. سوف تعطيني فائدة بنسبة 10 في المائة أو شيئا هائلا من هذا القبيل، أليس كذلك؟ حسنا، ماذا عنه؟ أنت لا تريد أن تأخذه معك الآن، على ما أعتقد؟»
أجاب: «كلا، ليس الأمر كذلك. لأكون صادقا معك، جئت لأتأكد من أنك لم تغيري رأيك.» «ولماذا أغير رأيي؟»
قال: «قد تكونين غاضبة مني، بسبب تدخلي في شئونك في تلك الليلة.»
قالت بلا مبالاة: «ربما أكون كذلك.»
فسألها: «هل ترغبين في التراجع عن وعدك؟»
أجابت بلا مبالاة: «لم أفكر كثيرا في الأمر حقا. بالمناسبة، هل رأيت بياتريس مؤخرا؟»
ذكرها قائلا: «أعتقد أننا اتفقنا على أننا لن نتحدث عن أختك.»
نظرت إليه من فوق كتفها.
وقالت: «لا أتذكر أنني اتفقت على أي شيء من هذا القبيل. أعتقد أنك أنت من وضع هذه القاعدة. وفي واقع الأمر، أعتقد أن صمتك بشأنها أمر قاس للغاية. أظن أنك رأيتها؟»
أقر تافرنيك: «نعم، لقد رأيتها.»
سألت إليزابيث: «ألا تزال تشعر بالأسى كلما ذكر اسمي؟»
رد تافرنيك على مضض: «لم أكن لأسميه أسى. على الرغم من ذلك، فأغلب الظن أن شيئا ما حدث بينكما قبل أن تغادر، وكان هذا الشيء خطيرا.»
نظرت إليه بجدية.
وقالت: «أنت حقا شاب غريب، عنيد.» ثم واصلت وهي تبتسم في وجهه: «ترى، هل وقعت في حب أختي؟»
لم يعط تافرنيك أي رد فوري ، إلا أن شيئا ومض في عينيه لحظة مما حيرها.
فسألته: «لماذا تنظر إلي هكذا؟ أأنت غاضب مني لأنني سألت؟»
وأجاب: «لا، أنا لست غاضبا. ليس الأمر هكذا. ولكن كان يجب أن تعرفي ... كان يجب أن تري!»
وعندئذ رأت بالفعل أنه كان يرزح تحت عبء عاطفة جياشة. فمالت نحوه وهي تضحك بنعومة.
وتمتمت قائلة: «ها قد بدأت تصبح مثيرا للاهتمام. أخبرني ... أخبرني كل شيء.»
أعلن تافرنيك بقوة: «لا أعرف ما هو الحب! لا أعرف معنى أن يقع الإنسان في الحب!»
ضحكت مرة أخرى في وجهه.
وقالت هامسة: «هل أنت واثق في هذا؟»
رأت الأوردة تنتفخ في صدغه، وراقبت العاطفة التي عقدت لسانه في البداية.
وتمتم: «واثق! ومن يمكنه أن يثق عندما تبدين بهذا الشكل!»
مد ذراعيه نحوها. فتراجعت مبتعدة عنه بحركة سريعة للخلف، واتكأت على الطاولة.
وضحكت وهي تقول: «يا لك من صهر مستقبلي! وا حسرتاه على الرصانة والاحترام! صارم للغاية! عزيزي السيد تافرنيك، أتمنى لك السعادة. في الحقيقة، أنت وبياتريس مناسبان تماما أحدكما للآخر.»
رن جرس الهاتف. فتحركت ووضعت سماعة الهاتف على أذنها. تغير وجهها. وبعد الكلمات القليلة الأولى التي استمعت إليها اسود وجهها غضبا.
صاحت مستفسرة: «أتقصد أن تقول إن البروفيسور فرانكلين لم يعد منذ الغداء؟ لقد تركت رسالة مفادها أنني أريده أن يأتي لي الليلة. وهل الميجور بوست موجود، إذن؟ لا؟ وماذا عن السيد كريس ... غير موجود أيضا؟ ولا السيد فولكس؟ لا أحد منهم! حسنا، اتصل بي مباشرة فور أن يأتي البروفيسور، أو أي منهم.»
وضعت السماعة وقد بدا عليها الانزعاج. وفوجئ تافرنيك بالتغيير في تعبيرات وجهها. كانت الابتسامة قد اختفت، وباختفائها ظهرت خطوط تحت عينيها وحول فمها. ودلفت إلى غرفة نومها دون أن تنبس بكلمة معه. وكان تافرنيك قد بدأ يتساءل عما إذا كان يجب أن ينسحب، عندما عادت مرة أخرى.
قالت: «اسمع يا سيد تافرنيك، كم يبعد منزلك؟»
أجاب: «إنه في تشيلسي، على بعد نحو ميلين ونصف الميل.»
ردت بلهجة آمرة: «استقل سيارة أجرة واذهب إلى هناك، أو انتظر. ستجد سيارتي بالخارج. سأتصل بالهاتف لأقول إنك ستأخذها. بدل ملابسك إلى ثياب تصلح للمساء وعد إلي مرة أخرى. أريدك أن تصحبني لتناول العشاء بالخارج.»
نظر إليها بذهول. فدبت بقدمها على الأرض.
وأمرته: «لا تقف هكذا مترددا! افعل كما أقول! لا تتوقع أنني سأساعدك على شراء هذه الأراضي البائسة إذا رفضت لي أبسط الخدمات، أقول لك أسرع! أسرع!»
قاطعها تافرنيك قائلا: «أنا آسف حقا، لكني لا أمتلك بدلة تصلح للسهرة. كنت سأذهب بكل سرور، لكن ليس لدي مثل هذا الشيء.»
نظرت إليه لحظة غير مصدقة. ثم انفجرت في نوبة من الضحك لا يمكن السيطرة عليها. وجلست على حافة الأريكة وهي تمسح عينيها المبللتين بالدموع.
صاحت: «أوه، أنت غريب، أنت شخص رائع! تريد أن تشتري أراضي وتريد أن تقترض اثني عشر ألف جنيه، وتعرف أين توجد بياتريس ولا تريد أن تخبرني، وأنت مقتنع تماما، لأنك اقتحمت منزلا مخترقا الحائط، بأنك أنقذت بريتشارد المسكين من السم، وأنت لا تمتلك بدلة رسمية! لا بأس إذن، لا تهتم بمسألة البدلة. ستصحبني للخارج كما أنت.»
تحسس تافرنيك جيوبه وتذكر أنه لم يكن معه سوى ثلاثين شلنا.
قالت بلا مبالاة: «هاك، احمل حقيبتي. وسننزل معا إلى المطعم الأصغر. فأنا كنت على سفر منذ الساعة السادسة، وأتضور جوعا.»
قال تافرنيك معترضا: «ولكن ماذا عن ملابسي؟ هل ستكون مناسبة؟»
أجابت: «لا بأس بها في المكان الذي سنذهب إليه. أنت تبدو رائعا كما أنت. تعال ودعني أصحح وضعية ربطة عنقك.»
اقتربت منه وعبثت بأصابعها في ربطة عنقه لحظة. كانت قريبة جدا منه وضحكت عمدا في وجهه. فتماسك تافرنيك إلى أقصى درجة وشعر بالحمق. كما شعر بسعادة سخيفة.
قالت عندما ضبطتها بالشكل الذي يرضيها: «ها هي، أنت تبدو جيدا الآن.» وأضافت، وكأنها تحدث نفسها: «ترى، كيف تبدو حقا. أعتقد أنك تبدو اجتماعيا ومفعما بالقوة. لا عليك، ساعدني في ارتداء عباءتي وتعال معي. تبدو مرافقا غاية في الاحترام، ومفيدا جدا أيضا.»
على الرغم من أن تافرنيك كان اسميا المضيف ، إلا أن إليزابيث هي التي اختارت المنضدة وطلبت العشاء. كان هناك عدد قليل جدا من الزبائن الآخرين في المكان، حيث كانت الأكثرية في المطعم الأكبر، ولكن من بين هؤلاء القلائل، لاحظ تافرنيك فتاتين من الجوقة الخاصة بمسرح أطلس. اختارت إليزابيث منضدة تستطيع منها مراقبة الباب، واحتلت المقعد المواجه له. وشعر تافرنيك من البداية يقينا أنها كانت تراقب وصول شخص ما.
قالت بإلحاح: «والآن حدثني، من فضلك، عن هذا الاستثمار. أود أن أعرف كل شيء عنه، وما إذا كنت متأكدا من أنني سأحصل على عشرة في المائة فائدة على أموالي.»
لم يتردد تافرنيك لحظة. فقد كان هذا الموضوع آمنا للحديث فيه، وكان لديه الكثير ليقوله بشأنه. لكنها أوقفته بعد برهة.
وقالت: «حسنا، لقد اكتشفت على أي حال موضوعا يمكنك أن تتحدث فيه بطلاقة. الآن، رجاء لقد سئمت من بناء العقارات، وبناء المنازل. أود أن أسمع القليل عن بياتريس.»
لم يحر تافرنيك جوابا وكأنه قد فقد القدرة على النطق.
ثم قال: «لا أريد أن أتحدث عن بياتريس، حتى أفهم سبب هذه القطيعة بينكما.»
استعرت نيران الغضب في عينيها وبدت ضحكتها مضطربة.
واحتجت قائلة: «ولا حتى الحديث عنها! أنت بالكاد ترد لي الثقة التي أضعها فيك يا صديقي العزيز!» «أتقصدين المال؟»
واصلت قائلة: «بالضبط. أنا أثق بك، لا أعرف السبب ... أعتقد ربما لأنني أمتلك هبة الفراسة ... بالإضافة إلى اثني عشر ألف جنيه من مدخراتي التي اكتسبتها بشق الأنفس. وأنت ترفض أن تثق بإعطائي بعض التفاصيل البسيطة عن حياة أختي. حسنا، لا أعتقد أن الأمور كما ينبغي أن تكون بيننا.»
سألها تافرنيك: «هل تعرفين أين قابلت أختك لأول مرة؟»
هزت رأسها بفتور. «وكيف لي أن أعرف؟ لم تخبرني بشيء.»
تابع تافرنيك كلامه قائلا: «كانت تقيم في نزل صغير كنت أعيش فيه. أعتقد أنني أخبرتك بذلك ولكني لم أخبرك بأي شيء آخر. كان نزلا رخيصا، لكن لم يكن لديها ما يكفي من المال لدفع ثمن وجباتها. وكانت قد سئمت الحياة. وأضحت في حالة يأس تامة .»
قالت إليزابيث مستفسرة: «هل تحاول أن تخبرني، أو بالأحرى تحاول ألا تخبرني، بأن بياتريس كانت قد فقدت عقلها بما يكفي للتفكير في الانتحار؟»
أجاب بجدية: «كانت في حالة ذهنية تؤهلها لأن تفعل ذلك عندما كانت هذه الخطوة ممكنة. هل تتذكرين تلك الليلة عندما رأيتك أول مرة في الصيدلية في الجهة المقابلة من الشارع؟ كانت مريضة جدا ذلك المساء، مريضة جدا حقا. كان بإمكانك أن تري بنفسك تأثير مقابلتك عليها.»
أومأت إليزابيث برأسها، وسحقت قطعة صغيرة من الخبز بين أصابعها. ثم مالت على المنضدة نحو تافرنيك. «بدت مرعوبة، أليس كذلك؟ سارعت بك بعيدا ... بدت خائفة.»
اعترف قائلا: «كان ذلك ملحوظا للغاية. كانت مرعوبة. لقد جرتني إلى خارج المكان. وبعد بضع دقائق غابت عن الوعي في سيارة الأجرة.»
ابتسمت إليزابيث.
وقالت: «كانت بياتريس دائما شديدة الحساسية. وأي صدمة مفاجئة كانت تفقدها أعصابها تماما. هل أنت خائف مني أيضا يا سيد تافرنيك؟»
أجاب بصراحة: «لا أعرف. أحيانا أعتقد أنني كذلك.»
ضحكت برقة.
وهمست له: «لماذا؟»
نظر في عينيها وشعر بالإذلال والضعف. كيف كان من الممكن أن يجلس على بعد أقدام قليلة منها ويبقى عاقلا!
قال بنبرة خفيضة: «أنت شديدة الجمال، ومختلفة تماما عن أي شخص آخر في العالم!»
فقالت متسائلة: «إذن، فأنت سعيد لأنك قابلتني ... لأنك هنا معي؟»
رفع عينيه نحوها مرة أخرى.
وأجاب ببساطة: «لا أعرف. إذا كنت أعتقد حقا ... إذا كنت بهذا اللطف طوال الوقت ... لكن، كما ترين، أنت تحوليني إلى شخصين مختلفين. عندما أكون معك، فأنا أحمق، أحمق مذعن لك، وتستطيعين أن تفعلي بي ما تشائين. وعندما أكون بعيدا، أسترد بعض ومضات العقل، وأعرف.»
تمتمت قائلة: «ماذا تعرف؟»
فأجابها: «أعرف أنك كاذبة.»
صاحت رافعة رأسها قليلا: «سيد تافرنيك!»
فاستدرك بحماس: «أوه، أنا لا أعني الكذب بالطريقة المعتادة! ما أعنيه هو أنك تظهرين أشياء لا تشعرين بها، وأنك على استعداد لأن تشعري أي شخص لا يملك إلا أن يعجب بك بشدة بأنك تكنين له مشاعر الود أكثر مما تكنينه بالفعل.» وتوقف فجأة عن الحديث بيأس ثم قال: «لا أستطيع التعبير، هذا خرق، لكنك تفهمين ما أعنيه!»
ضحكت قائلة: «لديك طريقة رائعة في التعبير عن نفسك. حسنا، دعنا نتحدث بشكل منطقي مدة دقيقة أو دقيقتين. أنت تقول إنك عندما تكون معي تصبح عبدا لي. إذن لماذا لا تحضر بياتريس إلى هنا عندما أتوسل إليك أن تفعل؟»
فأجاب: «أنا عبدك في كل ما له علاقة بنفسي وأفعالي. أما في هذه المسألة الأخرى، فالأمر يعود لأختك كي تقرر.»
فهزت كتفيها.
وقالت: «حسنا، أعتقد أنني سأكون قادرة على تحمل الحياة بدونها. على أي حال، دعنا نتحدث عن شيء آخر. أخبرني، ألا تشعر بالفضول لمعرفة سبب إصراري على إحضارك إلى هنا؟»
اعترف قائلا: «بلى، أنا كذلك.»
قالت: «تحدثت بصراحتك المعتادة، يا عزيزي البريطاني! حسنا، سأرضي فضولك. هذا، كما ترى، ليس مكانا شائعا لتقديم الطعام. يأتي إلى هنا عدد قليل من الأشخاص ... معظمهم ممن لسبب أو لآخر لا يشعرون بالأناقة الكافية لارتياد المطاعم الكبيرة. يأتي الناس من المسارح إلى هنا حيث لا يكون لديهم الوقت لتغيير ملابسهم. كما ترى المكان له نكهة بوهيمية مميزة.»
نظر تافرنيك حوله.
وقال: «يبدو أنهم يأتون بكل أنواع الملابس. يسرني ذلك.»
تابعت إليزابيث: «يوجد رجل الآن في لندن، وأنا متلهفة لرؤيته مثلما أنا متشوقة للعثور على أختي. أعتقد أن هذا هو المكان الأكثر احتمالا للعثور عليه. لهذا جئت. كان من المفترض أن يكون والدي هنا ليرافقني، لكن كما سمعت، فقد خرج إلى مكان ما ولم يعد. لم يكن أي من أصدقائي الآخرين متاحا. وصادف أنك أتيت في الوقت المناسب.»
سأل تافرنيك: «وهذا الرجل الذي تريدين أن تريه، هل هو هنا؟»
أجابت: «ليس بعد.»
في الواقع، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الجماعات المتناثرة في المكان، وكان من الواضح أن معظم هذه الجماعات من العاملين في المسارح. لكن حتى في تلك اللحظة، دخل رجل بمفرده من خلال الأبواب الدوارة، ووقف في الداخل، ينظر حوله. كان رجلا متوسط الطول ونحيفا وذا مظهر غير مميز. كان شعره فاتح اللون ويلتصق قليلا على جبهته. وكان وجهه نحيفا ويمشي بانحناء طفيف. كان ثمة شيء في ملابسه وطريقته في اللبس ينم على أنه أمريكي. ألقى تافرنيك نظرة سريعة على رفيقته، متسائلا عما إذا كان هذا، ربما، ليس الشخص الذي كانت تراقب وصوله. كانت نظرته الأولى غير مبالية بما فيه الكفاية، ثم شعر بقلبه يخفق بين ضلوعه. لقد دخلت مأساة إلى المطعم! جلست المرأة التي بجانبه وكأنها تحولت إلى حجر. كانت ثمة نظرة في وجهها وكأنها نظرة امرأة ترى الموت. كان أحمر الشفاه الذي تضعه، ولم يكن ملحوظا من قبل، يبدو الآن كغصن ملون في واحة من الرماد الأبيض. كانت عيناها جامدتين كالحجارة؛ وشفتاها ترتعشان كما لو أن مرضا ألم بها. لم يعد جالسا مع هذه السيدة الأكثر جمالا التي تحولت كل الرءوس نحوها في إعجاب. كانت كأنها تحولت إلى صورة للموت تجلس بجواره، كأنها تمثال جامد للذعر نفسه!
الفصل الثالث والعشرون
في مهمة شهامة
مرت الثواني، ولم يظهر على المرأة التي تجلس بجانبه أي علامة تنم على الحياة. شعر تافرنيك بالخوف يتسلل باردا في دمه، كما لم يشعر من قبل طوال حياته السابقة. كان هذا، في الواقع، شيئا ينتمي إلى عالم لا يعرف شيئا عنه. فماذا كان؟ أهو مرض؟ أم ألم؟ أم مفاجأة؟ لم يكن هناك سوى غريزته يمكن أن تخبره. كان رعبا، رعب من ينظر إلى ما وراء القبر.
صاح قائلا: «سيدة جاردنر! إليزابيث!»
بدا أن صوته قد انتزعها من حيث كانت وحررها من اللعنة التي حلت عليها. وندت من بين أسنانها صرخة مكتومة؛ وبدأت تناضل كي تتمالك نفسها.
تمتمت قائلة: «أنا مريضة. أعطني كأسي. أعطني إياها.»
تحسست بأصابعها بحثا عن الكأس، لكن بدا كأنها لم تجرؤ على تحريك رأسها. ملأ الكأس بالنبيذ ووضعها في يدها. وحتى بعد ذلك، سكبت بعضا منها على مفرش المنضدة. وبينما كانت ترفعها إلى شفتيها، نظر الرجل الذي وقف على عتبة المطعم في وجهها. وتحرك ببطء عابرا المطعم في اتجاهها، وكأنما قد وصل إلى مبتغاه.
فقالت لتافرنيك: «ابتعد. ابتعد أرجوك. إنه قادم ليتحدث إلي. وأريد أن أكون وحدي معه.»
الغريب في الأمر أن تافرنيك لم ير في تلك اللحظة شيئا غريبا غير معتاد في طلبها. وقام على الفور، دون أن يودعها الوداع اللائق، وشق طريقه نحو الطرف الآخر من المطعم. وبينما كان يستدير متوجها نحو غرفة التدخين، نظر مرة واحدة خلفه. كان الرجل قد اقترب من إليزابيث؛ وكان يقف أمام طاولتها، وبدا أنهما يتبادلان التحيات.
ذهب تافرنيك إلى غرفة التدخين وألقى بنفسه على كرسي مريح. وظل هناك ربما مدة عشر دقائق قبل أن يدخل بريتشارد. بالتأكيد كانت هذه الليلة مفعمة بالمفاجآت! حتى بريتشارد، الهادئ، الرصين، المتأني في حركاته وحديثه، بدا مضطربا في ذلك الوقت. دلف إلى الغرفة مسرعا. وعندما تأرجح الباب وأوصد مرة أخرى، استدار كما لو كان يؤكد لنفسه أن أحدا لم يكن يتبعه. لم ير في البداية تافرنيك. وجلس على ذراع مقعد وثير، ويداه في جيوبه، وسيجاره الأبدي في زاوية فمه، وعيناه مثبتتان على الباب الذي دلف منه. لا شك أن شيئا ما أزعجه. كان يبدو كأنه قد تلقى ضربة، مفاجأة من نوع ما كان لا يزال يحاول تخطيها. ثم ألقى نظرة خاطفة في أرجاء الغرفة ورأى تافرنيك.
فصاح: «مرحبا، أيها الشاب! إذن هذه هي الطريقة التي تنفذ بها نصيحتي!»
ذكره تافرنيك قائلا: «لم أعد قط بأن أنفذها.»
سحب بريتشارد مقعدا مريحا عبر الغرفة ونادى على النادل.
وقال: «إذن، سوف تدعوني إلى شراب. اثنان من الويسكي والصودا، يا تيم. والآن يا سيد ليونارد تافرنيك، ستجيبني عن سؤال.»
تمتم تافرنيك متسائلا: «هل سأفعل؟» «لقد نزلت في المصعد مع السيدة وينهام جاردنر منذ نصف ساعة، وذهبت إلى المطعم وطلبت العشاء. وهي لا تزال هناك وأنت هنا. فهل تشاجرتما؟»
أجاب تافرنيك: «لا، لم نتشاجر. أوضحت أنها كانت ستتناول الطعام في المطعم الأصغر فقط من أجل لقاء رجل معين. وأرادت مرافقا. فقمت أنا بهذا الدور إلى أن جاء الرجل.»
سأل بريتشارد: «وهل هو هناك الآن؟»
فرد تافرنيك إيجابا: «نعم، إنه هناك الآن.»
سحب بريتشارد السيجار من فمه وراقبه لحظة.
وتابع: «قل لي يا تافرنيك، هل هذا الرجل الذي يتناول العشاء الآن مع السيدة وينهام جاردنر هو الرجل نفسه الذي كانت تتوقعه؟»
أجاب تافرنيك: «أظن ذلك.» «ألم تبد خائفة أو منزعجة بأي شكل من الأشكال عندما ظهر أمامها لأول وهلة؟»
اعترف تافرنيك: «بدت بشكل لم أعهده في أحد على وجه الأرض من قبل. لقد بدت ببساطة مرعوبة حتى الموت. لا أعرف لماذا ... فهي لم تشرح ... لكن هكذا كانت تبدو.» «ومع ذلك، فقد صرفتك!» «لقد صرفتني. ولم تهتم بما حل بي. كانت تراقب الباب طوال الوقت قبل مجيئه. فمن هو ذلك الشخص يا بريتشارد؟»
أجاب بريتشارد بجدية: «يبدو هذا سؤالا بسيطا، لكنه يعني الكثير. هناك مصيبة على وشك الحدوث الليلة يا تافرنيك.»
فرد تافرنيك بجفاء: «وأنت تبدو سعيدا بذلك. ألديك مزيد من الهراء؟»
ابتسم بريتشارد.
وقال: «حسنا، أنت رجل عاقل. فلتقدر الأمور حق قدرها. وصدقني حين أخبرك الآن أن مجيء هذا الرجل يحمل أكثر بكثير مما خططت له السيدة وينهام جاردنر.»
توسل إليه تافرنيك قائلا: «أتمنى أن تخبرني من هو. كل هذا الغموض الذي يحيط ببياتريس وأختها، وهذا الكهل الكسول أبيهما، يثير إزعاجي ويشعلني غضبا.»
أومأ بريتشارد برأسه متعاطفا.
وقال: «أخشى أن عليك أن تتحمل هذا الغموض مدة أطول قليلا، يا صديقي الشاب. لقد أسديت لي صنيعا؛ وسأسدي لك صنيعا أيضا. سأقدم لك نصيحة جيدة. ابتعد عن هذا المكان ما دام الرجل العجوز وابنته يتسكعان هنا. هذه الفتاة ذكية ... أوه، إنها ذكية للغاية ... لكنها سلكت الطريق الخطأ منذ البداية. إنهما ليسا على شاكلتك يا تافرنيك. أنت لا تناسب هذا المكان. خذ بنصيحتي وابتعد عنهما تماما.»
هز تافرنيك رأسه.
وقال: «لا يمكنني فعل ذلك الآن. عمت مساء! سأرحل الآن على أي حال.»
نهض بريتشارد أيضا على قدميه. وتأبط ذراع تافرنيك.
وقال: «أيها الشاب، لا يوجد الكثيرون في هذا البلد ممن يمكنني الوثوق بهم. وأنت واحد منهم . أنت تتميز بنوع من الصلابة يعجبني كثيرا. وليس من المحتمل أن تتهور وتقوم بأشياء سخيفة. فهل تحب المغامرات؟»
أجاب تافرنيك: «إنني أكرهها، ولا سيما من النوع الذي تورطت فيه في تلك الليلة.»
ضحك بريتشارد بهدوء. كانا قد غادرا الغرفة الآن وكانا يسيران عبر المساحة المفتوحة في نهاية المطعم، والمؤدية إلى المخرج الرئيسي.
وقال بتأن: «هذا هو الفرق بيننا. المغامرات بالنسبة إلي هي ملح حياتي. أتسكع هنا وأشاهد هؤلاء الرجال والنساء ذوي المظهر المحترم، وبالنسبة إلى الغرباء لا يبدو أن هناك الكثير في هذا الأمر، ولكن يا للعجب! هناك أحيانا أشياء خفية لا تكتشفونها أنتم. رجل يطلب من آخر بالداخل أن يحتسيا شرابا معا. ويحددان موعدا مبهجا للقاء لتناول طعام الغداء، ثم يتجهان إلى برايتون بالسيارة. يبدو كل هذا غير ضار، ومع ذلك هناك بذور مؤامرة زرعت بالفعل. إنهم يكرهونني هنا، لكنهم يعرفون جيدا أنه أينما ذهبوا يجب أن أكون في الجوار. أظن أنهم سيتخلصون مني يوما ما.»
تمتم تافرنيك: «المزيد من الهراء!»
وقفا أمام الباب وعبراه إلى الفناء. على يمينهما، كان الجزء الداخلي من المطعم الأصغر محجوبا عن الأنظار بواسطة نقش شبكي مغطى بالورود والشجيرات. توقف بريتشارد عند نقطة معينة، وانحنى ونظر من خلاله. ومكث هناك دون أن يتحرك لما بدا لتافرنيك أنه مكث مدة طويلة للغاية. وعندما انتصب واقفا مرة أخرى، كان هناك تغيير واضح في وجهه. كان يبدو أكثر جدية مما رآه تافرنيك على الإطلاق. ولكن بسبب عدم احتمالية حدوث هذا الشيء، ظن تافرنيك أن لونه قد أضحى شاحبا.
وقال بريتشارد: «صديقي الشاب، عليك أن تعينني فيما أنا مقدم عليه. أنت مغرم بالسيدة وينهام جاردنر، أنا أعرف هذا. والليلة سوف تكون بجوارها.»
احتج تافرنيك قائلا: «لا أريد المزيد من الألغاز. أفضل العودة إلى المنزل.»
قال بريتشارد، وهو يمسك بذراعه مرة أخرى: «لا يمكنك القيام بذلك. عليك أن تعينني في هذا. تعال معي إلى غرفتي دقيقة.»
دخلا المبنى وصعدا إلى الطابق الثامن. وأضاء بريتشارد الأنوار في غرفته، وكانت مفروشة بأثاث بسيط وخالية إلى حد ما. وأخرج من الخزانة زوجا من الأحذية ذات النعل المطاطي وألقاه إلى تافرنيك.
وقال: «ارتد هذا.»
فسأل تافرنيك: «ماذا سنفعل؟»
أجاب بريتشارد: «سوف تساعدني. ثق بي يا تافرنيك، كل شيء على ما يرام. يمكنني أداء المهمة بمفردي، لكنني لا أفضل ذلك. والآن اشرب هذا الويسكي والصودا وأشعل سيجارة. سأكون جاهزا خلال خمس دقائق.»
سأل تافرنيك: «ولكن إلى أين نحن ذاهبان؟»
أجاب بريتشارد: «أنت ذاهب في مهمة تتميز بالشهامة. ستصبح مرة أخرى منقذا لامرأة في محنة. ستنقذ حياة صديقتك الجميلة إليزابيث.»
الفصل الرابع والعشرون
أقرب إلى المأساة
كانت كلمات التحية الفعلية التي تبودلت بين إليزابيث والرجل الذي تسبب لها مجيئه في كل تلك المشاعر المتأججة؛ كلمات غير مؤثرة. انحنى الوافد الجديد نحوها قليلا، واضعا أطراف أصابعه على مفرش الطاولة. كان شكله، عن قرب، أقبح مما كان عليه عندما رآه تافرنيك لأول مرة. كان شكله معيبا؛ كان ثمة شيء منحط قليلا في عينيه الغائرتين وجبينه المنحسر الشعر. كما لم تكن تعبيرات وجهه جذابة. نظر إليها كرجل ينظر إلى الشيء الذي يكرهه.
وقال: «ها أنت يا إليزابيث، أخيرا قد أتت هذه المتعة!»
فأجابت: «سمعت أنك عدت إلى إنجلترا. اجلس أرجوك.»
حتى ذلك الحين، لم تغادر عيناها عينيه. طوال الوقت بدا أنهما تتساءلان بشدة، وتبحثان عن شيء في ملامحه استعصى عليهما. كان من المروع رؤية التغيير الذي أحدثته فيها الدقائق القليلة الماضية. فقد وجهها الأملس النضر روعته. وبدا أن عينيها، اللتين كانتا دائما ضيقتين إلى حد ما، قد أصبحتا غائرتين. لقد كان مثل هذا التغيير حريا بأن يشعر رجلا شجاعا، في مقتبل العمر، بالخوف لأول مرة في حياته.
قال وهو يتناول قائمة الطعام: «أنا سعيد لأنني وجدتك تتناولين العشاء. أنا جائع.» ثم أضاف إلى النادل الذي كان يقف إلى جانبه: «يمكنك إحضار بعض شرائح اللحم المشوية على الفور، وبعض البراندي. لا شيء آخر.»
انحنى النادل وأسرع مبتعدا. عبثت المرأة بمروحتها لكن أصابعها كانت ترتعش.
قال: «أخشى أن مجيئي كان بالأحرى صدمة لك. تؤسفني رؤيتك منزعجة إلى هذه الدرجة.»
أجابت بشيء من الشجاعة: «ليس الأمر كذلك. أنت تعرفني جيدا لدرجة تجعلك لا تصدق أنني سأسعى إلى لقاء كنت أخشاه. إنه الشيء الغريب الذي حدث لك خلال الأشهر القليلة الماضية ... هذا العام الماضي. هل تعلم ... هل أخبرك أحد ... أنه يبدو أنك أصبحت أكثر شبها ... بصورة ...»
أومأ برأسه متفهما. «بصورة وينهام المسكين! الكثيرون قالوا لي ذلك. بالطبع، أنت تعلمين أننا كنا دائما متشابهين بشكل مخيف، وكانوا دائما يقولون إننا سنصبح أكثر تشابها في منتصف العمر. فرغم كل شيء، هناك عام واحد فقط بيننا. ربما كنا سنصبح توءمين.»
واصلت المرأة ببطء: «إنه أفظع شبه رأيته في حياتي. عندما دخلت المطعم قبل بضع ثوان، بدا لي أن معجزة قد حدثت. بدا لي أن الميت قد عاد إلى الحياة.»
غمغم الرجل وعيناه على مفرش الطاولة: «لا بد أنها كانت صدمة.»
وافقت بصوت أجش: «لقد كانت كذلك. ألا يمكنك رؤيتها في وجهي؟ أنا لا أبدو دائما امرأة في الأربعين. ألا يمكنك رؤية الظلال الرمادية الموجودة في وجهي؟ كما ترى، أعترف لك بكل صراحة. لقد كنت مرعوبة ... وما زلت مرعوبة!»
فسألها: «ولماذا؟»
كررت قوله وهي تنظر إليه بتساؤل: «لماذا؟ ألا يبدو لك شيئا مرعبا أن تفكر في عودة الموتى إلى الحياة؟»
نقر برفق على مفرش الطاولة مدة دقيقة بأصابع يد واحدة. ثم نظر إليها مرة أخرى.
وقال: «هذا يتوقف على طريقة موتهم.»
لم يكن لجلاد في العصور الوسطى أن يتلاعب بضحيته بمهارة أكبر من ذلك. كانت المرأة ترتجف الآن، وتحافظ على بعض هدوئها الخارجي ولكن فقط من خلال بذل جهد مضن وغير طبيعي.
سألت: «ماذا تقصد بذلك يا جيري؟ لم أكن حتى مع وينهام، عندما فقد. وعلى ما أعتقد، أنت تعرف كل شيء عن الموضوع وكيف حدث، أليس كذلك؟»
أومأ الرجل برأسه متفكرا.
ثم قال معترفا: «لقد سمعت الكثير من القصص. وقبل أن نترك الموضوع إلى الأبد، أود أن أسمع القصة منك أنت، من شفتيك.»
كان هناك زجاجة شمبانيا على المنضدة، طلبت في بداية الوجبة. لمست كأسها؛ فملأها النادل. ثم رفعتها إلى شفتيها وأعادتها فارغة. كانت أصابعها تمسك بمفرش المنضدة.
قالت: «أنت تطلب مني طلبا صعبا يا جيري. ليس من السهل التحدث عن أي شيء مؤلم إلى هذا الحد. منذ اللحظة التي غادرنا فيها نيويورك، كان وينهام غريبا. شرب الكثير على الباخرة. واعتاد أن يتحدث أحيانا بطريقة جامحة. ثم وصلنا إلى لندن. أصيب بنوبة هذيان ارتعاشي. فاعتنيت به خلال ذلك وأخذته إلى الريف، إلى كورنوول. أخذنا كوخا صغيرا على أطراف قرية صيد ... سانت كاثرين، هكذا كانت تدعى. وعشنا هناك في هدوء بعض الوقت. في بعض الأحيان كانت أحواله تتحسن، وأحيانا تسوء. وكان الطبيب في القرية لطيفا جدا وكان كثيرا ما يأتي لرؤيته. لقد أحضر صديقا من البلدة المجاورة واتفقا على أنه مع الراحة التامة، سيكون وينهام أفضل قريبا. كانت حياتي طوال الوقت بائسة. لم يكن يستطيع أن يكون بمفرده، ومع ذلك كان رفيقا رهيبا. قمت بأفضل ما في وسعي. كنت أبقى معه نصف الوقت كل يوم، وأحيانا أكثر. كنت أبقى معه حتى بدأت صحتي أنا شخصيا تتدهور. وأخيرا لم يعد بإمكاني تحمل العزلة. فأرسلت في طلب والدي. فجاء وعاش معنا.»
غمغم مستمعها: «البروفيسور.»
أومأت برأسها.
وتابعت: «لقد كان الأمر أفضل قليلا بالنسبة إلي، باستثناء أن وينهام المسكين بدأ يستاء من والدي استياء شديدا. إلا أنه كان يكره الجميع، واحدا تلو الآخر، حتى الطبيبين، اللذين كانا يبذلان قصارى جهدهما دائما من أجله. وذات يوم، أعترف أنني فقدت أعصابي. تشاجرنا؛ ولم أستطع كبح جماح نفسي ... فقد أصبحت الحياة لا تحتمل. فهرع خارج المنزل ... وكانت الساعة نحو الثالثة بعد الظهر. ولم أره منذ ذلك الحين.»
كان الرجل ينظر إليها، وينظر إليها عن كثب رغم أنه كان يطرف بعينيه طوال الوقت.
وسألها: «ماذا حدث له في رأيك؟ وماذا يعتقد الناس؟»
هزت رأسها.
وقالت: «الشيء الوحيد الذي كان يحرص على فعله هو السباحة. وقد عثر على ملابسه وقبعته في الخليج الصغير بالقرب من خيمتنا.»
فسأل الرجل: «هل تعتقدين، إذن، أنه قد غرق؟»
أومأت برأسها. بدا أن الكلام أصبح مؤلما للغاية.
وتابع رفيقها وهو يصب لنفسه كأسا من البراندي: «الغرق ليس ميتة لطيفة. ذات مرة كنت على وشك الغرق أنا نفسي.» ثم أضاف: «المرء يكافح وقتا قصيرا ويفكر ... نعم، يفكر!»
رفع كأسه إلى شفتيه ثم أعادها إلى الطاولة.
وتابع: «رغم ذلك، فهي ميتة سهلة، سهلة للغاية. بالمناسبة، هل تلك الملابس التي عثر عليها الخاصة بوينهام المسكين هي نفسها الملابس التي كان يرتديها عندما غادر المنزل؟»
هزت رأسها.
وأجابت: «لا يمكن لأحد أن يقول على وجه اليقين. لم ألحظ قط ما كان يرتديه. كان يرتدي دائما النوعية نفسها من الملابس، لكن كانت لديه تشكيلة هائلة منها.» «وكان هذا قبل سبعة أشهر ... سبعة أشهر.»
فأقرت ذلك.
فغمغم قائلا: «مسكين وينهام. أظن أنه مات. ماذا ستفعلين يا إليزابيث؟»
ردت قائلة: «لا أعرف. يجب أن أذهب قريبا إلى المحامين وأطلب المشورة. لدي القليل جدا من المال المتبقي. لقد كتبت عدة مرات إلى نيويورك له ولأصدقائه، لكن لم يصلني أي رد. فرغم كل شيء يا جيري، أنا زوجته. لم يحب أحد زواجي منه، لكنني زوجته. ولي الحق في نصيب من ممتلكاته إذا مات. أما إذا كان قد هجرني، فبالتأكيد سيكون لي حقوق. أنا لا أعرف حتى مدى ثرائه.»
ابتسم الرجل الذي كان بجانبها.
قال: «أكثر ثراء مني على أي حال. لكن إليزابيث!» «ماذا هناك؟» «كانت هناك شائعات أنه قبل مغادرتكما نيويورك، حول وينهام مبالغ كبيرة جدا من الأموال إلى خطابات اعتماد وسندات، مبالغ كبيرة جدا بالفعل.» فهزت رأسها. وقالت: «كان لديه خطاب اعتماد بنحو ألف جنيه على ما أعتقد. لم يتبق سوى القليل جدا من المال الذي كان معه.» «وتجدين العيش هنا باهظ التكاليف، على ما أعتقد؟»
تنهدت موافقة وقالت: «باهظ جدا بالفعل. لقد كنت أتطلع إلى رؤيتك يا جيري. اعتقدت أنك، ربما، من أجل الأيام الخوالي، قد تنصحني.»
ردد لنفسه بهدوء: «من أجل الأيام الخوالي. إليزابيث، هل تفكرين فيها أحيانا؟»
كانت إليزابيث قد بدأت تستعيد نفسها. كانت هذه لعبة قد اعتادت على لعبها. من أجل الأيام الخوالي، حقا! بدا كأنه بالأمس فقط أن هذين الأخوين، اللذين اشتهرا في تلك الأيام بكونهما أغنى شابين في نيويورك، كانا تحت قدميها. حتى هذه اللحظة، لم تكن محظوظة. ورغم ذلك، كانت لا تزال هناك فرصة. رفعت بصرها نحوه. بدا لها أنه قد بدأ يفقد رباطة جأشه. نعم، كان هناك شيء من البريق القديم في عينيه! في يوم من الأيام كان يحبها بجنون بما فيه الكفاية. لا بد أنه لن يصبح مستحيلا!
قالت: «جيري، لقد أخبرتك بهذه الأشياء. لقد كان الأمر مؤلما جدا جدا بالنسبة إلي. ألن تحاول الآن وتكون لطيفا؟ تذكر أنني وحيدة تماما وكل هذا صعب جدا علي. لقد كنت أتطلع إلى قدومك. لقد فكرت كثيرا في تلك الأوقات التي قضيناها معا في نيويورك. ألن تكون صديقي مرة أخرى؟ ألن تساعدني لاجتياز تلك الأوقات المريرة؟»
لمست يدها يده. وللحظة سحب يده بعيدا كما لو كان قد لدغه عقرب. ثم أمسك بأصابعها وأحكم قبضته عليها. فابتسمت ابتسامة من تدرك قوتها. كان الجمال يتدفق مرة أخرى إلى وجهها. هذا المسكين، إذن فهو لا يزال مغرما! كانت أصابعه التي أحكمت على أصابعها تحترق. يا له من أمر مؤسف أنه لم يكن أكثر وسامة قليلا!
تمتم قائلا: «بلى، يجب أن نكون أصدقاء يا إليزابيث. كان وينهام يمتلك كل الحظ في البداية. ربما يكون قد حان دوري الآن، أليس كذلك؟»
ومال نحوها. فضحكت في وجهه لحظة ثم فجأة شحب لونها مرة أخرى، وتجمدت الابتسامة على شفتيها. وبدأت ترتجف.
سأل: «ما الأمر؟ ما الأمر يا إليزابيث؟»
تلعثمت وهي تقول: «لا شيء، كل ما هنالك أنني كنت أتمنى ... كنت أتمنى حقا أنك لم تكن قريب الشبه بوينهام بهذا القدر. أحيانا نبرة صوتك، الطريقة التي ترفع بها رأسك ... هذا يرعبني!»
ضحك بغرابة.
وقال: «يجب أن تعتادي على ذلك يا إليزابيث. فأنا لا أملك إلا أن أكون شبهه كما تعلمين. لقد كنا صديقين حميمين دائما حتى أتيت. أتساءل لماذا فضلت وينهام.»
أجابت متوسلة: «لا تسألني ... أرجوك، لا تسألني هذا السؤال. حقا، أعتقد أنه تصادف وجوده هناك في اللحظة التي شعرت فيها بالرغبة في تغيير حياتي كلها، وفي مغادرة نيويورك والابتعاد عن كل الناس وبدء حياة جديدة تماما، واعتقدت أن وينهام يعني ذلك. اعتقدت أنني سأكون قادرة على منعه من الشرب ومساعدته على بدء حياة جديدة تماما هنا أو في أوروبا.»
قال: «يا لك من فتاة مسكينة! أخشى أن آمالك قد أحبطت.»
فتنهدت.
واستطردت: «أنا مجرد بشر، كما تعلم. أخبرني الجميع أن وينهام كان مليونيرا أيضا. انظر كم استفدت منه. أنا شبه مفلسة تماما، ولا أعرف إن كان حيا أم ميتا، ولا أعرف ماذا أفعل للحصول على بعض المال. هل كان وينهام شديد الثراء يا جيري؟»
ضحك الرجل.
ثم قال مطمئنا إياها: «أوه، لقد كان شديد الثراء حقا! إنه لأمر فظيع أن تتركي هكذا. سنتحدث عن ذلك معا الآن، أنت وأنا. وفي الوقت نفسه، يجب أن تسمحي لي بأن أكون البنك الخاص بك.»
فهمست: «عزيزي جيري، كنت دائما كريما.»
ذكرها فجأة: «إنك لم تتحدثي عن المحتشمة الصغيرة ... عزيزتي الآنسة بياتريس.»
فتنهدت إليزابيث.
وقالت: «كانت بياتريس مصيبة كبيرة من البداية. أنت تعرف كم كرهت كليكما ... كانت مهذبة بصعوبة مع وينهام، ولم تكن لتأتي إلى أوروبا معنا لو لم يصر أبي على ذلك. أخذناها إلى كورنوول معنا وهناك أصبحت غير محتملة على الإطلاق. كانت دائما تتدخل بيني وبين وينهام وتتخيل أسخف الأشياء. وذات يوم تركتنا دون كلمة تحذير. ولم أرها منذ ذلك الحين.»
حدق الرجل بعبوس في طبقه.
وتمتم: «لقد كانت فتاة صغيرة غريبة. كانت صالحة، ويبدو أنها كانت تحب أن تكون صالحة.»
ضحكت إليزابيث، ليس بسرور.
وقالت: «أنت تتحدث كما لو كان بقيتنا يختارون ألا يكونوا صالحين.»
صب لنفسه المزيد من البراندي.
وقال: «فكري في الماضي. فكري في تلك الأيام في نيويورك، والحياة التي عشناها، والأشياء الجامحة التي ارتكبناها أسبوعا بعد أسبوع، وشهرا بعد شهر، والدائرة الأبدية نفسها من تحويل الليل إلى نهار، والمحاولة المستميتة في كل مكان من أجل العثور على ملذات جديدة، وتحليل الرذائل إلى أجزاء صغيرة مثل الأطفال الذين يحاولون استكشاف ما بداخل ألعابهم.»
قاطعته قائلة: «أنا لا أحب حالتك المزاجية على الإطلاق.»
دق بأصابعه على مفرش المنضدة للحظة.
ثم قال: «كنا نتحدث عن بياتريس. إذن، فأنت لا تعرفين حتى أين هي الآن؟»
صرحت إليزابيث: «ليس لدي أي فكرة.»
سأل: «هل ظلت معك مدة طويلة في كورنوول؟»
عبثت إليزابيث بكأس النبيذ الخاصة بها برهة.
ثم اعترفت: «ظلت هناك نحو شهر.»
فسألها: «ولم توافق على الطريقة التي تتصرفين بها أنت ووينهام؟» «على ما يبدو لا. لقد تركتنا على أي حال. لم تفهم وينهام على الإطلاق» وتابعت إليزابيث: «لن أندهش إذا سمعت أنها تعمل ممرضة في مستشفى، أو تتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة، أو موظفة في مكتب. كانت شابة ذات أفكار كئيبة، رغم أنها كانت أختي.»
اقترب منها قليلا.
وقال: «إليزابيث، لن نتحدث بعد الآن عن بياتريس. لن نتحدث بعد الآن عن أي شيء باستثناء أنفسنا.»
فسألته بنعومة: «هل أنت مسرور حقا لرؤيتي مرة أخرى يا جيري؟»
أجابها بصوت هامس: «لا بد أنك تعرفين ذلك يا عزيزتي. لا بد أنك تعرفين أنني أحببتك دائما، وأنني عشقتك. أوه، لقد عرفت ذلك! لا تقولي إنك لم تفعلي. كنت تعرفين يا إليزابيث!»
نظرت إلى مفرش المنضدة.
واعترفت برقة: «نعم، كنت أعرف ذلك.»
فواصل قائلا: «ألا يمكنك تخمين ما يمثله لي أن أراك مرة أخرى هكذا؟»
فتنهدت. «إنه يمثل لي الكثير، أيضا، أن أشعر أن لدي صديقا في الجوار.»
قال: «تعالي، إنهم يطفئون الأنوار هنا. تريدين أن تعرفي ممتلكات وينهام. اسمحي لي أن أصعد معك إلى الطابق العلوي بعض الوقت وسأخبرك بقدر ما تسعفني الذاكرة.»
دفع الفاتورة وساعدها في ارتداء عباءتها. بدت أصابعه وكأنها بقع مشتعلة على لحمها. صعدا في المصعد. وفي الممرات جذبها إليه وبدأت ترتجف.
تلعثمت وهي تنظر في وجهه وتقول: «ما هو الغريب فيك يا جيري؟ أنت تخيفني!» «هل أنت سعيدة برؤيتي؟ قولي لي، هل أنت سعيدة برؤيتي؟»
فهمست: «نعم، أنا سعيدة.»
ترددت خارج باب شقتها.
واقترحت بصوت خافت: «ربما ... أليس من الأفضل لو أتيت غدا صباحا؟»
مرة أخرى لمستها أصابعه، ومرة أخرى بدا أن هذا الشعور غير العادي بالخوف يجمد الدم في عروقها.
أجاب: «لا، لقد أرجأتك مدة كافية! يجب أن تسمحي لي بالدخول، يجب أن تتحدثي معي مدة نصف ساعة. وأعدك أنني سأذهب بعدها. نصف ساعة! إليزابيث، ألم أنتظر ذلك منذ الأزل؟»
أخذ المفاتيح من أصابعها وفتح الباب وأغلقه مرة أخرى خلفهما. قادته إلى غرفة الجلوس. كان المكان كله مظلما لكنها أشعلت الضوء الكهربائي. انزلقت العباءة من فوق كتفيها. فأخذ يديها ونظر إليها.
وهمست: «جيري، يجب ألا تنظر إلي هكذا. أنت ترعبني! دعني أذهب!»
انتزعت نفسها بجهد. وتراجعت إلى ركن الغرفة، بقدر ما تستطيع أن تبتعد عنه. كان قلبها يخفق بشدة. بطريقة أو بأخرى، لم يكن أي من هذين الشابين، اللذين أثرت في حياتهما تأثيرا شديدا مكنها من أن تأخذ منهما كل ما تريد، قد جعل قلبها يخفق بهذا الشكل من قبل. تساءلت ماذا كان الخطب؟ ماذا كان معنى ذلك؟ لماذا لم يتكلم؟ لم يفعل شيئا سوى النظر، وقالت عيناه أشياء لا يمكن الإفصاح عنها. هل كان غاضبا منها لأنها تزوجت من وينهام، أم أنه يلومها لأن وينهام قد رحل؟ كان ثمة شغف في وجهه، لكن يا له من شغف! ربما رغبة، ولكن ماذا أيضا؟ أمسكت ببرقية ملقاة على مكتبها وفتحتها. لقد كانت هروبا لبرهة. قرأت الكلمات وحدقت فيها وقرأتها بصوت عال غير مصدقة. كانت من والدها. «جيري جاردنر أبحر إلى نيويورك اليوم.»
نظرت إلى الرجل، وبينما تنظر إليه شحب وجهها وسقطت الورقة الرقيقة من بين أصابعها التي فقدت الحياة على الأرض. ثم بدأ يضحك وعرفت.
صرخت: «وينهام! وينهام!»
كان وجهه ينبئ بالقتل، وحتى ضحكته كانت تكاد تنبئ بالقتل.
فأجاب: «زوجك المحب!»
قفزت نحو الباب ولكن حتى أثناء تحركها سمعت صوت إغلاق الترباس. ولمس المفتاح الكهربائي فغرقت الغرفة فجأة في الظلام. وسمعته يقترب منها، وشعرت بأنفاسه الساخنة على خدها.
قال هامسا: «زوجتي المحبة! أخيرا!»
الفصل الخامس والعشرون
المجنون يتحدث
أضاء تافرنيك النور. وتمكن بريتشارد، بقفزة سريعة إلى الأمام، من إحكام القبض على وينهام حول خصره وسحبه بعيدا. كانت إليزابيث قد أغمي عليها؛ واستلقت على الأرض ووجهها بلون الرخام.
وجه بريتشارد أوامره قائلا: «أحضر بعض الماء وألقه عليها.»
أطاع تافرنيك. وفتح النافذة وسمح بدخول تيار من الهواء. وفي غضون لحظة أو اثنتين تحركت المرأة ورفعت رأسها.
قال بريتشارد: «اعتن بها دقيقة. سوف أحبس هذا الشرس في الحمام.»
حمل بريتشارد سجينه للخارج. وانحنى تافرنيك على المرأة التي بدأت تستعيد وعيها ببطء.
سألت بصوت أجش: «أخبرني عما حدث. أين هو؟»
أجاب تافرنيك: «محبوس في الحمام. بريتشارد يتولى أمره. ولن يتمكن من الخروج.»
تلعثمت وهي تقول: «هل تعرف من يكون؟»
أجاب تافرنيك: «لا أعرف. هذا ليس من شأني. أنا هنا فقط لأن بريتشارد توسل إلي أن آتي. كان يعتقد أنه ربما يحتاج إلى مساعدة.»
تعلقت بأصابعه.
وسألت: «أين كنت؟» «في الحمام عند وصولكما. ثم أغلق الباب خلفه واضطررنا إلى الدوران من خلال غرفة نومك.» «كيف اكتشف بريتشارد ذلك؟»
أجاب تافرنيك: «لا أعرف شيئا البتة. كل ما أعرفه أنه أطل من خلال النقش الشبكي ورآكما جالسين على العشاء.»
ابتسمت بضعف.
وقالت: «لا بد أنها كانت صدمة له. لقد كان مقتنعا خلال الأشهر الستة الماضية أنني قتلت وينهام، أو تخلصت منه بطريقة أو بأخرى. ساعدني على النهوض.»
ترنحت وهي تحاول النهوض على قدميها. وساعدها تافرنيك حتى جلست على كرسي مريح. ثم دلف بريتشارد.
وقال: «إنه آمن تماما، جالس على حافة الحمام يلعب بدمية.»
فارتجفت.
وقالت: «ماذا يفعل بها؟»
أجاب بريتشارد بسخرية: «أراني بالضبط، بدبوس، أين كان يريد أن يطعنك.» ثم تابع: «والآن، يا سيدتي العزيزة، يبدو لي أنني قد ظلمتك في شيء واحد، على أي حال. اعتقدت بالتأكيد أنك ساعدت في إراحة العالم من ذلك الشاب. من أين أتى؟ ربما يمكنك إخباري بذلك.»
هزت كتفيها.
وقالت: «أعتقد أنني أستطيع أن أفعل ذلك. اسمع، لقد رأيت كيف كان حاله الليلة، لكنك لا تعرف ما معنى العيش معه. كان جحيما!» واستأنفت وهي تنتحب: «كان جحيما حقا! كان يشرب، ويتعاطى المخدرات، كان كل ما يستطيع خادمه أن يفعله هو إجباره على ارتداء ملابسه. كان مستحيلا. كان يمتص مني رحيق الحياة.»
قال بريتشارد موجها إياها: «استمري.»
وتابعت قائلة: «ليس هناك الكثير لأقوله. وجدت منزلا في مزرعة قديمة ... المكان الأكثر عزلة في كورنوول. وانتقلنا إلى هناك، وتركته هناك ... مع ماذرز. ووعدت ماذرز بأنه سوف يحصل على عشرين جنيها في الأسبوع عن كل أسبوع يبقي سيده بعيدا عني. فاحتجزه بعيدا مدة سبعة أشهر.»
سأل بريتشارد: «وماذا عن قصتك ... عن اختفائه أثناء السباحة؟»
قالت بتحد: «أردت أن يعتقد الناس أنه مات. كنت أخشى أنه إذا وجدته أنت أو أقاربه، فسأضطر إلى أن أعيش معه أو أتخلى عن المال.»
أومأ بريتشارد برأسه. «والليلة كنت تعتقدين ...»
تابعت: «كنت أعتقد أنه شقيقه جيري. كان الشبه بينهما مدهشا دائما، كما تعرف. وقيل لي إن جيري كان في المدينة. فشعرت بالتوتر، بطريقة ما، وأرسلت برقية لماذرز. وتلقيت رده الليلة الماضية فقط. لقد ذكر أن وينهام كان آمنا ومرتاحا تماما، ولم يكن حتى قلقا.»
قال بريتشارد: «تلك البرقية أرسلها وينهام نفسه. أعتقد أن من الأفضل أن تسمعي ما لديه.»
فتراجعت منكمشة. «لا. لا أستطيع تحمل رؤيته مرة أخرى!»
وأصر بريتشارد: «أعتقد أن من الأفضل أن تفعلي. يمكنني أن أؤكد لك أنه لن يؤذيك على الإطلاق. سأضمن لك ذلك.»
غادر الغرفة. وسرعان ما عاد متأبطا ذراع وينهام جاردنر. وكان الأخير يبدو كأنه طفل مدلل ألحق به العار. جلس متجهما على كرسي وهو يحدق في كل الموجودين. ثم أخرج دمية صغيرة مجعدة، ملفوفا حول رقبتها خيط أسود من القطن، وبدأ يؤرجحها أمامه، وهو يضحك على إليزابيث طوال الوقت.
سأل بريتشارد: «أخبرنا، ماذا حدث لماذرز؟»
توقف عن أرجحة الدمية، وارتجف للحظة ، ثم ضحك.
وقال: «أنا لا أمانع. أعتقد أنني لا أمانع في إخباركم. أترى، أيا كان وضعي عندما فعلت ذلك، فأنا مجنون الآن ... مجنون تماما. صديقي بريتشارد هنا يقول إنني مجنون. لا بد أنني مجنون وإلا لم أكن لأحاول إيذاء تلك السيدة الجميلة العزيزة هناك.»
كان يحدق في إليزابيث، التي انكمشت في مقعدها.
وواصل قائلا: «لقد هربت مني منذ مدة، سئمت مني حد الموت. ظنت أنها حصلت على كل أموالي. لكنها لم تفعل. هناك المزيد والمزيد من الأموال. هربت وتركتني مع ماذرز. كانت تدفع له أجرا أسبوعيا كبيرا لتضمن صمتي، حتى لا يسمح لي بالذهاب إلى أي مكان خشية أن أتحدث، ولإبقائي بعيدا عنها حتى تتمكن من العيش هنا ورؤية جميع أصدقائها وإنفاق أموالي. في البداية لم يكن لدي مانع، ثم بدأت أمانع، وغضبت من ماذرز، ولم يكن ماذرز ليسمح لي بالمغادرة، لذلك منذ ثلاث ليال قتلته.»
سرت بين الجميع رجفة من الرعب. وبدأ وينهام جاردنر يقلب بصره من واحد إلى الآخر. وبدا أن خوفهم المتدرج قد وصل إليه.
فصاح قائلا: «ماذا تقصدون بأن تبدوا بهذا الشكل؟ ما المشكلة؟ كان مجرد خادم لي. أنا وينهام جاردنر، المليونير. لن يضعني أحد في السجن بسبب ذلك. إلى جانب ذلك، لم يكن يجدر به أن يحاول إبعادي عن زوجتي. على أي حال، هذا لا يهم. أنا مجنون للغاية. والمجانين يستطيعون أن يفعلوا ما يحلو لهم. يجب أن يحجزوا في مستشفى للأمراض العقلية مدة ستة أشهر، وبعد ذلك يتماثلون للشفاء تماما ويبدءون من جديد. لا أمانع في أن أكون مجنونا مدة ستة أشهر.» ثم قال متذمرا: «إليزابيث، تعالي وكوني مجنونة أنت أيضا. لم تكوني لطيفة معي. هناك الكثير من المال ... الكثير. ارجعي بعض الوقت وسأريك.»
سأل بريتشارد: «كيف قتلت ماذرز؟»
أوضح وينهام جاردنر: «لقد طعنته عندما كان ينحني إلى أسفل. كما ترى، عندما تركت الكلية اعتقد والدي أن من مصلحتي أن أفعل شيئا. وأجرؤ على قول إنه كان على حق، لكنني لم أرد أن أفعل شيئا. درست الجراحة مدة ستة أشهر. والشيء الوحيد الذي أتذكره هو كيفية قتل رجل من خلف الكتف اليسرى. تذكرت هذا. وكان ماذرز رجلا بدينا، وانحنى حتى كاد معطفه أن ينفجر. فما كان مني إلا أن ملت نحوه واخترت البقعة المحددة، فانهار تماما.» ثم استأنف قائلا: «أتوقع أنك ستجده لا يزال في مكانه. لا أحد يقترب من المكان أياما وأياما. اعتاد ماذرز على تركي محبوسا والقيام بكل التسوق بنفسه. أتوقع أنه يرقد هناك الآن. يجب أن يذهب شخص ما ليتفقد الوضع.»
كانت إليزابيث تنشج بهدوء. وشعر تافرنيك بجبينه يتفصد عرقا. كان هناك شيء مروع في الطريقة التي يتحدث بها هذا الشاب.
وتابع وينهام: «لا أفهم لماذا تبدون جميعا بهذه الجدية. لن يؤذيني أحد بسبب هذا. أنا مجنون الآن. كما ترون، أنا ألعب بهذه الدمية. الرجال العقلاء لا يلعبون بالدمى. رغم ذلك، آمل أن يحاكموني في نيويورك. فأنا مشهور في نيويورك. وأعرف كل المحامين والمحلفين. أوه، إنهم يفعلون كل أنواع الحيل في نيويورك!» ثم التفت فجأة إلى بريتشارد وسأله: «قل لي، هل تعتقد أنهم سيحاكمونني هنا؟ لن أشعر بالراحة هنا.»
توسلت إليزابيث قائلة: «خذوه بعيدا. خذوه بعيدا.» فأومأ بريتشارد برأسه.
وقال: «اعتقدت أنه من الأفضل أن تسمعي. سوف آخذه بعيدا الآن. سأرسل برقية إلى مركز الشرطة في سانت كاثرين. من الأفضل أن يذهبوا ويروا ما حدث.»
أخذ بريتشارد أسيره مرة أخرى من ذراعه. فقاوم الشاب بعنف.
وصرخ: «أنا لا أحبك يا بريتشارد. لا أريد أن أذهب معك. أريد أن أبقى مع إليزابيث. أنا لا أخاف منها حقا. أعلم أنها تريد قتلي، وأنها ذكية جدا ... أوه، إنها ذكية جدا! أود البقاء معها.»
قاده بريتشارد بعيدا.
وقال: «سنرى ذلك لاحقا. من الأفضل أن تأتي معي الآن.»
أغلق الباب خلفهم. وترنح تافرنيك في مشيته.
وقال: «علي أن أذهب. علي أن أذهب أنا أيضا.»
كانت إليزابيث تنشج بهدوء. وبدت أنها لا تكاد تسمعه. ثم استدار تافرنيك مرة أخرى وهو على عتبة الباب.
وسألها: «ذلك المال، المال الذي كنت ستقرضينني إياه ... هل هو ماله؟»
نظرت إلى أعلى وأومأت برأسها. ثم خرج تافرنيك ببطء.
الفصل السادس والعشرون
أزمة
كان بريتشارد أول زائر توجه إلى منزل تافرنيك. كانت الساعة قد أوشكت على الثامنة من صباح الليلة نفسها. جلس تافرنيك، بعينين غائرتين ومذهولتين، على الأريكة وحدق عبر الغرفة.
وصاح: «بريتشارد! عجبا، ماذا تريد؟»
وضع بريتشارد قبعته وقفازاته على الطاولة. كان قد استوعب من أول نظرة سريعة بالفعل كل تفاصيل الشقة الصغيرة. كان المعطف والقبعة اللذان كان يرتديهما تافرنيك في الليلة السابقة بجانبه. وكانت المائدة لا تزال معدة لإحدى وجبات اليوم السابق. وبصرف النظر عن هذه الأشياء، أكدت له نظرة واحدة أن تافرنيك لم يمس جفنه النوم.
سحب بريتشارد كرسيا مريحا وجلس بروية.
ثم قال: «صديقي الشاب، لقد استنتجت أنك بحاجة إلى المزيد من النصائح.»
نهض تافرنيك على قدميه. وجفل من انعكاس صورته في المرآة. كان شعره مجعدا، وربطة عنقه مفكوكة، وكانت آثار ليلة العذاب الماضية واضحة للغاية عليه. فشعر أنه في وضع لا يحسد عليه.
سأل: «كيف وجدتني؟ أنا لم أعطك عنواني قط.»
ابتسم بريتشارد.
وقال: «حتى في هذا البلد، مع القليل من المساعدة، تصبح هذه الأشياء سهلة بما فيه الكفاية. لقد فكرت أنك ستكون في أزمة هذا الصباح. كما تعلم، يا تافرنيك، أنا لست رجلا كثير الكلام، لكنك شخص صالح. لقد كنت معي مرتين في الوقت الذي كنت سأفتقدك إذا لم تكن موجودا.»
بدا أن تافرنيك قد فقد القدرة على الكلام. وعاد مرة أخرى إلى مكانه على الأريكة. وانتظر ببساطة.
وتابع بريتشارد بحماس: «كيف بحق الجحيم تورطت في حياة هذا الثلاثي الودود، لا أستطيع أن أتخيل! أستميحك عذرا، أنا لا أقول كلمة واحدة ضد الآنسة بياتريس. كل ما يدهشني هو أنك وهي ما كان يجب أن تجتمعا معا، أو، حتى إذا اجتمعتما، ما كان يجب أن تتبادلا كلمة واحدة. كما ترى، أنا هنا لأقول الحقيقة الواضحة. فأنت، من وجهة نظري، نموذج للشاب البريطاني الصلب العنيد من الطبقة المتوسطة. وهؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين تحدثت عنهم، ينتمون - ربما الآنسة بياتريس، بسبب الظروف - لكنهم ما زالوا ينتمون إلى أرض بوهيميا. ومع ذلك، عندما يتغلب المرء على مفاجأة كونك على علاقة حميمة مع الآنسة بياتريس، يفاجئه شيء أكثر إثارة للدهشة. أنت، رغم الفطرة السليمة التي تظهر في كل مكان في وجهك، كنت مستعدا في أي لحظة، وفي رأيك أنك مستعد الآن، لأن تجعل من نفسك شخصا أحمق تماما بسبب إليزابيث جاردنر.»
لا يزال تافرنيك صامتا. فنظر إليه بريتشارد بفضول.
وتابع يقول: «اسمع، لقد جئت إلى هنا لأقدم لك خدمة، إذا استطعت. على حد علمي في الوقت الحاضر، هذه الشابة الجميلة لم تخالف القانون ولم تخرج عليه. ولكن انظر يا تافرنيك، لقد خالفت كل ما هو لائق ومستقيم طوال حياتها. وتزوجت ذلك المخلوق المسكين من أجل ماله، ووهبت نفسها عمدا لإفقاده عقله. إن مأساة الليلة الماضية كانت فعلتها، وليست فعلته، رغم أن هذا الشيطان المسكين، سيقضي ما بقي من حياته في مستشفى الأمراض العقلية، وهذه المرأة ستستولي على أمواله لتزداد جمالا بها. والآن، سوف أطلعك على كواليس المشهد يا صديقي الشاب.»
ثم نهض تافرنيك على قدميه. وبدا أنه قد صار أطول قامة في هذه الغرفة الصغيرة المتهالكة. وضرب الطاولة الضعيفة بقبضته المشدودة حتى تأرجحت الأواني الفخارية المرصوصة عليها. كان بريتشارد معتادا على رؤية الرجال - الرجال الأقوياء أيضا - تحركهم عواطف شتى، ولكن بدا أنه يرى أشياء مختلفة في وجه تافرنيك.
صاح تافرنيك: «بريتشارد، أنا لا أريد أن أسمع كلمة أخرى!»
فابتسم بريتشارد.
وقال: «اسمعني هنا، ما سأقوله لك هو الحقيقة. ما سأقوله لك كنت سأقوله في أقرب وقت في حضور السيدة لو كانت هنا.»
اتخذ تافرنيك خطوة للأمام وأدرك بريتشارد فجأة الرجل الذي ألقى بنفسه من خلال تلك الفتحة الصغيرة في الجدار، وحده مقابل ثلاثة، دون أن يفكر في الخطر.
وصاح تافرنيك بصوت أجش: «إذا قلت كلمة واحدة أخرى ضدها، فسأطردك من الغرفة!»
حدق بريتشارد في وجهه. كان هناك شيء مدهش في موقف هذا الشاب ، وهو شيء لم يستطع إدراكه بالكامل. كان يرى أيضا أن كلمات تافرنيك كانت قليلة جدا ببساطة؛ لأنه كان يرتجف تحت تأثير عاطفة جياشة.
أعلن بريتشارد ببطء: «إذا كنت لن تنصت، فأنا لن أتحدث. ورغم ذلك، أعتقد أنك لا زلت تتمتع بمنطق سليم. ولديك القدرة الطبيعية على الحكم على الصواب والخطأ، ومعرفة متى يكون الرجل أو المرأة صادقا. أريد أن أنقذك ...»
صاح تافرنيك: «صه!» وتابع وهو يتنفس بشكل طبيعي أكثر قليلا الآن: «اسمع يا بريتشارد، لقد أتيت إلى هنا قاصدا أن تفعل الشيء الصحيح ... أعرف ذلك. أنت شخص جيد، لكنك فقط لا تفهم. أنت لا تفهم نوع الشخص الذي أنا عليه. عمري أربعة وعشرون عاما، وقد عملت من أجل عيشي هنا في لندن منذ أن كان عمري اثني عشر عاما. كنت رجلا، فيما يتعلق بالعمل والاستقلال، في الخامسة عشرة من عمري. ومنذ ذلك الحين وأنا أبذل قصارى جهدي، وقد عشت على الكفاف، وربحت القليل من المال حيث لم يبد ذلك ممكنا. لقد شققت طريقي بصعوبة إلى مناصب بدا أنه لا يمكن لأحد أن يفكر في إعطائي إياها، لكنني عشت طوال الوقت في ركن صغير من العالم ... مثلما ترى.»
وفجأة رسم بإصبعه دائرة في الهواء.
ثم تابع: «أنت لا تفهم ... لا يمكنك ذلك، ولكن ها هو الوضع. لم أتحدث إلى امرأة قط حتى تحدثت إلى بياتريس. وجعلتني الصدفة صديقها. وبدأت أفهم القشور الخارجية من بعض تلك الأشياء التي لم أحلم بها من قبل. لقد ساعدتني على حق من نواح كثيرة. بدأت في القراءة والتفكير واستيعاب أجزاء صغيرة من العالم الحقيقي. كان كل شيء رائعا. ثم جاءت إليزابيث. التقيت بها أيضا عن طريق المصادفة ... لقد جاءت إلى مكتبي من أجل منزل ... إليزابيث!»
وجد بريتشارد الانخفاض المفاجئ لصوت تافرنيك، ولين ملامحه، شيئا يكاد يكون مثيرا للشفقة.
قال تافرنيك ببساطة: «لا أعرف كيف أتحدث عن هذه الأشياء. هناك أدبيات تم الوصول إليها من قبل الكتاب المقدس إلى الآن، ممتلئة عن آخرها بهذا الشيء وحده. إنه قديم قدم التلال. أعتقد أنني الرجل العاقل الوحيد في هذه المدينة الذي لا يعرف شيئا عنه؛ لكني لم أعرف شيئا عنه حقا، وكانت هي أول امرأة. أنت تفهم الآن. لا أستطيع سماع كلمة ضدها ... لن أفعل! قد تكون ما تقوله. إذا كان الأمر كذلك، فعليها أن تخبرني بذلك بنفسها!» «هل تقصد أنك ستصدق أي قصة تحب تأليفها؟»
أجاب تافرنيك: «أقصد أنني ذاهب إليها، وليس لدي أي فكرة على الإطلاق عما سيحدث - هل سأصدقها أم لا.» وواصل حديثه مستعيدا شخصيته الحقيقية بعد أن انتهت ضغوط الكلام غير المألوف: «أستطيع أن أرى ما هو رأيك بي. سأخبرك بشيء سيبين لك أنني أدرك الكثير. أعرف الفرق بين بياتريس وإليزابيث. منذ أقل من أسبوع، طلبت من بياتريس أن تتزوجني. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي استطعت التفكير فيها، الطريقة الوحيدة لقتل الحمى.»
سأل بريتشارد بفضول: «وبياتريس؟»
أجاب تافرنيك: «رفضت. برغم كل شيء، لماذا عساها أن توافق؟ ما زال لدي طريق طويل لشقه بعد. ولا أستطيع أن أتوقع من الآخرين أن يؤمنوا بي كما أومن بنفسي. كانت لطيفة لكنها رفضت.»
أشعل بريتشارد سيجارا.
وقال: «اسمع يا تافرنيك، أنت شاب صغير، والحياة لا تزال أمامك والحياة شيء كبير. أفرغ عقلك من تلك الأفكار الرومانسية، وشمر عن ساعديك وانطلق في طريقك. أنت لست من هؤلاء الضعفاء الذين يحتاجون إلى همسات امرأة في آذانهم لتحفيزهم على المضي قدما. يمكنك العمل بدون ذلك. إنه مجرد فصل في حياتك - مرور هؤلاء الأشخاص الثلاثة. منذ بضعة أشهر، لم تكن تعلم شيئا عنهم. دعهم يذهبوا. وعد إلى حيث كنت.»
ثم ضحك تافرنيك لأول مرة - ضحكة بدت طبيعية.
وقال: «هل سبق لك أن وجدت رجلا يمكنه فعل ذلك؟ تعطي الشمعة ضوءا جيدا في بعض الأحيان، لكنك لن تظن أنها صاحبة الإضاءة الأعلى أبدا بعد أن ترى الشمس. لا تهتم بأمري يا بريتشارد. ومع ذلك، فسأبذل قصارى جهدي، ولكن هناك شيئا واحدا لن يغيره شيء أبدا. سأجعل تلك المرأة تحكي لي قصتها، وسأنصت إلى الطريقة التي تقولها بها لي. أنت تعتقد أنني أحمق فيما يتعلق بالنساء. وأنا كذلك بالفعل، ولكن لدي نعمة عظيمة منحت للحمقى ... إنهم يستطيعون أن يفرقوا بين الصدق والكذب. نوع من الموهبة الفطرية على ما أعتقد. سوف تخبرني إليزابيث بقصتها وسوف أعرف، عندما تخبرني إياها، ما إذا كانت كما تقول أنت، أم كما بدت لي.»
مد بريتشارد يده.
وقال: «أنت نوع غريب يا تافرنيك. أنت تأخذ الحياة بجدية زائدة. كل ما أتمناه أن تحصل منها على كل ما تتمنى. الوداع!»
فتح تافرنيك النافذة بعد أن غادر زائره، ومال عليها بضع دقائق، سامحا للهواء العليل بالدخول إلى الغرفة المغلقة المكتومة. ثم صعد إلى الطابق العلوي، واغتسل وبدل ثيابه، وحاول تناول طعام الإفطار، ثم اطلع على خطاباته بدقة منهجية. وفي الساعة الحادية عشرة، انطلق في رحلته.
الفصل السابع والعشرون
تافرنيك يختار
ظل تافرنيك ينتظر في ردهة ميلان كورت مدة نصف ساعة على الأقل قبل أن تستعد إليزابيث لرؤيته. تجول في المكان بلا هدف وهو يراقب الناس يأتون ويذهبون، ويطل على الفناء الخارجي المعلقة فيه الزهور، غير مدرك لنفسه ولمهمته التي جاء من أجلها بشكل عجيب، وغير قادر على تركيز أفكاره للحظة، ومع ذلك كان مفعما طوال الوقت بالإحساس الباهت والمضطرب لشخص يتحرك في المنام. بين الحين والآخر يسمع أجزاء من الحديث من الخدم والمارة، تشير إلى حادثة الليلة الماضية. التقط جريدة لكنه ألقى بها بعد إلقاء نظرة عابرة على الفقرة. لقد رأى ما يكفي لإقناعه أنه في الوقت الحاضر، على أي حال، بدت إليزابيث واثقة من قدر معين من التعاطف. كانت سيرة حياة المسكين وينهام جاردنر قد سجلت كتابة، مع القليل من التخفيف، والقليل من الرحمة. أفعاله السيئة في باريس، وحياته في نيويورك، تحدثت عن نفسها. استشهد به كنمط معين من الأشخاص، شخص فاسد متهتك منغمس في الملذات، والجريمة بالنسبة إليه استرخاء والرذيلة عادة. لم يكن تافرنيك ليقرأ أكثر من ذلك. ربما كان كل هذه الأشياء، ومع ذلك فقد أصبحت زوجته!
أخيرا جاءت الرسالة التي كان ينتظرها. كالعادة، قابلته خادمتها عند باب جناحها وأدخلته. كانت إليزابيث ترتدي ثوبا بسيطا للغاية يلائم الموقف، ويوحي حتى بالحداد بلونه الرمادي. رحبت به بابتسامة مثيرة للشفقة.
وقالت: «مرة أخرى يا صديقي العزيز، يجب أن أشكرك.»
احتضنت أصابعها أصابعه وابتسمت في وجهه. ووجد تافرنيك نفسه غير متجاوب معها بشكل غريب. كانت الابتسامة نفسها، وكان يعلم جيدا أنه هو نفسه لم يتغير، ومع ذلك بدا كما لو أن الحياة نفسها كانت متوقفة مؤقتا بالنسبة إليه.
وتابعت: «أنت أيضا تبدو متجهما هذا الصباح، يا صديقي.» ثم استدركت: «أوه، كم كان الأمر فظيعا! خلال الساعتين الماضيتين كان لدي خمسة مراسلين على الأقل، ورجل نبيل من سكوتلاند يارد وآخر من السفارة الأمريكية لرؤيتي. إنه أمر فظيع للغاية بالطبع. أهل وينهام يبذلون قصارى جهدهم لجعل الأمر أسوأ. يريدون أن يعرفوا لماذا لم نكن معا، ولماذا كان يعيش في الريف وأنا في المدينة. إنهم يحاولون إظهار أنه كان مقيدا هناك، وكأن شيئا كهذا ممكن! كان ماذرز خادمه الخاص ... ماذرز المسكين!»
تنهدت ومسحت عينيها. كان تافرنيك لا يزال صامتا. فنظرت إليه مندهشة بعض الشيء.
قالت: «أنت لست متعاطفا جدا. من فضلك تعال واجلس بجانبي وسأريك شيئا.»
تحرك نحوها لكنه لم يجلس. فمدت يدها والتقطت شيئا على المنضدة، ثم ناولته إياه. فأخذه تافرنيك بشكل تلقائي وأمسك به بأصابعه. كان شيكا باثني عشر ألف جنيه.
قالت: «انظر، أنا لم أنس. هذا هو اليوم المحدد، أليس كذلك؟ إذا أردت، يمكنك البقاء وتناول الغداء معي هنا وسنشرب نخب نجاح استثمارنا.»
أمسك تافرنيك الشيك بأصابعه؛ ولم يتحرك بأي شكل لوضعه في جيبه. فنظرت إليه وعلى وجهها نظرة عابسة حائرة.
صاحت: «أرجوك، تحدث أو قل شيئا. أنت تنظر إلي بقسوة. قل شيئا. اجلس وكن طبيعيا.» «هل لي أن أسألك بعض الأسئلة؟»
فأجابت: «بالطبع يمكنك ذلك. يمكنك أن تفعل أي شيء أفضل من الوقوف هناك بينما تبدو عليك القسوة والجمود. ما الذي تريد أن تعرفه؟» «هل كنت تدركين أن وينهام جاردنر كان من هذا النوع من الرجال عندما تزوجته؟»
هزت كتفيها قليلا.
ثم اعترفت: «أعتقد أنني كنت أدرك.» «إذن فقد تزوجته فقط لأنه كان ثريا؟»
ابتسمت.
وسألته: «وما الذي تتزوج النساء من أجله أيضا، يا عزيزي الواعظ؟ ليس خطئي إذا كان هذا لا يبدو لطيفا. يجب أن يمتلك المرء المال!»
أمال تافرنيك رأسه بشدة؛ ولم يبد أي علامة على المعارضة. «أتيتما إلى إنجلترا، بصحبة بياتريس وأبيك. ثم تركتك بياتريس لأنها رفضت أشياء معينة.»
أومأت إليزابيث برأسها.
وقالت: «ربما يجدر بك أن تعرف الحقيقة كذلك. بياتريس لديها أكثر الأفكار سخافة. بعد أسبوع مع وينهام، علمت أنه ليس شخصا يمكن أن تعيش معه أي امرأة. خادمه كان في الحقيقة حارسه؛ كان يتعرض لنوبات هستيرية لدرجة أنه كان بحاجة إلى شخص يلازمه دائما. اضطررت لتركه في كورنوول. لا أستطيع أن أخبرك بكل شيء، لكن كان من المستحيل تماما بالنسبة إلي الاستمرار في العيش معه.»
علق تافرنيك قائلا: «بياتريس، كان لها فكر آخر.»
نظرت إليزابيث إليه بسرعة من بين جفنيها. ورغم ذلك، كان من الصعب عليها أن تفهم أي شيء من وجهه.
اعترفت إليزابيث: «بياتريس كان لها فكر مختلف. اعتقدت أنني يجب أن أرعاه، وأتحمله، وأتخلى عن جميع أصدقائي، وأحاول الحفاظ على حياته. يا إلهي، كان من الممكن أن يكون هذا بالنسبة إلي استشهادا وبؤسا مطلقا. كيف يمكن أن يتوقع مني أن أفعل مثل هذا الشيء؟»
أومأ تافرنيك برأسه بتجهم.
ثم سأل: «ماذا عن المال؟»
اعترفت قائلة: «حسنا، ربما كنت أنانية قليلا في هذا الأمر.» وأضافت وهي تومئ برأسها إلى الشيك في يده: «لكنك يجب ألا تتذمر من ذلك. لقد علمت عندما كنا متزوجين أنني سوف أواجه مشاكل. كان أهله يكرهونني، وكنت أعلم أنه في حالة حدوث أي شيء مثل ما حدث، فإنهم سيحاولون إعطائي أقل قدر ممكن من حقوقي؛ ولذا قبل مغادرتنا نيويورك، جعلت وينهام يحول أكبر قدر ممكن من المال إلى نقود. وجلبنا هذا المال معنا.» «ومن الذي كان مسئولا عن هذا المال؟»
ابتسمت إليزابيث.
وأجابت: «أنا بالطبع.»
قال تافرنيك: «أخبريني عن ليلة أمس. أعتقد أنني غبي لكني لا أفهم تماما.»
فردت: «وكيف ينبغي لك؟ اسمع، إذن. أعتقد أن وينهام قد سئم من الحبس مع ماذرز، على الرغم من أنني متأكدة من أنني لا أعرف ما كان بإمكاني فعله بخلاف ذلك.» ثم أضافت مرتجفة: «لذلك فقد تحين الفرصة، وعندما لم يكن الرجل ينظر نحوه ... حسنا، أنت تعرف ما حدث. ثم وصل إلى لندن بطريقة ما وشق طريقه إلى شارع دوفر.» «لماذا شارع دوفر؟»
أوضحت إليزابيث قائلة: «أعتقد أنك تعرف أن وينهام لديه أخ يشبهه تماما، اسمه جيري. كان لهذين الاثنين دائما شقة في شارع دوفر، حيث احتفظا ببعض الملابس الإنجليزية وخادم. وكان جيري جاردنر في لندن. كنت أعرف ذلك، وكنت أتوقع رؤيته كل يوم. ذهب وينهام إلى الشقة، وارتدى ملابس أخيه، حتى إنه ارتدى خاتمه وبعض مجوهراته، التي كان يعلم أنني سوف أتعرف عليها، وجاء إلى هنا.» وواصلت بصوت مرتجف: «لقد صدقت ... نعم لقد صدقت طوال الوقت أن جيري هو من كان جالسا معي. مرة أو مرتين أصبت بنوع من الرعشة الرهيبة. ثم تذكرت كم كانا متشابهين وبدا لي أنه من السخف أن أخاف. لم أعرف حتى وصلنا إلى الطابق العلوي، وأغلق الباب خلفي، واستدار نحوي وعرفت!»
وضعت رأسها فجأة في يديها. كانت هذه تقريبا أول علامة على انفعالها. حللها تافرنيك بلا رحمة. كان يعلم جيدا أنه كان خوفا، خوف الجبان من تلك اللحظة الرهيبة. «والآن؟»
استطردت ببهجة أكبر: «الآن، لن يجرؤ أحد على إنكار أن وينهام مجنون. سوف يوضع تحت الحراسة، بالطبع، وستمنحني المحاكم إعانة. وهناك شيء واحد مؤكد تماما، وهو أنه لن يعيش عاما.»
أغلق تافرنيك عينيه نصف إغلاقة. لم يظهر أي علامة على معاناته، ولم يبد أي أثر للأشياء التي كانت تتسلل خارجة من حياته! بدا أن المرأة التي ابتسمت له لا ترى شيئا. ظنت أن ارتعاش أصابعه، والرجفة البسيطة التي اعترت وجهه، بسبب خوفه عليها.
قالت بنبرة متغيرة فجأة: «والآن ، انتهى كل هذا. الآن أنت تعرف كل شيء.» وأضافت وهي تبتسم له بسرور: «لا مزيد من الألغاز. بالطبع، كل هذا فظيع جدا، لكني أشعر كما لو أن ثقلا كبيرا قد انزاح عن كاهلي. أنت وأنا سنكون صديقين، أليس كذلك؟»
نهضت ببطء على قدميها وتوجهت نحوه. وراقبت عيناه حركاتها الهادئة الرشيقة كما لو كان مفتونا. لقد تذكر كيف أنه في تلك الزيارة الأولى كان يظن أن مشيتها رائعة. كانت لا تزال تبتسم له، وأسندت أصابعها على كتفيه.
تمتمت قائلة: «أنت شخص غريب جدا. لست مثل أي من الرجال الذين عرفتهم من قبل، أي من الرجال الذين حرصت على صداقتهم. هناك شيء فيك مختلف تماما. أظن أن هذا هو السبب في أنني معجبة بك. هل أنت مسرور؟»
للحظة جموح واحدة، تردد تافرنيك. كانت قريبة جدا منه لدرجة أن شعرها لامس جبهته، وشعر بأنفاسها تتسلل من شفتيها المنفرجتين على خديه. كانت عيناها الزرقاوان تتوسلان إليه وتغريانه في الوقت نفسه.
قالت هامسة: «ستكون صديقي العزيز، أليس كذلك يا ليونارد؟ أشعر أنني بحاجة إلى شخص قوي مثلك لمساعدتي خلال هذه الأيام.»
فجأة قبض تافرنيك على اليدين اللتين كانتا على كتفيه ودفعهما للخلف. شعرت بأنها قد ثبتت في مكانها بملزمة، واستولى عليها رعب مفاجئ. رفعها من مكانها فلمحت وجهه الجامد المتوحش. ثم خرجت أنفاسه من خلال أسنانه المطبقة. كان جسده بالكامل يرتجف لكن ثورته هدأت. فدفعها ببساطة بعيدا عنه.
قال: «لا، لا يمكننا أن نكون صديقين! أنت امرأة بلا قلب، أنت قاتلة!»
مزق شيكها بهدوء وألقى به بعيدا بازدراء. وقفت تنظر إليه، متسارعة الأنفاس، وقد ابيضت شفتاها، على الرغم من أن عينيه قد خلتا من إحساس القتل.
وتابع: «حذرتني بياتريس، وحذرني بريتشارد. ورأيت بعض الأشياء بنفسي، لكني أعتقد أنني كنت مجنونا. أما الآن فأنا أعرف!»
أشاح بوجهه عنها. وتبعته عيناها بتساؤل.
وصرخت: «ليونارد، أنت لن تذهب هكذا؟ أنت لا تقصد هذا!»
بعد ذلك أذهلته قدرته على ضبط النفس. لم يرد. وأغلق كلا البابين بإحكام خلفه وتوجه نحو المصعد. حتى إنها جاءت إلى الباب الخارجي ونادت عليه عبر الممر. «ليونارد، عد لحظة واحدة!»
أدار رأسه ونظر إليها، نظر إليها من زاوية الممر، بثبات ودون أن ينبس ببنت شفة. فسقطت أصابعها عن مقبض الباب. وعادت إلى شقتها وركبتاها ترتعشان، وراحت تبكي بهدوء. بعد ذلك تعجبت من نفسها. فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تبكي فيها منذ سنوات عديدة.
سار تافرنيك إلى المدينة، وفي أقل من نصف ساعة وجد نفسه في مكتب السيد مارتن. فرحب المحامي به بحرارة.
وقال: «أنا سعيد جدا برؤيتك يا تافرنيك. آمل أن تكون قد حصلت على المال. تفضل بالجلوس.»
لم يجلس تافرنيك؛ بل إنه نسي حتى أن يخلع قبعته.
قال: «مارتن، أنا آسف لك. لقد خدعت وعليك أن تدفع الثمن كما دفعت أنا. لا يمكنني التقدم لشراء الأرض. ليس لدي بنس واحد باستثناء أموالي الخاصة، وأنت تعرف مقدارها. يمكنك بيع قطع الأرض الخاصة بي، إذا أردت، واعتبار المال هو أتعابك. لقد انتهيت.»
نظر إليه المحامي فاغرا فاه.
وصاح متعجبا: «عم تتحدث بحق السماء يا تافرنيك؟ هل أنت ثمل، بأي حال من الأحوال؟»
أجاب تافرنيك: «لا، أنا يقظ تماما. كل ما هنالك أنني ارتكبت خطأ أو خطأين سيئين. ولديك توكيل رسمي مني. ويمكنك أن تفعل ما تريد بأرضي، واكتب أي شروط تريدها. طاب يومك!»
احتج المحامي، ناهضا على قدميه وهو يصيح: «لكن يا تافرنيك، اسمع هنا! أقول لك اسمعني يا تافرنيك!»
لكن تافرنيك لم يسمع شيئا، أو إذا كان قد سمع، فإنه لم يعره انتباها. وخرج إلى الشارع وتاه بين الحشود المسرعة على الأرصفة.
الجزء الثاني
الفصل الأول
آفاق جديدة
غادر تافرنيك محطة السكة الحديد سيرا على الأقدام متوجها نحو أفق السماء، عبر الريف المنبسط، يتعثر ويزحف فوق الخنادق العميقة، ويخوض أحيانا في المستنقع ليشق طريقه في تلك الليلة بثبات في اتجاه البحر، كشخص يلاحقه عدو شرس لا يعرف الكلل. وأسدل الشفق مثل عباءة من حوله، أسدل على تلك المنطقة المستوية العظيمة من المراعي والمستنقعات. وبدأت بقع صغيرة من الضباب، التي تنذر بالغموض القادم، تسحب الآن إلى الظلام التدريجي. وبدأت الأضواء القادمة من المساكن المتناثرة تومض. ويتصاعد من هنا وهناك نباح كلب، وصياح طائر منعزل يبحث عن ملجأ إلى رفيقه، ولكن يبدو أنه لا يوجد أحد في الأفق من البشر باستثناء هذا المسافر الوحيد.
كان تافرنيك في حالة يرثى لها. كانت ملابسه ملطخة بالطين، وشعره مشعثا بفعل الريح، ووجنتاه شاحبتين، وعيناه مفعمتين باليأس إثر تلك الاضطرابات العنيفة التي مر بها. لعدة ساعات، انتصر الألم المعنوي الذي دفعه إلى مسقط رأسه على الإرهاق الجسدي. ولكن حان الوقت الذي أكد فيه الأخير نفسه. فقد انهار جسده وهو يئن أنينا مكتوما. تسبب الإرهاق التام في غفوة قصيرة ولكن رحيمة من النوم غير المستقر. استلقى على ظهره بالقرب من أحد السياجات العريضة، وذراعاه ممدودتان، وعيناه اللتان عجزتا عن الرؤية تتجهان نحو السماء. تعمق الظلام ثم خف مرة أخرى أمام نور القمر. وعندما جلس أخيرا، كان ينظر إلى عالم جديد، أرض غريبة، مقمرة في بعض الأماكن، لكنها مليئة بالكآبة المظلمة. كان يحدق حوله بتساؤل وقد نسي كل شيء لحظات. ثم رجعت الذاكرة، ومع رجوعها رجع شعوره بالطعنة في قلبه. فوقف على قدميه وذهب بعزم في طريقه.
سار تقريبا حتى بزوغ الفجر، مقتربا قدر الإمكان من الخط الطويل الرتيب من أعمدة التلغراف، ومتجنبا الطريق قدر الإمكان. ومع شروق الشمس، تسلل إلى كوخ على جانب الطريق وظل مختبئا فيه ساعات. بدا أن الجوع والعطش كأنهما أشياء لا يفكر بها. كان كل ما يشتهيه هو النوم فحسب، النوم والنسيان.
بدأت خيوط الغسق تغزل حوله مرة أخرى قبل أن يجد نفسه واقفا على قدميه، ويبدأ مرة أخرى في رحلته ذات الفكر الغريب هذه. هذه المرة استمر في السير على الطريق، وهو يسير بخطى متعبة ومكتئبة، ولا يزال فيها شيء من تلك العجلة المضطربة التي دفعته للمضي قدما بلا توقف كما لو كانت تتملكه بالفعل روح قلقة. إلا أنه بدأ الآن يستعيد جزءا قليلا من فطرته السليمة. وتذكر أنه ينبغي أن يأكل ويشرب، فبحث عن الطعام والشراب في إحدى الحانات على جانب الطريق مثل مسافر عادي، وقهر دون أي جهد ظاهر نفوره الشديد من وجه أي إنسان. ثم مضى مرة أخرى عبر هذه الأرض الغريبة من طواحين الهواء والسهول المنتشرة، حتى أجبره الظلام على الاحتماء مرة أخرى. في تلك الليلة نام كالطفل. وبحلول الصباح، كانت الحمى قد زالت من دمه. وهبت على وجهه ريح عظيمة وهو يفتح عينيه بعد أن أيقظته شمس الصباح، ريح هبت عبر السهول المستوية، وعبقت بملوحة المحيط وشذى الكثير من نباتات المستنقعات. كان قادما نحو البحر الآن، وعلى مسافة قصيرة جدا من المكان الذي أمضى فيه الليل، وجد نهرا واسعا يترقرق في الأرض. وبأصابعه الشغوفة جرد نفسه من ملابسه وانغمس في الماء، غاص مرارا وتكرارا تحت سطح الماء، وراح يضرب الماء ضربات طويلة وهادئة سابحا في كل اتجاه. بعد ذلك استلقى فوق العشب الدافئ الجاف، وارتدى ملابسه بهدوء، ثم مضى في طريقه. دوت الريح، التي ازدادت الآن قوة منذ الصباح الباكر، عبر الأراضي المستوية، وراحت تحني قمم الأشجار القليلة المتناثرة، وتلف طواحين الهواء، وتعبق الآن برائحة البحر والملح المنعشة التي أصبحت أقوى من أي وقت مضى. فقال تافرنيك لنفسه إنه دخل إلى عالم جديد تماما. سيحتضن هذا العالم وسوف تصبح الحياة مختلفة وجديدة.
هاجت ذكرياته عندما اقترب المساء، وهو ينزل على تل شديد الانحدار ويسير إلى قرية غريبة منسية، بنيت أكواخها المتناثرة ذات القرميد الأحمر حول ذراع من البحر. وبجرأة كافية، دخل الآن إلى النزل الوحيد الذي عرض لافتته متباهيا على الشارع المرصوف بالحصى، واحتل مقعدا في المطبخ ذي الأرضية الحجرية، وأكل وشرب وحجز سريرا. في وقت لاحق، نزل إلى رصيف الميناء وأقام صداقات مع العدد القليل من الصيادين الذين كانوا يتسكعون هناك. أجابوا عن أسئلته دون تردد، على الرغم من أنه وجد صعوبة في البداية في التعرف مرة أخرى على اللهجة التي كان يستخدمها هو نفسه ذات مرة. لم يكد المكان الصغير يتغير. في الواقع، بدا أن التطور لم يمسه بأي شكل. كان في القرية حفنة من الصيادين وباني قوارب وبائع أسماك. لم تكن هناك صناعة أخرى باستثناء بيتي مزرعة صغيرين على أطراف المكان، ولم تكن هناك سكة حديدية في حدود اثني عشر ميلا. نادرا ما كان السياح يأتون، أما المتنزهون فلم يأتوا إطلاقا. وقرأ تافرنيك في تعبيراتهم نصف القانعة ونصف الشهوانية التي بدت شائعة في جميع السكان، بسهولة كافية؛ تاريخ حياتهم الخالية من الأحداث. لقد كان مثل هذا الملجأ، في الواقع، هو ما يبحث عنه.
في الليلة الثانية بعد وصوله، سار مع صانع القوارب على الرصيف الخشبي. كان اسم صانع القوارب نيكولز، وكان رجلا موسرا إلى حد ما، وكان شماس الكنيسة، وله علاقات واسعة بصفته نجارا عاملا، وبصفته يمتلك الحصان الوحيد والعربة في المكان.
قال تافرنيك: «نيكولز، أنت لا تتذكرني، أليس كذلك؟»
هز صانع القوارب رأسه ببطء وتأمل.
ثم قال بطريقة توحي بالتذكر: «كان هناك رجل يدعى ريتشارد تافرنيك وكان يزرع الحقول المنخفضة. ربما أنت ابنه. الآن بدأت أتذكر، كان لديه صبي يتدرب على النجارة.»
أجاب تافرنيك: «كنت أنا هذا الصبي. وسرعان ما سئمت من النجارة وذهبت إلى لندن.»
قال نيكولز: «لقد كبرت للغاية حتى كدت لا أعرفك، لكنني تذكرتك الآن. إذن، فقد كنت في لندن كل هذه السنوات؟»
اعترف تافرنيك: «لقد كنت في لندن، وأعتقد أن هذه القرية هي المكان الأفضل بين الاثنين.»
اعترف صانع القوارب: «إنها جيدة بما يكفي، جيدة بما يكفي لرجل غير قادر على التغيير.»
أكد تافرنيك بتجهم: «التغيير سعادة مبالغ في تقديرها. لقد كان لدي الكثير منه في حياتي. أعتقد أنني أود البقاء هنا بعض الوقت.»
فوجئ صانع القوارب، لكنه كان رجلا ذا فكر راجح مترو، ولم يلزم نفسه بالكلام. وواصل تافرنيك حديثه.
قال: «كنت أعرف شيئا عن النجارة في أيام صباي، ولا أعتقد أنني نسيت كل شيء. ترى، هل بإمكاني أن أجد أي شيء أفعله هنا؟»
مسد ماثيو نيكولز لحيته متفكرا.
وقال : «الناس في هذه الأنحاء ليست منحازة إلى الغرباء، وأنت ابتعدت منذ مدة طويلة وأعتقد أنك لن تجد الكثيرين يتذكرونك. أما بالنسبة إلى أعمال النجارة، فهناك توم ليك في ليسر بليكني وشقيقه في برانكاستر، بالإضافة إلي أنا في هذه البقعة، كما تعرف. إنها بداية سيئة، إذا سألت رأيي، لا سيما بالنسبة إلى شخص مثلك، شخص متعلم.»
أصر تافرنيك قائلا: «سوف أرضى بأقل القليل. أريد أن أعمل بيدي. أود أن أنسى بعض الوقت أنني تلقيت أي تعليم على الإطلاق.»
قال نيكولز بتأمل: «هذا يبدو غريبا للغاية بالنسبة إلي.»
ابتسم تافرنيك.
وقال: «اسمعني، ليس الأمر غير طبيعي تماما. أريد أن أصنع شيئا بيدي. أعتقد أنه يمكنني بناء القوارب. لماذا لا تأخذني إلى حوض بناء القوارب الخاص بك؟ لا يمكنني أن أتسبب في أي ضرر ولا أريد أجرا عاليا.»
مسد ماثيو نيكولز لحيته مرة أخرى وفي هذه المرة عد حتى خمسين، كما كانت عادته عند مواجهة أمر صعب. لم يكن بحاجة إلى فعل أي شيء من هذا القبيل؛ لأنه لا يوجد شيء في العالم كان سيحثه على اتخاذ قراره على الفور فيما يتعلق بعرض خطير مثل هذا.
اعترض قائلا: «لست جادا بالتأكيد. فأنت شاب وذو بنية قوية، على ما أعتقد، ولكنك على قدر من التعليم ... يمكنني أن أرى ذلك من خلال الطريقة التي تنطق بها كلماتك. لن تحصل هنا إلا على حياة فقيرة، رغم كل شيء.»
قال تافرنيك بإصرار: «أحب المكان. وأنا رجل ذو احتياجات بسيطة. أريد أن أعمل طوال اليوم، أعمل حتى أتعب بما يكفي للنوم ليلا، أعمل حتى تصرخ عظامي وتتقرح ذراعي. وأظن أنك يمكن أن تعطيني ما يكفي للعيش بطريقة متواضعة؟»
أجاب نيكولز: «تناول معي طعام العشاء. في هذه المسائل المهمة، لطالما كانت ابنتي لها رأيها. سنعرض الأمر عليها ونرى ما تعتقد فيه.»
استمرا في التمشية على رصيف الميناء حتى ومض الضوء من منارة ويلز عبر البحر، وحتى استطاعا على البعد سماع أنين المد القادم وهو يترقرق فوق الحاجز ويبدأ في ملء طريق المد الذي امتد إلى الرصيف الخشبي نفسه. ثم شق الرجلان طريقهما عبر شارع القرية، وعبر أحد الحقول، حتى وصلا إلى الحوض الصغير الذي كانت توجد فوقه لافتة «ماثيو نيكولز، صانع قوارب». وفي زاوية من الحوض، كان يوجد الكوخ الذي يعيش فيه.
قال وقد ثارت غريزة حسن الضيافة داخله فور أن عبرا البوابة: «تفضل بالدخول مباشرة يا سيد تافرنيك. سنتحدث في هذا الأمر معا، أنت وأنا وابنتي.»
بدا تافرنيك، عند تقديمه للأسرة، رجلا غير معتاد على المجتمع الأنثوي. ربما لم يكن يتوقع أن يجد هذا النوع من الفتيات مثل روث نيكولز في مثل هذا الحي النائي. كانت نحيفة وخداها أكثر شحوبا من خدي أي فتاة أخرى رآها في القرية. كانت عيناها أيضا أغمق لونا، وكان حديثها مختلفا. لم يكن هناك أي شيء فيها يذكره على الإطلاق بالطفلة التي لعب معها. راقبها تافرنيك باهتمام. وسرعان ما خطرت له فكرة أنها هي أيضا تبحث عن ملجأ.
كان العشاء وجبة بسيطة، لكنها كانت تقدم بشكل أنيق ومهذب. وكان للفتاة موهبة التحرك بلا ضوضاء. كانت سريعة دون أن تعطي انطباعا بالتسرع. عاملت ضيفهما على نحو مهذب، لكن يبدو أنها لم تكن تتذكره كثيرا، كما أن مجيئه لم يكن أمرا ذا أهمية. بعد أن نظفت المفرش، وقدمت التبغ، طلب منها والدها أن تجلس معهما.
وبدأ حديثه بهدوء: «السيد تافرنيك يفكر في الاستقرار في هذه الأنحاء يا روث.»
أومأت برأسها بجدية.
وتابع والدها: «يبدو أنه سئم وتعب من المدينة ومن العمل الذهني. ويتمنى أن يأتي معي إلى حوض بناء القوارب، إذا أمكننا أن نجد ما يكفي من العمل لشخصين.»
نظرت الفتاة إلى الزائر، ولأول مرة كان هناك قدر من الفضول في نظرتها الجادة. كان تافرنيك، بطريقته، وسيما بما يكفي عند النظر إليه. كان ذا بنية سليمة، وكان كتفاه وقوامه ينمان على القوة. وكانت ملامحه محددة بوضوح، على الرغم من أن تعبيرات وجهه بشكل عام كانت متجهمة. ولكن باستثناء تقطيبة جبينه وفظاظته التي يبدو أنه يحاول تهذيبها، ربما كان يمكن اعتباره حسن المظهر.
قالت بتردد: «السيد تافرنيك سيرتكب خطأ فادحا. ليس من المرضي لأولئك الذين يحظون بالتعليم أن يعملوا بأيديهم. إنه ليس مكانا يعيش فيه أولئك الذين خرجوا إلى العالم. ففي معظم فصول السنة ما هي إلا برية. وفي بعض الأحيان يكون هناك القليل للقيام به، حتى بالنسبة إلى أبي.»
أجاب تافرنيك: «أنا لا أطمح إلى العمل الكثير أو إلى المال الوفير يا آنسة نيكولز. سأكون صريحا مع كليكما. لقد سارت معي الأمور في ذلك العالم على غير ما يرام؛ لم يكن خطئي، لكن أحوالي تدهورت. وكل طموحاتي قد انتهت ... على الأقل في الوقت الحالي. أريد أن أرتاح، أريد أن أعمل بيدي، وأن أنمي عضلاتي مرة أخرى، وأشعر بقوتي، وأصدق أن هناك شيئا مفيدا في العالم يمكنني القيام به. لقد أصبت بصدمة، بخيبة أمل ... أطلقي عليها ما تريدين.»
أومأ العجوز نيكولز برأسه متأملا.
وقال: «حسنا، إنه تغيير كبير للقيام به. لم أفكر مطلقا في الحصول على مساعدة في حوض بناء القوارب من قبل. عندما يكون هناك أكثر مما يمكنني فعله، فإنني كنت أرفض العمل. تعال مدة أسبوع للتجربة يا ليونارد تافرنيك. إذا كان سيفيد أحدنا الآخر، فسرعان ما سنعرف ذلك.»
عادت الفتاة التي كانت تتطلع إلى الليل في الخارج.
وقالت: «أنت ترتكب خطأ يا سيد تافرنيك. أنت أصغر بكثير وأقوى من أن تنهي معركتك.»
نظر إليها بثبات وتنهد. كان من الواضح جدا أنها قد حاربت معركتها وانهزمت فيها.
أجاب بهدوء: «ربما أنت على حق. ربما ما أريده هو الراحة فحسب. سوف نرى.»
الفصل الثاني
الحياة البسيطة
هكذا أصبح تافرنيك صانع قوارب. ومر الصيف وفي أعقابه الشتاء وبدت هذه القرية الصغيرة الواقعة على البحر، كما لو كانت إحدى البقع المنسية على الأرض. باستثناء تلك الأكواخ القليلة، وبيتي المزرعة على بعد بضع مئات من الياردات نحو الداخل، والقاعة المهجورة نصف المخبأة في بستان من أشجار الصنوبر، لم يكن هناك مكان للسكن ولا أي علامة على وجود بشر إلى أميال عديدة. كان تافرنيك يعمل مدة ثماني ساعات في اليوم، معظمها في الخارج، في حوض بناء القوارب الصغير المعلق فوق الشاطئ. في بعض الأحيان كان يرتاح من أعماله وينظر إلى البحر، وينظر حوله كما لو كان مبتهجا بتلك العزلة غير المنقطعة، وفراغ المحيط الرمادي، ووحدة الأرض خلفه. لم يعرف أي أحد ما كان يعتمل في خلايا ذاكرته، فهو لم يحك لأحد عن ماضيه، ولا حتى لروث. لقد كان عاملا مجتهدا، وعاش الحياة البسيطة التي يعيشها الآخرون دون شكوى أو كلل. لم يكن هناك شيء في طريقته يشير إلى أنه اعتاد على حياة أخرى. وقبلته القرية دون سؤال. أما روث فكانت هي الوحيدة التي ما زالت رافضة لوجوده، بصرامة ولكن بلطف بما فيه الكفاية.
في يوم جاءت وجلست معه وهو يدخن غليونه بعد العشاء، متكئا على قارب مقلوب، وعيناه مثبتتان على هذا الخط من الموجات الرمادية المتكسرة.
قالت بهدوء: «أنت تقضي قدرا كبيرا من وقتك في التفكير، يا سيد تافرنيك.»
فاعترف على الفور: «كبيرا جدا، يا آنسة نيكولز. من الأفضل أن أستغل وقتي في كشط ذلك الصاري هناك وتسويته.»
فقالت بلوم: «أنت تعلم أنني لم أقصد ذلك. أحيانا فقط تجعلني ... هل أعترف بذلك؟ ... أكاد أغضب منك.»
أخرج غليونه من فمه وأسقط الرماد. وبينما يقع على الأرض، نظر إليه.
وقال بتجهم: «كل التفكير هو وقت ضائع. الماضي مثل هذا الرماد؛ مات وانتهى.»
هزت رأسها.
وردت: «ليس دائما. أحيانا يعود الماضي إلى الحياة من جديد. في بعض الأحيان، ينسحب أشجعنا من القتال مبكرا جدا.»
نظر إليها بتساؤل وبعنف تقريبا. إلا أن كلماتها بدت غير مقصودة.
قال: «فيما يتعلق بماضي أنا، فقد مات وانتهى. ووضعت عليه نصبا تذكاريا، ولم يعد من الممكن أن يعود إلى الحياة.»
أجابت: «لا يمكنك الجزم بهذا. لا أحد يستطيع أن يجزم بهذا.»
عاد إلى عمله بأسلوب يكاد يكون فظا، ولكنها بقيت بجانبه.
قالت بتأمل: «في مرة، أنا أيضا خرجت قليلا إلى العالم. كنت معلمة في مدرسة في نوريتش. ووقعت في حب شخص ما هناك؛ وعقدت خطوبتنا. ثم ماتت والدتي واضطررت إلى العودة لرعاية والدي.»
أومأ برأسه.
وقال: «ثم ماذا؟»
تابعت بهدوء: «نحن بعيدون جدا عن نوريتش. بعد مدة وجيزة من مغادرتي، شعر الرجل الذي كنت مغرمة به بالوحدة. ووجد امرأة أخرى.»
فسألها تافرنيك بسرعة: «وهل نسيته؟»
فأجابت: «لن أنساه أبدا. لقد انتهى هذا الفصل من حياتي، ولكن إذا استطاع أحد أن يحل محلي لدى والدي، فسأعود إلى عملي مرة أخرى. في بعض الأحيان، هؤلاء الذين يعملون بشكل أفضل ويحققون نجاحا أكبر هم من يحملون ندوب جرح عميق.»
وعادت إلى المنزل مرة أخرى، وبعد ذلك بدا له أنها تجنبته بعض الوقت. على أي حال، لم تقم بأي محاولة أخرى لكسب ثقته. ومع ذلك كان القرب المكاني أمرا صعبا بالنسبة إلى كليهما. كان ساكنا تحت سقف والدها. وكان من غير الممكن بالنسبة إليهما أن يفترقا. أيام السبت والأحد كانا يمشيان أحيانا أميالا عبر المستنقعات المتجمدة، في الأجواء المتسارعة القاتمة إلى ما بعد الظهيرة، عندما كانت الشمس المخضبة باللون الأحمر تغرق مبكرا خلف التلال، ويزداد وقت الشفق قصرا كل يوم. راقبا طيور البحر معا ورأيا البط البري ينزل إلى البرك؛ شعرا بحرارة التمرين تحرق وجنيتهما، وشعرا أيضا بهذه البهجة الشائعة التي يتعذر وصفها، الناجمة عن وحدتهما في عزلة هذه الأماكن الخالية الجميلة. وفي المساء، غالبا ما كانا يقرآن معا؛ فقد كان نيكولز، على الرغم من أنه لم يكن سكيرا، لا يفوت أبدا الساعة أو نحوها التي يقضيها في حانة القرية. وبمرور الوقت، بدأ تافرنيك يجد في صحبتها الهادئة غير المتأثرة بالجنس، نوعا من الراحة. كان يعرف جيدا أنه بالنسبة إليها كما هي بالنسبة إليه، شيء بشري، شيء يملأ فراغا، ومع ذلك فهو شيء بلا شخصية واضحة. شيئا فشيئا شعر بالغصة التي كانت في قلبه تتضاءل. ثم تسلل ربيع متأخر - متأخر، على أي حال، في هذا الركن الجذاب من العالم - تسلل مثل بعض السحر الرائع عبر وجه المستنقعات والسهول. وتراصت نباتات الجورد الصفراء الذهبية على جانب التل البني؛ بينما تلألأت زهور الخزامى البرية في مجموعات عبر السهول ذات الخطوط الفضية، وعادت الغصون الميتة إلى الحياة. وتفتح الزعفران، خطوط طويلة من الزعفران الأصفر والأرجواني؛ تفتحت من براعم شمعية إلى أزهار نجمية الشكل على امتداد الجزء الأمامي من حديقة ماثيو نيكولز. ومع حلول الربيع، وجد تافرنيك نفسه فجأة قادرا على التخلص من الماضي. كانت مرحلة جديدة من الحياة. يمكنه الجلوس والتفكير في الأشياء التي حدثت له دون أن يخشى أن تدمره العاصفة. كثيرا ما كان يجلس ناظرا نحو البحر، يفكر في الأيام التي التقى فيها بياتريس لأول مرة، في تلك الأيام الأولى من الرفقة اللطيفة، والحماس الرائع الذي تعلم به منها. فقط عندما تسلل وجه إليزابيث إلى المقدمة، وثب من مكانه وعاد إلى عمله.
وفي يوم ما، جلس تافرنيك مستغرقا في قراءة الجريدة الأسبوعية المحلية، وقرأها بدافع الفضول أكثر من أي اهتمام حقيقي. لفت انتباهه فجأة اسم مألوف. بدا أن قلبه توقف عن الخفقان لحظة، وسبحت الصفحة أمام عينيه. وسرعان ما استعاد رباطة جأشه وقرأ:
قاعة الملكة، أنثانك رود، نوريتش
مرتين يوميا
البروفيسور فرانكلين
بمساعدة ابنته،
الآنسة بياتريس فرانكلين،
سيقدم عرضه الترفيهي الراقي المتميز الذي يشمل التنويم المغناطيسي، وعروض الاستبصار التي لم يسبق تجربتها على أي مسرح من قبل، وقراءة الأفكار، ومحاضرة مختصرة عن العلاقة بين الخرافات القديمة والتطورات الاستثنائية للعلم الحديث.
يمكن استشارة البروفيسور فرانكلين بشكل خاص سواء برسالة أو بتحديد موعد سابق. العنوان هذا الأسبوع: ذا جولدن كاو، بيلز لين، نوريتش
قرأ تافرنيك الإعلان مرتين. ثم خرج باحثا عن روث.
وقال لها: «روث، هناك شيء يناديني للرجوع، وربما للأبد.»
وللمرة الأولى، أعطته يدها.
وقالت بصراحة: «أنت الآن تتحدث كرجل مرة أخرى. اذهب ونل مرادك. وعد إلينا لتودعنا، إذا أردت ذلك، ولكن ألق أدوات النجارة في البحر.»
ضحك تافرنيك، ونظر نحو ورشة العمل الخاصة به.
وقال: «لا أظن أن لديك أي ثقة في قاربي.»
أجابت: «لست متأكدة من أنني سأبحر معك، حتى لو انتهيت من هذا القارب. فالحرفيون أولى بحرفتهم. أما أنت، فيجب أن تعود إلى شئونك الأخرى.»
الفصل الثالث
لقاء الأصدقاء القدامى
وضع البروفيسور كأسه على منضدة مطلية بالزنك. لم يتغير كثيرا إلا أنه زاد وزنا، وربما اكتسبت وجنتاه المزيد من الحمرة. كانت حركاته وإيماءاته أيضا تنم على ثقته وإيمانه بنفسه. فقد كان شخصية مؤثرة، دون شك في هذه الحانة الصغيرة.
قال: «أصدقائي، ويسكي مضيفنا من النوع الجيد. وفي الوقت نفسه، يجب ألا أنسى ...»
قاطعه شاب ملاصق له قائلا: «ستحتسي كأسا معي يا بروفيسور. اثنان ويسكي مخصوص يا آنسة من فضلك.»
هز البروفيسور كتفيه ... كانت إيماءة تمنى أن يفهمها الجميع. كان يدفع الآن ثمن الشهرة التي لا يمكن إنكارها!
قال: «هذا لطف منك يا سيدي، لطف شديد حقا. كما كنت على وشك القول، يجب ألا أنسى أنني سأكون على المسرح في أقل من نصف الساعة. ينبغي ألا أخيب ظن الجمهور يا سيدي. إنه مكان بسيط، هذا المسرح، لكنه مكتمل العدد، لقد أخبروني أنه ممتلئ من الأرض إلى السقف. وفي الثامنة والنصف يجب أن أقدم عرضي.»
قال أحد الشباب الذين أحاطوا به: «وهو عرض رائع أيضا يا بروفيسور.»
أجاب البروفيسور، ملتفتا نحو المتحدث، وكأسه في يده: «أشكرك يا سيدي. كان هناك آخرون قدموا لي مجاملة مماثلة، ويمكنني أن أقول إنهم ليسوا بعيدين عن الطبقة الأرستقراطية في بلدك ...» وتابع حديثه: «وليسوا بعيدين أيضا، كما يمكنني أن أضيف، بأعلى المستويات في البلد، أولئك الذين من مكانتهم المرموقة لم يتوقفوا قط عن إغداق عطاياهم على الأبناء الأكثر حظا في مهنتنا. العلم الذي أنا إلى حد ما رائد فيه ... لن أحتسي أي قطرة أخرى يا صديقي الشاب. اسمعني، أنا جاد جدا هذه المرة! لا مزيد من الشراب حقا.»
طرق الشاب الذي كان يرتدي ملابس ركوب فضفاضة وكان قد دخل للتو برأس عصاه المنضدة.
وأكد بثقة: «لن ترفض عرضي أبدا يا بروفيسور. فأنا من مؤيديك القدامى. لقد شاهدتك في بلاكبيرن ومانشستر ومرتين هنا. رائع كما كنت دائما! وتلك الآنسة الشابة، يا بروفيسور، أستميحك عذرا إن كانت ابنتك، فهي بلا شك، مجنونة.»
تنهد البروفيسور. لقد كان يستمتع بالحديث، لكنه كان يشعر بالقلق من مرور الوقت.
قال: «صديقي الشاب، وجهك ليس مألوفا بالنسبة إلي، لا يمكنني رفض عرضك الكريم. إلا أنه يجب أن يكون الأخير، آخر كأس.»
ثم دفع تافرنيك الباب المتأرجح ودخل، بعد أن وجه إلى هنا من قاعة الموسيقى. فوضع البروفيسور كأسه دون أن يتذوقها. وعبر تافرنيك الغرفة ببطء.
ثم قال وهو يمد يده نحوه: «أنت لم تنسني، إذن، يا بروفيسور؟»
استقبله البروفيسور دون حماس؛ ولم يعد حديثه منمقا كما كان. لقد ذكره وصول تافرنيك بأشياء نسيها بمنتهى السهولة.
تعثر قائلا: «هذا أمر مثير للدهشة للغاية، مثير للدهشة حقا. هل تعيش في هذه الأنحاء؟»
أجاب تافرنيك: «ليس بعيدا جدا من هنا. رأيت إعلانك في الصحف.»
أومأ البروفيسور برأسه.
وقال: «نعم، لقد نزلت الميدان من جديد.» ثم تابع وقد استعاد بسرعة بعضا من أسلوبه السابق: «حاولت الراحة لكنني ازددت وزنا وكسلا، ولم يكن الناس ليقبلوا باعتزالي يا سيدي. عدد العروض التي انهالت علي من وكلائي في كل مكان كان مذهلا ... مذهلا حقا!»
قال تافرنيك بأدب: «إنني أتطلع إلى رؤية أدائك هذا المساء. وفي الوقت نفسه ...»
قاطعه البروفيسور قائلا: «أنا أعرف ما تفكر فيه. حسنا، حسنا، أعطني ذراعك وسنذهب معا إلى القاعة.» ثم أضاف البروفيسور وهو يستدير: «أصدقائي، أتمنى لكم جميعا ليلة سعيدة!»
ثم فتح الباب قليلا وقفز قلب تافرنيك من بين ضلوعه. كانت بياتريس هي التي تقف هناك، شاحبة جدا ومتعبة جدا وأنحف بكثير حتى من بياتريس التي عاشت معه في الفندق الصغير، لكنها لا تزال بياتريس.
صاحت قائلة: «أبي، هل تعلم أن الساعة أوشكت ...»
ثم رأت تافرنيك ولم تقل شيئا بعدها. بدت وكأنها تتأرجح قليلا، فأخذ تافرنيك خطوة سريعة إلى الأمام، وأمسكها من يديها.
وصرخ قائلا: «أختي العزيزة، أنت مريضة!»
فاستعادت نفسها مرة أخرى في لحظة.
فأجابت: «مريضة؟ على الإطلاق. كل ما هنالك أنني كنت أسرع ... فقد تأخرنا بالفعل على العرض ... وعندما رأيتك هناك، حسنا، لقد كانت صدمة كبيرة، كما تعلم. انزل معنا وأخبرني كل شيء عنك. أخبرنا بما تفعله هنا ... أو بالأحرى، لا تقل شيئا لحظة! هذا مذهل حقا.»
نزلوا إلى الشارع الضيق المرصوف بالحصى، وكان البروفيسور يسير في منتصف الطريق، مؤرجحا عصاه، شخصية مهيبة ومدهشة، بينما يتطاير ذيل معطفه المشقوق في الهواء، وتكاد القبعة لا تخفي سوى نصف شعره الطويل. كان يدندن بلحن لنفسه، ولم يهتم مطلقا بالانتباه إلى الرفيقين الآخرين. ثم أدرك تافرنيك فجأة أنه قام بعمل جبان عندما تركها بدون أي كلمة.
بدأت الكلام أخيرا: «هناك الكثير من الأسئلة، لكنك جئت.»
نظرت إلى ملابس العمال التي يرتديها.
وسألت بحدة: «ماذا كنت تفعل؟»
أجاب تافرنيك: «أعمل، وعمل جيد أيضا. كنت متفوقا فيه. لا تبالي بملابسي يا بياتريس. لقد جننت آونة، ولكنه في النهاية كان جنونا صحيا.»
قالت: «لقد كان شيئا غريبا الذي فعلته ... لقد اختفيت.»
أومأ برأسه.
وقال لها: «يوما ما، ربما أكون قادرا على جعلك تفهمين. أما الآن فلا أعتقد أنني قادر على أن أفعل ذلك.»
فهمست بصوت هادئ: «أكانت إليزابيث؟»
فاعترف قائلا: «كانت إليزابيث.»
لم ينبس أحدهما ببنت شفة إلى أن وصلوا جميعا إلى القاعة. توقفت عند الباب ومدت له يدها بخجل.
وقالت: «هل سأراك بعد العرض؟»
فسألها: «هل تمانعين في قدومي إلى العرض؟»
فترددت.
وقالت مبتسمة: «منذ لحظات قليلة، كنت أخشى قدومك. أما الآن فأنا أعتقد أن من الأفضل أن تأتي. سينتهي العرض في الساعة العاشرة وسأنتظرك في الخارج. أنت تعيش في نوريتش، أليس كذلك؟»
أجاب: «سأبقى هنا الليلة، على أي حال.»
فقالت: «حسنا جدا، إذن سنتحدث فيما بعد.»
مر تافرنيك عبر الحشود المتناثرة عند الباب وحجز لنفسه مقعدا في القاعة الصغيرة، التي لم تكن ممتلئة، على الرغم من تفاخر البروفيسور. كان المكان ذا طراز قديم، به طاولات صغيرة في المقدمة، والندل يسارعون في تقديم المشروبات. كان الناس من أدنى طبقات المجتمع، وكان الجو عبقا بدخان التبغ. وكانت على المسرح امرأة شابة ترتدي شعرا مستعارا أشقر اللون وملابس صبيانية، تغني أغنية شعبية بسيطة، وتروح وتجيء على خشبة المسرح، بينما تعبر عن كلمات أغنيتها بتعبيرات وجهها وحركات جسدها. جلس تافرنيك متأوها بصوت يكاد يكون مسموعا. فقد بدأ يدرك المأساة التي تعثر فيها. تبع ذلك مغن كوميدي يرتدي بدلة رسمية أكبر من حجمه بدرجة كبيرة وراح يقلد ممثلا كوميديا أيرلنديا مشهورا. ثم رفع الستار وشوهد البروفيسور وهو يقف أمام الستار وينحني بطريقة رسمية جادة للجمهور غير المستجيب إلى حد بعيد. بعد لحظة جاءت بياتريس بهدوء وجلست بجانبه. لم يكن هناك شيء جديد في العرض. لقد شاهد تافرنيك العرض نفسه من قبل، باستثناء أن البروفيسور ربما كان متخلفا قليلا عن غالبية زملائه في المهنة نفسها. انتهى العرض في صمت تام، وبعد أن انتهى، تقدمت بياتريس إلى الأمام وبدأت الغناء. كانت شخصية غير عادية للغاية في مثل هذا المكان، ترتدي فستان سهرة أسود سادة، مع قفازات سوداء بلا أي مجوهرات، لكنهم طالبوها بالاستمرار في الغناء مرة أخرى بحماس شديد، فغنت أغنية من المسرحية الكوميدية الغنائية التي رآها تافرنيك تؤديها لأول مرة. فأثارت داخله فجأة موجة عاتية من الذكريات. وبدا أن أفكاره عادت إلى الليلة التي انتظرها فيها خارج المسرح وتناولا العشاء في إيمانو، وإلى اليوم الذي غادر فيه الفندق ودخل حياته الجديدة. كان الأمر الآن أشبه بحلم أكثر من أي وقت مضى.
نهض وخرج من المكان فور انتهائها من العرض، وانتظرها في الشارع إلى أن ظهرت. وخرجت في غضون بضع دقائق.
قالت: «أبي ذاهب إلى حفل عشاء في النزل الذي يحجز فيه غرفة لاستقبال الناس. فهل ستعود إلى المنزل معي لمدة ساعة؟ ثم يمكننا الذهاب وإحضاره.»
أجاب تافرنيك: «يسعدني ذلك.»
كان مسكنها على بعد خطوات قليلة فحسب ... كان منزلا صغيرا غريبا في شارع ضيق. فتحت الباب الأمامي وأدخلته.
ثم قالت مبتسمة: «أنت تفهم، بالطبع، أننا قد تخلينا تماما عن حياة الرفاهية.»
نظر حوله إلى الغرفة الصغيرة بنيران مدفأتها التي تقاوم الانطفاء، والأريكة المصنوعة من شعر الخيل، والمشمع المفروش على الأرض بدلا من السجاد، والصور الزيتية البسيطة المعلقة بدلا من اللوحات، وارتعد، ليس من أجله هو ولكن من أجلها. كان هناك بعض الخبز والجبن وزجاجة من جعة الزنجبيل على البوفيه.
قالت برجاء وهي تخرج الدبابيس من قبعتها: «أرجو أن تتخيل أنك في شقتنا المريحة العزيزة في تشيلسي. اسحب هذا الكرسي المريح إلى أقرب ما يمكن من المدفأة، واسمعني. هل ما زلت تدخن؟»
اعترف قائلا: «أصبحت أدخن الغليون.»
فتابعت وهي تمسد شعرها لحظة أمام المرآة: «إذن فأشعله واستمع إلي. تريد أن تعرف كل شيء عن إليزابيث بالطبع.»
فقال: «نعم، أريد أن أعرف.»
واصلت بياتريس حديثها قائلة: «بشكل عام، خرجت إليزابيث من كل مشاكلها على نحو رائع. كان أهل زوجها غلاظا معها، لكنها كانت غاية في الذكاء. لم يتمكنوا على الإطلاق من إثبات أنها قد مارست أكثر من السيطرة العادية على وينهام المسكين. وقد مات بعد شهرين من حجزه في مستشفى الأمراض العقلية. وعرضوا على إليزابيث مبلغا كبيرا من المال لتتخلى عن مطالبتها بحقوقها في أملاكه، وقبلته. وأعتقد أنها الآن في مكان ما في أوروبا.»
سألها: «وأنت؟ لماذا تركت المسرح؟»
قالت شارحة له: «الأمر له علاقة بعنايتي بأبي. أنت تعلم أنه حين كان مع إليزابيث كان بحوزته قدر كبير من المال ولم يكن لديه أي عمل. وكانت النتيجة أنه كان دائما ... حسنا، أظن أن علي أن أقول لك ... كثير الشرب، وفقد كل رغبته في العمل. وقد أقنعته بأن يعدني بأن يرحل معي إذا استطعت أن أحصل على عمل مناسب؛ ولذا فقد لجأت إلى وكيل وظللنا نتجول بهذا الشكل منذ مدة طويلة.»
صاح تافرنيك: «لكن يا لها من حياة بالنسبة إليك! ألم يكن بإمكانك أن تبقي في المسرح وتبحثي له عن عمل في لندن؟»
هزت رأسها.
وقالت: «لم يكن ليغير عاداته القديمة مطلقا في لندن.» ثم استدركت مترددة: «بالإضافة إلى أن الجمهور كما تعلم يريد شيئا آخر إلى جانب التنويم المغناطيسي ...»
قاطعها تافرنيك بقسوة.
وقال: «بالطبع أفهم ذلك، لقد كنت هناك الليلة. وفهمت على الفور لماذا لم تكوني متحمسة لأن أحضر العرض. لم يكن الجمهور مهتما على الإطلاق بأداء أبيك. لقد كانوا ببساطة ينتظرونك أنت. كنت ستحصلين على الأجر نفسه إذا قمت بالعرض وحدك بدونه.»
فأومأت برأسها وقد ظهر على وجهها الخجل.
وقالت معترفة: «أخشى أن يخبره أحدهم بذلك. إنهم يطلبون مني طوال الوقت أن أتخلى عن دوره في العرض. بل إنهم عرضوا علي المزيد من المال إذا أديت العرض وحدي. ولكنك تفهم الوضع. إنه يؤمن بنفسه، ويعتقد أنه شديد المهارة وأن الجمهور يحب عرضه. وهذا هو الشيء الوحيد الذي يساعده على الحفاظ على احترامه لنفسه. بل إنه حتى يظن أن غنائي غير ضروري.»
نظر تافرنيك في البريق الخافت لنيران المدفأة البائسة. وشعر بغصة ومرارة في حلقه. ما أقل ما يعرفه عن الحياة! يا لها من حكاية أثارت في نفسه مشاعر الشفقة والعطف، فمجرد فكرة أن تسافر بشجاعة عبر البلاد وتغني في قاعات الموسيقى من الدرجة الثالثة، دون أن تنسب أي فضل لنفسها، ببساطة لكي يظل والدها يعتقد أنه رجل موهوب، كانت فكرة راقت له بشدة. فمد يده نحو يدها على حين غرة.
وصاح: «بياتريس الصغيرة المسكينة! أختي الصغيرة العزيزة!»
كانت يدها التي أمسك بها باردة، وتجنبت عينيه.
وتمتمت: «ليس عليك ... ليس عليك أن تفعل هذا. أرجوك توقف!»
مد يده الأخرى ونهض تقريبا، ولكن شفتيها توقفتا فجأة عن الارتعاش وأشارت له بالرجوع.
قالت متوسلة: «لا يا ليونارد، أرجوك لا تقل أو تفعل أي شيء أحمق. ومع ذلك، فبما أننا التقينا مرة أخرى، بهذا الشكل، فسوف أطرح عليك سؤالا واحدا. ما الذي جعلك تأتي إلي وتطلب مني الزواج منك في ذلك اليوم؟»
أشاح بنظره؛ فقد كان ثمة نظرة اتهام تلوح من عينيها.
قال معترفا: «بياتريس، لقد كنت شخصا أحمق جاهلا غبيا، لا أفهم شيئا. لقد أتيت إليك طلبا للأمان. كنت خائفا من إليزابيث، كنت خائفا مما شعرت به نحوها. وأردت الهروب منه.»
ابتسمت بشفقة.
وقالت متلعثمة: «لم يكن هذا عملا شجاعا للغاية ، أليس كذلك؟»
فقال معترفا: «كان عملا وضيعا. بل كان أسوأ من ذلك.» ثم استدرك قائلا: «لكن، يا بياتريس، كنت أفتقدك بشدة. لقد تركت فجوة كبيرة عندما ابتعدت عني. أنا لن أسامح نفسي بشأن إليزابيث. لقد عشت وقتا من أغرب وأروع المشاعر التي يمكن للمرء أن يحلم بها. ثم انتهى كل شيء وشعرت كما لو أن كل شيء قد ظهر على حقيقته.» ثم واصل مترددا: «أعتقد أنني أحببتها. لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنها شغلت كل تفكيري، وأنها احتلت كل نبضة من نبضات قلبي، وأنني كنت سأذهب إلى الجحيم لمساعدتها. ثم فهمت. في ذلك الصباح أخبرتني شيئا عن حقيقة نفسها، دون قصد ... دون أن تعي ذلك ... كانت تبرر فعالها طوال الوقت، ولم تدرك أن كل كلمة قالتها كانت ملعونة. وبعد ذلك بدا لي أنه لم يتبق أي شيء، ولم يكن لدي سوى رغبة واحدة. أدرت ظهري لكل شيء وعدت إلى المكان الذي ولدت فيه، كان عبارة عن قرية صيد صغيرة. ومشيت على مدى الثلاثين ميلا الأخيرة. لن أنساها أبدا. وعندما وصلت إلى هناك، لم أرد شيئا سوى العمل، العمل بيدي. كنت أرغب في بناء شيء، في إنشاء شيء أستطيع الكد فيه. وأصبحت صانع قوارب - ومنذ ذلك الحين وأنا أعمل في صناعة القوارب.»
سألت: «والآن؟» «بياتريس!»
استدارت نحوه وواجهته. ونظرت في عينيه متعمقة فيهما بحزن شديد.
فقال: «بياتريس، إنني أوجه إليك السؤال نفسه، ولكن هذه المرة على نحو مختلف. هل تقبلين الزواج مني الآن؟ سأجد عملا ما، وسأجني ما يكفي من المال لكلينا.» ثم تابع: «هل تتذكرين ما كنت أقوله دائما، وكيف كنت أشعر أن علي فقط أن أشمر عن ساعدي وعندها سأستطيع الفوز بأي شيء؟ سوف أشعر الشعور نفسه مرة أخرى، يا بياتريس، إذا وافقت على مرافقتي.»
هزت رأسها ببطء. وأشاحت بنظرها بعيدا عنه بحسرة. كانت كمن سعى إلى شيء وفشل في العثور عليه.
قالت له: «يجب ألا تفكر في ذلك مرة أخرى يا ليونارد. سيكون هذا مستحيلا تماما. فهذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ والدي. ولدينا جولة ستستغرق الجزء الأكبر من العام القادم.»
فقال بصراحة: «ولكنك بذلك تضحين بنفسك. سوف أعتني بوالدك.»
ردت قائلة: «ليس هذا فقط. أولا: أنا لا أستطيع السماح لك بأن تفعل ذلك؛ وثانيا: الأمر لا يتعلق بالمال فقط، إنه يتعلق بالعمل. فما دام يعتقد أن الجمهور يتوقع ظهوره على المسرح كل ليلة، فإنه يمتنع عن الإفراط في الشرب. وليس هناك شيء آخر في العالم كله من شأنه أن يبقيه مستقيما. لا تتظاهر بأنك لا تفهم يا ليونارد. إنه والدي، كما تعلم، وليس هناك ما هو أفظع من رؤية أي شخص مسئول منك يضيع بمثل هذه الطريقة. قد لا تتفق معي، ولكني أرجو منك أن تصدق أنني أفعل ما أشعر أنه الصواب.»
خمدت نيران المدفأة الصغيرة. ونظرت بياتريس إلى الساعة ثم ارتدت سترتها مرة أخرى.
وقالت: «أنا آسفة يا ليونارد، لكنني أعتقد أنني يجب أن أذهب وأحضر والدي الآن. يمكنك المشي معي إلى هناك، إذا أردت ذلك. لقد سررت جدا بأن أراك مرة أخرى. بالنسبة إلى ما قلته لا أعرف ماذا أقول لك. هل تعتقد أن هذا ما خلقت من أجله ... صناعة القوارب؟»
رد بإجهاد: «لا يبدو أن لدي أي طموح آخر. عندما قرأت في الجريدة هذا الصباح أنك أنت ووالدك هنا، بدت الأمور مختلفة فجأة. وجئت في الحال. لم أكن أعرف ما أريده حتى رأيتك، لكنني أعرف الآن، ولكن بلا فائدة.»
قالت بمرح: «بلا فائدة على الإطلاق. لن يمر وقت طويل يا ليونارد، حتى يأتي شيء آخر ليثير شغفك. لا أعتقد أنك قد خلقت لصناعة القوارب طوال حياتك.»
نهض والتقط قبعته. كانت تنتظره عند الباب. ومرة أخرى سارا في الشارع الضيق.
قال متوسلا: «أخبريني يا بياتريس، هل يرجع رفضك الاستماع لما أطلبه إلى أنك لا تحبينني بما فيه الكفاية؟»
للحظة أغمضت عينيها جزئيا كما لو كانت تتألم. ثم ضحكت، ولكن ضحكتها ربما كانت ضحكة متصنعة غير طبيعية. كانا واقفين الآن بجوار باب النزل.
قالت له: «ليونارد أنت شاب صغير من حيث السن، لكنك ما زلت طفلا من حيث الخبرة. اسمعني، هناك أسباب أخرى تجعلني لا أستطيع ... ولا أحلم بأن أتزوجك، أسباب أخرى كافية تماما، ولكن ... هل تعلم أنك قد طلبت مني بالفعل الزواج مرتين، ولكنك لم تقل قط إنك تحبني، ولم تنظر إلي ولو مرة نظرة توحي بحبك لي؟» حاول الحديث فقاطعته: «لا، أرجوك، لا تفعل، لا تبرر أي شيء. افهمني، المرأة دائما تعرف ... وتعرف جيدا جدا في بعض الأحيان.»
أومأت برأسها، ومرت من خلال الأبواب المتأرجحة. سمع تافرنيك، في وقفته في الخارج في ذلك الشارع الضيق الملتوي، التصفيق والتهليل اللذين استقبلت بهما عند دخولها، وسمع صوت والدها. عزف أحدهم مقطوعة على البيانو ... كانت على وشك أن تغني. استدار ببطء شديد وسار عبر الشارع المفروش بالحصى.
الفصل الرابع
أخبار بريتشارد السارة
في وقت متأخر من بعد ظهر اليوم التالي، عادت روث إلى منزلها قادمة من القرية ووجدت تافرنيك يعمل بجد في قاربه. وضعت سلتها وتوقفت بجانبه.
قالت متسائلة: «إذن، فقد عدت من جديد.» «نعم، عدت من جديد.» «ولم يحدث شيء؟»
وافق بوهن: «لم يحدث شيء. ولن يحدث شيء على الإطلاق الآن.»
فابتسمت. «هل تقصد أنك ستبقى هنا وتصنع القوارب طوال حياتك؟»
فقال معلنا: «هذا ما أنوي القيام به.»
وضعت يدها على كتفه.
وقالت: «لا أصدق هذا يا ليونارد. هناك عمل آخر في انتظارك في مكان ما في العالم، تماما كما هو الحال بالنسبة إلي.»
هز رأسه والتقطت سلتها مرة أخرى مبتسمة.
وصرحت بمرح: «ستأتي فرصتك كما تأتي الفرصة لنا جميعا. وعندها لن ترغب في الجلوس هنا ودفن مواهبك في الرمال طوال حياتك. هل سمعت ما سيحدث لي؟» «لا! آمل أن يكون شيئا جيدا.» «ابنة عمي المفضلة لدى والدي ستأتي لتعيش معنا ... لدي سبع من بنات العم إجمالا، والزراعة لا تدر دخلا مناسبا كما كانت من قبل؛ لذا ستأتي مارجريت إلى هنا. ويقول أبي إنها إذا كانت نشيطة ومستعدة للعمل كما كانت في الماضي، فقد أعود إلى التدريس على الفور تقريبا.»
سكت تافرنيك لحظة. ثم قام وألقى أدواته.
وصاح: «يا إلهي! لعلي سأصبح الوحش الأكثر أنانية على سطح الأرض! هل تعلمين أن أول فكرة خطرت ببالي هي أنني سأفتقدك؟ أنت على حق أيتها الفتاة، علي أن أخرج مما أنا فيه.»
اختفت داخل المنزل، مبتسمة، ونادى تافرنيك على نيكولز، الذي كان جالسا بجوار السور.
وسأله: «قل لي يا سيد نيكولز، ما مقدار الوقت الذي تريده لإشعارك بأنني سأرحل؟»
أخرج ماثيو نيكولز غليونه من فمه.
وأجاب: «حسنا، لا أعلم بالتحديد، كما تريد. بيني وبينك، أصبحت بدينا وكسولا منذ أن أتيت. ليس هناك ما يكفي من العمل لشخصين، وكل ما في الأمر أنك لكونك شابا ونشيطا، فقد تركت العمل كله لك، وانظر إلى ذراعي.»
رفع ذراعيه.
ثم قال: «كانتا في السابق كلهما عضلات، أما الآن فهما ليستا سوى ذراعين مترهلتين. ولا أشرب في اليوم سوى كأسين إضافيتين من البيرة لتمضية الوقت. يمكنك البقاء إذا أردت، أيها الشاب، ولكن يمكنك الخروج للصيد وترك العمل لي، وسأدفع لك المبلغ نفسه؛ لأنني لا أقول إنني لا أحب رفقتك. أو يمكنك الرحيل متى شئت، وهذه هي نهاية الأمر.»
بصق ماثيو نيكولز على الحجارة ثم أعاد غليونه إلى فمه. وجاء تافرنيك وجلس إلى جانبه.
وقال: «اسمعني يا سيدي، أعتقد أنك على حق. سأبقى أسبوعا آخر لكني سأهون على نفسي. وواصل أنت العمل في القارب الآن. سأجلس هنا وأدخن.»
امتعض نيكولز لكنه أطاع الأمر، وفي الأيام القليلة التالية ظل تافرنيك يقضي وقته في التسكع. وعند عودته بعد ظهر أحد الأيام من تمشية طويلة، رأى شخصا مألوفا جالسا على سور البحر أمام الورشة، شخصا مألوفا لكنه غريب في هذه الأنحاء. كان السيد بريتشارد، مرتديا قبعة أمريكية من اللبد، ويدخن سيجارا شديد السواد. انحنى وحيا برأسه تافرنيك، الذي كان يحدق به فاغرا فاه.
صاح السيد بريتشارد: «مرحبا أيها الصديق القديم! أستطيع أن أركض وراءك إلى أقاصي الأرض كما ترى!»
فرد تافرنيك متعجبا: «نعم، أرى!»
واصل بريتشارد: «تعال هنا ودعنا نتحدث.»
أطاعه تافرنيك. وتفحصه بريتشارد باستحسان. كان تافرنيك يرتدي ثيابا غير مهندمة في تلك الأيام، لكنه تطور بالتأكيد كرجل.
قال زائره: «أنت تبدو على ما يرام. سأضحي بأي شيء لأحصل على هذا اللون وهذه الأكتاف!»
اعترف تافرنيك قائلا: «إنها حياة صحية. هل تقصد أنك أتيت إلى هنا لرؤيتي؟»
فأعلن بريتشارد: «هذه هي الحقيقة؛ لقد أتيت إلى هنا لرؤيتك، وليس لأي سبب آخر.» وتابع قائلا: «المناظر الطبيعية وغيرها من الأشياء رائعة هنا، ولن أنكر ذلك. لكنني أتيت إلى هنا لأتحدث إليك أنت. فهل أنت مستعد؟ هل أدخل في الموضوع مباشرة؟»
قال تافرنيك وهو يملأ غليونه ببطء: «تفضل.»
تابع بريتشارد: «لقد رحلت عن كل شيء بشكل مفاجئ جدا. ولم يحتج الأمر مني إلى الكثير من التفكير لأدرك السبب. بيني وبينك، لست أول رجل يواجه موقفا صعبا بسبب تلك الشابة.» ثم تابع راجيا: «لا تقاطعني. أنا أعرف كيف كنت تشعر. وقد كانت فكرة جيدة أن تأتي إلى هنا. فآخرون قبلك جربوا الجانب المظلم من نيويورك وباريس، ولم يكن هذا هو العلاج السليم. لقد كان جحيما، هذا ما كان عليه الأمر بالنسبة إليهم. والآن دعني أسلم جدلا في البداية بأن تلك الشابة - بما أننا يجب أن نتحدث عنها - هي أجمل بنات جنسها وأكثرهن فتنة، ولكنها لا تستحق أن تضيع حياة حلزون، ناهيك عن حياة رجل قوي.»
اعترف تافرنيك باختصار: «أنت محق. أعرف أنني كنت أحمق ... أحمق! لو كنت أستطيع أن أجد لفظا آخر يصف حالتي، لكنت استخدمته، ولكني لا أجد سوى هذا اللفظ. لقد تركت كل شيء وأتيت إلى هنا. ولا أعتقد أنك أتيت إلى هنا فقط لتخبرني عن رأيك في، أليس كذلك؟»
اعترف بريتشارد: «كلا، على الإطلاق. لقد أتيت إلى هنا لأخبرك أولا بأنك أحمق، إذا لزم الأمر. ولكن بما أنك تعرف هذا بالفعل، فهذا ليس السبب. سنتجاوز ذلك إلى المرحلة التالية، وتلك المرحلة هي، ما الذي ستفعله حيال حمقك؟»
أعلن تافرنيك: «في اللحظة الراهنة، كنت أنوي أن أغادر هذا المكان. المشكلة الوحيدة هي أنني لست حريصا جدا على الذهاب إلى لندن.»
أومأ بريتشارد برأسه مفكرا.
وقال موافقا: «لا بأس. فلندن ليست المكان المناسب للرجال على أية حال. وأنت لا تريد أن تتعلم الحيل المعتادة لكسب المال. فالمال الذي نجنيه في المدن هو في الغالب مال نجنيه بأصابع ملوثة. لدي عرض آخر أقدمه لك.»
قال تافرنيك: «تفضل. ما هو هذا العرض؟»
قال بريتشارد، مغيرا زاوية سيجاره في فمه: «بلد جديد، أرض بكر، جبال ووديان، وأنهار عظيمة لعبورها وبرودة وحرارة لتتحملها، أرض غنية بالمعادن ... البعض يقولون ذهب، ولكن دعك من هذا. يوجد بترول في أجزاء منها، ويوجد قصدير، ويوجد فحم، ويوجد آلاف وآلاف من الأميال من الغابات. أنت مساح أراض، أليس كذلك؟»
رد تافرنيك باقتضاب: «لقد اجتزت كل اختباراتي بنجاح.»
أصر بريتشارد: «أنت الرجل المناسب لهذا المكان. لدي إجازة مدة عامين ... لقد سئمت من حياة المدينة حقا ... وسأضعك على المسار الصحيح. أنت لا تعرف الكثير عن التنقيب بعد، أليس كذلك؟» «لا شيء على الإطلاق!»
تابع بريتشارد: «ستعرف قريبا. سنبدأ من وينيبيج. بضع خيول وبعض المرشدين وزوجان من الخيام. سنقضي عشرين أسبوعا يا صديقي دون أن نرى بلدة. ما رأيك في ذلك؟»
تمتم تافرنيك: «رائع!» «سنتجه إلى الغرب مدة عشرين أسبوعا. أنا أعرف طريقة بدء العمل ككل. وأعرف أيضا واحدا أو اثنين من الرأسماليين، وأراهنك أنك ستستطيع تحديد موضع بعض من أروع العقارات في كولومبيا البريطانية.»
قال تافرنيك معترضا: «لكنني لا أملك بنسا واحدا.»
فرد بريتشارد وهو يسحب جريدة من جيبه: «أنت كاذب في هذا. شاهد الإعلان بنفسك: «ليونارد تافرنيك، حرصا على مصلحته.» حسنا، لقد ذهبت إلى هؤلاء المحامين ... أو على الأحرى إلى مارتن محاميك القديم. أخبرته أنني كنت أتتبع خطاك، فقال: «بحق السماء، أرسله لي على الفور!» حقا يا تافرنيك، لقد أضحكني حين وصف لي الطريقة التي اقتحمت بها مكتبه وقلت له بأن يأخذ أرضك مقابل النفقات التي تكبدها، ثم خرجت من المكتب بسرعة الريح. عجبا، لقد تعامل في هذا الأمر بحيث اضطروا إلى شراء أرضك، وأخذوه شريكا. لقد جنى قدرا هائلا من المال، ولا يحتاج منك إلى أي نفقات، أما عن أموال أرضك، بالإضافة إلى أموالك التي كانت لديه، فكلها هناك في انتظارك.»
كان تافرنيك يدخن غليونه برصانة. وكانت عيناه موجهتين نحو البحر، لكن قلبه كان يخفق على أنغام جديدة ورائعة. أن يبدأ حياته من جديد، حياة رجل حقيقي، هناك في الخلاء، هناك في المساحات الشاسعة المفتوحة! كان هذا مذهلا حقا! استدار وأمسك بريتشارد من كتفه.
ثم صاح: «أخبرني يا بريتشارد، لم تفعل كل هذا من أجلي؟»
ضحك بريتشارد.
وقال: «لقد أسديت لي معروفا، وأنت رجل بمعنى الكلمة. تمتلك الشجاعة والإقدام ... وهذا ما أحبه. لم تكن تعرف شيئا، وكنت ساذجا وجاهلا مثل شاب يعمل في متجر ريفي، لكن يا إلهي! كنت تتمتع بخصال رائعة، وأنا نويت أن أرد لك المعروف، إذا استطعت. ستغادر معي هذا المكان غدا، وفي غضون ثلاثة أسابيع سوف نبحر.»
خرجت روث مبتسمة من المنزل.
وقالت راجية: «ألن تدخل صديقك لتناول العشاء يا سيد تافرنيك؟» ثم أضافت بصوت منخفض: «لعلها أخبار سارة؟»
فقال تافرنيك: «الأخبار الأفضل. الأفضل على الإطلاق!»
الفصل الخامس
بياتريس ترفض
بعد أسبوع كان تافرنيك في لندن. لقد أثبتت زيارته إلى صديقه السيد مارتن بسهولة ما قاله بريتشارد، ووجد نفسه يمتلك مبلغا من المال يبلغ على الأقل ضعف ما كان يتوقعه. فمكث في فندق رخيص في شارع ستراند وقام بعمليات شراء تحت إشراف بريتشارد. في الأيام القليلة الأولى كان مشغولا للغاية بحيث لم يكن لديه وقت للتفكير. ثم تركه بريتشارد بينما هرع إلى باريس، وفجأة أدرك تافرنيك أنه في المدينة التي ظن أنه لن يعود إليها أبدا. مر على الجزء الخلفي من المسرح حيث كان ينتظر بياتريس، وتفقد مدخل ميلان كورت؛ وتناول الغداء بمفرده في المطعم الصغير الذي تناول فيه العشاء مع بياتريس، وهناك شعر بمزيج غريب من المشاعر. لقد انقضى ذلك الجزء من حياته وانتهى. ومع ذلك، وبصدقه الطبيعي، لم يحاول قط أن يخفي عن نفسه الألم الذي اعتصر قلبه. وجد نفسه ثلاث مرات في يوم واحد، بحجة أو بأخرى، في مطعم إيمانو. وفي مرة، في منتصف الشارع، انفجر في نوبة من الضحك. كان ذلك عندما كان بريتشارد في لندن، وطرح عليه سؤالا.
قال: «بريتشارد، أنت رجل ذو خبرة واسعة وتجربة. هل سبق أن أحب رجل امرأتين في آن واحد؟»
أخرج بريتشارد سيجاره من بين أسنانه وحدق في رفيقه.
ثم أجاب: «عجبا يا صديقي الشاب، أنا نفسي لم أجد أي مشكلة في أن أكون مغرما بدزينة من النساء.»
ابتسم تافرنيك ولم يزد كلمة. كان بريتشارد أحد الرجال الصالحين في هذا العالم، لكن كان ثمة أشياء خفية عنه. إلا أن تافرنيك، الذي اعتاد خلال عزلته، أن يحلل أحاسيسه، كان متحيرا من شيء وحيد، وهي أنه عندما يفكر في إليزابيث، على الرغم من أن قلبه لم يتوقف قط عن الخفقان بسرعة أكبر، فإنه كان يخالجه شعور بالخزي بشكل عام؛ وعندما كان يفكر في بياتريس، كان يشعر بإحساس غريب بالوحدة، وحدة يخالطها ألم، بدا فجأة أن هذا الإحساس يجعل الساعات تمر بصعوبة ويذهب الطعم عن كل ملذات الحياة. ظل حائرا مدة يومين. وبعد ذلك ساعدته عادته في المشي مسافات طويلة في الوصول إلى حل. في قاعة موسيقى صغيرة نائية في الطرف الشرقي من لندن، رأى الإعلان نفسه الذي كان قد لاحظه في صحيفة «نورفوك» ... «البروفيسور فرانكلين» بالحروف الكبيرة، و«الآنسة بياتريس فرانكلين» بحروف أصغر.
في تلك الليلة حضر إلى قاعة الموسيقى. كان المشهد عمليا تكرارا للمشهد في نوريتش، رغم وجود بعض الإضافات. لم يلق أداء البروفيسور المتحذلق بالكاد أي تصفيق. وقاطع إكماله، فعليا، صفير وصيحات استهجان من الجمهور. أما أغاني بياتريس، من ناحية أخرى، فنالت استحسانا صاخبا أكثر من أي وقت مضى. وبذلت جهدا كبيرا لتجنب أداء أغنية ثالثة.
في نهاية العرض، شق تافرنيك طريقه إلى باب المسرح وانتظر. كان الحي بغيضا، وبدا المبنى نفسه محشورا وسط صف من المحلات ذات المستوى الأسوأ، وأكشاك الأسماك، ومتجر قبيح لمشروب الجين . قبل وقت طويل من خروج بياتريس، كان بإمكان تافرنيك سماع صوت البروفيسور صادرا من الممر المغطى، ويبدو أن صوت البروفيسور قد ارتفع غضبا. «هذا سلوك غير لائق، هذا ما أسميه ... غير لائق!»
اندفعا إلى الشارع، البروفيسور بنفس شكله المعتاد إلى حد كبير؛ أما بياتريس فكانت أكثر شحوبا، ويبدو على ملامحها الحزن. وتقدم تافرنيك نحوها بنفاد صبر.
وصاح: «بياتريس!» وهو يمد إليها يده.
تراجع البروفيسور للخلف. أما بياتريس فوقفت ثابتة ... وللحظة بدا أنها على وشك الإغماء. فأمسك تافرنيك بيديها.
وقال بإحراج: «أنا آسف جدا! ما كان يجب أن أفاجئكما بهذا الشكل.»
ابتسمت ابتسامة واهنة صغيرة.
وردت: «أنا بخير، كل ما هنالك أن الحرارة بالداخل كانت مرهقة، وحتى في الخارج الجو ليس منعشا للغاية، أليس كذلك؟ كيف اكتشفت مكاننا؟»
أجاب تافرنيك: «بالمصادفة مرة أخرى. لدي أخبار. هل لي أن أمشي معك بضع خطوات؟»
نظرت بخجل نحو والدها. كان البروفيسور قد وقف بعيدا في صمت مهيب.
فقال تافرنيك بسرعة: «ربما تتناولين العشاء معي؟ سأسافر خارج البلاد، وأود أن أودعك على النحو اللائق. زجاجة شمبانيا وعشاء مناسب. ما رأيك يا بروفيسور؟»
كافح البروفيسور لتبدو ملامحه أكثر استرخاء.
وقال: «فكرة رائعة للغاية. أين يمكن أن نذهب؟»
قال تافرنيك مقترحا: «هل فات الأوان للوصول إلى إيمانو؟»
تردد البروفيسور.
ثم قال: «سيارة أجرة ستفي بالغرض، إذا ...»
وتوقف عن الكلام، فابتسم تافرنيك.
وقال مقررا: «إذن، فهي سيارة أجرة. لدي ما يكفي من المال في الوقت الحالي. تعاليا، وسأخبركما بكل شيء.»
جعلها تتأبط ذراعه، على الرغم من أن أصابعها لم تلامس أكثر من كم معطفه.
وتابع: «جاء بريتشارد وأنقذني من هناك. وسوف أسافر للخارج معه. إنه نوع من التنقيب في بلد جديد في الجزء الخلفي من كولومبيا البريطانية. سنرى ما يمكننا العثور عليه ثم نذهب إلى ممول وننشئ شركات؛ شركات تعدين وحقول نفط - أي شيء. سأسافر في غضون أسبوع.»
أغمضت بياتريس عينيها جزئيا. كانوا قد أشاروا إلى سيارة أجرة عابرة وغاصت بين الوسائد متنفسة الصعداء.
تمتمت قائلة: «عزيزي ليونارد ، أنا سعيدة جدا، سعيدة جدا من أجلك. هذا هو الشيء الذي كنت آمل أن يحدث.»
تابع: «والآن أخبروني عن حالكم.»
ساد صمت مفاجئ. وكان تافرنيك يدرك أن ملابس بياتريس كانت رثة بشكل واضح، وأن قبعة البروفيسور كانت بالية. فتحشرج البروفيسور.
وقال: «لا أرغب في عرض أمورنا الخاصة على شخص، على الرغم من أنني لن أصفه بالغريب، فهو بالتأكيد ليس أحد أصدقائنا القدامى. في الوقت نفسه، أعترف بحدوث مشكلة صغيرة بيني وبين بياتريس، وكنا نناقشها لحظة وصولك. وسأناشدك المساعدة الآن. كفرد غير متحيز من أفراد الجمهور الليلة، يا سيد تافرنيك، هل ستعطيني رأيك الصادق؟»
وعد تافرنيك وهو يتوجس خيفة مما هو قادم: «بالتأكيد.»
بدأ البروفيسور متحدثا ببطء مؤثر وواضح: «ما أشكو منه هو أن عرضي يستعجل للغاية وأغاني بياتريس تشغل وقتا طويلا جدا.» ثم استأنف قائلا: «تعلق الإدارة على التصفيق الذي تكافأ به جهودها من حين لآخر، ولكن، كما أود أن أوضح لك، يا سيدي، إن عرضا مثل عرضي يترك انطباعا عميقا للغاية على الجمهور مما يجعلهم لا يظهرون تقديرهم له من خلال هذا الأساليب المبتذلة مثل التصفيق والصفير. لعلك تتابع ما أقول يا سيد تافرنيك؟»
اعترف تافرنيك: «أوه، بالطبع.»
صرح البروفيسور قائلا: «إنني أهتم بعملي اهتماما جادا ومخلصا، وأشعر أنه عندما يتم استعجاله لكي تغني ابنتي أغنية شعبية بسيطة، فإن النتيجة، على أقل تقدير، مهينة. لسبب أو لآخر، لم أتمكن من إقناع الإدارة بوجهة نظري تماما، لكن رأيي أن تغني بياتريس أغنية واحدة فقط، وأن أشغل أنا الدقائق العشرة الإضافية إما بعرض آخر لقواي الخارقة في التنويم المغناطيسي، أو بخطاب قصير للجمهور عن العلوم الخفية. والآن أناشدك الرأي، يا سيد تافرنيك، بوصفك شابا يتمتع بالمنطق السليم. فما رأيك؟»
أوشك تافرنيك، الذي كان صريحا للغاية بحيث لم يكن قادرا بشكل عام على النفاق، أن يعطيه رأيه، لكنه انتبه إلى نظرة بياتريس المتوسلة. كانت شفتاها تختلجان. فتردد.
ثم بدأ حديثه ببطء قائلا: «بالطبع، عليك أن تحاول أن تضع نفسك في محل الأغلبية العظمى من الجمهور، الذين هم أشخاص غير متعلمين إلى حد كبير. من الصعب جدا إبداء رأي يا بروفيسور. لكن علي أن أقول إن الجمهور استمع إلى عرضك هذا المساء باهتمام كبير.»
استدار البروفيسور بجدية نحو ابنته.
وقال بحدة: «أتسمعين هذا يا بياتريس؟ أتسمعين ما يقوله السيد تافرنيك؟ «باهتمام كبير!»»
استدرك تافرنيك: «في الوقت نفسه، كانت أغاني الآنسة بياتريس، دون شك، محبوبة للغاية. من سوء الحظ أن الإدارة لا تستطيع أن تمنحكما وقتا إضافيا.»
صرح البروفيسور قائلا: «وإذا تعذر ذلك، سيدي، فإنني أرى -كما أوضحت سابقا، أن بياتريس عليها الاستغناء عن إحدى أغانيها. وما قلته هذا المساء يؤكد وجهة نظري أكثر من أي وقت مضى.»
ابتسمت بياتريس إلى تافرنيك ابتسامة شاكرة.
وقالت مقترحة: «حسنا، على أي حال، دعونا نغض الطرف عن هذا الموضوع الآن. على الرغم من أني أظن، في بعض الأحيان، أنك تخيفهم يا أبي ببعض أعمالك، ولا بد أن تتذكر أنهم قد جاءوا ليستمتعوا.»
اعترف البروفيسور قائلا: «تلك هي أكثر ملحوظة منطقية نطقت بها يا بياتريس. هناك بالفعل شيء مثير للخوف في بعض تجلياتي، بل إنه يثير خوفي أنا أحيانا، رغم فهمي الكامل لهذا الفرع من العلوم. ومع ذلك، كما تقولين، سنتغاضى عن هذا الموضوع الآن. إن فكرة حفل العشاء فكرة مبهجة. هل تتذكر، يا سيد تافرنيك، الليلة التي التقينا فيها أنا وأنت في شرفة إيمانو؟»
رد تافرنيك: «أتذكرها تماما.»
واصل البروفيسور بابتسامة العارف: «الآن سأختبر ذاكرتك. هل تتذكر يا سيدي العلامة التجارية للشمبانيا التي كنت أحتسيها في ذلك اليوم، حين صرحت، إذا كنت تتذكر، أنها العلامة التجارية التي تتوافق معي، والعلامة الوحيدة التي تستحق الشرب؟»
اعترف تافرنيك قائلا: «أخشى أنني لا أتذكر ذلك. فحياة المطاعم شيء لا أعرف عنه سوى القليل، وأنا لم أشرب الشمبانيا سوى مرة أو مرتين في حياتي.»
صاح البروفيسور متعجبا: «يا إلهي! أنت حقا تدهشني يا سيدي. حسنا، هذه العلامة التجارية هي فوف كليكو، ويمكنك أن تأخذ رأيي عن ثقة، يا سيد تافرنيك، وقد تجد هذه المعلومة مفيدة لك عندما تصنع ثروة في أمريكا وتصبح رجلا مرفها؛ ليس ثمة نبيذ يكافئها. فوف كليكو، يا سيدي، وإذا أمكن إنتاج عام 1899، رغم أن إنتاج عام 1900 ليس سيئا على الإطلاق.»
كرر تافرنيك قوله: «فوف كليكو. سأتذكر الاسم لنحتسيه الليلة.»
أشرق وجه البروفيسور.
وقال لبياتريس: «يا عزيزتي، السيد تافرنيك سيظن أنني كان لدي هدف في اختبار ذاكرته.»
ابتسمت بياتريس.
وقالت بتساؤل: «أولم يكن لديك هدف يا أبي؟»
فضحكوا جميعا معا.
واعترف البروفيسور: «حسنا، إنه لمن المبهج حقا، أن يتم التعامل مع نقاط ضعف المرء» ثم أضاف بتنهيدة متأملة: «لا سيما عندما يمضي المرء قدما في الحياة. لا عليك، لن نفكر إلا في الموضوعات المبهجة هذا المساء. سيكون من الممتع للغاية، يا سيد تافرنيك، سماعك تطلب العشاء.»
أجاب تافرنيك: «أنا لن أحاول ذلك. سوف أعطيك أنت هذه المهمة.»
قال البروفيسور: «هذا يذكرني بالأيام الخوالي. وأنا متأكد من أن هذه ستكون أمسية ممتعة للغاية. وسوف نتذكرها كثيرا يا سيد تافرنيك، عندما تستلقي نائما تحت النجوم. عجبا، يا لها من شيء رائع سيارات الأجرة هذه! كما ترى، لقد وصلنا.»
حجزوا طاولة صغيرة في زاوية في إيمانو، ووجد تافرنيك نفسه متأثرا بشدة عندما شاهد بياتريس تخلع قفازاتها البالية التي تم إصلاحها كثيرا وتنظر حولها بقلق متطلعة إلى الزبائن الآخرين. كانت ملابسها رثة حقا، وكانت وجنتاها غائرتين.
شعر مرة أخرى بذلك الألم، وهو ألم لم يستطع تفسيره. وفجأة بدت أمريكا بعيدة جدا، وأصبحت الوحدة في تلك القارة الضخمة أمرا حقيقيا وملموسا. كان البروفيسور مشغولا للغاية بطلب العشاء. فانحنى تافرنيك عبر الطاولة.
وسأل: «هل تتذكرين عشاءنا الأول هنا يا بياتريس؟»
أومأت برأسها محاولة أن تنير وجهها بابتسامة، ولكنها كانت محاولة مثيرة للشفقة بعض الشيء.
وأجابت: «نعم، أتذكر ذلك جيدا. والآن أرجو منك يا ليونارد ألا تتحدث معي مرة أخرى إلى أن أشرب كأسا من النبيذ. أنا متعبة ومنهكة، هذا كل شيء.»
أدرك تافرنيك أنها كانت تقاوم الدموع التي اغرورقت بها عيناها بالفعل. فملأ كأسها بنفسه. أما البروفيسور فاحتسى كأسه ووضعها فارغة بابتسامة راضية لمتذوق.
وقال: «أعتقد أنك ستتفقين معي بخصوص هذا النبيذ المعتق. هذا ما سيعيد تورد وجنتيك يا بياتريس.» وتابع متوجها بحديثه نحو تافرنيك قائلا: «سوف تحتاج ابنتي الصغيرة قريبا إلى عطلة. آمل في الوقت الحالي أن أتمكن من ترتيب جولة قصيرة لي وحدي، وإذا حدث، فسوف أرسلها إلى شاطئ البحر. والآن أريدك أن تجرب طبق سلطة السمك ... الطبق الثاني هنا. بياتريس، دعيني أساعدك.»
سرعان ما بدأت الأوركسترا بالعزف. وأعاد دفء المكان، بالإضافة إلى النبيذ والطعام - كانت لدى تافرنيك فكرة مروعة وقتها أنها لم تأكل شيئا في ذلك اليوم - التورد إلى وجنتي بياتريس، وبعض البريق إلى عينيها. فبدأت تتحدث بطريقتها القديمة نفسها. ورغم ذلك، فقد تجنبت أي ذكر للعشاء الآخر الذي تناولاه معا. بمرور الوقت، أصبح البروفيسور، الذي شرب الجزء الأكبر من زجاجتين من النبيذ وكان يتحدث الآن إلى صديق، شبه غائب عن الجلسة. فمال تافرنيك عبر الطاولة.
وقال هامسا: «بياتريس، أنت لا تبدين بخير. أخشى أن الحياة تزداد صعوبة عليك.»
هزت رأسها.
وردت: «أنا أفعل ما يجب أن أفعله. من فضلك لا تتعاطف معي. أعتقد أنني شديدة الحساسية والتأثر الليلة. وسوف أتجاوز ذلك.»
فقال بخجل: «ولكن ألا أستطيع أن أفعل أي شيء من أجلك يا بياتريس؟ أنا لا أحب هذه العروض، وبيني وبينك، نحن نعرف أنهم لن يحتملوا عرض أبيك مدة أطول. وسرعان ما سوف ينتهي. فلماذا لا تحاولين استعادة مكانك في المسرح؟ عندئذ ستستطيعين كسب ما يكفي لرعايته.»
أجابت بحزن: «لقد حاولت بالفعل. لقد شغل مكاني.» ثم أضافت بضحكة مقهورة: «كما ترى، لقد فقدت بعض جمالي يا ليونارد. وأصبحت أيضا أكثر نحافة. بالطبع، سأكون على ما يرام عما قريب، ولكن هذا ضدي في هذه الأماكن الواقعة على الطرف الغربي.»
مرة أخرى شعر بهذا الألم يعتصر قلبه. كان متأكدا الآن أنه بدأ يفهم!
فهمس لها: «بياتريس، اتركي كل هذا وتزوجيني وسوف أعتني به.»
خبا لون وجنتيها الوردي. وانتابتها رعشة بسيطة ونظرت إليه بشفقة.
ثم قالت بتوسل: «ليونارد، أرجو منك ألا تفعل ذلك. أنا حقا لست قوية جدا الآن. لقد انتهينا من كل ذلك ... إنه يؤلمني.»
فقال راجيا إياها: «لكنني أعني ذلك. بطريقة ما، لقد شعرت بكل شيء منذ أن جئنا إلى هنا. أفكر في تلك الليلة، وأعتقد ... أعتقد أن ما اعتراني من قبل كان جنونا. لم يكن الشيء نفسه.»
كانت ترتجف الآن.
وتوسلت إليه: «ليونارد، إذا كنت تهتم بأمري من الأساس، فاصمت. والدي سيلتفت الآن، ولا أستطيع تحمل ذلك. سأكون صديقتك المخلصة جدا؛ وسأفكر فيك طوال الأيام القادمة إلى أن نلتقي مرة أخرى، لكن لا تفعل ذلك ... لا تفسد هذه الأمسية الأخيرة.»
التفت البروفيسور، وقد احمر وجهه، ولمعت عيناه وبدا على صوته الحبور الشديد.
وصرح قائلا: «حسنا، علي أن أقول، إن هذه أمسية سعيدة للغاية. أشعر بتحسن كبير، وآمل أنك أنت أيضا تشعرين بتحسن يا بياتريس؟»
فأومأت برأسها مبتسمة.
تابع البروفيسور: «أنا على ثقة من أنه عندما يعود السيد تافرنيك، فسوف يمنحنا فرصة دعوته على العشاء بالطريقة نفسها. فهذا سيسعدني للغاية، وكذلك سيسعد بياتريس.» واستدرك قائلا: «وإذا ذكرت اسمي في نادي جوتس أو موسكيتو أثناء إقامتك في نيويورك يا سيدي، فأظن أنك ستستقبل استقبالا يدهشك.»
شكره تافرنيك ودفع الفاتورة. ومشوا ببطء عبر المطعم، وكان تافرنيك كارها بشكل غريب لأن يحرر اليد الصغيرة التي عانقت يده.
قالت بياتريس بصوت منخفض: «لقد احتفظت بهذا للنهاية. إليزابيث موجودة في لندن.»
لم يتأثر البتة بما قالته، وهو ما كان أمرا غريبا.
وتمتم قائلا: «ثم؟»
فتابعت: «أريدك ... أعتقد أن من المستحسن بالنسبة إليك أن تذهب لرؤيتها. كما تعلم يا ليونارد، كنت شخصا غريبا للغاية في تلك الأيام. ربما تتخيل أشياء. وربما لا تدرك أين أنت. أعتقد أن عليك أن تذهب لرؤيتها الآن، الآن وقد مررت ببعض المعاناة، الآن وقد فهمت كل شيء على نحو أفضل. هل ستذهب؟»
وعدها تافرنيك: «نعم، سأذهب.»
نظرت بياتريس نظرة سريعة نحو المكان الذي كان والدها واقفا فيه.
وقالت بهمس: «لا أريده أن يعرف. لا أريد أن يتعرض لإغراء أن يأخذ أي أموال منها، وكذلك أنا. إنها تعيش في فندق كلاريدج. فاذهب إلى هناك والتق بها قبل أن ترحل إلى حياتك الجديدة.»
وقف عند الباب وراقبهما وهما يمشيان في شارع ستراند، وكان البروفيسور متوهجا ويسير منتصبا بينما يتطاير ذيل معطفه، وسيجاره الضخم بين أسنانه؛ بينما كانت بياتريس تبدو شاحبة في ثيابها السوداء، وتتعلق بذراعه. راقبهما تافرنيك حتى اختفيا، مستشعرا إثارة لافتة للنظر وألما غريبا، وإحساسا بالإلهام. وعندما غابا في النهاية عن ناظريه وعاد مرة أخرى لإحضار معطفه وقبعته، تسمرت قدماه فجأة. كانت الفرقة تعزف آخر مقطوعة ... كانت الأغنية نفسها التي غنتها بياتريس في تلك الليلة في قاعة الموسيقى الشرقية. وباندفاع وحماس مفاجئ عاد أدراجه وركض عبر شارع ستراند في الاتجاه الذي اختفيا فيه. لكن الأوان كان قد فات. ولم يكن لهما أي أثر.
الفصل السادس
تأخر الفهم
كان الانطباع الأول الذي راود تافرنيك عن إليزابيث أنه لم يقدرها حق قدرها على الإطلاق، حتى في أكثر أفكاره جموحا. لم يتخيلها قط بهذا الجمال الرائع الفاتن الأخاذ. كانت قد استقبلته، بعد تأخير طويل، في غرفة الجلوس الخاصة بها بفندق كلاريدج ... وكانت عبارة عن غرفة ضخمة مؤثثة كصالون. وكانت إليزابيث واقفة، عندما دخل، تقريبا في وسط الغرفة، مرتدية عباءة طويلة من الدانتيل وقبعة ذات ريش أسود متدل. نظرت إليه، عندما فتح الباب، كما لو كانت مرتبكة لحظة. ثم ضحكت بنعومة ومدت يديها.
صاحت مندهشة: «عجبا، بالطبع أتذكرك! كيف لم أستطع، حين قرأت بطاقتك، أن أتذكر أين سمعت الاسم من قبل! أنت موظف لدى وكيل العقارات الخاص بي، أنت من رفض أن يأخذ أموالي، ومن كان وقحا للغاية معي منذ اثني عشر شهرا.»
كان تافرنيك هادئا جدا. ووجد نفسه يتساءل عما إذا كان هذا ادعاء كاذبا، أم أنها قد نسيته بالفعل. ثم قرر أنه كان ادعاء.
فقال لها: «وأنا أيضا من كان ليلة ما في شقتك في ميلان كورت، عندما كان زوجك ...»
أوقفته عن الاستمرار في الكلام بإشارة آمرة.
ثم قالت راجية إياه: «أعفني من فضلك. كانت تلك الأيام فظيعة للغاية ... ومملة جدا أيضا! أتذكر أنك كنت من النقط المضيئة في هذا الظلام الدامس. وكنت مختلفا تماما عن أي شخص قابلته من قبل، وأثرت اهتمامي بشدة.»
ثم نظرت إليه وهزت رأسها ببطء.
وقالت: «شكلك لطيف للغاية. ملابسك تليق بك وقد اكتسبت سمرة جذابة، ولكنك لا تبدو رائعا وصعب المراس كما كنت.»
فرد باقتضاب: «أنا آسف لذلك.»
واصلت قائلة: «وقد أتيت لرؤيتي! هذا لطيف جدا منك! لقد كنت مغرما بي يوما ما، كما تعلم. قل لي، هل استمر ذلك؟»
فأجاب بروية: «هذا هو بالضبط ما جئت لاكتشافه. حتى الآن، أنا أميل إلى الاعتقاد بأنه لم يستمر.»
نظرت إليه بسخرية وتأبطت ذراعه.
وقالت بإلحاح: «تعال واجلس وأخبرني لماذا. كن صريحا معي الآن. هل هذا لأنك تعتقد أنني أبدو أكبر سنا؟»
قال تافرنيك ببطء: «لقد فكرت فيك ساعات عديدة كل يوم عدة أشهر، ولم أتخيل أبدا أنك جميلة بهذه الدرجة التي تبدين بها الآن.»
صفقت بيديها.
وصاحت: «وأنت تعني ذلك أيضا! توجد النبرة المقنعة المبهجة نفسها في صوتك. وأنا متأكدة من أنك تعني ما تقوله. أرجو منك أن تستمر في عشقي يا سيد تافرنيك. فليس لدي شخص يثير اهتمامي في الوقت الحالي على الإطلاق. هناك كونت إيطالي يريد الزواج مني، لكنه فقير للغاية؛ وهناك شاب أسترالي يتبعني في كل مكان، لكني لست متأكدة منه. وهناك فتى إنجليزي أيضا سينتحر إذا لم أقل له «موافقة» هذا الأسبوع. بشكل عام، أعتقد أنني أشعر بالأسف لأن الناس يعرفون أنني أرملة. أخبرني يا سيد تافرنيك، هل ستعشقني أنت أيضا؟»
أجاب تافرنيك: «لا أعتقد ذلك. أعتقد أنني شفيت.»
هزت كتفيها وضحكت ضحكة موسيقية.
وتابعت: «لكنك تقول إنك ما زلت تعتقد أنني جميلة، وأنا متأكدة من أن ملابسي مثالية ... لقد أتت مباشرة من باريس.» وأضافت وهي تمررها من بين أصابعها: «أتمنى أن الدانتيل يروق لك. كما أن جسمي ما زال رشيقا كما هو، أليس كذلك؟»
ثم وقفت وراحت تلف حول نفسها ببطء. وبعد ذلك جلست فجأة ممسكة بيده.
وقالت بتوسل: «أرجو منك ألا تقول إنك تظن أنني أصبحت أقل جاذبية.»
فرد تافرنيك: «فيما يتعلق بمواطن جاذبيتك الشخصية، فأعتقد أنها ما زالت على الأقل رائعة كما كانت دائما. وإذا كنت تريدين الحقيقة، فأعتقد أن سبب عدم استمراري في عشقك هو أنني رأيت أختك الليلة الماضية.»
فصاحت متسائلة: «رأيت بياتريس! أين؟»
قال تافرنيك: «كانت تغني في قاعة موسيقى بائسة في الجهة الشرقية حتى يجد والدها نوعا من العمل. وقد امتنع الناس عن إسكات والدها من أجل خاطرها فحسب. إنها تجوب البلد بصحبته. ويعلم الله ما يجنياه من أموال، لكنه يبدو مبلغا زهيدا بما فيه الكفاية! فبياتريس ترتدي ثيابا رثة وتبدو نحيفة وشاحبة. إنها تكرس أفضل سنوات حياتها لما تتخيل أنه واجبها.»
فسألت إليزابيث ببرود: «وكيف يؤثر هذا علي؟»
فأجاب تافرنيك: «بهذه الطريقة فحسب. لقد سألتني كيف كان بإمكاني أن أجدك جميلة أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك أتوقف عن عشقك. السبب هو أنني أعرف أنك أنانية لأقصى درجة. لقد آمنت بك من قبل. كل ما كنت تفعلينه بدا لي صحيحا. كان ذلك لأنني كنت أحمق؛ لأنك ملأت عقلي بأوهام مستحيلة، لأنني رأيتك وكل ما فعلته من خلال مرآة مشوهة.»
سألته: «هل أتيت إلى هنا لتكون وقحا؟»
فأجاب: «على الإطلاق. جئت إلى هنا لأعرف إن كنت قد شفيت.»
بدأت تضحك، بنعومة شديدة في البداية، ولكنها سرعان ما ألقت نفسها للخلف بين الوسائد ووضعت يدها بدلال على كتفه.
وصاحت: «أوه، أنت لم تتغير! ما زلت كما أنت يا عزيزي، حفنة من الصراحة والصدق والجهل. إذن فستكون ضحية لأسلحة بياتريس الفتاكة رغم كل شيء.»
اعترف تافرنيك: «لقد طلبت من أختك الزواج. وقد رفضت.»
قالت إليزابيث وهي تمسح الدموع من عينيها: «لقد كانت حكيمة جدا. كتجربة أنت محبب إلى النفس. أما كزوج فستكون مستحيلا بشكل رهيب. هل ستبقى وتصطحبني للعشاء هذا المساء؟ أعتقد أنك تملك الآن بلا شك بدلة رسمية.»
هز تافرنيك رأسه.
وقال: «أنا آسف. لدي بالفعل ارتباط.»
نظرت إليه بفضول. هل أصبح غير مهتم بها حقا؟ لم تكن معتادة على أن يتملص منها الرجال.
فسألته فجأة: «قل لي، لماذا أتيت؟ أنا لا أفهم. أنت هنا، ومع ذلك تمضي وقتك في التحدث معي بوقاحة. ثم أطلب منك أن تصطحبني إلى العشاء فترفض. هل تعلم أنه ما من رجل في لندن بأسرها لم يكن ليقفز اغتناما لهذه الفرصة؟»
أجاب تافرنيك: «هذا محتمل جدا. ليس لدي خبرة في مثل هذه الأمور. كل ما أعرفه أنني سأفعل شيئا آخر.»
فهمست قائلة: «شيء تريد بشدة أن تفعله؟»
رد تافرنيك: «سأذهب إلى قاعة موسيقى صغيرة في وايت تشابل، وسأقابل أختك وسأضعها في سيارة أجرة وآخذها لتناول العشاء، وسأضغط عليها حتى تعد بأن تكون زوجتي.»
ضحكت قائلة: «أنت بالتأكيد معجب مخلص بالعائلة. ربما كنت تحبها طوال الوقت.»
فقال معترفا: «ربما كنت كذلك.»
هزت رأسها.
وقالت: «أنا لا أصدق ذلك. أعتقد أنك كنت مغرما بي في يوم من الأيام. وأعتقد أنك كنت ستظل مغرما بي الآن لولا أن لديك مثل هذه الأفكار القديمة السخيفة.»
نهض تافرنيك واقفا.
وقال: «سأذهب. وهذا سيكون الوداع. فغدا سأذهب إلى كولومبيا البريطانية.»
اختفت ضحكتها لحظة عن وجهها. وبدا عليها الجدية فجأة.
وقالت متوسلة: «لا تذهب. اسمعني. أعرف أنني لست طيبة مثل بياتريس، لكني معجبة بك ... وكنت كذلك دائما. وأعتقد أن هذا بسبب صدقك الرائع. فأنت من نوع مختلف عن الرجال الذين يلتقي بهم المرء. أنا بالأحرى شخص متهور. وفي بعض الأحيان تكون مقابلة شخص مثلك أمرا يدعو إلى الراحة والطمأنينة. فأنت بمثابة مرسى. ابق وتحدث معي قليلا. اصطحبني إلى الخارج الليلة. لقد طلبت مني أن أخرج معك مرة، كما تعلم، ولكني رفضت. الليلة أنا من أطلب منك.»
هز رأسه ببطء.
وقال بحزم: «هذا وداع! أعتقد، رغم كل شيء، أنك لم تكوني قاسية معي في تلك الأيام، لكنك علمتني درسا مريرا للغاية. لقد جئت إليك اليوم خائفا مرتجفا. وربما كنت خائفا من أن الأسوأ لم ينته بعد، وأن هناك ما هو قادم في المستقبل. أما الآن، فأنا أعلم أنني حر.»
ضربت الأرض بقدمها.
وقالت بصراحة: «لن تمشي بهذه الطريقة.»
فابتسم.
وواصل قائلا: «هل تعتقدين أنني لا أفهم؟ أنت تريدينني أن أبقى فقط لأنني قادر على الذهاب؛ لأن لمسة أصابعك، وتلك النظرة في عينيك لا تقودانني إلى الجنون الآن. تريدين أن تجربي سطوتك علي مرة أخرى. لن أسمح بذلك. أنا مقتنع بأنني شفيت بالفعل، لكن ربما يكون من الأسلم عدم المخاطرة بأي شيء.»
أشارت إلى الباب.
وقالت بلهجة آمرة: «حسنا إذن، يمكنك الذهاب.»
انحنى لها، وكانت أصابعه بالفعل على المقبض. ولكنها فجأة نادت عليه. «ليونارد! ليونارد!»
فالتفت إليها. كانت تتجه نحوه بذراعين ممدودتين وعينين مغرورقتين بالدموع، وصوت متهدج.
وقالت متوسلة: «أنا وحيدة جدا. ولقد فكرت فيك كثيرا. فلا تبتعد عني بقسوة. ابق معي الليلة بأي ثمن. تستطيع أن ترى بياتريس في أي وقت. لكنني أنا من أحتاج إليك الآن أشد الاحتياج.»
نظر حوله إلى الشقة الفخمة؛ ونظر إلى المرأة التي استقرت أصابعها المتلألئة بالجواهر على كتفيه. ثم فكر في بياتريس بثوبها الأسود الرث ووجهها الشاحب الصغير، فأزاح يديها بلطف شديد عن كتفيه.
وقال: «لا، لا أعتقد أنك تحتاجين إلي أكثر مما أحتاج إليك. هذه نزوة من نزواتك. أنت تعرفين ذلك وأنا أعرف ذلك. فهل يستحق الأمر أن يلعب أحدنا بالآخر؟»
سقطت يداها على جانبيها. واستدارت مشيحة بوجهها لكنها لم تقل شيئا. ورفع تافرنيك، بنزعة مفاجئة لم يكن فيها أي شيء من الرغبة - والقليل جدا، في الواقع، من العاطفة - أصابعها إلى شفتيه، ثم انسحب من الغرفة. نزل الدرج، مفعما بإحساس رائع بالنشوة، وسمو الروح الذي لم يستطع فهمه. وبينما كان يسير بطرب إلى الفندق الذي يقيم فيه، بدأ يدرك مدى خوفه السابق من هذه المقابلة. لقد أصبح رجلا حرا رغم كل شيء. لقد زال السحر. ويمكنه أن يفكر فيها الآن كما تستحق أن يفكر فيها، بوصفها امرأة بارعة ذات خبرة، امرأة أنانية، بلا قلب، وبلا ضمير. لقد هرب من براثنها. ولم تعد تعني شيئا بالنسبة إليه حتى لو عرف أنها في تلك اللحظة ترقد على أريكتها التي ترنحت عليها عندما غادر الغرفة، وهي تبكي بمرارة.
لأكثر من ساعة تحمل تافرنيك الروائح والأجواء السيئة لقاعة الموسيقى الصغيرة البائسة تلك، وهو يراقب بفارغ الصبر في كل مرة يتم فيها تغيير الأرقام. ثم أخيرا، قرب نهاية البرنامج، ظهر المدير في المقدمة.
وأعلن: «سيداتي وسادتي، يؤسفني كثيرا أن أبلغكم أنه بسبب إصابة الآنسة بياتريس فرانكلين بوعكة صحية، فلن تتمكن هي ووالدها من الظهور الليلة. ويسعدني أن أعلن عن فقرة إضافية، تؤديها الأخوات دي فير في عملهن الكوميدي الرائع.»
اختلطت همهمات الاستنكار مع بعض الهتاف. وغادر تافرنيك مكانه وتوجه إلى الجزء الخلفي من القاعة. وعلى الفور توجه إليه المدير.
قال تافرنيك: «أنا آسف لإزعاجك يا سيدي، لكنني سمعت إعلانك الآن في القاعة. فهل تستطيع أن تعطيني عنوان البروفيسور فرانكلين؟ أنا صديق، وأود أن أذهب لرؤيتهما.»
أشار المدير إلى حاجب المسرح.
وقال باقتضاب: «هذا الرجل سيعطيك إياه. إنه قريب جدا. سأزورهما بنفسي بعد العرض لأعرف كيف حال السيدة الشابة.»
حصل تافرنيك على العنوان وانطلق في سيارة الأجرة التي كانت تنتظره. أنصت السائق إلى الاتجاه بريبة.
ثم قال: «إنه حي فقير يا سيدي.»
فقال له تافرنيك: «يجب أن نذهب إلى هناك.»
وصلا إليه في غضون دقائق، كان شارعا بائسا بالفعل. وطرق تافرنيك باب المنزل الذي توجه إليه بقلب متوجس. فتح الباب بعد لحظات قليلة رجل بلا ياقة يرتدي نصف ثيابه، ويلبس نعلا خفيفا للسجاد.
سأل بفظاظة: «حسنا، ماذا هناك؟»
استفسر تافرنيك: «هل البروفيسور فرانكلين هنا؟»
بدا الرجل وكأنه على وشك أن يصفق الباب في وجهه، لكنه أحجم عن ذلك.
وقال: «إذا كنت صديقا للبروفيسور، كما يسمي نفسه، ولديك أي أموال يمكنك إنفاقها، فمرحبا بك، أما إذا كنت تسأل فقط من باب الفضول، فدعني أخبرك أنه كان يقيم هنا لكنه رحل، وإذا ترك الأمر لرغبتي لكان قد رحل منذ أسبوع، هو وابنته أيضا .»
قال تافرنيك معترضا: «لا أفهم. كنت أعتقد أن السيدة الشابة مريضة.»
فرد الرجل: «قد تكون مريضة أو لا. كل ما أعرفه أنهما عجزا عن دفع الإيجار، وعجزا عن دفع فاتورة الطعام، وعجزا عن دفع ثمن المشروبات التي كان الرجل العجوز يرسل في طلبها. لذلك تحدثت إليهما الليلة بصراحة، فرحلا.»
صرخ تافرنيك: «على الأقل أنت تعرف إلى أين ذهبا!»
فقال الرجل: «ليس لدي أي فكرة. بكل صراحة يا سيدي، لا أعرف أين ذهبا على الإطلاق، فقد سئمت منهما تماما، وهما مدينان بنحو ثمانية عشر جنيها وستة بنسات، إذا كنت مهتما بالدفع.»
وعده تافرنيك: «سأعطيك جنيها ذهبيا، إذا أخبرتني أين هما الآن.»
تذمر الرجل قائلا: «ما فائدة وضع شروط خرقاء كهذا الشرط! لو كنت أعرف مكانهما، لكنت حصلت على الجنيه الذهبي على الفور، لكنني لا أعرف، وهذا هو الموضوع باختصار! وإذا كنت لن تدفع الثمانية عشر جنيها والستة بنسات، حسنا، فلقد أجبت عن جميع الأسئلة التي ترغب في الإجابة عنها.»
وعده تافرنيك: «سأجعلها جنيهين ذهبيين. سوف أبحر إلى أمريكا في الصباح الباكر، ويجب أن أراهما أولا.»
مال الرجل إلى الأمام نحوه.
وقال: «اسمعني هنا، إذا كنت أعرف مكانهما، فإن الجنيه الذهبي سيكون كافيا تماما بالنسبة إلي، لكنني لا أعرف، وهذا هو الأمر بصراحة. وإذا كنت تريد البحث عنهما، فلو كنت مكانك لكنت جربت الفنادق الرخيصة. فمن المحتمل جدا أن يكونا في أحدها.»
وصفق الباب فاستدار تافرنيك مبتعدا. ونظر عبر الشارع يمنة ويسرة، ونظر إلى ما وراء ذلك وفكر في أميال وأميال من الشوارع، والعدد الذي لا يحصى من المداخن، والشعاب الضخمة للمدينة العظيمة الممتدة على مساحة شاسعة. في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي، عليه أن يغادر إلى ساوثهامبتون. فهل فات الأوان، رغم كل شيء، بعد أن اكتشف الحقيقة؟
الفصل السابع
في بلد بكر
في ليلة ما بدأ تافرنيك يضحك. فقد نمت له لحية بنية طويلة وكان شعره يغطي أذنيه. وكان يرتدي قميصا رماديا من الصوف الناعم، ومنديلا مربوطا حول رقبته، وبنطالا باليا للركوب مربوطا بحزام. كان قد خلع حذاءه في نهاية يوم طويل، وكان مستلقيا في ضوء القمر أمام نار قد أشعلها من جذوع شجر الصنوبر، وتصاعد دخانها مباشرة إلى السماء المرصعة بالنجوم. لم ينطق بأي كلمة خلال الساعة الماضية. وجاءت نوبة السعادة التي أصابت تافرنيك دون سبب واضح، باستثناء نسائم الريح التي تهب من آن إلى آخر من جانب الجبل فتحدث موسيقى خافتة في الغابات البكر.
تقلب بريتشارد على جانبه ونظر إليه. كان السيجار أسابيع عديدة شيئا غير موجود، وكان يدخن غليونا مصنوعا من كيزان الذرة مليئا بالتبغ الخشن.
وسأله: «هل صادفت نكتة في مكان ما؟»
فأجاب تافرنيك: «أخشى ألا يفهمها أحد سواي. كنت أفكر في تلك الأيام في لندن؛ كنت أفكر في ذعر بياتريس عندما اكتشفت أنني كنت أرتدي ملابس جاهزة، واندهاش إليزابيث عندما عرفت أنني لا أملك بذلة رسمية. من الغريب كيف تضيق الحياة وتتعقد هناك.»
أومأ بريتشارد برأسه، وضغط التبغ بإصبعه في وعاء غليونه.
وقال موافقا: «أنت على حق يا تافرنيك. يفقد المرء إحساسه بالتناسب. الرجال في المدن متشابهون. إنهم يعيشون دائما متنكرين.»
قال تافرنيك على نحو غير مترابط: «أود أن يحضر السيد داولينج إلى هنا.»
فقال بريتشارد مستفسرا: «أهو زميل مسل؟»
هز تافرنيك رأسه مبتسما.
وقال: «على الإطلاق، لكنه كان رجلا ضئيلا للغاية. ومن الصعب أن تبقى ضئيلا هنا. ألا تشعر بذلك يا بريتشارد؟ هذه الجبال تجعل تلالنا في الوطن تبدو كأنها أكوام من التراب. والسماء هنا تبدو أعلى. وانظر لأسفل في ذلك الوادي. إنه عملاق، هائل.»
تثاءب بريتشارد.
وبدأ يتحدث: «هناك مكان صغير في طريق باوري ...»
فقاطعه تافرنيك: «أوه، لا أريد أن أعرف المزيد عن نيويورك. ارقد على ظهرك وأغمض عينيك، وشم أشجار القرفة، واستمع إلى ذلك الطائر الليلي وهو يصيح بين الحين والآخر عبر الوادي. ثمة ظلام، ثمة عمق. إنه مثل عباءة من المخمل تنظر خلالها. لكنك لا تستطيع أن ترى ما وراءها ... لا، ليس في وضح النهار. أنصت!»
جلس بريتشارد. لحظات قليلة لم يتكلم أي منهما. وعلى بعد اثتني عشرة ياردة أو نحوها، كانت مجموعة متناثرة - بقية المجموعة - تلعب الورق حول النار. تناهى إلى مسامعهما صوت طقطقة الخشب الأخضر، وتمتمة الأصوات العابرة، وصوت ضحكة هنا أو شهقة هناك، ولكن فيما عدا ذلك، كان ثمة صمت، صمت رهيب ورائع، صمت بدا أنه يخيم على ذلك العالم الغريب المجهول شبه المختفي! أنصت تافرنيك بوقار.
وقال متعجبا: «أليس هذا رائعا! لم نر إنسانا باستثناء مجموعتنا منذ ثلاثة أيام. ربما لا يوجد أحد على مسمع منا الآن. ومن المحتمل جدا أن أحدا لم يطأ بقدميه في هذه البقعة بالتحديد.»
اعترف بريتشارد: «أوه، هذا عظيم، عظيم ومريح، لكنه غير مرض. إنه مرض بالنسبة إليك بعض الوقت؛ لأنك بدأت حياتك بشكل خطأ وكنت بحاجة إلى رد فعل. أما بالنسبة إلي ...» وأضاف: «أوه، حسنا، أنا أسمع النداء مباشرة عبر آلاف الأميال من الغابات والوديان والمستنقعات. أسمع أصوات السيارات الكهربائية وقطارات السكة الحديد، وأرى الأضواء المتوهجة في برودواي وأسمع لغط الألسن. وسأعود إلى كل ذلك يا تافرنيك. هناك الكثير لأمضي فيه. لقد فعلنا أكثر من مجرد تنفيذ برنامجنا.»
غمغم تافرنيك بخيبة أمل: «العودة إلى نيويورك!»
فسأله بريتشارد: «إذن، فأنت لست مستعدا بعد؟»
رد تافرنيك: «يا إلهي، نعم بالطبع! ومن يمكن أن يكون؟ ما الذي يوجد في نيويورك لتعويض هذا؟»
ظل بريتشارد صامتا لحظة.
ثم قال: «حسنا، لا بد أن يعود أحدنا بالقرب من الحضارة. فالنقابة تتوقع أن تسمع أنباءنا. الى جانب ذلك، لدينا تقارير كافية بالفعل. حان الوقت لاتخاذ قرار ما بشأن ذلك البلد النفطي. لقد قمنا بعمل عظيم هنا يا تافرنيك.»
أومأ تافرنيك برأسه. كان مستلقيا على جنبه وعيناه مثبتتان بحزن نحو الجنوب، على الوادي المتلألئ المضاء بنور القمر، على المساحة الشاسعة من غابات الصنوبر البكر التي تمتد من الجبال على الجانب الآخر، عبر الشق في التلال إلى السهول الممتدة وراءه، ثمة عالم فوضوي غير مرئي.
اقترح بريتشارد ببطء: «إذا كنت ترغب في الاستمرار قليلا، فلا يوجد سبب يمنعك من اصطحاب ماكلاود وريتشاردسون معك، وبيت ونصف الخيول، وتتجه نحو بلد القصدير على الجانب الآخر من جبال يوليت. ما دمنا هنا، فإن الأمر يستحق ذلك تماما، إذا كنت تستطيع الاستمرار.»
أخذ تافرنيك نفسا طويلا.
واعترف ببساطة: «أود أن أذهب. أعلم أن ماكلاود حريص على التنقيب في الجنوب. وكما ترى، معظم اكتشافاتنا حتى الآن كانت بين حقول النفط.»
قال بريتشارد: «اتفقنا. غدا نفترق إذن. أنا سأتجه إلى الوادي، وأعتقد أنني سأصل إلى قطار السكة الحديد المتجه إلى شيكاغو في غضون أسبوع. مرحى! نيويورك ستبدو رائعة!»
سأل تافرنيك: «هل تعتقد أن النقابة ستكون راضية عما فعلناه حتى الآن؟»
فابتسم رفيقه. «إذا لم يكونوا كذلك، فسيكونون حمقى. أعتقد أن هناك من حقول النفط هنا ما يكفي سبع شركات. كما سيكون هناك القليل لنا أيضا، على ما أعتقد. ألا تريد العودة إلى نيويورك وإنفاقها؟»
ضحك تافرنيك مرة أخرى، لكن هذه المرة لم تكن ضحكته طبيعية.
وكرر: «إنفاقها! وعلام أنفقها؟ ملابس غير مريحة، أم مسرحيات كاذبة، أم مشروبات ضارة لصحتك، أم طعاما نصف مسموم، أم جوا خانقا. يا إلهي يا بريتشارد، هل هناك أي شيء في العالم مثل هذا! مد ذراعيك يا رجل. استلق على ظهرك، وانظر إلى النجوم، واترك الريح تهب على وجهك. أنصت.»
أنصتا، ومرة أخرى لم يسمعا أي شيء، ومع ذلك بدا أن هذا الصمت له سمة خاصة تشي باتساع الفضاء.
نهض بريتشارد واقفا على قدميه.
وقال: «نيويورك وأطباق اللحم أفضل بالنسبة إلي. ابق على اتصال، وحظا موفقا أيها الرجل العجوز!»
في فجر اليوم التالي افترقوا، وتوجه تافرنيك مع رفاقه الثلاثة نحو أرض لم تطأها قدم تقريبا. وكان تقدمهم بطيئا؛ لأنهم كانوا طوال الوقت في بلد غني بالإمكانيات. استمروا في التسلق والتسلق أسابيع حتى وصلوا إلى الثلوج ولسعت الرياح وجوههم وارتجفوا في فرشهم في الليل. إلى أن وصلوا إلى أرض قليلة النباتات، وبها حيوانات أقل وأشرس، حيث كانوا يسمعون عواء الذئاب في الليل، ويرون عيون حيوانات غريبة تلمع في الغابة بينما تندلع ألسنة نار المساء وتتصاعد نحو السماء. ثم بدأ الانحدار الطويل، الانحدار الطويل إلى السهل العظيم. والآن أضحت الشمس الأكثر سخونة وقوة تلفح وجوههم وتمنحها لونا برونزيا مميزا. ولم يعد الثلج يتساقط على وجناتهم. كانوا ينزلون ببطء إلى أرض بدت لتافرنيك مثل أرض كنعان التي ذكرت في الكتاب المقدس. اضطروا ثلاث مرات في عشرة أيام إلى التوقف وإقامة معسكر، بينما يعد تافرنيك مسحا جغرافيا للأرض التي من المحتمل أن تكون مفيدة.
جاء ماكلاود إلى تافرنيك يوما وبيده كتلة باهتة المظهر، تلمع في بعض الأجزاء.
وقال باقتضاب: «إنه نحاس. هذا ما كنت أبحث عنه طوال الوقت. يوجد كم هائل لا نهاية له. يوجد ما هو أكبر من النفط هنا.»
وأمضوا شهرا في المنطقة، وكان ماكلاود يزداد حماسا كل يوم. وبعد ذلك كان من الصعب منعه من التوجه إلى الوطن في الحال.
أوضح لتافرنيك: «أقول لك يا سيدي، يوجد ملايين هناك، ملايين بين تلك الأوتاد الأربعة التي وضعتها. فما فائدة المزيد من التنقيب؟ هناك ما يكفي في مساحة فدان مربع لدفع نفقات بعثتنا ألف مرة. ولذا دعنا نعد ونقدم التقارير. بإمكاننا الوصول إلى خط السكة الحديد في غضون عشرة أيام من هنا ... وربما قبل ذلك.»
قال تافرنيك: «اذهب أنت. واترك لي بيت واثنين من الخيول.»
حدق الرجل في وجهه بدهشة.
وسأله: «وما فائدة الاستمرار بمفردك؟ أنت لست خبير تعدين أو نفط. لا يمكنك التنقيب بمفردك.»
أجاب تافرنيك: «لا أملك إلا أن أفعل ذلك. إنه شيء يسري في دمي على ما أعتقد. سأواصل. فكر قليلا! ستصل إلى خط السكة الحديد هذا، وفي غضون شهر ستعود إلى نيويورك. ألا تتخيل، عندما تكون هناك، وتسمع أصوات الضجيج والصخب، وترى الحشود الشاحبة وهم يتجادلون معا حول اختطاف الدولارات من جيوب بعضهم البعض ... ألا تظن أنك ستشتاق إلى هذه العزلة، والأماكن الرحبة الخالية، والاحتمالات العظيمة، والصمت؟ فكر في الأمر يا رجل. أتساءل ماذا يوجد خلف تلك الجبال؟»
تنهد ماكلاود.
وقال: «أنت على حق. قد لا يصل المرء إلى مثل هذا المكان البعيد مرة أخرى. ستظل مصائرنا واحدة، على ما أعتقد، ولكن على أي حال يجب علينا التوجه إلى مكتب تلغراف في غضون أسبوعين. فلنمض على الفور إذن.»
في غضون عشرة أيام انحدروا عشرة آلاف قدم. ووصلوا إلى منطقة كانت حناجرهم فيها جافة طوال الوقت، حيث بدت الأشجار والشجيرات وكأنها أدوات على خشبة مسرح، حيث كانوا يغمسون رءوسهم في أي بركة ماء يصادفونها ليغسلوا أنوفهم وأفواههم من الغبار الأحمر الذي بدا كأنه يخنقهم. ووجدوا قصديرا ونفطا والمزيد من النحاس. ثم تقدموا ببطء نحو أرض منبسطة مترامية الأطراف، يغطيها العشب الأزرق؛ أميال وأميال من العشب الأزرق، وفجأة في يوم ما وصلوا إلى مكتب التلغراف، وأشجار الصنوبر الخشنة التي نزع لحاؤها، ويتدلى منها القليل من الأسلاك غير المشدودة. ونظر تافرنيك إليها مثلما نظر روبنسون كروزو إلى آثار أقدام فرايداي. كانت هذه أول علامة على الحياة البشرية رأوها منذ شهور.
وتنهد قائلا: «إنه عالم حقيقي هذا الذي نحن فيه، رغم كل شيء! لقد ظننت، بطريقة أو بأخرى، أننا قد هربنا.»
الفصل الثامن
العودة إلى الحضارة
حدق بريتشارد، المهندم الأنيق، الذي بدا من سكان نيويورك بربطة عنقه المربوطة بعناية وطرف حذائه اللامع المستدق، بدهشة في الرجل الذي جاء لمقابلته في محطة جراند سنترال. بدا تافرنيك في الواقع كأنه رجل غابات رائع قضى حياته في مملكة الرياح والشمس والمطر. كان صدره قد اتسع بضع بوصات، ووقف معتدا بنفسه باستقلالية جديدة. كان وجهه برونزيا حتى العنق. وكانت لحيته مكتملة النمو، وملابسه رثة وبها آثار بقع جراء السفر. كان يبدو مثل نسمة من الحياة الحقيقية في محطة نيويورك العظيمة، محاطا بفيض من الرجال الشاحبين ذوي المعاطف السوداء.
ضحك بريتشارد بهدوء بينما يتأبط ذراع صديقه.
وقال: «تعال، أيها الصديق البريطاني، أيها البدائي، لقد حجزت غرفة لك في فندق قريب من هنا. ستأخذ حماما ثم تتناول شراب النعناع المنعش، وبعد ذلك سآخذك إلى خياط. ما رأيك في هذا البلد الضخم؟ أهو أفضل من المستنقعات الملحية، أم ماذا؟ أهو أفضل من قرية الصيد الصغيرة التي ترعرعت فيها؟ أهو أفضل من صناعة القوارب؟»
أجاب تافرنيك: «أنت تعرف ذلك. أشعر كما لو كنت أمضي في الحياة شهرا بعد شهر. هل سأضطر إلى ارتداء حذاء مثل حذائك ... لامع؟»
فقال بريتشارد مقررا: «يجب أن تفعل ذلك.»
رد تافرنيك متذمرا: «والقبعة ... أوه يا إلهي! لن أصبح متحضرا مرة أخرى أبدا.»
ضحك بريتشارد وهو يقول: «سنرى ذلك. حقا يا تافرنيك، كانت رحلتنا رائعة. وكل شيء يسير على نحو مذهل. فالنفط والنحاس هائلان يا رجل ... أقول لك هائلان. أعتقد أن الخمسة آلاف دولار الخاصة بك في طريقها لأن تصبح نصف مليون دولار. وأنا نفسي اقتربت من هذا المبلغ أيضا.»
لم يدرك تافرنيك إلا بعد مدة، عندما أصبح وحده، مدى ضآلة الاهتمام الذي استمع به إلى حديث رفيقه عن نجاحهما. مر وقت قصير جدا منذ أن كانت كل أعصاب جسمه تركز على هدف واحد فحسب؛ هو تحقيق الثروة. الغريب في الأمر الآن أنه بدا كأنه يأخذ الموضوع كشيء مسلم به.
قال بريتشارد: «بعد إعادة التفكير، سوف أرسل الخياط إلى الفندق. لدي غرفة مجاورة لك في الفندق. ويمكننا أن نذهب معا بعد ذلك لشراء حذاء، وما إلى ذلك من مستلزمات.»
بحلول المساء، كانت خزانة ملابس تافرنيك مكتملة. حتى بريتشارد نظر إليه بدهشة. لقد بدا كأنه، بطريقة ما، قد اكتسب مكانة جديدة.
صاح بريتشارد: «يا إلهي، إنك تبدو رائعا! لن يصدقوا في اجتماع الغد أنك الرجل الذي عبر جبال يوليت وسبح في نهر بيرانيك. ذلك بلد رائع الذي كنت فيه يا تافرنيك، بعد أن تركت خط السكة الحديد.»
بينما كانا في برودواي، وكان هدير المدينة يدق آذانهما، وبدا فجأة أن تافرنيك، الذي رفع وجهه نحو النجوم، يشعر بالسكون مرة أخرى، يشعر بعبير غابات الصنوبر ورائحة الطبيعة نفسها، التي خلت عبر كل هذه الأجيال من وجود الإنسان.
قال بهدوء: «لن أبتعد عنها أبدا. يجب أن أعود.»
ابتسم بريتشارد.
وقال: «عندما يكون تقريرك معدا ودولاراتك جاهزة لتستلمها، فسيرسلونك في أسرع وقت ممكن ... هذا إذا كنت لا تزال ترغب في ذلك. دعني أقل لك يا ليونارد تافرنيك، الرجال هنا في المدينة يسعون وراء الدولارات. أما في ناحيتك، فعندما يجمع الرجل مليونا أو نحوه، فإنه يكتفي بذلك. يبدو أن تحقيق ثروة واحدة هنا لا يسعه إلا أن يثير شهية سكان نيويورك.» ثم أضاف بعد أن تردد لحظة: «بالمناسبة، هل يهمك أن تعرف أن صديقا قديما لك هنا في نيويورك؟»
أدار تافرنيك رأسه بسرعة.
وقال: «من هو؟» «السيدة وينهام جاردنر.»
صر تافرنيك على أسنانه.
وقال ببطء: «لا، أعتقد أن هذا لا يهمني.»
استطرد بريتشارد: «هذا يسعدني. يمكنني أن أخبرك أنني لا أعتقد أن الأمور سارت على ما يرام مع السيدة. لقد أنفقت معظم ما حصلت عليه من عائلة جاردنر، ولا يبدو أنها حالفها الحظ فيه أيضا. لقد التقيتها مصادفة. إنها تقيم في فندق رخيص، لكنه في الجزء الفقير من البلد ... فندق من الدرجة الثانية، أؤكد لك أنه من الدرجة الثانية.»
فقال تافرنيك: «أتساءل إن كنا سنقابلها يوما ما.»
فسأله بريتشارد: «هل تريد أن تقابلها؟ في الغالب ستكون موجودة في مارتن وقت الغداء، وستذهب إلى بلازا لتناول الشاي، وإلى ريكتور لتناول العشاء. فهي ليست من نوعية النساء التي تبقى مختفية، كما تعلم.»
قال تافرنيك: «إذن فسوف نتجنب تلك الأماكن، إذا كنت ستأخذني في جولة في المنطقة.»
فسأل بريتشارد مستفسرا: «لقد شفيت، أليس كذلك؟»
فأجاب تافرنيك: «بلى شفيت، شفيت من هذا ومن أشياء كثيرة أخرى، بفضلك أنت. لقد وجدت لي الترياق الصحيح.»
كرر بريتشارد قوله بتأمل: «ترياق. هذا يذكرني بشيء. فلنذهب من هذا الطريق لنتناول أفضل كوكتيل في نيويورك.»
ومع ذلك، لم يكن من الممكن أن تمضي الليلة دون إثارة لتافرنيك. تناول الرجلان العشاء معا في ديلمونيكو ثم ذهبا بعد ذلك إلى حديقة على السطح، وهو شكل جديد من أشكال الترفيه بالنسبة إلى تافرنيك، وقد أثار اهتمامه بشكل كبير. حجزا إحدى الطاولات الخارجية بالقرب من سور الشرفة، وكانت نيويورك ممتدة أسفلهما، خيالات متوهجة من الأضواء والمباني الفجة . وهناك عبر الطرق الواسعة تمشي السيارات مضيئة أنوارها طوال الوقت، وكأنها ألعاب، ويتدفق الناس مثل الحشرات متجهين إلى نهر هدسون، حيث كانت العبارات الكبيرة، المشتعلة بالأضواء، تسير صارخة عبر المياه المظلمة. انحنى تافرنيك على سور الشرفة ونسي. كان يوجد الكثير من الأشياء المدهشة في هذه المدينة الرائعة لرجل بدأ للتو في أن يجد نفسه.
بدأت الأوركسترا، المتمركزة على بعد بضع ياردات منه، في عزف مقطوعة موسيقية شهيرة، وبدأ بريتشارد في الحديث. وحول تافرنيك عينيه المنبهرتين عن المشهد بالأسفل.
قال بريتشارد: «صديقي الشاب، سوف تواجه موقفا خطيرا الليلة. خذ كأسا من نبيذك وجهز نفسك.»
فعل تافرنيك ما قيل له.
ثم سأل: «عن أي خطر تتحدث؟ ماذا هناك على أي حال؟»
لم يكن بريتشارد بحاجة إلى الإجابة. عندما وضع تافرنيك كأسه على الطاولة، وقعت عيناه على المجموعة الصغيرة التي احتلت لتوها الطاولة المجاورة لهما تقريبا. كان من بينهم والتر كريس، ميجور بوست، ورجلان لم يسبق له رؤيتهما من قبل في حياته ... كلاهما ممتلئ الوجه، شاحب العينين، لكنهما يرتديان ملابس شديدة التقيد بالأزياء السائدة في المدينة؛ باختصار معاطف العشاء وربطات العنق السوداء. وكانت إليزابيث وسطهم. أمسك تافرنيك بجانبي مقعده ونظر. نعم، لقد تغيرت. كانت حواجبها مرسومة بطريقة خفيفة، وشعرها مصبوغا بلون لم يتعرف عليه، ووجنتاها ملونتين بلون بدا مصطنعا. ومع ذلك، احتفظت بجسدها وحضورها الرائع كما هما، كما تمتعت بذلك الفن في ارتداء ملابسها كما لم تستطع أي امرأة أخرى. كانت تستطيع بسهولة أن تكون الأكثر جذبا للانتباه من بين بنات جنسها بين كل الناس الموجودين في المكان. سمع تافرنيك رنة صوتها، ومرة أخرى شعر بالإثارة، ولكنها سرعان ما خبت. كانت إليزابيث كما هي. أما هو، فقد حمد الله، على أنه لم يعد كما هو!
سأل بريتشارد: «هل ترغب في الذهاب؟»
فهز تافرنيك رأسه.
وأجاب: «ليس أنا! هذا المكان رائع للغاية. ألا يمكننا الحصول على المزيد من النبيذ؟ هذا هو علاجي. ولكن لماذا تنظر إلي هكذا يا بريتشارد؟ أنت لا تفترض لحظة أنني يمكن أن أجعل من نفسي أضحوكة مرة أخرى؟»
ابتسم بريتشارد بارتياح.
وقال: «صديقي الشاب، لقد عشت في الدنيا زمانا طويلا ورأيت الكثير من الأشياء الغريبة، لا سيما بين الرجال والنساء، لدرجة أنني لم أعد أفاجأ قط بأي شيء. اعتقدت أنك ستخفي حماقتك ما دمت قد أحكمت قبضتك على الحياة بهذا الشكل، لكن المرء لا يتأكد أبدا.»
تنهد تافرنيك.
ورد: «أوه، لقد أخفيت أسوأ حماقاتي! لكنني أتمنى لو ...»
لم ينه جملته قط. فقد رأته إليزابيث فجأة. وللحظة مالت للأمام وكأنها تتأكد أنها ليست مخطئة. ثم نهضت واثبة على قدميها وجلست مرة أخرى. انفرجت شفتاها ... كان جمالها محيرا وأخاذا مرة أخرى.
صاحت: «سيد تافرنيك، تعال وتحدث معي على الفور.»
نهض تافرنيك بلا تردد، وسار بحزم عبر الياردات القليلة التي تفصلهما. ومدت هي كلتا يديها.
وصاحت قائلة: «هذا رائع! أنت في نيويورك! لقد كنت أتساءل كثيرا عما حل بك.»
ابتسم تافرنيك.
وقال: «إنها ليلتي الأولى هنا. لقد كنت في رحلة تنقيب في أقصى الغرب مدة عامين.»
فقالت: «ثم رأيت اسمك في الصحف. كان ذلك من أجل نقابة مانهاتن، أليس كذلك؟»
أومأ تافرنيك برأسه، ومال أحد الرجال المرافقين لها إلى الأمام باهتمام.
قالت مؤكدة له: «سوف تكسب ملايين وملايين. كنت دائما تعرف أنك ستفعل، أليس كذلك؟»
فأجاب: «أخشى أنني كنت واثقا من ذلك أكثر من اللازم. ولكن الحظ حالفنا للغاية بالتأكيد.»
تدخل أحد رفاق إليزابيث ... وكان هو الرجل الذي انتبه عند ذكر نقابة مانهاتن.
وقال: «إليزابيث، أود أن أتعرف إلى صديقك.»
قدمته إليزابيث متجهمة. «السيد أنتوني كروكسول ... السيد تافرنيك!»
مد السيد كروكسول يدا بيضاء سمينة، تبرق بخاتم ضخم من الماس في إصبع الخنصر.
وقال متسائلا: «عجبا، هل أنت السيد تافرنيك الذي كان مسئول المسح في مجموعة التنقيب التي أرسلتها نقابة مانهاتن؟»
أقر تافرنيك بإيجاز: «نعم، كنت أنا. وما زلت، كما أتمنى.»
فقال السيد كروكسول بصراحة: «إذن فأنت الشخص الذي كنت أتمنى مقابلته، ألن تجلس معنا؟ أود لو تحدثنا قليلا عن تلك الرحلة. فأنا مهتم بأمر النقابة.»
هز تافرنيك رأسه.
وقال: «لقد اكتفيت من العمل مدة طويلة. بالإضافة إلى أنني لا أستطيع أن أتحدث عنها إلا بعد أن أسلم تقريري في الاجتماع غدا.»
أصر السيد كروكسول: «سنتحدث قليلا فحسب. هلا نحتسي زجاجة من الشمبانيا؟»
أجاب تافرنيك: «أنا واثق أنك سوف تعذرني عندما أخبرك أنه لن يكون من الصواب من جانبي مناقشة رحلتي إلا بعد تسليم تقريري إلى الشركة. وأنا سعيد جدا لرؤيتك مرة أخرى يا سيدة جاردنر.»
صاحت بإحباط: «لكنك لن تذهب!»
فأجاب تافرنيك: «لقد تركت السيد بريتشارد بمفرده.»
فابتسمت إليزابيث، ولوحت بيدها إلى الشخص الذي كان يجلس وحيدا.
وقالت: «صديقنا السيد بريتشارد مرة أخرى. حسنا، إنه اجتماع غريب حقا، أليس كذلك؟» ثم رفعت رأسها قليلا في محاذاة رأسه وأومأت بعينيها لكي يقرب منها أكثر وأضافت: «ترى هل نسيت كل شيء؟»
أومأ إلى فوق أسطح المنازل. وكان ظهره نحو النهر وأشار ناحية الغرب.
ثم أجاب: «لقد كنت في بلد ينسى فيه المرء كل شيء. وأعتقد أنني قد رميت حقيبة حماقاتي بعيدا. ولعلها مدفونة الآن. هناك بعض الأشياء التي لا أنساها، لكن نادرا ما أتحدث عنها.»
قالت: «أنت شاب غريب. هل كنت مخطئة، أم أنك كنت يوما تحبني؟»
فاعترف تافرنيك: «كنت أحبك بشكل رهيب.»
وغمغمت: «ومع ذلك، مزقت الشيك الذي كتبته لك وابتعدت عني قدر استطاعتك عندما اكتشفت أن معاييري الأخلاقية لم تكن كما توقعت تماما. ألم تتجاوز تلك المثالية قليلا يا ليونارد؟»
تنهد تنهيدة عميقة.
ثم أعلن بجدية: «أنا ممتن لأن أقول إنني لم أتجاوزها، وإنني، إذا كنت قد تغيرت، فقد ازددت تعصبا أكثر من أي وقت مضى.»
جلست ساكنة لحظة، وأصبح وجهها جامدا وخاليا من التعبيرات. وكانت تنظر إلى ما وراءه، متجاوزة خط الأنوار، نحو الظلام الدامس.
وقالت بهدوء: «بطريقة ما، كنت أدعو الله دائما أن تتذكر. فقد كنت أنت الشيء الحقيقي الوحيد الذي قابلته في حياتي، كنت مخلصا بحق. إذن فقد انتهى كل شيء؟»
أجاب تافرنيك بشجاعة: «لقد انتهى.»
تهادى إلى مسامعهم صوت موسيقى الفالس المجرية. فأغمضت عينيها جزئيا. وحركت رأسها ببطء مع اللحن. فأشاح تافرنيك بنظره بعيدا.
وفجأة سألته: «هل ستأتي لتراني مرة أخرى فحسب؟ أنا أقيم في دلفيدير، في شارع 42.»
أجاب تافرنيك: «شكرا جزيلا لك. لكني لا أعرف كم من الوقت سأبقى في نيويورك. فإذا كنت سأبقى بضعة أيام، فسوف أغتنم الفرصة لزيارتك في منزلك.»
ثم انحنى وعاد إلى بريتشارد، الذي استقبله بابتسامة هادئة.
وقال بلطف: «أنت حكيم يا تافرنيك. لم أسمع ما قيل، لكنني أعلم أنك كنت حكيما.» ثم أضاف بصوت منخفض: «بيني وبينك، إنها تتدهور حالا. إنها هنا مع الرفقة الخطأ. ويبدو أنها لا تستطيع الابتعاد عنهم. إنهم غير ملتزمين بالقيم الأخلاقية والاجتماعية، وهم أقرب إلى الوقوع تحت طائلة القانون منهم إلى الانتماء إلى المجتمع المحترم. أما عن الرجل الذي رأيتك تتعرف إليه فهو مليونير في يوم من الأيام ولص في اليوم التالي. ليس منهم رجل صالح. هل لاحظت أيضا أنها ترتدي مجوهرات زائفة؟ هذا يبدو شيئا سيئا على الدوام.»
أجاب تافرنيك: «لا، لم ألحظ.»
كان صامتا لحظة. ثم انحنى قليلا إلى الأمام.
وسأل: «ترى، هل تعرف أي شيء عن أختها؟»
أنهى بريتشارد نبيذه وأسقط الرماد من سيجاره.
وأجاب: «لا أعرف الكثير. أعتقد أنها مرت بوقت عصيب للغاية. لقد تولت مسئولية أبيها، كما تعلم، البروفيسور العجوز، وبذلت قصارى جهدها لإبقائه على الصراط المستقيم. وتوفي منذ عام تقريبا وحاولت الآنسة بياتريس العودة إلى المسرح، لكن فرصتها في ذلك كانت قد ضاعت. وكانت الأعمال المسرحية رديئة في لندن. وسمعت أنها جاءت إلى هنا.» ثم قال مومئا برأسه نحو أصدقاء إليزابيث: «أيا كان المكان الذي تعيش فيه، فهي تحاول البقاء بعيدا عن مثل هذه الزمرة.»
قال تافرنيك وقلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه: «أتساءل عما إذا كانت في نيويورك.»
ولم يحر بريتشارد جوابا. كانت عيناه مثبتتين على المجموعة الصغيرة الجالسة إلى الطاولة المجاورة. كانت إليزابيث قد رجعت بظهرها في مقعدها. ويبدو أنها انسحبت من المحادثة الدائرة. وكانت عيناها مثبتتين طوال الوقت على عيني تافرنيك. فنهض بريتشارد واقفا على قدميه فجأة.
وقال: «لقد حان الوقت لأن نخلد إلى النوم. وتذكر اجتماع الغد.»
نهض تافرنيك على قدميه. وبينما كانا يمران على الطاولة المجاورة، مالت إليزابيث نحوه. ورجته عيناها بلوعة.
وهمست: «عزيزي ليونارد، لا بد ... لا بد أن تأتي لتراني. سأبقى في المنزل ما بين الساعة الرابعة والسادسة كل مساء هذا الأسبوع. تذكر: دلفيدير.»
أجاب تافرنيك: «شكرا جزيلا لك. لن أنسى.»
الفصل التاسع
على الدوام
مرة أخرى بدا لبياتريس أن التاريخ يعيد نفسه. كانت غرفة الطعام مستطيلة وقذرة، وانتشرت فيها مصائد البعوض التي نسجها العنكبوت، وكان مفرش المائدة متسخا والمقاعد من الخيرزان الصلب، حتى إنها تخيلت نفسها في غرفة المعيشة بنزل بلينهايم هاوس. لم يكن ثمة فرصة كبيرة للاختيار بين ملاك الفنادق. كانت السيدة ريثبي لورانس، بصرف النظر عن لسانها اللاذع وطبيعتها النزاعة إلى الشك، على الأقل تتظاهر باللطف. أما المرأة التي تواجهها الآن - بملامحها الجامدة، وعينيها الضيقتين الميالتين إلى الشك وشعرها الأحمر المبهرج - فكانت بالتأكيد امرأة فظة قاسية.
سألت بسخرية: «ما فائدة استمرار قولك إنك تأملين في الحصول على عمل في الأسبوع المقبل؟ من الذي يمكن أن يمنحك أي عمل؟ عجبا، لقد ازددت شحوبا وفقدت جمالك وخسرت وزنك منذ أن أتيت للبقاء هنا. وهم لا يريدون مثلك في الكورس. وبالإضافة إلى ذلك، أنت مغرورة ومتغطرسة للغاية، وهذا هو رأيي فيك. فلتأخذي ما يمكنك الحصول عليه، بأي طريقة، وكوني شاكرة ... هذا هو شعاري. يوما بعد يوم، تتجولين في الشوارع برأس مرفوع وخيلاء، وترفضين هذا وترفضين ذاك، وفي الوقت نفسه ترتفع قيمة فاتورتي أكثر وأكثر. والآن أريد أن أعرف أين كنت حتى هذا الصباح؟»
حاولت بياتريس، التي كانت متعبة ومرهقة للغاية، وكانت أطرافها كلها ترتجف، أن تمر خارجة من الغرفة، ولكن المرأة التي كانت تستجوبها أغلقت عليها الطريق.
فردت بعصبية: «لقد كنت في المدينة.» «هل هناك أي أخبار؟»
هزت بياتريس رأسها. «ليس بعد. أرجو منك أن تسمحي لي بأن أصعد إلى الطابق العلوي وأستلقي. فأنا متعبة وأحتاج إلى الراحة.»
فقالت السيدة سلينا واتكينز، دون أن تتحرك من مكانها: «وأنا أريد نقودي. وليس هناك فائدة من الصعود إلى غرفتك لأن الباب موصد.»
تلعثمت بياتريس وهي تقول: «ماذا تقصدين بذلك؟»
قالت صاحبة الفندق الصغير: «أعني أنني قد انتهيت من أمرك. غرفتك موصدة والمفتاح في جيبي، وكلما أسرعت في الخروج من هنا، كان ذلك أفضل بالنسبة إلي.»
صاحت بياتريس: «ولكن ماذا عن صندوقي ... ملابسي.»
أجابت المرأة: «سأحتفظ بها أسبوعا من أجلك. أحضري لي المال قبل انتهاء تلك المهلة، وستحصلين عليها. أما إذا لم أسمع أي شيء عنك، فسأعرضها في مزاد.»
استعادت الفتاة شيئا من روحها القديمة. كانت غاضبة، ونسيت أن ركبتيها كانتا ترتعشان من التعب، وأنها كانت ضعيفة وتتضور جوعا.
صاحت: «كيف تجرئين على التحدث إلي هكذا! ستحصلين على نقودك قريبا، لكن يجب أن آخذ ملابسي. لا يمكنني الذهاب إلى أي مكان بدونها.»
ضحكت المرأة بقسوة.
وقالت: «انظري أيتها الشابة، سوف ترين صندوقك مرة أخرى عندما أرى لون نقودك، وليس قبل ذلك. والآن اخرجي، من فضلك ... اخرجي! وإذا كنت ستثيرين أي مشكلة، فسوف تصحبك سولي إلى أسفل.»
كانت المرأة قد فتحت الباب، وجاءت خادمة ملونة، نصف عارية، وفي يدها مكنسة، تسير بترهل على طول الممر. استدارت بياتريس وهربت من الجو اللزج الصاخب، نازلة على الدرج الخشبي غير المستوي، حتى وصلت إلى الشارع القبيح. استدارت نحو أقرب محطة قطار، كما لو كانت جبلت على ذلك، ولكنها عندما وصلت إلى أسفل السلم توقفت قليلا متأوهة بصوت خفيض. كانت تعلم جيدا أنها لا تملك أي بنس لدفع الأجرة. كانت جيوبها خاوية. ولم تأكل شيئا طوال اليوم، ودفعت آخر عملة معدنية لديها أجرة للسيارة التي أعادتها من برودواي. وها هي في الجانب الآخر من نيويورك، في منطقة مساكن الطبقة الدنيا، يفصل بينها وبين برودواي شارع بواري. لم تكن لديها القوة ولا الشجاعة للسير. وبتنهيدة شبه مختنقة، خلعت الحلية الوحيدة المتبقية لها، وهي بروش رخيص مطلي بالمينا، ودخلت متجر رهن بالقرب من المكان الذي كانت تقف فيه.
سألت بيأس: «هل ستعطيني شيئا مقابل هذا، من فضلك؟»
توقف رجل بدا كأنه يفرز كومة من المعاطف الجاهزة، لحظة عما يفعله، وأخذ الحلية في يده، وألقى بها بازدراء على المنضدة.
ورد: «لا تساوي شيئا.»
احتجت بياتريس قائلة: «لكن لا بد أنها تستحق شيئا. لا أريد سوى مبلغ ضئيل جدا.»
استرعى شيء في صوتها انتباه الرجل. فنظر إلى وجهها الشاحب.
وسأل: «ما المشكلة؟»
قالت: «يجب أن أصل إلى فيفث أفنيو بطريقة ما. ولا أستطيع السير وليس لدي أي نقود.»
دفع البروش إليها وألقى قطعة نقد على المنضدة.
وقال: «حسنا، أنت لا تبدين قادرة على السير، وهذه حقيقة، ولكن البروش لا يستحق الرهن. هاك عشرة سنتات من أجلك. والآن، اخرجي من فضلك، فأنا مشغول.»
أمسكت بياتريس بالعملة، وكادت تنسى أن تشكره، ثم توجهت إلى السلم الحديدي لمحطة القطار. وسرعان ما جلست في القطار، الذي راح يقعقع ويهتز في طريقه عبر الأحياء الفقيرة إلى قلب المدينة الرائعة. لم يتبق لها سوى شيء واحد لتجربته، وهو الشيء الذي كان يدور في ذهنها منذ عدة أيام. ومع ذلك، وجدت نفسها تفكر فيما ينتظرها برعب قاتم، حتى بعد أن أصبحت مضطرة إلى أن تفعل هذا الشيء. لقد كان هذا آخر مورد لها بالفعل. على الرغم من أنها كانت قوية، فقد عرفت من خلال أمارات عديدة بسيطة أن قوتها كانت على وشك أن تخور. أيام وأسابيع من خيبة الأمل، والتسكع الطويل غير المجدي من مكتب إلى آخر، والإحباط الناجم عن الرفض المستمر، وسوء التغذية، والصيام الطويل، كل هذا ترك آثاره عليها. ومع ذلك، فقد كانت لا تزال جذابة بما فيه الكفاية. يبدو أن شحوبها قد منحها رقة وجمالا. كانت شفتاها الجميلتان واللمعة الخفيفة في عينيها الرماديتين لا تزال كما كانت دائما. على الرغم من ذلك، عندما كانت تفكر كيف كانت تفتقر إلى المظهر الجميل، كانت وجنتاها تتوردان.
شقت طريقها في برودواي إلى مجموعة رائعة للغاية من المباني المتصلة، ودخلت ثم استقلت المصعد إلى الطابق السابع. وهناك خرجت من المصعد وطرقت بتردد على أحد الأبواب الزجاجية، نقش عليه اسم السيد أنتوني كروكسول. أذن لها شاب غاية في الرقي بالدخول واستفسر عما تريد.
فقالت: «أود أن أقابل السيد كروكسول لحظة، مقابلة شخصية. لن أؤخره أكثر من دقيقة. اسمي فرانكلين ... الآنسة بياتريس فرانكلين.»
بدا أن شفاه الشاب كانت على وشك أن تصدر صفيرا، لكن شيئا في وجه الفتاة جعله يغير رأيه.
وقال: «أظن أن الرئيس هنا. لقد أتى لتوه من اجتماع مهم، ولكنني لست على يقين إن كان سيقابل أي شخص اليوم. ومع ذلك، فسوف أخبره بوجودك هنا.»
اختفى داخل غرفة داخلية. ثم خرج في الحال وترك الباب مفتوحا.
ودعاها قائلا: «هلا تدخلين الآن مباشرة يا آنسة فرانكلين؟»
دلفت بياتريس إلى الغرفة بشجاعة كافية، ولكن ركبتيها بدأتا في الارتجاف عندما وجدت نفسها في معية رجل أتت لمقابلته. لم يكن السيد أنتوني كروكسول شخصا وسيما. كانت وجنتاه ممتلئتين ومنتفختين، وكان يرتدي خاتما من الماس في إصبع يده شديدة البياض ودبوسا من الماس في ربطة عنقه المبهرجة. كان يدخن سيجارا أسود اللون، تجاهل أن ينزعه من بين أسنانه وهو يرحب بزائرته.
قال بابتسامة قبيحة للغاية: «إذن فقد أتيت لمقابلتي أخيرا يا آنسة بياتريس! تعالي لتجلسي بجانبي. هذا صحيح، أليس كذلك؟ والآن ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟»
كان جسد بياتريس يرتجف من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. كانت عينا الرجل بغيضتين، وابتسامته مخيفة.
قالت متلعثمة: «لا أملك بنسا واحدا يا سيد كروكسول، ولا أستطيع الحصول على عمل، وطردت من غرفتي، وأنا جائعة. كان والدي دائما ما يخبرني أنك ستكون صديقا إذا حدث واحتجت إلى مساعدتك في يوم من الأيام. أنا آسفة جدا لحضوري وتوسلي، ولكن هذا ما أفعله. هلا تقرضني أو تعطيني عشرة أو عشرين دولارا، لكي أتمكن من المضي قدما وقتا أطول؟ أو هل يمكنك أن تساعدني في أن أحصل على وظيفة في أحد المسارح؟»
نفخ السيد كروكسول دخان سيجاره بانتظام لدقيقة، ثم رجع بظهره في مقعده ودفع بيده في جيب بنطاله.
وقال: «هل الوضع بهذا السوء؟ أهو حقا بهذا السوء؟»
فأجابت وهي تنظر إليه بهدوء: «إنه سيئ للغاية حقا، وإلا فما كنت سآتي إليك، كما تعرف.»
ابتسم السيد كروكسول.
وقال: «أتذكر آخر مرة تحدثنا فيها معا، لم يكن ثمة وفاق بيننا. كنت شديدة الغطرسة والقوة في تلك الأيام، أليس كذلك يا آنسة بياتريس؟ لم تكوني لتمني على شخص سيئ مثل أنتوني كروكسول بكلمة. والآن أنت مضطرة إلى أن تأتي، أليس كذلك؟»
بدأت ترتجف مرة أخرى، لكنها منعت نفسها.
تمتمت: «يجب أن أعيش. أعطني القليل من المال ودعني أذهب.»
فضحك.
ورد قائلا: «أوه، سأفعل ما هو أفضل من ذلك من أجلك» ووضع يده في جيب صدرته وسحب رزمة من الدولارات. ثم استأنف: «فلننظر إليك. مرحى! نعم، أنت رثة الثياب، أليس كذلك؟ خذي هذا.» ورمى بعض الأوراق المالية أمامها. وقال: «اذهبي واشتري لنفسك فستانا جديدا وقبعة ملائمة، وقابليني في حديقة سطح ماديسون سكوير في الساعة الثامنة. سنتناول العشاء وأعتقد أنه يمكننا إصلاح الأمور.»
ثم ابتسم لها مرة أخرى، وشعرت بياتريس، التي كانت يدها بالفعل فوق الأوراق المالية، فجأة بركبتيها ترتعشان. سيطر عليها رعب قاتم هائل. فاستدارت وهربت إلى خارج الغرفة، متجاوزة الموظف المذهول، إلى المصعد، وكانت في الطابق السفلي قبل حتى أن تتذكر أين كانت وماذا فعلت. أما الموظف، فبعد أن حدق فيها وهي تهرب، هرع داخلا إلى المكتب الداخلي.
وسأل: «هذه الشابة لم تهرب بأي شيء، أليس كذلك؟»
ابتسم السيد كروكسول ابتسامة شريرة.
وأجاب: «بالطبع لا، أعتقد أنها ستعود!»
غادر تافرنيك الاجتماع بعد ظهيرة اليوم نفسه بمستقبل مضمون عمليا مدى الحياة. لقد عين مساحا للشركة براتب عشرة آلاف دولار سنويا، ومن المرجح أن يدر المنجم الذي استثمر فيه مدخراته مبلغا يساوي مائة ضعف رأسماله الصغير. ولقد قيلت عنه أشياء طيبة جدا أمامه.
كان بريتشارد قد غادر المكان معه. وعندما وصلا إلى الشارع، توقفا لحظة.
قال بريتشارد: «سأجري مكالمة بالقرب من هنا. لا تنس أننا سنتناول الطعام معا، ما لم تجد شيئا أفضل لتفعله، وفي هذه الأثناء ...» أخذ بطاقة من جيبه وسلمها إلى تافرنيك وواصل كلامه: «لا أعرف ما إذا كنت أحمق أو لا لأعطيك هذا. ومع ذلك، فها هي. افعل ما تريد حيال ذلك.»
وسار مبتعدا فجأة. ألقى تافرنيك نظرة سريعة على العنوان المكتوب في البطاقة: 1134، شارع إيست 3. كان في حيرة لحظة. ثم أضاء عقله فجأة. وقفز قلبه من بين ضلوعه. ذهب إلى المكان ليسأل عن بعض الاتجاهات وتوقف مرة أخرى على حين غرة. ظهر خيال أسود لامرأة نحيلة تجري مرتاعة وكأنها تهرب من مصير بشع، بوجه شاحب ونظرة رعب. بسط تافرنيك يديه فجاءت إليه وهي تشهق شهقة تعجب شديد.
صاحت: «ليونارد! ليونارد!»
فأجاب بسرعة: «إنه أنا بلا شك. هل أنا كائن مرعب إلى هذه الدرجة؟»
وقفت بلا حراك وقاومت بشدة. وبعد لحظة، راح الدوار الذي كانت تشعر به.
غمغمت: «ليونارد، أنا مريضة.»
ثم بدأت تبتسم.
وتلعثمت قائلة: «إنه أمر سخيف للغاية، لكن عليك أن تفعل الشيء نفسه مرة أخرى.»
سأل: «ماذا تقصدين؟»
فقالت متوسلة: «أحضر لي شيئا آكله في الحال. أنا أتضور جوعا. لنذهب إلى مكان أنيق. ليونارد، كم هذا رائع! لم أكن أعرف حتى أنك في نيويورك.»
طلب عربة وأخذها إلى حديقة على السطح. وهناك، لأن الوقت كان مبكرا، حصلا على مقعد قرب حاجز الشرفة. تحدث تافرنيك بشكل أخرق عن نفسه معظم الوقت. كان يشعر بجفاف في حلقه. كان يشعر طوال الوقت أن ثمة مأساة قريبة جدا. ومع ذلك، بالتدريج، عندما تناولت الطعام والشراب، عاد اللون الوردي إلى خديها، وبدا أن الخوف من الانهيار قد زال. بل إنها صارت مبتهجة.
قالت: «نحن حقا أكثر الناس إثارة للدهشة يا ليونارد. لقد دخلت إلى حياتي مرة من قبل عندما كنت على وشك أن أطرد من غرفتي. واليوم جئت إليها مرة أخرى ووجدتني بلا مأوى مرة أخرى. لا تنفق الكثير من المال على العشاء، لأنني أحذرك من أنني سأقترض منك.»
فضحك.
وقال: «هذه أخبار جيدة، لكنني لست متأكدا من أنني سأقرضك أي شيء.»
مال عبر الطاولة. استغرق تحضير عشائهما وقتا طويلا وكان الظلام قد بدأ يسدل ستاره على الدنيا. وكانت النجوم تتلألأ فوقهما، وفرقة الموسيقى تعزف ألحانا هادئة، وصخب الشوارع يتباعد في الأسفل. لقد كانا تقريبا في عالم صغير وحدهما.
قال لها: «عزيزتي بياتريس، لقد طلبت منك ثلاث مرات أن توافقي على الزواج مني ولم تقبلي، وقد كنت أطلب ذلك لأنني كنت أحمق أنانيا، ولأنني كنت أعرف أن هذا لصالحي وأنه سيحميني من أشياء كنت أخاف منها. أما الآن، فأنا أطلب منك الشيء نفسه مرة أخرى، ولكن لدي سببا أهم، يا بياتريس. لقد كنت وحدي معظم العامين الماضيين، وقد عشت الحياة التي تجعل الرجل يواجه الحقيقة وجها لوجه، وتساعده على معرفة نفسه والآخرين، وقد اكتشفت شيئا.»
قالت متلعثمة: «ما هو؟ أخبرني يا ليونارد.»
تابع: «اكتشفت أنك أنت من كنت أحب دائما، ولهذا السبب أطلب منك الزواج الآن يا بياتريس، ولكن هذه المرة أطلبه لأنني أحبك، ولأنه ما من أحد في الدنيا يمكن أن يحل محلك أو يمثل شيئا بالنسبة إلي على الإطلاق.»
تمتمت قائلة: «ليونارد!»
قال راجيا: «أنت لا تأسفين على أنني قلت هذا؟ أليس كذلك؟»
فتحت عينيها مرة أخرى.
وأجابت: «كنت دائما أدعو الله أن أسمعها منك، ولكن يبدو ... يبدو هذا جائرا جدا! فها أنا ذا أتضور جوعا، بلا أي مال، وأنت ... أنت على ما أعتقد قطعت شوطا طويلا في طريق النجاح الذي كنت تحرص عليه.»
قال بجدية: «لقد قطعت شوطا طويلا في طريق شيء أعظم يا بياتريس. قطعت شوطا طويلا في طريق فهم معنى النجاح الحقيقي، وماهية الأشياء التي لها قيمة وتلك التي لا قيمة لها.» ثم واصل هامسا: «لقد اكتشفت حتى الشيء الأكثر أهمية وقيمة بالنسبة إلي من أي شيء آخر في العالم، والآن بما أني قد اكتشفته، فلن أسمح بأن يضيع مني مرة أخرى.»
ضغط على يدها، فنظرت إليه عبر الطاولة نظرة حالمة. فابتعد النادل، الذي كان يقترب من الطاولة، بدبلوماسية. وبدأت الفرقة تعزف لحنا مبهجا. وتصاعدت أصوات صخب السيارات من أسفل. كان ثمة جلبة كونية غريبة من الأصوات المختلطة، ولكن ساد بين هذين الاثنين صمت رائع.
অজানা পৃষ্ঠা