باب أقسام الكلام
فأول ما نذكر من ذلك إجماع النحويين على أن الكلام اسم وفعل وحرف وحقق القول بذلك وسطره في كتاب سيبويه، والناس بعده غير منكرين عليه ذلك.
نبدأ بما يسأل عنه أصحاب سيبويه وما يحتج به له. يقال لأصحابه وستئر من اعتقد هذا المذهب: من أين لكم أن كلام العرب كله اسم وفعل وحرف؟ وكيف حكمتم بذلك وشهدتم بصحته من غير دليل ولا برهان وإنما ذكره سيبويه في أول كتابه حين قال: "الكلام اسم وفعل وحرفجاء لمعنى" فقال قائلون: إنما قصد/ الكلام العربي دون غيره. وقال آخرون بل أراد الكلم العربي كله والعجمي. وفي ذلك احتجاج ونظر لم نقصد له في هذا الكتاب لأنا قد شرحناه في كتاب شرح الرسالة بجميع ما فيه، ولسنا نخاطبكم إلا على أنه قصد الكلم العربي دون سائر اللغات، لأن الجواب عن ذلك أسهل عليكم وأقرب. ثم مثل سيبويه كل صنف من ذلك ولم يقرنه بدليل قاطع ولا حجة فيدل على أن الكلام ثلاثة أقسام كما ذكروا، وأنه لا رابع لهذه الأقسام ولا خامس ولا أكثر من ذلك. فإن كنتم قبلتم ذلك عنه تقليدًا من غير برهان ولا حجة، فأنتم في عمياء وشبهة فما دعاكم إلى قبول ذلك منه وقد علمتم أن النحو علم قياسي ومسيار لأكثر العلوم لا يقبل إلا ببراهين وحجج. ما خلا ما لزم قبوله من علوم الشريعة بعد وضوح الدلائل وإقامة البراهين والدلائل العقلية الحقيقية على لزوم الحجة، وأنتم
1 / 41
جعلتم أول قبولكم من صباحكم ما أدعاه من غير برهان ولا بيان وما نؤمنكم من أن يعارضه معارض يقول لكم: كلام العرب: أكثر من هذه الأقسام. فبأي شيء تصلون إلى بطلان دعواه وتصحيح دعوى صاحبكم؟
الجواب أن يقال له: إن من الأشياء أشياء تعرف ببديهة العقل بغير برهان ولا دليل بها يُستدل على المشكل الملبس والغامض الخفي؟ كما أنا نعلم بديهة بغير دليل أن وجود جسمٍ في حال واحدة ساكنًا متحركًا محال ... إلا في حال خلق الله ﷿ كما علم ذلك استدلالًا؛ وكما أنا نعلم أن وجود جسم واحد في مكانين في حال واحدة ووقت واحد محال؛ كما أن وجوده لا في مكان محال؛ ومن الأشياء ما يُعرف بالدلائل الواضحة القريبة المنفق عليها التي لا تشكل على أحد حتى تقوم مقام ما يعرف بديهة بغير استدلال.
ونحن نعلم أن الله ﷿ إنما جعل الكلام ليعبر به العباد عما هجس في نفوسهم، وخاطب به بعضهم بعضًا بما في ضمائرهم مما لا يوقف عليه/ بإشارة ولا إيماء ولا رمز بحاجب ولا حيلة من الحيل، فإذا كان هذا معقولًا ظاهرًا غير مدفوع فيبين أن المخَاطب والمخاطِب والمخبَّر عنه والمخبر (به) أجسام وأعراض تنوب في العبارة عنها أسماؤها، أو ما يعتوره معنى يدخله تحت هذا القسم من أمر أو نهي أو نداء أو نعت أو ما أشبه ذلك مما تختص به الأسماء، لأن الأمر والنهى إنما يقعان على الاسم النائب عن المسمى، فالخبر إذًا هو غير المخبر والمخبر عنه وهما داخلان تحت قسم الاسم، والخبر هو الفعل وما اشتق منه أو تضمن معناه وهو الحديث للذي ذكرناه ولابد من رباط بينهما وهو الحرف، ولن يوجد إلى معنى رابع سبيل فيكون للكلام قسم رابع، وهذا معنى قول سيبويه الكلم اسم وفعل وحرف، وقد رُوي لنا أن أول من قال ذلك أمير المؤمنين علي بن
1 / 42
أبي طالب صلوات الله عليه؛ أعني قوله الكلام اسم وفعل وحرف؛ ثم قال له: قد دللنا على صحة مذهب صاحبنا وأريناك أن اعتقادنا ليس تقليدًا بل ببحث ونظر. والمدعى أن للكلام قسمًا رابعًا أو أكثر منه مُخمن أو شاك؛ فإن كان متيقنًا فليوجد لنا في جميع كلام العرب قسمًا خارجًا عن أحد هذه الأقسام ليكون ذلك ناقضًا لقول سيبويه؛ ولن يجد إليه سبيلًا؛ وليس يجب علينا ترك ما قد تيقناه وعرفناه حقيقة وصح في العقول لشك من شك بغير دليل ولا برهان؛ لأن الشكوك لا تدفع الحقائق وبالله التوفيق؛
سؤال آخر على أصحاب سيبويه. يقال لهم: لم سمي سيبويه وغيره هذه الأشياء أسماء وأفعالًا وحروفًا؛ أعني قولهم رجل وزيد؛ وقام يقوم؛ ومن وإلى وما أشبه ذلك، وقد علمتم أنها كلها أفعال المتكلم لأنها كلام ونطق، والكلام يفعله المتكلم ويوجده بعد أن لم يكن، فهو فعل من أفعاله، ولستم ممن يقول إن الاسم هو المسمى لفساد ذلك عندكم/ فزيد إذًا غير من هو دال عليه. وقام في قولك قام زيد، ليست هذه اللفظة بفعل زيد إنما هي فعل المتكلم، وفعل زيد حركته وهذه عبارة عنها، وكذلك سائر هذه الأشياء إنما هي أفعال المتكلمين فلم رتبها النحويون هذه المراتب وسموها بغير استحقاقها؟
الجواب أن يقال: إن هذه الأشياء وإن كانت كما ذكرتم أفعالًا للمتكلمين الناطقين بها، فهي مختلفة المعاني متباينة المجاري في طريق الإعراب. وكل واحد منها له نحو في كلامهم ليس للآخر، ووجه ينفرد به، فلما كان ذلك كذلك وجب الفرق بينهما وأن يوسم كل جنس منها بأشكل الأشياء به، فجمع بذلك
1 / 43
أشياء، منها الفرق بين يعضها وبعض أنها وإن كانت قد جمعها أنها أفعال فهي أنواع. كما أن من أفعال العباد القيام والقعود والحركة والسكون وما أشبه ذلك ولكل نوع منها سمة ينفرد بها، وهي كلها أفعال. ومنها أن نعرف مجاريها في الإعراب، ومنها أن يسهل على متعلم العربية التوصل إليها إذا قسمت هذه الأشياء وفصلت وحصل لكل نوع منا ما ينفرد به وما يشركه فيه غيره، فلما لم يكن من ذلك بدٌ كان أولى الأشياء باللفظة الموضوعة على المسمى الدالة عليه، أن يقال لها اسم وإن كانت فعلًا لغيره، وهي دالة على المسمى بها وسمة له، فكان أولى الأشياء من هذه الأقسام الثلاثة المسمى فعلًا، ما كان عبارة عن فعل زيد وهي فعل للمتكلم فاعتورتها الفعلية من جهتين، فسميت لذلك فعلًا دون الاسم والحرف.
وسمي القسم الثالث حرفًا لأنه حد ما بين هذين القسمين ورباط لهما، والحرف حد الشيء، فكأنه لوصله بين هذين كالحروف التي تلي ما هو متصل بها، وهذا بيّن واضح. وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يقول "أجيز أن أسميها كلها أسماء" يذهب في ذلك/ إلى أن قولنا "زيد" كلمة دالة على مسمى، وقولنا "قام" كلمة دالة على حدث في زمان، وقولنا "إن ومن ولم" وما أشبه ذلك كلمة دالة على معنى، وكل واحد منها اسم لما دل عليه. وقال: "ويجوز أن اسميها كلها حروفًا. وكأنها قطع الكلام متفرقة. ويجوز أن اسميها أفعالًا" على غير طريقة أوضاع النحو بل على الحقيقة التي قدمنا ذكرها.
وأما الاحتجاج للأولين الذين زعموا أن الكلام كله اسم وفعل وحرف.
1 / 44
فجعلوا العربي وغيره في ذلك سواء، فهو بعينه الاحتجاج الذي تقدم ذكره لمذهب سيبويه، لأن الكلام إذا كان مقصودًا به الإبانة عن الضمائر ومحتاجًا إليه للخطاب والمحاورات فكل فريق يخاطب بلغته كخطاب من تأتيه في لغته. وإن كان تقدم في ذلك للعرب حسن بيان، وفضل نظم وحكمة، لما حباها الله ﷿ بذلك تخصيصًا منه وتكرمة، فإذا كان كذلك، كان مرجع ذلك كله إلى أصل واحد، وهذا غير مشكل، وقد اعتبرنا ذلك في عدة لغات عرفناها سوى العربية فوجدناه كذلك، لا ينفك كلامهم كله من اسم وفعل وحرف، ولا يكاد يوجد فيه معنى رابع ولا أكثر منه؛ وإن كان ليس له ترتيب العربي ونظمه وحسن تأليفه؛ فأما القول فيما قاله سيبويه في كتابه هذا باب علم ما الكلم من العربية، وما في ذلك من الألفاظ والوجوه؛ فقد ذكرته أجمع في كتاب أفردته لتفسير رسالة كتاب سيبويه، فكرهت تطويل هذا الكتاب.
1 / 45
باب القول في اختلاف النحويين في تحديد الاسم والفعل والحرف
فإن قال قائل: لم اختلف النحويون في تحديد الاسم والفعل والحرف؟ وهل يجوز أن يختلف الحد إذا كان قولًا وجيزًا يدل على طبيعة الشيء الموضوع له عند الفلاسفة؟
وعندنا الحد هو الدال على حقيقة الشيء؛ فكيف يجوز اختلاف هذا وهل يجوز أن يُحد الإنسان/ لمن سأل عن حده إلا بأن يقال له: الحي الناطق المائت؛ لأن هذا هو حده على الحقيقة وينعكس عليه بمعناه؛ كقولنا: المائت الناطق الحي هو الإنسان؛ ولا يجوز أن يحد الإنسان بغير هذا الحد؛ فإن حده بغيره إنسان كان مخطئًا؛ إلا أن يعدل عن حده إلى بعض صفاته ورسومه الدالة عليه كقولنا: الإنسان حيوان ذو رجلين منتصب القامة ضحاك؛ وما أشبه ذلك.
الجواب أن يقال: إن الحد لا يجوز أن يختلف اختلاف تضاد وتنافر؛ لأن ذلك يدعو إلى فساد المحدود وخطأ من يحده؛ ولكن ربما اختلفت ألفاظه على حسب اختلاف ما يوجد منه؛ ولا يدعو ذلك إلى تضاد المحدود؛ كما يوجد الحد تارة من الأجناس والفصول؛ وتارة من المواد والصور لأن المادة تشاكل الجنس؛ والصورة تشاكل الفصل؛ ألا ترى أن الفلاسفة الذين هم معدن هذا العلم - أعني معرفة الحدود والفصول والخواص وما أشبه ذلك - قد اختلفوا في تحديد الفلسفة
1 / 46
نفسها اختلافًا، فقال بعضهم: الفلسفة إتيان الحكمة. وقال بعضهم: الفلسفة معرفة طبيعية لجميع الأشياء الموجودة. وقال آخرون: الفلسفة معرفة الأشياء الموجودة الإلهية، ويعنون المدركة عقلًا، ومعرفة الأشياء الإنسية، يعنون الأشياء المدركة بالحواس. وقال بعضهم: الفلسفة معاناة الموت، أي تعاطي الموت، يعني إماتة الشهوات، وهذا زعموا حد أفلاطن. وقال آخرون: الفلسفة الاقتداء بالباري حسب طاقة المخلوق. وقال ارسطاطاليس: الفلسفة صناعة الصناعات وعلامة العلوم. أفلا تراهم كيف قد اختلفوا هذا الاختلاف، وليس فيه تناقض لأن كل واحد منهم قصد إلى طريقٍ ما فحدها منه، وإنما ذكرنا هذه الألفاظ في تحديد/ الفلسفة ها هنا وليس من أوضاع النحو لأن هذه المسألة تجيب عنها من يتعاطى المنطق وينظر فيه. فلم نجد بدًا من مخاطبتهم من حيث يعقلون، وتفهيمم من حيث يفهمون. فكذلك يقول النحويون لهم أيضًا في تحديد الاسم والفعل والحرف، كأن لكل فريق منهم غرضًا في تحديده وقصده. فمنهم من أراد التقريب على المبتدئ، فحدها من جهة تقرب عليه. ومنهم من أراد حصر أكثرها، فأتى به. ومنهم من طلب الغاية القصوى والحد على الحقيقة، فحدها على الحقيقة على ما ذكرنا. وليس في شيء مما أتوا به ما يخرج عما ذكرناه. وذلك بين في كلامهم لمن تدبره. وهو نظير ما تقدم ذكره من تحديد الفلسفة.
1 / 47
باب معرفة حد الاسم والفعل والحرف
قد حد النحويون هذه الأشياء على ضروب. وذكر كلها يطول ويطيل الكتاب، وقد شرطنا الاختصار والإيجاز، فنذكر أجود ما قيل في ذلك، والمختار منه، وما يلزم من خالف، وما اخترناه، وبالله التوفيق.
حد الاسم
الاسم في كلام العرب ما كان فاعلًا أو مفعولًا أو واقعًا في حيز الفاعل والمفعول به. هذا الحد داخل في مقاييس النحو وأوضاعه، وليس يخرج عنه اسم البته. ولا يدخل فيه ما ليس باسم، وإنما قلنا في كلام العرب، لأنا له نقصد، وعليه نتكلم، ولأن المنطقيين وبعض النحويين قد حدوه حدًا خارجًا عن أوضاع النحو، فقالوا: الاسم صوت موضوع دال باتفاق على معنى غير مقرون بزمان. وليس هذا من ألفاظ النحويين ولا أوضاعهم، وإنما هو من كلام المنطقيين وإن كان قد تعلق به جماعة من النحويين. وهو صحيح على أوضاع المنطقيين ومذهبهم لأن غرضهم غير غرضنا، ومغزاهم غير مغزانا، وهو عندنا على أوضاع النحو غير صحيح، لأنه يلزم منه أنه يكون كثير من الحروف أسماء، لأن من الحروف ما يدل على معنى دلالة غير مقرونة بزمان، نحو إن ولكن وما أشبه ذلك.
فإن قال المحتج منهم: هذا غير لازم لأنا إذا قلنا "زيد" فقد دل على مسمى تحته دلالة غير مقرونة بزمان، وإذا قلنا "أن ولكن" لم يدل على شيء؛ ولم
1 / 48
يكن كلامًا حتى يقرن بجملة. قيل له: الاسم يدل على مسماه كما ذكرت، ولا تحصل منه فائدة مفردًا حتى نقرنه باسم مثله، أو فعل، أو جملة، وإلا كان ذكرك له لغوًا وهذرًا غير مفيد. وكذلك الحرف إذا ذكرته دل على المعنى الموضوع له، ثم لم تكمل الفائدة بذكرك إياه حتى تقرنه بما تكمل به فائدته، فهو والاسم في هذا سواء لا فرق بينهما.
وقال آخرون: الاسم صوت موضوع دال باتفاق على معنى بلا زمان، ولا يدل جزؤه على شيء من معناه. وهذا أيضًا من كلام القوم، وإن كانت فيه هذه الزيادة اليسيرة، وقد مضى القول فيه.
وأما سيبويه فلم يحد الاسم حدًا يفصله من غيره، ولكن مثله فقال "والاسم رجل وفرس". فقال أصحابه ترك تحديده ظنًا منه أنه غير مشكل، وحد الفعل لأنه عنده أصعب من الاسم. ونحن نذكر ما حده به في موضعه.
وقال الأخفش سعيد بن مسعدة: الاسم ما جاز فيه نفعني وضرني. يعني ما جاز أن يخبر عنه، وإنما أراد التقريب على المبتدئ كما ذكرت لك فيما مضى ولم يرد التحقيق. وفساد هذا الحد بين، لأن من الأسماء ما لا يجوز الإخبار عنه نحو كيف وأين ومتى وأنى وأيان، لا يجوز الإخبار عن شيء منها، وهي داخلة في حدنا الذي قدمنا ذكره لأنها في حيز المفعول به لأن "كيف" سؤال عن الحال، والحال مفعول بها عند البصريين، وعند الكسائي هي مضارعة للوقت
1 / 49
والوقت مفعول فيه. وهي عند الفراء بمعنى الجزاء الممكن وغير الممكن. وله في ذلك شرح طويل، إلا أنه لا يتبع الفعل بعد الفاعل إلا مفعول، أو ما كان في حيزه. و"أين" وأخواتها ظروف، والظروف كلها مفعول فيها، وقال آخرون: الاسم ما دل على مسمى. وهذا وصف له لا حد.
وقال أبو بكر بن السراج: الاسم ما دل على معنى، وذلك المعنى يكون شخصًا وغير شخص. وهذا أيضًا حد غير صحيح، لأن قوله الاسم ما دل على معنى يلزمه منه أن يكون ما دل من حروف المعاني على معنى واحد اسمًا نحو أن ولم وما أشبه ذلك. وليس قوله وذلك المعنى يكون شخصًا وغير شخص، بمخرج له عما ذكرنا، بل يؤكد عليه الإلزام، لأنه إن جعل أحد قسمي المعنى الذي دل على الاسم واقعًا على غير شخص، فحروف المعاني داخلة معه، وهذا لازم له.
وكان مما اختاره أبو الحسن بن كيسان عند تحصيله وتحقيقه أن قال حاكيًا عن بعض النحويين: الأسماء ما أبانت عن الأشخاص، وتضمنت معانيها نحو رجل وفرس، ثم قال: وهذا قول جامع. وعوار هذا الحد أظهر من أن نكثر الكلام فيه، لأن من الأسماء ما لا يقع على الأشخاص وهي المصادر كلها. ولابن كيسان في كتبه حدود للاسم غير هذا هي من جنس حدود النحويين. وحده في الكتاب المختار بمثل الحد الذي ذكرناه من كلام المنطقيين.
1 / 50
فأما حد أبي العباس المبرد للاسم فهو الذي ذكره في أول المقتضب، حين قال الاسم ما كان واقعًا على معنى، نحو رجل وفرس وزيد وعمرو وما أشبه ذلك، ويعتبر الاسم بواحده كل ما دخل عليه حرفٌ من حروف الخفض فهو اسم، فإن امتنع من ذلك فليس باسم. وليس غرض أبي العباس ها هنا تحديد الاسم على الحقيقة، وإنما قصد التقريب على المبتدئ، فذكر أكثر ما يعم الأسماء المتمكنة. وقوله ما دل على معنى هو الذي أخذه ابن السراج وقسمه قسمين حين قال: وذلك المعنى يكون شخصًا وغير شخص. وقد ذكرنا ما يلزمه.
وقد أخذ على المبرد أيضًا في هذا الحد قوله: ما دخل عليه حرف خفض فهو اسم، وما امتنع منه فليس باسم. وقيل: إن من الأسماء ما لا تدخل عليه حروف الخفض، نحو: كيف، وصه، ومه، وما أشبه ذلك. وللمناضل عن أبي العباس في هذا جوابان: أحدهما ما قدمنا ذكره، وهو أنه قصد الإبانة عن الأسماء المتمكنة الجارية بالإعراب، أو المستحقة له، وهي لا تنفك مما ذكرته، ولم يرد الإحاطة بالأسماء كلها.
والجواب الآخر هو ما احتججت به أنا عنه، واستخرجته له، ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكره. أقول: إن حد أبي العباس هذا في قوله تعتبر الأسماء بدخول حروف الخفض عليها، غير فاسد، لأن الشيء قد يكون له أصل مجتمع عليه، ثم يخرج منه بعضه لعلة تدخل عليه، فلا يكون ذلك ناقضًا للباب، بل يخرج منه ما خرج بعلته، ويبقى الثاني على حاله. ألا ترى أن إجماع النحويين كلهم على أن أصل الإعراب للأسماء، وأصل البناء للحروف والأفعال، غير طائفة زعموا
1 / 51
أن الأفعال أيضًا مستحقة في الأصل للإعراب، إلا أنهم مجمعون على أن الأسماء كلها مستحقة في الأصل للإعراب، ثم نرى كثيرًا منها غير مُعرب لعلل فيها، ولا يكون ذلك مخرجًا لها عن الاسمية. وكذلك الأفعال عند البصريين خاصة، كلها مستحقة للبناء لعللٍ نذكرها في موضعها من هذا الباب، ثم قد رأينا جنسًا منها مُعربًا لسبب أوجب له ذلك، وليس ذلك بمُخرجِ له من الفعلية. ولهذا نظائر كثيرة. وكذلك الأسماء مستحقة لدخول حروف الخفض عليها في الأصول، ثم إن عرض لبعضها علة تمنعه من ذلك، فليس ذلك يناقض لحدها واستحقاقها. وهذا بين لمن تدبره.
سؤال على أصحاب المبرد وغيره. إن قال قائل: فما العلة التي منعت هذه الأسماء من دخول حروف الخفض عليها، وقد ذكرت أن الأسماء كلها مستحقة لدخول حروف الخفض عليها وأنه لا يمتنع من ذلك إلا ما دخلته علة؟
الجواب أن يقال: أما "كيف" فإنما امتنعت من ذلك لأنها سؤال عن حال، والحال لا يسوغ دخول حروف الخفض عليها في قولك هذا عبد الله صحيحًا وذاك عبد الله منطلقًا، وأقبل زيد راكبًا، فكان ما وُضع موضع الحال ممتنعًا مما امتنعت منه. أما "صه ومه" فإنهما واقعان موقع فعل الأمر. فمعنى صه اسكت ومعنى مه اكفف، ودخول حروف الخفض على الفعل محال، لعلل تذكر في موضعها من هذا الكتاب، فلذلك لا تدخل على ما وقع موقعه. وقد حُدت الأسماء بحدود كثيرة غير هذا، كرهنا الإطالة بذكرها، لأن فيما ذكرنا دليلًا عليها.
حد الفعل
الفعل على أوضاع النحويين، ما دل على حدث، وزمان ماض أو مستقبل
1 / 52
نحو قام يقوم: وقعد يقعد، وما أشبه ذلك. والحدث المصدر. فكل شيء دل على ما ذكرناه معًا فهو فعل. فإن دل على حدث وحده فهو مصدر؛ نحو الضرب والحمد والقتل. وإن دل على زمان فقط فهو ظرف من زمان. وهذا معنى قول سيبويه "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبُنيت لما مضى ولما يكون ولما هو كائن لم ينقطع". وقد أشبعت المعنى في تفسير كلام سيبويه هذا، في تفسير رسالته فكرهت الإطالة بإعادته ها هنا، لأنه ليس موضعه.
وحد بعض النحويين الفعل بأن قال: هو ما كان صفة غير موصوف؛ نحو قولك: هذا رجل يقوم. فيقول صفة لرجل؛ ولا يجوز أن تصف يقوم بشيء. قيل له فإن الظروف قد تكون صفات للأسماء، ولا توصف هي. فقال: الظروف واقعة مواقع الأفعال، فالأفعال على الحقيقة هي التي يوصف بها. وليس ما قاله بشيء، لأنا قد نرى الظروف توصف في قولنا: مكانًا طيبًا، ومكانًا حسنًا وجلسنا مجلسًا واسعًا، وما أشبه ذلك.
وقد ذكرنا أن الأفعال عبارة عن حركات الفاعلين، وليست في الحقيقة أفعالًا للفاعلين، إنما هي عبارة عن أفعالهم، وأفعال المعبرين عن تلك الأفعال. وإن كان ذلك كما ذكرنا، والحركة لا تبقى وقتين، بطل من ذلك أن يكون فعل دائم. فمحال قول من قال من الكوفيين فعل دائم. ونحن نذكر حقيقة القول في فعل الحال في موضعه إن شاء الله.
1 / 53
وأما القول في الفعل والمصدر، وأيهما مأخوذ من صاحبه، فإنا نذكره بعقب هذا الباب إن شاء الله.
حد الحرف
الحروف على ثلاثة أضرب، حروف المعجم التي هي أصل مدار الألسن عربيها وعجميها، وحروف الأسماء والأفعال. والحروف التي هي أبعاضها نحو العين من جعفر والضاد من ضرب وما أشبه ذلك، ونحو النون من أن واللام من لم وما أشبه ذلك. وحروف المعاني التي تجئ مع الأسماء والأفعال لمعان.
فأما حروف المعجم فهي أصوات غير متوافقة، ولا مقترنة، ولا دالة على معنى من معاني الأسماء والأفعال والحروف، إلا أنها أصل تركيبها.
وأما الحروف التي هي أبعاض الكلم، فالبعض حد منسوب إلى ما هو أكثر منه، كما أن الكل منسوب إلى ما هو أصغر منه.
وأما حد حروف المعاني وهو الذي يلتمسه النحويون، فهو أن يقال: الحرف ما دل على معنى في غيره، نحو من وإلى وثم وما أشبه ذلك. وشرحه أن "من" تدخل في الكلام للتبعيض، فهي تدل على تبعيض غيرها، لا على تبعيضها نفسها، وكذلك إذا كانت لابتداء الغاية، كانت غاية غيرها. وكذلك سائر وجوهها. وكذلك "إلى" تدل على المنتهى، فهي تدل على منتهى غيرها، لا على منتهاها نفسها، وكذلك سائر حروف المعاني.
1 / 54
وقال بعض النحويين: الحرف ما خلا من دليل الاسم والفعل. وقال آخرون: الحرف ما لا يستغنى عن جملة يقوم بها نحو: لن يقوم زيد، وما خرج بكر، وإن أخاك شاخص، وإن محمدًا في الدار. لابد أن يكون بعده إسمان، أو اسم وفعل، أو اسم وظرف. وهذا وصف للحرف صحيح ليس بحد له. وقال بعضهم: الحرف ما خلا من دليلي الاسم والفعل، فلم يسغ فيه شيء مما ساغ فيهما. وهذا وصف للحرف وليس بحد له، وحده ما ذكرته لك.
1 / 55
باب القول في الفعل والمصدر. أيهما مأخوذ من صاحبه
قال سيبويه وجميع البصريين: الفعل مأخوذ من المصدر سابق له فهو اسم الفعل. وهذا معنى قول سيبويه "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء" وأحداث الأسماء المصادر. وفي الكلام اختصار وحذف تقديره من لفظ أحداث أصحاب الأسماء. ويجوز أن يكون أقام الأسماء مقام المسميات بها في الإخبار عنها، إذ كان لا يُتوصل إليها إلا بهما كما ذكرنا، فيقول قام زيد قيامًا، قام مأخوذ من القيام. وكان يجب أن يقال فعل زيد القيام. واستدل بحروف قام على الحدث، وببنائه على الزمان، وبحركاته على تسمية الفاعل بعده.
قال الفراء وجميع الكوفيين: المصدر مأخوذ من الفعل، والفعل سابق له وهو ثانٍ بعده.
نبدأ بذكر احتجاج البصريين لمذهبهم لأنه عندنا الصحيح. ونذكر بعده احتجاج الكوفيين لمذهبهم وإلزامهم البصريين ما ألزموه، وانفصال البصريين منه إن شاء الله.
دليل البصريين على أن المصدر قبل الفعل. قالوا: من الدليل على أن الفعل مأخوذ من المصدر أن المصدر اسم الفعل. وقد اتفقا جميعًا على أن الاسم سابق الفعل، فوجب أن تكون المصادر سابقة للأفعال. ألا ترى أنا نفعل الضرب
1 / 56
والخروج والأكل وما أشبه ذلك قبل فعل زيدٍ له، ثم يفعله زيد فيخبر عنه بذلك، ولولا أنا نفعله ونعرفه لم نفهم الإخبار عنه. والمصدر الحدث، لأنه الحدث الذي أحدثه زيد، ثم حُدث عنه، والفعل حديث عنه، والحدث سابق للحديث عنه
اعتراض على من احتج منهم. قيل له: ليس الأمر كما ذهبت إليه، ولسنا نقول: إن الأسماء قبل الأفعال مطلقًا، بل نقول إن الاسم قبل فعله الذي يفعله، وقد اصطلحنا على أن نريد بالاسم المسمى في هذا الفصل لأنه ينوب عنه في الإخبار فنقول زيد سابق لفعله الذي يفعله، وليس يجب من هذا أن يكون سابقًا لفعل غيره، وإذا كان هذا كما ذكرنا فليس يجب أن يكون المصدر، إذا كان اسمًا لفعل، أن يكون سابقًا له، لأنا لا نطلق أيضًا أن يكون الاسم سابقًا للمسمى، ولا موجودًا بعده، بل اسمه لازم له موجود معه حين وجوده، وإنما نريد بالاسم معنى استحقاقه التسمية، ألا ترى شخصًا ما حين وجوده يجوز أن تسميه زيدًا، ثم تنقله عنه فتسميه بكرًا، ثم تنقله عنه فتسميه عمرًا، واستحقاقه للاسمية لم ينتقل عنه وهو موجود بوجوده، ألا ترى أنه يقع عليه شيء ولا يفارقه، فهو شيء على كل الأحوال. ولذلك غلط قوم فتوهموا أن الاسم هو المسمى. وقد يسمي بعضهم المعدوم شيئًا. وأباه آخرون. واحتج الأولون بقول الله ﷿ (كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا) فقالوا قد سمى المعدوم شيئًا. وقال مخالفوهم ليس كذلك لأن السراب ليس بمعدوم على الحقيقة لأنه لمعان الشمس على الحصا في اشتداد الحر عند الهاجرة. ولمعان الشمس هو شيء ما، ليس بمعدوم فلما نظر إليه العطشان من بُعد، لم يكن في قوة بصره إدراكه على الحقيقة، فظن لمعان الشمس ضوء الماء فلما قرب منه وتبينه لم يجده كما توهمه. فقوله ﷿ "لم يجده شيئًا" [يعني شيئًا] توهمه أو شيئًا ينفعه. والله أعلم.
1 / 57
وليس يجوز أن تعود هذه الكنايات كلها على غير شيء في الحقيقة. ومثل هذا رجل رأى شخصًا من بعيد، فشبهه بإنسان يعرفه فقال هذا فلان، فلما قرب منه تبينه، فهذا مثله وإن كان ذلك أخفى، فإذا قد ثبت أن الاسم لا يسبق المسمى، فقد بطل احتجاجكم بسبق المصدر الفعل لأنه اسمه، وأنه واجب من ذلك أن يكون قبله سابقًا له.
الجواب. يقال لمن احتج بهذا وعارض به: وليس أيضًا ما قلتموه مسلمًا لكم من أن الاسم لا يسبق المسمى ولا يتأخر عنه. فقد علمتم أنكم مخالفون في ذلك. وليس غرضنا إثبات حقيقة تقدم الاسم والمسمى، وإنما نحن في مجاري الخطاب وكلام العرب، ولا خلاف بيننا أن في كلام العرب وأوضاع النحويين الاسم قبل الفعل حسب ما تقدم اتفاقنا عليه، فنحن ندع ما فيه الخلاف من ذلك ونرجع إلى المتفق عليه في مجاري الإعراب وأوضاع النحو لأنه غرضنا الذي نتكلم عليه ونجادل عنه. فقد صح أن الاسم قبل الفعل، والمصدر اسم فقد صح أنه قبل الفعل وبالله التوفيق.
دليل آخر للبصريين. قالوا: من الدليل أيضًا على أن المصدر قبل الفعل وأن الفعل منه، أن المصدر في اللغة هو المكان الذي يصدر عنه، كقولنا هذا مصدر الإبل للمكان الذي تصدر عنه، فعلى ما توجبه حقيقة اللغة هو الشيء الذي يصدر عنه الفعل. ولو كان هو صدر عن الفعل سُمي صادرًا لا مصدرًا وهذا بين واضح.
دليل آخر للبصريين، كان شيخنا أبو إسحق الزجاج ﵀، يستدل به، قال: لو كان المصدر بعد الفعل، وكان مأخوذًا من الفعل، لوجب أن يكون لكل مصدر فعل قد أخذ منه، لا محيص عن ذلك ولا مهرب منه. فلما رأينا في كلام العرب مصادر كثيرة لا أفعال لها البتة مثل العبودية والرجولية والبنوة والأمومة
1 / 58
والأموة وما أشبه ذلك مما يطول تعداده من المصادر التي لم تؤخذ من الأفعال. ورأينا في كلامها أيضًا مصادر جارية على غير ألفاظ أفعالها، نحو الكرامة والعطاء وما أشبه ذلك، علمنا أنه ليست الأفعال أصولًا للمصادر إذ كانت المصادر توجد بغير أفعال، وعلمنا أن المصادر هي الأصول فمنها ما أخذ منه فعل، ومنها ما لم يؤخذ منه فعل. وهذا بين واضح.
دليل آخر للبصريين. كان أبو بكر بن السراج يستدل به. قال: لو كانت المصادر مأخوذة من الأفعال جارية عليها، لوجب ألا تختلف كما لا تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين الجارية على أفعال، نحو ضارب ومضروب وشاتم ومشتوم ومُكرِم ومُكرَم وما أشبه ذلك مما لا ينكسر. ورأينا المصادر مختلفها أكثر مما جاء منها على الفعل، كقولنا شرب شُربًا وشَربا ومشربا وشرابا وعدل عن الحق عدلا وعُدولا وما أشبه ذلك، علمنا أنها غير جارية على الأفعال وأن الأفعال ليست بأصولها
دليل آخر للبصريين. قال بعض أهل النظر منهم، الدليل على أن المصدر أصل الفعل، أنه يوجد لفظه وحروفه في جميع أنواع الفعل كيف صرف، كقولنا خرج يخرج وأخرج واستخرج ويخارج. وقتل يقتل وقاتل وتقتل واستقتل، فلفظ المصدر الذي هو أصله موجود فيه في جميع فنونه فعلمنا أنه أصله ومادته. ألا ترى أن الفضة أصل لجميع ما يصاغ منها، فهي موجودة المعنى فيه، فإن صغت كوزًا أو إبريقا أو خاتما وقُلبا وخلخالا وغير ذلك فمعناها موجود في جميع ما يصاغ منها، وليس معاني ما يصاغ منها موجودًا فيها مُفردة، فكذلك معنى المصدر موجود في جميع الأفعال المشتقة منه وليس معنى فعل واحد منها موجودًا في المصدر
1 / 59
نفسه، ألا ترى أنه ليس في الضرب معنى فعل ماض ولا مستقبل موجودًا فهذا أحسن ما قيل في هذا وأدقه وألطفه.
دليل الكوفيين على أن المصدر مأخوذ من الفعل. قالوا: الدليل على أن المصدر مأخوذ من الفعل، وأن الفعل أصل للمصدر أن المصدر يعتل إذا اعتل الفعل، ويصح إذا صح، فتقول: قام زيد قياما، فتعل القيام لاعتلال قام. وكذلك تقول: وعد يعد عدة فتعل عدة لاعتلال يعد. وتقول عور الرجل يعور عورًا وحول حولا، ورصيد البعير صيدًا، فيصح المصدر لصحة فعله، فعلنا بذلك أن المصادر بعد الأفعال، تابعة لها، وأن الأفعال هي الأصول التي أخذت منها فلذلك تبعتها في التصحيح والاعتلال.
إفساده والجواب عنه. قال لهم البصريون ومن يحتج عنهم ويقول بمذهبم لو كان اعتلال الفعل يوجب اعتلال مصدره، لوجب ألا يوجد فعل معتل إلا ومصدره معتل، ولا يوجد لفعل معتل مصدر صحيح. فلما رأينا الأفعال تعتل وتصح مصادرها كقولنا وعد وعدًا، ووزن وزنًا، وقام قومه، وكال يكيل كيلًا، ومال يميل ميلًا، وما أشبه ذلك مما يطول تعداده من الأفعال المعتلة التي صحت مصادرها، علمنا أنه ليس اعتلال الأفعال علة موجبة لاعتلال المصادر، وإنما يعتل من المصادر ما لزمه من الثقل ما لزم الفعل، وما لم يلزمه ذلك صح معناه فلم يجب من ذلك أن تكون المصادر مشتقة من الأفعال كما زعمتم لمفارقتها لها في الاعتلال الذي جعلتموه دليلكم.
دليل آخر للكوفيين: قال أبو بكر بن الأنباري يذكر أنه هو استخرجه
1 / 60